الخميس، 8 مارس 2018


الرحلة الورثيلانية
فالرحلة الورثيلانية الموسومة بنزهة الأنظار في فضل علم التاريخ والأخبار (الجزء الثالث من الكتابة )

ذكر خروجنا من بسكرة
ثم لما فرغ الناس من قضاء أوطارهم من بيع وشراء وأزدياد زاد ظعنا ضحى الثلاثاء خامس وعشرين من رجب وعشرين من شتنبر ونزلنا سيدي عقبة عصرا وهو عقبة بن نافع الفهري التابعي القرشي ولد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولذلك عده بعضهم من الصحابة ولاه معاوية بن أبي سفيان علي أفريقية ووجهه إليها في عشرة آلاف من المسلمين فافتتحها وقاتل من بها من النصارى حتى أفنى أكثرهم ثم قال أني أرى أفريقية إذ دخلها أمام أمر أهلها بالإسلام وإذا خرج رجع كل من أجاب دين الله فهل لكم يا معشر المسلمين أن تتخذوا مدينة [القيروان] تكون لنا عزا للأبد فأجابه الناس لذلك واتفقوا على أن يكون أهلها مرابطين وقالوا نقربها من البحر ليتم الجهاد ثم رأوا أن ذلك لا يؤمن معه من كيد الروم لها فأبعدوها عن البحر مخافة من ملك القسطنطينية وقالوا قربوها من السبخة فإن أكثر دوابكم الإبل فتكون في مراعيها على بابها آمنة من البربر والنصارى ولما اتفق رأيهم على ذلك وكان موضع المدينة غيضة نادى عقبة جميع الوحوش والهوام التي كانت بالغيضة وقال لهم أنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ونريد أن نبني هنا مدينة وأردنا أحراق هذه الغيضة فاخرجوا منها بإذن الله فخرج كل من كان فيها واختلف أصحابه في موضع القبلة وجعلوا ينظرون مطالع النجوم ليهتدوا إلى سمتها فبات عقبة مهتما فرأى في المنام قائلا يقول له خذ اللواء بيدك إذا أصبحت فإنك تسمع تكبيرا ولا يسمعه احد غيرك فاتبعه فحيثما انقطع التكبير فاركز اللواء فانه موضع القبلة ففعل ذلك وسأل أصحابه هل تسمعون شيئا فقالوا لا فأتبعه حتى انقطع التكبير فركز اللواء بموضع القبلة ولما كانت سنة إحدى وخمسين عزل معاوية عقبة بن نافع عن أفريقية وولى مسلمة بن مخلد مصر وأفريقية فنزل مسلمة مصر واستعمل على أفريقية مولى له يسمى دينارا ويكنى أبا المهاجر انتهى إلى أفريقية كره أن ينزل


بلدا اختطه عقبة فمضى خلفه بميلين مما يلي تونس فاختط هناك مدينة وبناها فسماها البربر بتكيرو ان وأخذ الناس بعمارتها وإخلاء القيروان فدعا عقبة أن يمكنه الله عز وجل منه وكان مجاب الدعوة ولم يزل أبو المهاجر خائفا من دعوة عقبة وفي مدة أبي المهاجر افتتحت جزيرة شريك وهي بمقربة من مدينة تونس حرسها الله وإليها ينسب باب الجزيرة من أبواب تونس وهي مشتملة على قصور كثيرة ومزارع فسيحة وخيرات جمة افتتحها حنش بن عبد الله الصنعاني بعثه أبو المهاجر فافتتحها وقتل أهلها ونهض عقبة إلى المشرق فلما دخل على معاوية رضي الله عنه وعاتبه فقال افتتحت البلاد وأتاني غلام الأنصار فأساء عشرتي فاعتذر له معاوية رضي الله عنه ووعده بالرجوع إلى عمله وتراخى الأمر إلى أن توفي معاوية رضي الله عنه سنة ستين وقيل إحدى وستين وولي ابنه يزيد فولى عقبة بن نافع أفريقية وقطعها عن مسلمة بن مخلد وأقره على مصر فخرج عقبة إلى أفريقية في سنة اثنتين وستين فمر سريعا حنقا على أبي المهاجر فأوثقه في الحديد وأمر بتخريب المدينة التي بناها والرجوع إلى القيروان وعمارتها وأجمع على الغزو في سبيل الله عز وجل وترك بالقيروان زهير بن قيس البلوي وودع أولاده وقال لهم أني بعت نفسي من الله عز وجل وأوصاهم بما أحب ومضى في عسكر عظيم حتى بلغ مدينة باغية وجمع النصارى بها فقاتلهم قتالا عظيما فانهزموا وأخذ لهم خيلا كثيرة فلم ير المسلمون في مغازيهم أصلب ولا أصبر منها وكانت من نتاج جبل أوراس المطل عليها ومدينة باغية مدينة جليلة أولية ذات أنهار وثمار ومزارع ومسارح وعلى مقربة منها جبل أوراس وهو المتصل بالسوس فلما هزمهم وقاتلهم قتالا ذريعا رحل عنهم ولم يقم عليهم كراهية أن يشتغل بهم على غيرهم فمضى إلى مدينة لميس باللام والميم والياء وكانت في ذلك الزمان من أعظم مدائن الروم فخرج إليه أهلها فقاتلهم قتالا شديدا فانهزموا واتبعهم إلى باب حصنهم وأصاب مغانم كثيرة وكره المقام عليها فرحل إلى بلاد الزاب فسأل عن


أعظم مدائنهم قدرا فقيل له مدينة يقال لها أذنة (1) وبها الملك بجمع (2) ملوك الزاب وكان حولها ثلاثمائة وستون قرية كلها عامرة قال اليعقوبي أذنة هذه أعظم مدن الزاب مما يلي المغرب وهي كثيرة الأنهار والعيون العذبة فالتقى أهلها فقاتلوه قتالا شديدا حتى يئس المسلمون من أنفسهم ثم أعطاه الله عز وجل الظفر فانهزم القوم وقتل أكثرهم وذهب عزهم من الزاب وذلوا إلى آخر الدهر ثم سار إلى تاهرت فلما بلغ الروم خبره استغاثوا بالبربر فاغاثوهم وبادروا إلى نصرتهم فالتقوا مع المسلمين فاقتتلوا قتالا شديدا فلم يكن للبربر والروم بقتال المسلمين طاقة فولوا منهزمين واتبعهم المسلمون فقاتلوهم قتالا ذريعا وانقضت جموع البربر وقتلوا حيث ما وجدوا وغنم المسلمون أموالهم وذراريهم ثم سار عقبة حتى بلغ طنجة وكان بها ملك من ملوك الروم وكان شريفا في قومه فأهدى إلى عقبة ولاطفه فنزل على حكمه فسأله عن الأندلس فقال له دونها هذا البحر الذي لا يرام فقال له دلني على رجال البربر والروم فقال تركت الروم خلفك وليس أمامك إلا البربر وهمه في عدد لا يحصى ولا يعلمه إلا الله وهم انجاد فقال فأين موقعهم قال له السوس الأدنى وليس لهم دين يأكلون الميتة ويشربون الدم وهم أمثال البهائم يكفرون بالله ولا يعرفونه فرحل عقبة حتى أتى جموعهم بمقربة من فأس فقاتلهم قتالا ذريعا وفرت بقيتهم ومرت خيل في آثارهم ومر حتى بلغ السوس الأقصى وهي بلاد درعة ونزل إلى الصحراء وهي لمتونة وسبى منها سبيا لم يدخل المشرق أغلى منه ربما بيعت الجارية منه بألف وفر الناس أمامه لا يدانيه أحد ولا يعارضه حتى بلغ البحر الأعظم المحيط فأدخل فيه قوائم فرسه وجعل يقول وعليكم السلام فقال له أصحابه على من تسلم يا ولي الله فقال على قوم يونس ولو لا البحر لأريتكم إياهم ثم قال اللهم
__________________
(1) في الرحلة الناصرية اذناة.
(2) وفيها أيضا فجمع.


أنك تعلم أني إنما أطلب السبب الذي طلبه عبدك ووليك ذو القرنين فقيل له ما الذي طلبه ذو القرنين قال أن لا يعبد في الأرض إلا الله اللهم إني مدافع عن دينك معاند من كفر بك ثم قال لأصحابه انصرفوا على بركة الله فتخلى الروم والبربر عن طريق عقبة خوفا من جيوشه سنة ثلاث وستين من الهجرة.
ولما وصل طنجة أمر أصحابه فتقدموا ثقة بما دوّخ من البلاد وأنه ليس بأفريقية إلا من يخافه فتقدمت الجيوش وبقي نفر يسير من أصحابه فسار يريد تهودة وبادس لينظر إليهما ويترك بهما من الفرسان ما يحتاج إليه فلما انتهى إليها يعني تهودة فيمن بقي من أصحابه وكانوا قليلا نظر إليهم الروم فطمعوا فيهم وأغلقوا أبواب حصونهم وجعلوا يشتمون عقبة ويرمونه بالحجارة ويدعوهم إلى الله عز وجل فلما توسط البلاد بعث الروم كسيلة البرنسي وكان كسيلة ممن أسلم على يد أبي المهاجر وذلك أن أبا المهاجر نهض إلى المغرب فنزل عيونا عند تلمسان تعرف بعيون أبي المهاجر فزحف إليه كسيلة في جمع من البرنس فظفر به أبو المهاجر وعرض عليه الإسلام وكان أبو المهاجر يحسن إليه فلما عزل أبو المهاجر وقد عقبة عرفه أبو المهاجر بحال كسيلة فاستخف به عقبة وأتى عقبة بغنم فأمر بذبحها للعسكر فأمر كسيلة أن يسلخ مع السلاخين فقال له كسيلة أصلح الله الأمير هؤلاء غلماني وفتياني يكفونني ذلك فقال له عقبة قم فقام مغضبا فكان كلما دحس يده في الشاة مسح بلحيته وجعل العرب يهزؤون به ويقولون له يا بربري ما هذا الذي تصنع فيقول انه جيد فيسكتون إلى أن مر به شيخ من العرب فقال لهم كلا أن البربري يتوعدكم فعاتب أبو المهاجر عقبة على ما صنع من ذلك وقال له كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتألف جبابرة العرب كالأفرع بن حابس وعيينة بن حصن وتأتي أنت إلى رجل جبار في دار قومه ومكان عزه وهو قريب عهد بالشكر فتهينه وتذله فتهاون عقبة بكلامه فلما راسلت الروم كسيلة أمكنته الفرصة فانتهزها فقال أبو المهاجر لعقبة عاجله قبل أن


يجتمع إليه أمره فزحف إليه عقبة فتنحى أمامه فقال له قومه لم تتنحى عنه والرجل في خمسة آلاف ونحن في خمسين ألفا فقال لهم نعم لكنهم في الزيادة والرجل قد افترق عليه عسكره وليس عنده من يمده فلما صار عقبة يريد أفريقية زحف إليه البربري وكان أكثر المسلمين بالقيروان مع زهير بن قيس فوافى كسيلة عقبة بمقربة من تهودة فنزل وركع ركعتين وقال أطلقوا أبا المهاجر فأطلق فقال له ألحق بالمسلمين وقم بأمرهم وأنا أغتنم الشهادة فقال له أبو المهاجر وأنا أغتنمها معك وكسر كل واحد منهما جفن سيفه وكسر المسلمون أجفان سيوفهم وأمرهم أن ينزلوا ولا يركب منهم أحد وقاتل المسلمون قتالا شديدا حتى بلغ منهم الجهد وكثرت فيهم الجراح وتكاثر عليهم العدو وقتل عقبة وأبو المهاجر ومن معهما من المسلمين ولم يفلت منهم أحد وأسر محمد بن أوس الأنصاري ويزيد بن خلف القيسي ونفر معهما ففاداهم صاحب ففصه وبعث بهم إلى زهير بن قيس ومن معه من المسلمين بالقيروان وأراد زهير الانصراف من أفريقية إلى مصر فقيل له أهزيمة من أفريقية إلى مصر فعزم على القتال وكان تبيع ربيب (1) كعب الأحبار فقال له لمن تراها فقال لرجل من بليّ وأنت رجل من غسان فقال زهير الله أكبر أنا والله رجل من بليّ جني جدي جناية في قومه فلجأ إلى غسان فاجتمع إلى كسيلة جمع أهل المغرب فزحف يريد القيروان فاضطرمت أفريقية نارا وعظم البلاء فقام زهير في الناس خطيبا قال يا معشر المسلمين أصحابكم قد دخلوا الجنة إن شاء الله وقد منّ عليهم بالشهادة وهذه أبواب الجنة مفتوحة فأسلكوا مسلك أصحابكم أو يفتح الله عليكم دون ذلك فقام حنش الصنعاني فقال لا والله لا نرى قولك ولا لك علينا من طاعة ولا ولاية ولا نرى أفضل من النجاة بهذه العصبة من المؤمنين فمن أراد منكم القفول فليتبعني ثم رحل فنزل بقصر الماء واتبعه الناس ولم يبق مع زهير إلا أهل بيته في عدد قليل فلما رأى
__________________
(1) كذا في الرحلة الناصرية وفي جميع النسخ إلا نسخة فيها يتبع رأي.


ذلك زهير تبعهم وأقبل كسيلة بجنوده فلما قرب من القيروان خرج العرب منها هاربين لم يكن لهم بقتاله طاقة لعظم ما كان معه من البربر والروم فأسلموا لهم القيروان لم يبق فيها إلا الذراري والأثقال والضعفاء فأرسلوا إلى كسيلة يطلبون منه الأمان فأمنهم وأقبل كسيلة حتى دخل القيروان في محرم سنة أربع وستين وأقام زهير مرابطا ببرقة إلى أن توفي يزيد بن معاوية في النصف من صفر من عام أربعة وستين وبويع لأبنه معاوية الأصغر بعده ثم توفي معاوية بعد شهر (1) وعشرة أيام من بيعته واجتمع الناس بالشام على مروان بن الحكم وتوفي في رمضان سنة خمس وستين وولي بعده ابنه عبد الملك بن مروان فلما اشتد سلطانه اجتمع أكابر المسلمين وسألوه أن ينظر في خبر أفريقية وتخليصها ومن بها من المسلمين من يد كسيلة فقال لهم لا يصلح لدم عقبة إلا مثله في الدين فاتفق رأيهم على زهير بن قيس البلوي وقالوا هذا صاحب عقبة وأعرف الناس بسيرتهم وأولادهم بمطالبة دمه فوجه إليه عبد الملك يأمره بالخروج إلى أفريقية ليستنقذ من بالقيروان من المسلمين فكتب إليه زهير يعرفه بأمر كسيلة ومن معهم من جموع البربر فحشد له وجوه العرب وأهل الشام وبعث إليه بالأموال فلما ترادفت عليه الجنود أقبل في عسكر عظيم إلى أفريقية وذلك في سنة تسع وستين فلما بلغ كسيلة قدوم زهير دعا أشراف قومه فقال إني رأيت أن أرحل عن هذه المدينة حوطة على أهلها من المسلمين فإن لهم عهدا وخشيت أن يكون النصر مع المسلمين (2) ولا كنا ننزل ممس (3) على ماء كثير يحلم عساكرنا فان هزمناهم اتبعناهم إلى طرابلس وقطعنا أثرهم وتكون لنا أفريقية إلى آخر الدهر وإن هزمونا كان الجبل منا قريبا نتحصن به فارتحل عنها نزل ممس وبلغ
__________________
(1) كذا في جميع النسخ وفي الرحلة الناصرية شهرين وفي تاريخ الكامل لابن الأثير أن معاوية بن يزيد لم يمكث إلا ثلاثة أشهر حتى هلك وقيل بل ملك أربعين يوما ومات.
(2) كذا في جميع النسخ وفي الرحلة الناصرية وخشيت أن يصيروا علينا إلفا مع المسلمين.
(3) في نسخة بإسقاط هذه الكلمة وفي الرحلة الناصرية ممّس وفي غيرها ممسّ.


ذلك زهيرا فلم يدخل القيروان ونزلوا (1) على باب سلع وأقام ثلاثة أيام حتى استراح الجيش وزحف في اليوم الرابع حتى أشرف على كسيلة آخر النهار فلما نزل الناس باتوا على مصافهم فلما أصبح صلى ثم زحف إليهم فالتحمت الحرب فانهزم كسيلة وقتل بممس ولم يجاوزها ومضى الناس في طلب البربر فقتلوهم قتلا ذريعا ورجع زهير إلى القيروان مخافة من بأفريقية واشتد جزعهم ولجؤا إلى الحصون والاقلاع ثم أن زهيرا رأى بأفريقية ملكا عظيما فكره الإقامة بها فقال إنما خرجت للجهاد وأخاف أن تملكني الدنيا فأهلكت ولست أرضى بها ولا بملكها ورغد عيشها وكان رحمه الله من رؤساء العابدين وكبار الزاهدين فرجع قافلا إلى المشرق فلما انتهى إلى برقة وكان الروم حين سمعوا برحيله منها إلى أفريقية خرجوا إليها بمراكب فغاروا وأخذوا نساء وقتلوا ونهبوا ووافق ذلك قدوم زهير من أفريقية فأخبر بذلك فأمر العسكر بالسير على الطريق وسار هو على الساحل طمعا أن يدرك سبي المسلمين فأشرف على الروم وهم في خلق عظيم فلم يقدر على الرجوع واستغاث به الأسارى والروم يدخلونهم المراكب فأمر أصحابه بالنزول فنزلوا وقصدوا الروم والتحم القتال حتى عانق بعضهم بعضا وكثرت النصارى فقتل زهير ومن معه وادخل الروم جميع السبي مراكبهم وارتحلوا إلى القسطنطينية ولما انتهى الخبر إلى عبد الملك عظم ذلك عليه وبلغ منه لفضل زهير ودينه وكانت مصيبته كمصيبة عقبة رحمهما الله تعالى وغضب أشراف المسلمين وسألوا عبد الملك أن ينظر في سد ثغر أفريقية فقال لا أعلم أعظم من حسان بن النعمان الغساني وكان حسان بمصر في عسكر عدده أربعون ألفا عدة لما يحدث فكتب إليه عبد الملك يأمره بالتوجه إلى أفريقية وأطلق يده في أموال مصر يعطي منها من ورد عليه من الناس ما شاء فقدم حسان بن عسكر عظيم لم يدخل أفريقية قط مثله وذلك في سنة تسع
__________________
(1) كذا في الرحلة الناصرية وجميع النسخ.


وسبعين وسار حتى بلغ القيروان فسأل أهل أفريقية عن أعظم ملك فقالوا له صاحب قرطاجنة وكانت مدينة عظيمة تضرب أمواج البحر سورها وهي من توسن على اثني عشر ميلا وبين تونس والقيروان مائة ميل فغزا حسان بن النعمان قرطاجنة وبها خلق عظيم فإنها كانت دار الملك بأفريقية فبعث الخيل إليها وكان البحر لم يخرق إلى تونس وإنما خرق بعد ذلك وعملت دار الصناعة فالتقى الفريقان والتحم الحرب بينهم وضيق عليهم حسان فقتل مقاتلتهم ورجالهم فاجتمع رأيهم على الهروب وكانت لهم مراكب قد أعدوها فارتحلوا فيها بأهلهم وأموالهم فمنهم من ذهب إلى جزيرة صقيلة ومنهم من ذهب إلى الأندلس فلما انصرف حسان علم أهل بواديها بهروب أهل الملك فتحصنوا بها فوجه إليهم حسان فاحاصرهم حصارا شديدا حتى دخل بالسيف وقاتلهم قتلا ذريعا وأرسل من حولها فأمرهم بهدمها وكسر القناة التي كان يأتيهم الماء عليها ثم إن حسانا بلغه أن النصارى تجمعوا لقتاله وأمدهم البربر فزحف إليهم فقاتلهم قتالا شديدا فانهزموا وهرب البربر إلى إقليم برقة وقدم حسنا مدينة القيروان فلما استراح الناس قال لهم دلوني على أعظم ملك بقي بأفريقية إذا قتل خاف البربر والنصارى وهابت المسلمين فلا تقدم عليهم فقالوا ليس بأفريقية أعظم من امرأة بجبل أوراس يقال لها الكاهنة والبربر والنصارى لها مطيعون ومنها خائفون فلما اخبروه بذلك توجه لقتال الكاهنة فبلغ الكاهنة أمره فارتحلت من جبل أوراس في عدد عظيم إلى مدينة باغية فأخرجت منها الروم وأخبرت حصنها وظنت أن حسانا إنما يريد معقلا يتحصن فيه وأقبل حسان في جيوشه حتى دنا بعضهم من بعض وذلك في آخر النهار فكره حسان لقاءها في ذلك الوقت فبات الناس على سروجهم حتى أصبح الله بخير الصباح فزحف بعضهم إلى بعض واقتتلوا اشد قتال وقتل من العرب خلق كثير وأسرت الكاهنة من أصحاب حسان ثلاثين رجلا منهم خالد بن يزيد العبسي وكان رجلا شريفا واتبعت الكاهنة


حسانا حتى خرج من عمل قابس وأسلم أفريقية وكتب إلى عبد الملك يخبره بما لقي المسلمون فوافاه كتابه يأمره بالمقام حيث يدركه الجواب فأدركه وهو بعمل برقة فأقام هنالك خمسة أعوام بموضع يعرف بقصور (1) حسان [وله نسبت قصور حسان](2) ثم أعمل عبد الملك رأيه فيمن يبعث لأفريقية واستشار في ذلك فلم يجد مثل حسان فبعث إليه جيشا عظيما ومالا وسلاحا وكانت الكاهنة أطلقت أصحابه الذين أسرتهم وأحسنت إليهم إلا خالد بن يزيد فإنها أمسكته وكان لها ولدنا فقالت له أني أريد أن أرضعك مع ولديّ هاذين فقال لها كيف يكون ذلك وقد ذهب منك الرضاع فقالت أنّا جماعة من البربر لنا رضاع تتوارث به إذا صنعناه ثم عمدت إلى دقيق الشعير فلثته بزيت ثم جعلته على ثديها ثم أمرت ولديها أن يأكلا منه مع خالد فأكلوه وقالت لم أنتم أخوة من الرضاع ثم إن حسانا وفدت إليه العرب ورجالها فدعا رجلا منهم يبعث كتابا إلى خالد وكان واثقا بأن خالدا لا يرجع عن الإسلام فلما أتى رسول حسان خالدا فوقف إليه في زي سائل فعلم خالد أنه رسول فاعتذر له وقال له تعود في غير هذا الوقت فلما انقضى المجلس أتاه وأخذ الكتاب فقرأه وكتب له في ظهره أن البربر متفرقون لا نظام ولا رأي لهم وإنما ابتلينا بأمر أراد الله أن يكرم به من مضى فاطو المراحل وجد في السير فإن الأمر لله ولن يسلمك الله ولا حول ولا قوة إلا بالله وجعل الكتاب في خبز ومضى الرسول فلم تلبث الكاهنة بعد ذهابه إلى أن خرجت ناشرة شعرها تضرب صدرها وتقول ويلكم ذهب ملككم فيما يؤكل فافترقوا يمينا وشمالا يطلبون ذلك فستره الله عز وجل فلما وصل إلى حسان أخرج الكتاب من الخبزة قد أحترق فقال له حسان أرجع فقال له أني أخاف على
__________________
(1) في جميع النسخ قصر حسان إلا في الرحلة الناصرية طبقا لما ذكره الشريف الإدريسي في نزهة المشتاق.
(2) ما بين القوسين ساقط في جميع النسخ إلا في الرحلة الناصرية.


نفسي فالمرأة كاهنة فكتب له كتابا وجعله في نقرة نقرت في قربوس سرجه وغطاه بالشمع فمضى الرسول حتى أتى خالدا فدفع إليه الكتاب وعرفه أن الأول أحرقته النار فرد جوابه وأعاده في قربوس سرجه ومضى فخرجت ناشرة شعرها تضرب صدرها وتقول ذهب ملككم في نبات الأرض وأراه بين لوحين وكانت الكاهنة قد ملكت أفريقية خمس سنين منذ أنصرف حسان عنها ولما رأت إبطاء العرب قالت للبربر أن العرب إنما يطلبون من أفريقية المدائن (1) والذهب والفضة والشجر ونحن إنما نطلب منها المزارع والمراعي ولا نرى لكم إلا خراب أفريقية حتى ييئسوا منها ويقل طمعهم منها فوجهت قومها إلى كل ناحية يقطعون الزيتون والشجر ويهدمون الحصون فحكى بعض المؤرخين عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم رحمه الله أنه قال وكانت أفريقية من طرابلس إلى طنجة ظلا واحدا قرى متصلة وعامرة وأخربت جميع ذلك قال الشيخ محمد بن علي شارح الشقراطسية سمعت من يقول انه كان بأفريقية في القديم مائة ألف حصن من بين قصر ومدينة وأما ملكها إذا أراد الغزو بعث إلى كل حصن فيأتيه منه فارس ودينار فيجتمع له مائة ألف فارس ومائة ألف دينار ولا ينقص من بلده شيء والله أعلم بصحة ذلك ومن تأمل أثر المدن والقصور الخربة بأفريقية وتداني بعضها من بعض رأى من ذلك ما يقضي منه العجب ويستدل على كثرة عمرانها في السالف وكذلك الشعاري التي بها إذا تأمل أشجارها في مواضع على اعتدال وترتيب تنبئ أنها مغروسة لإنبات ويقال أن ما فيها الآن من بطم إنما كان فستقا وإنما استحال إلى الصغر وإلى طعم آخر لطول ما أتى عليه من السنين ولا شك أن من أكل البطم أخضر وجد طعمه كطعم الفستق قال فلما بلغ كتاب خالد إلى حسان رحمه الله خرج بالجيوش فلقي في طريقه ثلاثمائة رجل من النصارى يستغيثون من الكاهنة فيما نزل بهم من الخراب واخراب ضيعهم ووصل
__________________
(1) في الرحلة الناصرية المرافن أو المرافق.


إلى قابس فخرج إليه أهلها وطلبوا منه الأمان وكانوا قبل ذلك يتحصنون ويتمنعون من كل من مر بهم وترك عامله عليهم وقاطعهم على مال معلوم واستطال طريق القيروان فمال إلى قصور قفصة فنزلها وأهدى إليه ملوكها وملوك قفصة وقسطيلية ونفزاوة وبعثوا إليه يستغيثون من الكاهنة فسره ذلك وبلغ الكاهنة قدومه فرحلت من جبل أوراس تريده في خلق عظيم فلما كان الليل دعت أبنيها وأخبرتهما أنها مقتولة وكأنها تنظر إلى رأسها يركض به فرسان إلى ناحية المشرق وكأنها ترى رأسها بين يدي ملك العرب الذي بعث بهذا الرجل فقال لها خالد فإذا كان هكذا فارحلي بنا وخلي لهم عن البلاد وأشار عليها أولادها بمثل ذلك فقالت كيف أفر وأنا ملكة والملوك لا تفر وأورث قومي عارا فقالوا لها إنما تخافين على قومك فقالت إذا أنا مت فلا أبقى الله منهم أحدا فقال لها أبناها وخالد فما نحن صانعون فقالت أما أنت يا خالد فستدرك ملكا عظيما عند الملك الأعظم وأما أولادي فسيدركون سلطانا عند هذا الرجل ويعقد لهم على البربر ثم أمرتهم أن يركبوا ويستأمنوا إليه فركبوا وتوجهوا إلى حسان فاعلمه خالد بقولها وأنها مقتولة وبوصول ولديها فأمر بحفظهما وأمر خالدا على أعنّة الخيل ثم خرجت الكاهنة ناشرة شعرها تقول انظروا ما دهاكم انظروا لأنفسكم فإنها مقتولة والتحمت الحرب واشتد القتال واستحرّ القتل في الفريقين حتى ظن الناس أنه الفناء ثم انهزمت الكاهنة وتبعها حسان حتى قتلها وقطع رأسها عند بئر يعرف ببئر الكاهنة وولى حسان الأكبر من ولدي الكاهنة على جماعة من البربر ثم أن البربر استأمنوا إلى حسان فلم يقبل إلا أن يعطوا من قبائلهم اثني عشر ألفا يكونون مع العرب مجاهدين فأجابوا وأسلموا على يديه فعقد لكل واحد من ولدي الكاهنة على ستة آلاف وأخرجهم مع العرب يجاهدون في سبيل الله عز وجل بأفريقية ويقتلون الكفرة من الروم والبربر والنصارى (1) وانصرف حسان
__________________
(1) بإسقاط النصارى في الرحلة الناصرية.


إلى القيروان وذلك في سنة أربع وثمانين وقد دانت له أفريقية وكتب الخراج على من بها من النصارى ومن كان على دين النصرانية من البربر وغيرهم وأقام بأفريقية لا ينازعه بشر إلى أن عزل عنها ووليها موسى بن نصير اه ـ ملخصا من شرح السقراطسية للشيخ محمد بن علي وبعضه بالمعنى والتقديم والتأخير.
ثم دخلنا لزيارته مع جملة وافرة من أصحابنا أصفرارا وقبره بالبسيط الذي تحت جبل أوراس الذي قتل به وهو مشهور يزار وعليه مسجد عجيب وحوله قرية عجيبة وفي وسط هذا البسيط وفي مسجده مأذنة كبيرة عظيمة متقنة البناء وفي أعلاها عمود يزعم الحجاج أن من تمسك بذلك العمود وحركه وقال أقسمت عليك أيتها المأذنة بحق سيدي عقبة إلا ما تحركت فتهتز وفي حجة سنة 96 (1) ست وتسعين طلع إليها بعض أصحابنا كالقاضي سيدي أحمد بن إبراهيم المراكشي والفقيه سيدي عبد الله بن إبراهيم السملالي إمام مسجد طلحة وسيدي محمد بن عبد العزيز الرسموكي وشاهدوا ذلك وصدقوه وأنكر ذلك الإمام شيخنا سيدي عبد الله العياشي قال وطلعت إليها ورأيت ذلك وليس كما زعموا وإنما هو من إتقان البناء وفرط طوله فإذا صودم بقوة ظهر فيه شبه اهتزاز وذلك يقع في كل بناء وقال وغالب من دخل المسجد من الحجاج يكتب خطه على أساطين المسجد وحيطانه ويكتب اسمه واتخذوا ذلك ديدنا وعادة مستمرة انتهى وقد دخلت إليه مرارا وصليت فيه سبحة (2) الضحى وهذه المرة زرناه أصفرارا في وقت لا تحل فيه النافلة.
انعطاف للمقصود وهو أننا ارتحلنا من سيدي عقبة [صبيحة](3) وتوجهنا إلى
__________________
(1) في نسختين 99.
(2) في نسختين صبيحة وفي واحدة صلاة.
(3) ما بين القوسين ساقط في ثلاث نسخ.


الزرائب فبتنا قبل وصولها وكنا في ذلك اليوم قد توافينا بإبل كثيرة للبيع فاشترى منها أخونا سيدي أحمد الطيب ما شاء الله ومع ذلك هي أرفق مما سبق من بسكرة وقرية مدوكال وفي هذا اليوم لقينا ولد الشيخ الجيد الذي أزمة العرب في يده وأيضا كلمته مقبولة ومنفذة عند الترك الحاج بن فانة وكان رجلا عاقلا مطمئنا في نفسه ثقيلا يأخذ كثيرا بيد الضعيف ولذا لم يخب سعيه ولا أنكشف رأيه قدام ما معه من الستر والعافية عليه مع تداول أولي الأمر على وطن قسنطينة وعادتهم إذا جاء وال جديد غير أهل الدولة الأولى ورد ما يصلح به من أصحابه وهو والحمد لله مقبول محبوب عند كل متول وسبب ذلك دعوة أهل الخير وفق الله الكل إلى صالح القول والعمل ثم بعد ذلك ارتحلنا ووصلنا قرب الزرائب بل نحن البغالة تقدمنا إلى القرية فخرج ألها إلينا متسوقين (1) بالبنادق والحياك والغنم غير أن بعضهم فهمنا منه أنه يريد الخطفة لأنه قد كثر الراكب من أهل الركب ونحن كذلك حتى وصل آخر الناس إذ جاؤا مفترقين فأتوا من غير بقاء أحد عندهم خوفا من الخطفة على أنهم منعوا (2) أن يمر أحد وسط القرية خوفا من غوائل الركب.
نعم الطريق التي يهبط الناس معها ضيفة إلى الوادي والركب والحمد لله لم يكن أعظم منه وما طلع ركب من المغرب مثله في الكثرة فلما ضاق الطريق بالناس ذهب الناس واحدا بعد واحد ومر حولا بعد مر حول وقد تقدمت أنا وجماعة من الفضلاء إلى أن وصلنا إلى روضة الشيخ سيدي حسن الكوفي الذي قبره قرب الوادي فنزلنا عنده وزرناه ومن بركته أن الوادي أخذ أطراف الأرض القريبة له لقوته حين حمله وهو إذا وصل قرب الشيخ نكص على عقبيه (3) ورجع على حاله
__________________
(1) في نسخة متشوقين.
(2) في نسخة ممنوع.
(3) في نسخة عقبه وفي اخرى عاقبه.


وهي بركة عظيمة نعم تخلف الفضلاء سيدي أحمد بن حمود وسيدي عبد الكريم وسيدي عيسى الشريف والحاج محمد بن علي والحاج عمر بن يوسف والحاج عبد الله بن عمر فأتى رجل فأخذ مكحلة من يد سيدي أحمد بن حمود خطفة ولم يأخذها منه لأنه اشتد مسكه (1) لها فاظهر من حضر هنالك الشجاعة بحيث هرب الرجل إلى وسط القرية وتعبته (2) الجماعة في أثره وجهوا المكاحل في اثر المذكور (3) بالبنادق إلى القرية واخذوا منهم سيفا ممن كان معه لأنهم قد تمالوا في الواقع على ذلك ولم يقع منهم ضرب ولا غيره ومع هذا أن أصحابنا قد كان معهم دراهم كثيرة لم يصلوا إليهم مع كثرتهم والمنة لله ولرسوله.
نعم قد نزلنا عند ذلك الشيخ إلى قرب الظهر وهذا الشيخ ولي لله تعالى شريف زعم أهل بلده أنه طار من الكوفة [قلت قال شيخ شيوخنا سيدي أحمد بن ناصر في رحلته ما نصه وجلسنا هنالك وقيلنا في قبة ولي الله الشريف سيدي حسن الكوفي وزعم أهل تلك النواحي أنه طار من الكوفة](4) وقد قيل له ذات يوم من لنا بأنك شريف فذهب ساعتئذ فرجع قريبا فإذا بيده صك فيه نسبه كما كتب بخط كوفي وكان واديهم لا يجري فشكوا إليه ذلك فقال لهم جروني فيه ففعلوا فكان الوادي بعد ذلك يجري إلى الآن أخبرنا بهذا جماعة ممن يوثق بهم من أولاد سيدي ناجي الخ اه ـ ولنرجع إلى ما كنا بصدده وهو انه ركبنا من ذلك السيد نفعنا الله به بعد زيارتنا ثم بتنا في الطريق قبل غزران (5) على وزن عمران وبه واد جار ووجدنا عرب النماشة
__________________
(1) في نسخة تمسكه.
(2) في نسختين تابعه.
(3) في ثلاث نسخ ووجهوا المكاحل مع آثاره المذكورين.
(4) ما بين القوسين ساقط في نسخة.
(5) في نسخة غرزان وفي أخرى غزوان وفي الرحلة الناصرية غسران على وزن عمران.


فهم أقبح الناس وأكثرهم شرا فمنهم من يأتي للسرقة ومنهم من يأتي للخطفة ولا يحكم بعضهم في بعض ومع ذلك إنهم لم يكونوا في حكم سلطان تونس ولا في حكم بأي قسنطينة فإنهم هاربون في الصحراء وأخذوا منها بغلة وجملين (1) ونحن أخذنا منهم فرسا ومكاحل أعطيناهم لصاحب البغلة والجملين من غير رضى الشيخ خوفا منهم أن يرجع على طريقهم فيأخذونه غير أنه القصاص مطلوب شرعا.
ثم ظعنا ونزلنا غزران ثم نزلنا مرة أخرى قبل الحامة ثم بتنا فيها وكان قبل ذلك أتانا شيخ الخنقة مع طائفة من الترك هاربين من الجزائر ليذهبوا مع الركب أتى بهم ليلا فخرجت إليه خوفا (2) من دخول الركب ليلا فلقيته فطلبنا في الدعاء الصالح وطلبناه أيضا ثم رجع إلى وطنه وكنت دخلت الخنقة في الحجة الأولى مع أمير الحجاج سيدي أحمد بن الطيب نجل الشيخ سيدي أحمد بن يوسف الذي كانت ولايته ظاهرة شرقا وغربا وكراماته [وخوارق عادته](3) نفعنا الله به آمين ورضي عنه لا تكاد أن تحصى وقد ألف الصباغ تأليفا حسنا نحو الثلاثين كراسا [في كراماته وخوارق عادته نفعنا الله به آمين](4) والصباغ هذا ليس الصباغ الذي شرح الوغليسية والله اعلم وقد سمعت ممن يوثق به أنه أخذ عن الشيخ زروق فصار يترقى حتى أخذ زروق عنه وقد وشي به في زمانه إلى سلطان فاس فبعث الشيخ إليه سيدي أحمد بن يوسف رمزا فقال الذي يقدر على حله يعترضني وهو قوله نسجت برنسا (5) من ماء ، فغطيت به من الأرض إلى السماء ، وجعلت عمامة من ثلج ، وقناديل
__________________
(1) في نسخة بغلا وحملين.
(2) في ثلاث نسخ خاف.
(3) ما بين القوسين ساقط في نسختين.
(4) ما بين القوسين ساقط في ثلاث نسخ.
(5) في ثلاث نسخ برنوصا وفي نسختين برنوسا.


من ريح ، وفتائل من ضباب ، ثم بعث به إلى السلطان فجمع أهل دولته مع من كان من العلماء في فاس ليفهموا ذلك الرمز فلم يكشف لأحد معناه ولم يفتح لهم فيه لأنهم لم يعتقدوا الشيخ فحرموا بركته لعدم تسليمهم له ثم قالوا للأمير هذا كلام لا يفهمه إلا ذووه وقد جعلت رسالة في شرحه وحاصل معناه باختصار والله اعلم بأسرار أوليائه أن البرنس المجعول من الماء هو قوله صلى الله عليه وسلم من أسر سريرة مع الله كساه الله رداءها وسريرته هو الأنس بالمحبوب بزوال الحجب وبرد الرضى به لأن بدايات الحب بالحرارة وكذا مقدمات الرضى أيضا فلما اتصف ببرد الرضى وأنس المحبوب نسج من ذلك برنسا وكنى عن ذلك بالماء وغطاؤه من الأرض إلى السماء قوله صلى الله عليه وسلم إذا أحب الله عبدا نادى به في السماء فان فلانا أحبه الله فيحبه أهل السماء والأرض أو كما قال عليه الصلاة والسلام وفي رواية فيحبه أهل السماء ويضع له القبول في الأرض (1) جعلنا الله ممن يحبه فلا محنة دنيا وأخرى بمنه وكرمه آمين.
وأما العمامة من ثلج فهي ما تقلده من أنوار الشريعة وسواطع الحقيقة إذ يظهر ذلك على صاحبها كالعمامة والتاج ولا شك أنهما كالثلج لقوله صلى الله عليه وسلم فيها المحبة البيضاء ولا شك أيضا أن مقتضى الشريعة وأمثالها يبرد حرارة النفس في طلب رضاها فالشريعة كالثلج في البياض (2) والابراد لما ذكر.
وأما القناديل من الريح فهي معاني الصفات واستنشاق شذا معنى الذات من غير مرية أن ذلك أعظم من القناديل في الإشراق.
__________________
(1) في نسخة إذا احب الله عبدا نادى يا جبريل أن الله يحب فلانا فأحبه فيحبه جبريل فينادي جبريل في أهل السماء أن الله يحب فلانا فأحبوه فيجبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض.
(2) في جميع النسخ البيوضة.


وأما الريح فهو الوارد على القلب الذي يوجب حبا للمحب وشوقا للشائق وعشقا لذي عشق وخوفا ورجاء وبسطا وهيبة وأنسا وغير ذلك من المقامات إذ الوارد ريح قطعا.
وأما الفتائل من ضباب فهي معاني الأسماء والأذكار.
وأما الضباب فهي الحالة المستمدة منها المعاني فإنها كالضباب ولذلك كانت بداية للمبتدى إذ هو جاهل للعواقب وقد علمت أن الضباب يمنع بعض الإشراق بحيث لا يصفو لصاحبه وقت ولا يعلم حقيقة مقامة الخ فإذا علمت هذا علمت أن كلام الأولياء متشابه فلا يعلمه إلا الله الذي أورده عليهم والراسخون في العلم والمعرفة ولذلك لا يجزم بان هذا معناه بل إنما يقال لهذا أشار والله أعلم من غير جزم لأن مشربهم قد يكون خاصا بهم فلا يفهم ما عبر به عنه إلا تلويحا وقد يكون عاما فيفهمه كل من كان في ذلك المشرب لقوله تعالى قد علم كل أناس مشربهم فلم يبق إلا الاستسلام والتفويض لأمر الله تعالى غير أن باب الفتح ليس مسدودا عن العارفين انتهى.
انعطاف في تكميل ما تعلق بأحوالنا ببسكرة فإننا قد بقينا فيها يومين في شراء الرواحل وما يختص من جهاز النواقل (1) ومع ذلك نحن مشتغلون بزيارة الأفاضل الأحياء والأموات مثل الشيخ الولي الصالح البدر الواضح سيدي أبي الفضل تلميذ أبي الفضل النحوي المشهور والشيخ سيدي زرزور (2) مع من فيها من الأولياء وإن كان عن بعد مع دخولنا المسجد الجامع الأكبر الواسع ذي البنيان الشاخ فلم يوجد فيما علمت أحسن منه ولا أوسع ولا لا أعظم في المساجد المعلومة غير انه كالعدم في
__________________
(1) في نسخة القوافل.
(2) في ثلاث نسخ حمرور وفي واحدة احمرور أو احرور.


زماننا لا ندراس العلم وأهله إذ لا تجد طالبا يقرأ القرآن أو يتعلم مسألة من العلم فيه إذ مثله لا يخلو عن ذلك وهذه المدينة قديمة مشهورة بالعلم والولاية والجد في طلبهما فلما خربت وانجلى أهلها من جواره بان سكنوا (1) واستقروا في البساتين انعدم ذلك منه فساء أمره وإن عظم جرمه نعم حتى صلاة الفرض بالراتب انقطعت منه فلم يبق فيه إلا صلاة الجمعة وقد علمت ما فيه من التردد وأما بعد المسجد من العمارة الآن فلا يضر في صلاة الجمعة فما عسى أن يخدش في ذلك فمردود لأن اتصال الخراب بمسجد الجمعة كاتصال العمارة به وإن بعد جدا كمسجد عمرو بن العاص بمصر العتيق وانعكاس الدخان على الخراب كانعكاسه على العمارة ولا يشترط انعكاسه حقيقة بل انعكاسه حكما كاف وان لم توجد عمارة أصلا فضلا عن الخراب كتوسطه في البلد بان تكون العمارة محفوفة به أي بجوانبه كأكثر مساجد المنشية فأن أكثر مساجدها كذلك وكذا غيره خارج طرابلس كالساحل ومسراتة وما فيه البساتين المسكونة ولا شك في انعكاس الدخان عليه وذلك كأبي فلم يبق لقائل ما يقول فلا يشك عاقل في صحة الجمعة في مسجد بحدوس في زمورة وما زعمه بعض الطلبة كما كنت اسمعه من القدح في الصلاة فيه لعدم انعكاس الدخان ظنا منه أن دخان العمارة لا بد أن يتصل بجداره وذلك غير صحيح إذ الحق ما سمعته أنظر تلامذة الأجهوري كالعلامة المحقق الشيخ عبد الباقي وشرح الزروق على القرطبية وغيرهما من دواوين المالكية وإياك والإسراع إلى الإنكار فانه غرة ومكر لصاحبه فيها عجبا لمن لم يشاهد النقول ولا الأوطان التي استقر فيها ذوو التصانيف المشهورة والتآليف المعتبرة فإنهم أمروا بتلك المساجد البعيدة المحفوفة بعمارة بحيث إذا انعكس الدخان لا يصل إليها البتة وإنما المراد بانعكاسه بحيث يكون متوسطا في العمارة وان لم يصل دخانه لجداره هذا هو المراد بدليل رؤية العلماء لذلك
__________________
(1) في نسخة وانجلى أهلها من جور الحاكم بان يسكنوا.


ومشاهدتهم لما هنالك والإقرار عليه كاف ومأذنته عظيمة وقد تقدم بيان ما فيها من الدرج ومع ذلك أنها واسعة بحيث يصعد إليها الدواب بالأحمال المثقلة من غير تعسف ولا تكلف لكن أقول كما قال شيخ شيوخنا سيدي أحمد بن ناصر اجتمع عليها أمران ظلم الأتراك وظلم الأعراب فكانت بينهما كالكرة (1) في أيدي الصبيان مع نفوذ الوعيد فيها من أمر الوباء حتى صارت في قلة بحيث انسلخت عن أوصاف الأمصار بل عن أوصاف المدن الصغار فهي الآن لا حمام فيها ولا سوق يعتبر منها غير أن الأتراك استولوا عليها استيلاء عظيما وما كان من المدارس والأحباس التي لم توجد في الأمصار هي في أيديهم يأكلون منها وينتفعون بها أتم انتفاع كالأملاك الحقيقة المباحة بل هي ليست لهم ولا أنهم من أهلها بل لما تمردوا وطغوا جعلوا جميع الخطط الشرعية لهم ظلما وعدوانا وهذا والعياذ بالله سبب اندراس العلم وأهله من كل وطن يوجد فيه ذلك.
وقد سمعت أن القاضي والمفتي فيها لا يتولى إلا بإعطاء لهم وارتشاء لديهم وكذلك في غيرها من عمالة الجزائر وقد قال بعض الفقهاء ممن شرح على المختصر كالشيخ إبراهيم الشبرخيتي أن المتولي للأحكام الشرعية بإعطاء منه فإحكامه مردودة وإن وافقت الحق (2) وصلاته للجمعة باطلة إن كان إماما فإن بطلت عليه بطلت على جميع من اقتدى به فينبغي للإنسان أن ينظر من كان سالما من هذه الجرأة الكبيرة والفرية العظيمة فيقتدى به أقول قد كان والدي رحمه الله ونفعنا به متبعا للسنة النبوية ومقتفيا للأحكام الشرعية حتى صارت له السنة طبيعة من طبائعه وصفة من أوصافه جعل المدخل وابن أبي جرمة أمامه بحيث تؤخذ السنة من فعله وقوله وحركته وسكونه واعتقاده إذا ذهب إلى بجاية وأدرك الجمعة هناك فلا
__________________
(1) في جميع النسخ كالكورة.
(2) في نسخة وان وقعت على الحق.


يصليها مع أئمتها لما علم منهم ذلك وإنما يصليها ظهرا معتذرا بما ذكرناه وينهى مريد الصلاة معهم على انه راغب في تحصيل فضلها وقد اهتم بشأنها إذ يقول بوجوبها في أكثر القرى من بلدنا وكان رضي الله عنه يذهب لتحصيل فضلا لا بعد المساجد في وطننا نحو الثمانية أميال أو أقل لقلة الاعتناء [بمن قرب منه بها وكذلك الأحكام الشرعية فإنهم لا اعتناء](1) لهم بها إذ كم من شعيرة من شعائر الإسلام قد تركت ونبذت في وطننا بان بدلت بالضد والعياذ بالله تعالى ومع هذا فان أهل وطننا لم يعدموا علماء ولا إفادة في كل العلوم أو جلها قراءة تحقيق وبحث غير أن النفع مقصور على الإذعان (2) أي الامتثال نعم الآن والحمد لله قد رجعت الناس إلى الإذعان بها وإقامة الجمعة في أكثر الأوطان والمواطن على الوجه الشرعي بل أكثر الأحكام العادية من أحكام الجاهلية قد تركوها ونبذوها وراء ظهورهم والحمد لله على ذلك فإنهم كانوا قبل ذلك يتخذون رؤساء جهالا فافتوا بغير علم فضلوا وأضلوا الغير ومن عادتهم القبيحة وأفعالهم الشنيعة قطع الميراث للنساء بل زادوا في الضلال أن الرجل ذا مات ورث أخوه ماله وزوجته كما كان في الجاهلية قبل الإسلام إذ المشرع تلك (3) الأحكام وهو الشيطان حي لم يمت فقويت دسائسهم بكثرة المخالفة نعم الإنسان إذا رأى أخا له أو ابن عمه ذا مال قتله وأخذ ماله وأهله إلى غير ذلك من أوصافهم الردية والعياذ بالله.
تتمة وانعطاف إلى ما كنا بصدده من الإقامة بالمدينة المذكورة وزيارة الفضلاء فيها الأحياء والأموات على سبيل الجملة والتفصيل من غير تخصيص (4) عن العامة
__________________
(1) ما بين القوسين ساقط في نسخة.
(2) في ثلاث نسخ الآذان.
(3) في نسخة لتلك.
(4) في ثلاث نسخ محيص.


والخاصة والأفاضل والأوباش من النساء والرجال حقق الله لنا بركة الجميع بمنه وكرمه هذا وأن التعبير عما سبق لهذه المدينة من الفضل والاعتبار ، والاشتغال بالعلم والأذكار ، ومن كان فيها من المقربين الأخيار ، أفاض الله علينا من بركاتهم ، ورزقنا من نفحاتهم ، التعبير (1) والتفوه بمحاسن أهلها وما فيها من البساتين المنتخبة ، والأشجار الطيبة ، والأحوال المزخرفة ، والأبنية المشرقة ، العالية الشامخة المتلطفة ، فالاليق (2) الضرب عنه صفحا ، والطي عنه كشحا ، بعد الاغتنام بما هو مقصود بالذات الذي هو الاقتباس من أنوارهم والتحلي بحللهم والاستمداد من مددهم (3) الذي كان سابقا ولا حقا بحسب الزمان والمكان والأشخاص والأنواع فجدير أن يكون لنا نصيب من ارض الكرام [أمر محقق وحال مشهور](4) نعم قد ظعنا بعد التمكين والاستيفاء من أهلها ما قدر لنا حسا ومعنى إلى القرية الطيبة الشريفة بتربة صاحب النبي المختار صلى الله عليه وسلم وسيدنا ومولانا ذي الفضل والمجد الأثيل عقبة بن نافع القرشي الخ فلما وصلنا إليها نزلنا تحتها وفرغنا من أشغالنا المتعلقة بالنزول من بناء الخيام وحط الرحال ورعي الإبل والصلاة وشروطها إذ نزلنا فيها عند الظهر أوائل رجب سنة 1179 تسع وسبعين ومائة وألف ذهبنا إلى زيارة المشار إليه ذي الأنوار ، التي أقتبسها من صحبة النبي المختار ، صلى الله عليه وسلم وكرم فكان الفتح منه لأنه باب الله الأعظم ، وسلمه المضيء الأفخم ، وقد قال تعالى وأتوا البيوت من أبوابها وهو أحسن الأبواب والوسائل على أننا قد اعتصمنا بالعروة الوثقى وإن كان معنا بعض سيء الأدب معه لأن من أساء الأدب مع واحد
__________________
(1) في نسخة بإسقاط العبير.
(2) في نسخة اللائف.
(3) في نسخة بمددهم.
(4) ما بين القوسين ساقط في ثلاث نسخ.


من أصحابه (1) فقد أساء معه صلى الله عليه وسلم ولما وصلنا إلى قبرة الشريف ، وتربه (2) المنيف ، أتينا إلى قبالة وجهه وجسده الظريف ، كما ورد به الخبر وهو انه من أتى زائرا لضريح ولي من أوليائه أو نبي من أنبيائه أو صالح من صلحائه يقف عند رجليه أو عند وجهه مستقبلا المزور ثم يسأل الله تعالى بجاهه أن يمنّ عليه بغية المسئول والمأمول من خير الدنيا والآخرة وقد رأيت في بعض الأخبار وأظنه في حلية أبي نعيم أنه يقول عند ذلك اللهم بجاه أنبيائك وأصفيائك وصهيب وعمار بن ياسر (3) وأويس القرني وعبد الله بن الحصين وعبد الله بن المبارك [وأبي يزيد البسطامي](4) وأبي القاسم الجنيد ولا أدري هل زاد معروفا الكرخي أم لا وبجاه صاحب هذا الضريح فلان بن فلان أن تمنّ علي بكذا وكذا أي بأن يعين حاجته دنيوية أو أخروية فانه يجاب لذلك بمنه وكرمه وجاههم وفضلهم وقد فعلنا ذلك والحمد لله على منته والتفضل ببركته ، والوصول إلى تربته ، والتنعم بمشاهدته ، فابتهلنا في الدعاء بجاهه وبجاه من خلقت الدنيا والآخرة من أجله صلى الله عليه وسلم.
[نعم عقبة هذا قد ولد في زمانه صلى الله عليه وسلم ولذا قيل أنه صحابي](5).
لطيفة فان الوقوف عند أبواب الأولياء والسؤال منهم والاحتياج إليهم والنظر في وجوههم أو مشاهدة قبورهم والتضرع لله بين أيديهم والتحبب لديهم والتوثق
__________________
(1) في نسخة قد اعتصمنا بالعروة الوثقى واستعملنا الأدب معه لأن من أساء الأدب مع واحد من أصحابه.
(2) كذا في نسختين وفي نسخة تربة قبره المنيف وفي أخرى تربته المنيفة.
(3) في ثلاث نسخ يسار.
(4) ما بين القوسين ساقط في نسختين.
(5) ما بين القوسين ساقط في نسختين.


فيهم (1) والشعف بهم والذل والمسكنة عندهم لقدر جليل عند الله والله أجل وأعظم من أن يرد من هذا وصفه وعليه حاله خائبا حاشاه من كريم أن يفعله وما عداه (2) من ذي جود أن يعمله لأن المحبوب عند الله قريب لديه يستحي أن يرد من تشفع به وأيضا لا يوفق إلى زيارتهم ومحبتهم وقضاء مآربهم إلا سعيد وأنهم قوم لا يشقى بهم جليسهم لأنهم أحياء في قبورهم والله تعالى يقول ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون الآية هذا في شهداء القتل وشهداء المحبة أفضل لأن شهداء القتل أرواحهم في حواصل طيور خضر يسرحون بها في الجنة وشهداء المحبة بأجسادهم في حواصل طيور خضر يسرحون بها في الجنة أيضا فانظر هذا الفضل العظيم اللهم اجعلنا من أهله وحققنا بكرمه ومنه انتهى.
ولما فرغنا من زيارته وزيارة مسجده وهو مسجد عظيم يستحسنه كل من رآه سيما أنوار هذا الصحابي مشرقة عليه وعلى زائره وعلى محبيه ومحب محبه ومجاوره.
وزرنا من كان في القرية أيضا وقد قيل أن بعض الصحابة مدفون في بعض نواحيه وقد زرناه والحمد لله وزرنا من كان في القرية جملة وتفصيلا أحياء وأمواتا خصوصا الأشراف المستقرين فيها كمشائخهم وأفاضلهم (3) وهذه القرية كثيرة النخل والمزارع وهي على ماء جار حلو عذب بارد في الصيف ومع ذلك فهي أرض حارة في الصحراء غير أن ماءها يأتي من الجبال مملوك لبعض أهل القرية ومن كان خارجا منها وقد تشرفت هذه القرية على سائر القرى من الزاب وعلى مدينة بسكرة بهذا الصحابي العظيم افتخاره والسني أنواره والعلي أسراره وهم في عيش هنيء
__________________
(1) في نسخة التشوق فيهم.
(2) في أربع نسخ عاداه.
(3) في ثلاث نسخ كشيخهم وأفضلهم وفي أخرى كشيخهم وأفاضلهم.


وأمد سني غير أنه أصابت الشرفاء جائحة الفتنة وعوائق العداوة فهم فريقان فريق في القرية وهو المتمكن المعتصم بأولي الولاية من الترك والمتمسك بجاههم إذ من تمسكت بهم تفرض على غيره (1) وفريق آخر خارج عنها مستقر بغيرها من قرى الزاب ومدينة بسكرة حتى يفتح الله عليهم وهو خير الفاتحين لأن الدهر قلّب إن دام لشخص يوما فبعده يتقلب قال تعالى : (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ) الآية غير أن جدهم خير الخلق وأفضلهم على العموم يذب عنهم ويحفظون لأجله فأن كان الصالح يراعي إليه في أولاده فأولى النبي صلى الله عليه وسلم في قرابته وكيف لا والله يقول : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى).
لطيفة قال الشيخ سيدي أحمد زروق نفعنا الله به في حقهم أنه يجب على الناس تعظيم الأشراف أي تعظيم ومحبتهم واعتقادهم لوجه جدهم الذي انتموا إليه وانتسبوا إليه وإن يعتقدوا أيضا أن الله يغفر لهم لا لشيء أسلفوه ولا لأمر فعلوه وإن وقعت منهم أذاية لأحد فيجب أن يعتقدها كالأمر السماوي من الله وكالغرق والحرق وأما هم فيجب عليهم أن يعتقدوا أن معصيتهم أكبر المعاصي لأن الفلاح مع الملك يعمل ما ليس بصلاح ويقابل بالسماح والوزير يجلس مع الملك على السرير ويخنق بالحرير اه ـ.
فأنت ترى أيها المخاطب إلى هذا الجانب الأعلى العظيم (2) فكيف يبغضون ويؤذون وأن ذلك من أكبر المقت وقد قال القسطلاني في المواهب اللدنية في السيرة النبوية من المعاصي التي لا تغفر أصلا ولا تقبل فيها التوبة بغض آل النبي صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى : (قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ) إلى قوله : (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ
__________________
(1) في نسخة فاز عن غيره.
(2) في نسخة الجانب الأعظم.


الْفاسِقِينَ) انتهى.
فإن قلت كل الناس يدعي (1) الشرف وتعظيمهم مشقة عظيمة وعسر عظيم في الدين وتصديقهم تعسف فيه فكيف العمل فهل يصدق الجميع أم يكذب الجميع أم البعض دون البعض وتصديق الأول باطل وكذا الثاني لبطلان كون الجميع شرفاء أو لا شرف فيهم وكذا الثالث باطل للتحكم لاستواء الناس في نظر العقل.
قلت الحق بين والدواعي كلها باطلة فلزم أن يكون ممنوعا وسند المنع أن الأنوار النبوية ظاهرة بينة لا غبار عليها.
وقد قيل لبعض الأشراف ما منعك أن تتوسم بعلامة الشرف فقال منعني من ذلك أن أنوار النبوة هي أدل دليل فكيف يصح أن يكون لها علامة من غيرها ولذا قيل :
جعلوا لأبناء الرسول علامة (2)
 

أن العلامة شأن من لم يشهر
 
نور النبوة في كريم وجوههم (3)
 

يغني الشريف عن الطراز الأخضر
 
فإن قلت هذا الأرباب القلوب ومن يراعي الخواطر وكل الناس ليس عليه لغلبة الهوى والسلطان الجهل والتعلق بالسوء (4) وذلك صدأ مرآة الضمائر والعقول فلا يظهر الشريف من غيره لكل الناس إذا فلا بد من علامة أخرى تشترك فيها الناس كلهم.
__________________
(1) في ثلاث نسخ تدعي.
(2) في نسخة لأولاد النبي.
(3) في نسخة في وسيم وجوههم.
(4) في ثلاث نسخ بالسوا وفي أخرى بالسوى.


قلت الأمر كما ذكرت غير أن الأحكام الشرعية والقضايا الإلهية حكمت بأن الشريف مصدق في نسبه كما يصدق في ماله فإن حيازة الأموال معتبرة شرعا كذلك حيازة النسب والحيازة في الأموال لا بد وأن تكون في أمد طويل بحيث يقطع أن هذا لمن حازه ويقوم الأمد الطويل مقام البينة القاطعة به كذلك النسب فلا بد وأن يكون أمدا طويلا يقطع فيه العقل والعادة بأنه لا خلل فيه إذ لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا وحينئذ الناس مصدقون في أنسابهم لوجود الحيازة فيها كحيازة الأموال قاله الأجهوري إذ قال الناس على ما حازوا من أنسابهم فيصدقون فيها عملا بالحيازة كما يصدقون في الأموال عملا بها انتهى بالمعنى.
قلت قال الشيخ عبد الباقي في باب مصرف الزكاة بكسر الراء الشرف يثبت بالشهرة اه ـ فأنت ترى أن الشرف يثبت بالحيازة وبشهرته فتبنى عليه أحكامه من تحريم الصدقة وتعظيم جانبه لأجله وثبوت حقه فيما لا حق فيه وغير ذلك فيما (1) يثبت فيه اه ـ.
انعطاف إلى ما كنا بصدده وهو انه لما فرغنا من زيارته وزيارة غيره رجعنا إلى الركب وأقمنا تلك الليلة في حفظه (2) وعنايته إلى أن تنفس الصبح قام الركب لتجهيز الرواحل من هذه القرية نعم هذه القرية ليس لها نظير فهي أحسن ما وجد في البلاد مزارع وأشجار ومياها كما تقدم وحسنها في المعنى أكثر بالسيد عقبة وإن كان ليس بصاحبي وإنما سمي صحابيا لكونه ولد في زمان النبي صلى الله عليه وسلم فمن نظر إلى ذلك سماه صحابيا وإلا فالصحابي حقيقة هو من اجتمع بالنبي (3) صلى
__________________
(1) في نسخة مما.
(2) أي في حفظ سيدي عقبة.
(3) في ثلاث نسخ مع النبي.


الله عليه وسلم اجتماعا متعارفا بحيث تقضي العادة أن ذلك الاجتماع يفيد الصحبة احترازا عن الاجتياز فلا تثبت به الصحبة ولا يشترط فيها الرؤية ولا الرواية عنه وإنما هو تابعي لأن من رأى الصحابة تابعي ونور النبوة إنما يشاهده شخص أو أشخاص وهو فتح إلهي ووهب رباني ونور صمداني لأن خواص النبوة وأنوار الولاية موكّلة لأهلها من المحبوبين لديه جعلنا الله منهم آمين.
انعطاف والخنقة قرية مباركة طيبة ذات نخل وأشجار في وسط واد بين جبلين وقد قيل أنها تشبه مكة في وضعها (1) وفي البركة غير أن التشبيه في بعض التغالي لكن كلام الأولياء مقبول فيؤوّل بما يوافق الشريعة من غير تلبس ولا التباس نعم لها فضل عظيم سيما إظهار العلم فيها فإنهم مشتغلون بالنحو والفقه والحديث خصوصا مختصر البخاري لابن أبي جمرة وأما علم الكلام والمنطق فمنعدم في محلهم رأسا وقد سألتهم عن عدم الاشتغال بعلم التوحيد فقالوا وهل يحتاج الشمس إلى دليل في قوة قضية قائلة أن الله لا يحتاج في معرفته إلى دليل وبرهان واتقان عقائد كأنه ضروري عندهم زعما منهم أن أبي جمرة نهى عن الخوض فيه بأن قال يحرم الخوض فيه وإنما يقرأ على مذهب السلف الصالح أي الصحابة رضوان الله عليهم.
قلت هذا من الحرمان البين والخذلان المتمكن والقساوة الجلية إذ لا يمكن هذا شرعا فان العلم بحقائق الصفات والحكم بوجوبها للذات العلية أي الجزم بذلك من غير دليل عقلي وكذا ما يستحيل عليه وما يجوز في حقه ظاهر الرد شرعا إذ اختلف فيمن هذا وصفه هل هو مؤمن لكونه جزم بالعقائد والحكم بها للمولى جل جلاله مع عصيانه وهو الراجح عند الكثير من العلماء أو كافر يخلد في النار مع سائر الكفرة وهو الذي رجحه الشيخ السنوسي في شرح كبراه بان نسبه للمحققين [في
__________________
(1) في نسختين وصفها.


برهان الوحدانية](1) كالشيخ الأشعري وإمام الحرمين وغيرهما إلى أن قال وهو رأيي فأنت ترى أيها المخاطب أن هذه دسيسة دسها اللعين لهم ولم يتفطنوا لما هم عليه من الكفر إجماعا أن لم يحصلوا مرتبة التقليد أو على الخلاف أن حصلوها وأي مصيبة وبلوة ومحنة أعظم من الكفر بالإجماع أو على الخلاف فإن قالوا هذا ممنوع في حقنا وسند المنع كوننا على العلم فإننا نحفظ القرآن ونفهم السنة وأدلتها كافية وتقليد المعصوم كاف حسبما صرح به غير واحد كابن عرفة وغيره فما هذا إلا تحامل منك.
قلت هذا لا يسمن ولا يغني من جوع لما علمت أن بعض المعتقدات كالوجود والسلب (2) غير الوحدانية فان فيها خلافا في الاكتفاء بدليل النقل فيها أو لا بد من دليل العقل وهو الراجح [فلا بد فيها من دليل العقل فلا يكفي فيها دليل النقل](3) إذ لو عرف بدليل النقل لدار [وما دار لا يحصل علما](4) وبيان الدور ليس هذا محله وكذا مصححات (5) الفعل كالقدرة والإرادة والعلم والحياة فلا بد فيها من دليل العقل أيضا وحينئذ ما تخيلوه من الاكتفاء في التوحيد بأدلة النقل واضح الرد وما ذكره ابن عرفة من الاكتفاء به أما خاص بالمعتقدات كالذي يرجع (6) للكمال كالسمع والبصر والكلام ونفي النقائص عنه فإنه يكفي دليل النقل فيها ولذا قال بعضهم أعني ابن زكري :
قالوا حديث النقص والكمال
 

من الخطابة في الاستدلال (7)
 
__________________
(1) ما بين القوسين ساقط في نسختين.
(2) في ثلاث نسخ السلوب.
(3) ما بين القوسين ساقط في نسخة.
(4) ما بين القوسين ساقط في نسخة.
(5) في نسخة مصححة.
(6) في نسخة كالتي ترجع.
(7) في نسخة حديث الكمال من الخطابة في الاستدلال.


والخطابة بفتح الخاء قضايا مقبولة تصدر من المقبول غير النبي (1) كالصالح والعالم والعامل ومن حلي بالمقبول من الله وعندهم أدلة النقول للمعقول من الخطابة أو كلام ابن عرفة عام فيها غير أنه ضعيف جدا فلا يصح الاستناد بل لا يصح ذلك لأن من لم يعلم الله كيف يعلم أن الكلام كلامه ولعله أن يكون الكلام المستدل به لغيره وما ذكره ابن أبي جمرة أيضا من حرمة الخوض في علم الكلام إنما هو بعد معرفة القدر الواجب فالقدر الواجب المكلف به البرهان (2) العقلي ولو إجمالا هو ما يحصل للقلب اطمئنانا بحيث لا يقول سمعت الناس يقولون شيئا فقلته والإجمالي هو المعجوز عن تقريره وحل شبهه والذي يحرم الخوض فيه هو المختلط بشبه الفلاسفة ككتاب الفخر وطوالع البيضاوي وغيرهما هذا لغير راسخ في السنة فلم يبق إلا كونهم على الخطأ في الاعتقاد نعم كل أحد من الناس لا بد وأن يكون له ما يشعر بالنقص والعصمة للأنبياء وأما الكمال فهو لله عز وجل.
تتمة أولاد الشيخ سيدي ناجي قد حازوا المعالي من قديم الزمان وقد وجدت كثيرا من الفضلاء منهم في محلهم كسيدي محمد بن الطيب وسيدي أحمد بن ناصر وفقهاء وقراء وفيها الولي الصالح تلميذ الشيخ سيدي أحمد بن ناصر وهو سيدي عبد الحفيظ أعني أولاده وأما هو فقد وجدته ميتا قبلي بنحو شهرين وقد أخذ عنه مباشرة وإنما أدركت الذي أخذ طريقه وهو سيدي بركات وإخوانه وأولاده وسيدي السعيد ومدرس المسجد وغيرهم من طلبة العلم وفضلاء الوقت فإن النحو عندهم يعتني به الكبير والصغير حتى أنهم اشتهروا به اشتهارا بينا وبالجملة فمحلهم مشهور بالفضل والعلم والهمة غير أنه يتحاسدن عن تولية الرئاسة التي كانت بأمر رباني والآن صارت بالضد والعياذ بالله أصلح الله حالهم ووفق كلمتهم ونفعنا ببركة
__________________
(1) في نسختين بإسقاط غير النبي.
(2) في نسخة بالبرهان.


أسلافهم وبركتهم آمين.
وفي تلك الحجة وهي عام ثلاثة وخمسين ومائة ألف (1153) ذهب معنا العلامة الفاضل والمنور الكامل تلميذ سيدي عبد الحفيظ المذكور سيدي أحمد التليلي (1) كان كريما فاضلا بحيث لا صبر له عن إطعام الطعام في الطريق وكان يعرف السير كثيرا على أني زرت معهم في بدر ومكة والمدينة المشرفة فكأنه هو الذي وضعهم في التراب وله يد في العلوم كلها من غير تخصيص أي العلوم الظاهرة فقد كان واحد عصره وفريد زمانه وكذا علوم الحقائق ومثله علم الأوفاق فانه لا نظير له فيما علمت ومع ذلك أنه موفق غاية التوفيق ، وأقبل على الله بكله بالتحقيق ، وقد طلبني لعلم الأوفاق لأخذه عنه فامتنعت لكون قلبي حينئذ متعلقا بالله بحيث لم يترك لي سواه بان غلب على سطوة الوارد وكان رضي الله تعالى عنه يكتب المعارف يسمعها مني حين يتقوى علي (2) سلطان الوجد وكان بديع الخط سريع اليد فيه وكان ينسخ كراسا وأظنه من القالب الكبير في برقة ونحن مسافرون وأما يوم الإقامة فكان أكثر من ذلك وقد زبر في برقة رحلة الشيخ سيدي أحمد بن ناصر وزاد كتاب الصباغ في كرامات الشيخ سيدي أحمد بن يوسف وقدر الجميع ما يقرب من ستين كراسا ورجعنا إلى أن نزلنا توزر ونفطة إلى أن زرنا جميعا الولي الصالح ، والقطب الواضح ، سيدي عبد الحق فيها ولم تكن له طريق وإنما طريقه من قابس إلى قفصة ثم إلى محله فريانة وهي بين قفصة وتبسة وقد زرت محله والحمد لله وانفصلنا عنه حين أرتحلنا من نقطة وعند الافتراق أزال جبة صوف عن جسده فالبسها لي وعلمت أن الله تفضل علي بذلك ثم انه عند الانفصال قال لي أخاف عليكم من المحاربين بان قال قد ثبت عندي بأنهم خارجون إليكم ولا أدري أذلك من طريق الكشف وهو
__________________
(1) في نسخة التليلتي.
(2) في نسخة عليه.


الأنسب به والأليق (1) بمقامه أو سمع ذلك ممن يوثق به فلما أخبرني بهذا رسم جدولا في الأرض وخط خطا وأمر جميع الحجاج أن يمروا بذلك الخط فمر عليه جميعهم إلا كاتب الشيخ كان متخلفا عنا لم يمر به.
وفي ذلك اليوم تلاقينا مع عدو نفسه المحارب لله ولرسوله الشيخ ابن روب وهو شيخ من شيوخ نفزاوة خارجا عن ولاية صاحب تونس بان استقر في وادي ريغ والله اعلم في ثلاثين من الخيل وعشرين رجلا ومعهم السلاح القوي والزاد على الإبل وأتى إلينا عند صلاة العصر فأعلمناه بأننا حجاج ووفد من وفود الله ورسوله وأظن أن الشيخ أعطى له شيئا أحسبه فضة (2) فذهب عنها ونحن جددنا (3) في السير خوفا من شره إلى ثلث الليل أو نصفه فلما ارتحلنا والماء عندنا قليل ووصلنا إلى الماء عند الضحى فغاروا علينا ونهبوا فرسا للشيخ فردها منهم بالقهر ثم غلبونا على الماء بان نزلوا عليه ونحن خارجه ومع هذا قد عدمنا الماء من الركب غير انه موجود عند بعض الناس نحو الخمسة أزقة وكذا المكاحل نحو العشرة وقد داروا بنا كالحلقة وكثر (4) الرصاص بأن ينزل علينا كالمطر ومع ذلك والحمد لله أن من وقعت فيه رصاصة نزلت كالطين بحيث لم تضر أحدا إلا الكاتب الذي لم يمر على الخط أتت بندقة ووقعت فيه تحت السرة بان دخلت في الجلد مقدار أنملتين فرجعت بإذن الله غير انه مكث أياما فتضرر من ذلك ثم عفي والحمد لله وأما هم فقد مات منهم والله أعلم اثنان أحدهما أصيب برأسه والضارب له الحاج خليل بن قاصد علي (5)
__________________
(1) في نسختين اللائق.
(2) في نسختين فضلة وفي أخرى بغلة.
(3) في نسخة جدّ بنا السير وفي نسختين جدّينا.
(4) في ثلاث نسخ كثروا.
(5) في نسختين قاسط علي وفي أخرى فاصط علي.


الزموري ثم التركي هذا هو المحقق وقيل انه الحاج محمد بن معمر اللمداني صهر والي الجزائر كور عبدي (1) والآخر لا علم لنا بضاربه ولا بمحل الإصابة وأما الخيل فقد مات منها نحو ثلاثة أو أقل والحرب من الصبح إلى قرب العصر نعم صلينا على نحو صلاة المسايفة بالقسمة فرقة كانت تجاه العدو والأخرى تصلي مع الإمام فلما فرغت ذهبت تجاه العدو حتى صلت الأخرى ثم حدث لنا العزم التام والحزم (2) العام أن نذهب إليهم دفعة إلى المطعن ويكون القتال على الماء أما أخذونا أو أخذناهم فلما رأوا تصلبنا وعدم الإذلال له بل لا نزال نزاد في الشجاعة ذهب إليهم فقير سيدي أحمد بن الشيخ الدراوي فوجدهم خائفين مرعوبين ثم رجع الفقير فمكثنا غير بعيد حتى أتى إلينا شيخهم مع فارس من فرسانه يطلب العفو والدخول إلينا ونحن نمتنع من ذلك فاشترطنا عليه أن دخل يترك فرسه عن بعد منا ويأتي إلينا على رجليه بلا سلاح فالتزم ذلك ثم دنا منا على نحو ما اشترطتاه فيه فلما وصل إلينا عزمت على قتله لأن لم يأت تائبا إلا بعد القدرة عليهم والله يقول : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ) فمسكني الحجاج ومنعوني من قتله ثم اشترطوا عليه أن لا يبيتوا على الماء فقبل ذلك والتزم العمل به ثم طلب البارود من الشيخ إذ المزود منه بين يديه فامتنع من إعطائه وقال والله لا أعطيه إلا في بطونكم فلما انصرف من عندنا ارتحلوا عن الماء بنفس وصوله وبتنا عليه نحن إلى الصبح ثم ظعنا إلى الحامة (3) المذكورة وعلمنا أن نصر الله لنا إنما هو ببركة الشيخ نفعنا الله به وبأمثاله بمنه وكرمه اه ـ.
انعطاف إلى التكلم فيما نحن بصدده وهو أننا نزلنا قرية الحامة فيها نخل كثير
__________________
(1) في ثلاث نسخ كور عبد وفي نسختين كورغلي.
(2) في نسخة الحزم.
(3) في ثلاث نسخ الخنقة.


ومياه عظيمة طيبة وفيها حمام يجري ماؤه قوي بحيث عم غالب القرية وماؤه حار كأنه تحته نار عظيمة بحيث من أراد الاغتسال فيه لا يقدر على الاغتسال فيه بغتة لشدة سخونته (1) وغير ذلك من أوصافها.
ثم ارتحلنا منها فنزلنا توزر وقت الضحى وهي بلدة عظيمة من قواعد الجريد كثيرة النخل مع جودة تمرها إذ لا نظير له في سائر بلد (2) الجريد قوية المياه فيها إنها وماؤها عذب وبناؤها شامخ مستحسن مرونق فهي أفضل من بسكرة لأن بناءها بالطوب وهي بناؤها بالأجر والجير والجبس في غاية الإتقان مع طول البنيان إلى العلو (3) وسعة عرضه حاصله أنها قرية طيبة جيدة وذلك عام في الدور والمساجد بخلاف بسكرة فإن حسنها في مسجدها فقط.
وقد قال سيدي أحمد بن ناصر في رحلته ما نصه وتوزر هذه هي قاعدة بلاد الجريد من عمالة تونس ووافينا بها في الحجة التي قبل هذه عام تسعة أمير تونس رمضان باي بمحلته جاء لقبض الخراج الموظف على البلد كما هي سنتهم وسنة من اقتدى بهم قطعها الله من سنة وأخلى منها جميع أراضي الإسلام بلا محنة وملاها بالعدل المستقيم والدين القويم وما رأيت ببلاد الجريد أكثر منها نخلا وأحسن منها بناء وأوسع بعد بسكرة ساحة وأغزر ماء وبناؤهم بالأجر فلذلك كان أحسن من بناء بسكرة ما عدا المسجد والمنارة فقد قدمنا من وصفهما ما يغني عن الإعادة وبها من الثمار ما لا يحصى عدده إلا الله يرد عليها من الأعراب الآلاف المتؤلفة ويملأ كل واحد أبله بما شاء من الثمار وتمرها من أجود تمر الجريد ومياهها غزيرة وجناتها كثيرة
__________________
(1) في نسخة بحيث من أراد الاغتسال فيه بغتة ربما هلك أو تضرر لشدة سخونته.
(2) كذا في جميع النسخ.
(3) في نسخة بإسقاط إلى العلو.


ينساب فيها واد كبير منبعه من غربيها وأعرابها أهل بادية مخصبة يرخص فيها غالبا سعر السمن واللحم وأما التمر فيها فرخيص جدا لا يكاد يكون كدرعة (1) وأمثالها ولكن اضر بأهلها جور الولاة حتى كاد الخراب يستولي عليها لضعف أهلها بالجبايات الظلمية وقد بنى بها محمد باي عفا الله عنها وعنه مدرسة للطلبة جيدة بإزاء مسجد جيد متقن ببناء رائق أعمدتها كلها رخام وبنى أخرى بقابس مثلها أو أحسن عفا الله عنا وعنه.
وقد كثر جور الأتراك بهذه البلاد ، وشاع بها الظلم والفساد ، أخبرني بعضهم إنهم كانوا يعطون ستة نواصر على كل نخلة وأربعة على كل زيتونة والناصري اسم لسكة عندهم معروفة اثنان وخمسون في كل ريال لكل عام.
وأخبرني بعض الشرطيين في الحجة قبل هذه أن خراج الجريد من نفطة إلى قابس خمسمائة ألف ريال لكل عام وخراج جربة وحدها ستون ألفا ومئونة مائتي صبايحي (2) من البر والأزر والسمن والخل والزيت واللحم فالله تعالى يقطع جور الجائرين (3) ، ولا يصلح عمل المفسدين.
ونفطة أيضا مدينة كبيرة (4) قريبة من توزر ولها واد مثل واديها ويقال إن خراجها مثل ثلثي خراج توزر اه ـ.
تتمة في الحجة الأولى عام ثلاثة وخسمين ومائة ألف (1153) نزلنا بها في الرجعة فوجدناها كما يليق من كثرة الأرزاق وكثرة الخلائق وقد قدم معنا من
__________________
(1) من قوله من الاعراب الآلاف المتؤلفة إلى قوله كدرعة بياض منقطع في ثلاث نسخ.
(2) في الرحلة الناصرية صباحي والأولى سباهي وهو الفارس.
(3) في نسخة ومؤنة الجائزين بإسقاط ما بين مؤنة والجائزين.
(4) في نسختين بلدة طيبة وقريبة.


الحجاج من توزر من أكابرها ومن ذوي رئاستها فأكرموا من كان في الركب في ديارهم وما رأينا مثلها في البناء الرائق والوسع الذي يذهل العقول ومع ذلك اخرجوا موائد كل مائدة تكفي الجم الغفير والعدد الكثير كثر الله خيرهم ووجدت فيها أفاضل من العلماء والصلحاء وما رأيت أرق قلوبا وأسخى دمعة من أهل الجريد على أني تخلفت مع شيخ الركب في بعض نواحي توزر بان ادخله بعض الناس إلى بيته مع أصحابه وبقيت أنا في الزقاق انتظر (1) خروجه إذ لم يرني عند الدخول ولما بقيت وحدي وإذا برجل من القرية عزم علي وذهب بي إلى بيته بعد امتناعي خوفا من المكر ولما وصلت بيته فوجدته أحسن البيوت ووجدت زوجته من أحسن النساء دينا وحالا وصيانة يظهر عليها أثر الديانة فإذا تكلم أحدهما أصابته عبرة مع انسجام الدمعة وانهمارها فعلمت أنهم من أهل الصلاح وأهل الخير تفضل الله علي بهما وما رأيت مثلهما أصلا ثم قامت المرأة وجعلت لي خبزة ثم كسرتها في الحليب أعني لبن الغنم ووضعت عليه شيئا من الزبدة ثم أخذت في الأكل فما وجدت أحلى من ذلك الطعام ولا أذوق منه طعما كأنه من الجنة فلما كانت في أثناء الأكل وإذا بصاحب البيت قال لي كل هذا طعام بلدك فقلت من أي بلدة فقال من ميلة وخطر لي أنه أوتي له من الغيب ثم خرجت من بيته مذعورا بان الشيخ يتركني وحدي إذ لم يعلم بتخلفي فقال لي لا تخف فإن الشيخ لم يخرج من ذلك البيت فلما خرجنا ووصلنا إلى الزقاق وإذا بالشيخ خارج فقال لي على بركة الله وهو يبكي وكذا زوجته فإنها تبكي عند انفصالي من محلهم رضي الله عنهم ونفعنا بهم ووجدت في تلك الحجة العلامة الفاضل والفهامة الكامل سيدي عبد القادر الفاسي يقرأ في مسجد توزر في التفسير في قوله تعالى : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) الآية وكان رضي الله تعالى عنه حافظا للروايات ناقلا مذاهب العلماء
__________________
(1) في نسختين ننتظر.


عبارته سلسة فصيح اللسان حلو الكلام ما أحسنه في وقته قل نظيره ثم بعد ذلك مات رحمه الله وهي ثلمة في الإسلام لا يسدها إلا خلف مثله وهو حديث مروي عنه صلى الله عليه وسلم بان قال إذا مات العالم انثلمت ثلمة في الإسلام لا يسدها إلا خلف مثله وفي تلك الحجة زرنا سيدي أحمد الزريبي (1) وهو ولي صالح يخبر بالمغيبات كثيرا وقد غلب عليه الغيب عن حسه بمحبة ربه بل أظنه قد زال عنه عقل التكليف وبقي فيه عقل التعريف وذلك أن من ذاق شيئا من كنه الذات أو الصفات قل أن يبقى معه عقله نعم هو في الحضرة دائما متصل بها يشاهد محبوبه وحينئذ يكون محبوبه سمعه وبصره ونطقه فإن تكلم فمنه وإليه وبه وإن سكت فكذلك وهذا الشيخ ممن عظم قدره عند الله وكان منعزلا في خلوة في بيته مدة أربعين سنة لم يخرج منها على ما سمعت ممن يوثق به من أصحابه ولما وصلت إليه مع طلبتي مسكني من حاشية البرنس وزفرني (2) زفرة عظيمة وجذبني جذبا قويا وقطع لي البرنس من جهة صدري نحو الشبر حتى أصاب الروع من ذلك جميع الحاضرين وأما أنا في نفسي أنتظر عاقبته وإنما توهمت أن يكون غضبه من غضب الله علينا أعوذ بالله من غضبه وغضب أوليائه وكذلك أخونا في الله سيدي ابن نوّة قاضي المدية لما قبل يده قال يا لطيف حين رآه فقال الشيخ ما اللطف وما لطف اللطف وما اللطف في اللطف ثم كرر العبارات مرارا متعددة ثم بعد ذلك انبسط إلينا وانشرح فعند ذلك قال له بعض أصحابه لما ذا عملت بفلان يعني نفسي ذلك الزفر فقال إنكم إذا أردتم غسل الثوب الجديد فلا بد من عصره وضربه بالرجل ضربا شديدا لتزول أوساخه فيطلى بالصابون ولذلك فعلت به ما فعلت فدعا لنا وأخبرنا بأمور تكون لنا في المستقبل وأظنه قال لي تريد السياحة قال وإنما يكون ذلك في عاقبة أمرك نفعنا الله به وبأمثاله
__________________
(1) في نسخة الدريبي وفي أخرى الزربي.
(2) في ثلاث نسخ زفر عني.


آمين.
وفي هذه الحجة وجدته ميتا مقبورا عند منزل الركب وعليه روضة عظيمة وقبره يزار وقد اجتمعت أهل توزر على تعظيمه ومحبته لاعتقاده فيه وأنه ولي من أولياء الله من غير شك وزرنا ذلك العام الأفاضل ودخلنا بيت سيدي إبراهيم الخليل مع أولاد الشيخ السيد (1) الغوث وهو من أولاد سيدي سالم والله اعلم تلميذ الشاذلي وإنهم اخبرونا بموت هذا الشيخ فعند موته رأى واحد من أولاده وهو صغير غايته أن يكون مميزا النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول عليكم به صلى الله عليه وسلم فانه هنا عند رأس أبي بان ينادي بتلك المقالة الجالسين مرارا نفعنا الله بهم ومن هذه الطائفة خديم الطلبة والعلم سيدي أحمد بوطبّة (2) المستقر الآن في قفصة وهو من توزر من أولاد تلميذ الشاذلي المذكور وأحواله طيبة وقد ظننا أنه من أصحاب الوقت وفي الحجة الأولى دخلت قفصة وزرت فيها الأفاضل سيما من بلغ درجة التأليف المشهور علمه وفقهه وقد سمعنا أنه تعرض لشرح الشيخ خليل وهو الشيخ المنصوري وكذا الشيخ المنصوري آخر أقل منه درجة ووجدت فيها أيضا سيدي أحمد بن نفيس وشهدنا له كشفنا بينا بان كنا عنده في الخلوة يكلمنا بطريق (3) التصرف وأحوال الرجال وطال في ذلك فقلنا له الركب تركناه أخذ في الرحيل فقال الركب لا يرحل اليوم فمكثنا عنده لقرب الظهر فلما خرجنا من عنده وجدن الركب مقيما نفعنا الله بهم وأما في هذه الحجة فقد زرناه في توزر مع من قبر فيها أي توزر والأخر في قلعة آل حماد وقد زرتهما معا والحمد لله وكذا زرنا فيها العالم الكبير ابن
__________________
(1) في نسخة بإسقاط الخليل والسيد.
(2) في نسخة بياض وفي أخرى بوطبّ وفي نسختين بطبّ.
(3) في ثلاث نسخ بطرق.


شباط الشقراطسي وغيرهم من المؤلفين وزرنا أيضا الشيخ. (1)
ثم ظعنا منها صبيحة فلما انفصلنا (2) عن الوادي المملوء (3) بالعمارة وأمطرنا في ذلك اليوم مطرا شديدا كادت النفس تزهق من شدته وشدة برده فبتنا هناك ثم منه إلى أولاد يعقوب وفي ذلك اليوم مررنا على ولد الشيخ بو عزيز الحناشي وهو الشيخ إبراهيم قد فر من باي قسنطينة لما تبعه بعساكره يريد الانتقام منه لأمر ديني وهو استطالته على المسلمين وتمرده على الأحكام الشرعية وانه كان يتزوج أكثر من أربع وقد سمع انه بلغ اثنتي عشرة امرأة عدو نفسه فلما وصلناه خاف منهم الركب فخرج إلينا مع بعض أصحابه فأتى إلينا ونحن السابقون فسلم علينا وطلبنا في الدعاء فدعونا له بالهداية والرجوع إلى بلده وانه أمرنا بالنزول عنده فامتنعنا من ذلك لأنه أول النهار ثم سرنا فبتنا عند أولاد يعقوب ثم رحلنا عند الضحى فجاؤا إلينا بجيوشهم ظنا منهم أن العرب غارب عليهم فلما التقى الجمعان علموا بنا أننا حجاج فرجعوا ونزلنا قرب السبخة عند صلاة العصر ثم رحلنا صبيحة فقطعنا السبخة بعسر وشدة فكثير من الإبل قد وقعت في السبخة وكذا البغال تداركنا الله بفضله فنزلنا في حامة قابس وهي قرية ذات نخل وماء وفيها حمام من الله تعالى سخن كأنه يغلي بالنار فلا يستطيع أحد أن يدخله بغتة إلا بعد الألفة وفيه بيت يستر المغتسلين وخارجه نهر منه يجتمع فيه الرجال والنساء من غير ستر في النهر كل واحد يرى عورة الأخرى من غير تغيير (4) ولا نكير فلما رأيتهم اقشعر جلدي وتحركت فرائصي فملأت حجري بالأحجار وصرت أضرب كل من هناك من النساء
__________________
(1) هذا بياض نحو نصف السطر في جميع النسخ.
(2) في ثلاث نسخ فصلنا.
(3) في نسختين بإسقاط المملوء.
(4) في نسختين تغير.


والرجال فقالوا ما هذا الرجل وظنوا أني خرجت من عقلي ففر الكل ولم يبق أحد في ذلك الوقت إلا هرب ثم مر علي شخص فقال لي رحمك الله لو كنت معنا دائما لزالت هذه الأمور العظيمة (1) إذ يحرم ذلك إجماعا.
وأما أهل القرية فلم يعجبهم صنعي بان ظهر التغير على وجوههم غير أنهم سكتوا إذ العاصي ذليل ثم حممنا منه في محل الستر وكذا أهلنا ليلا فمنها ظعنا لقابس (2) ونزلنا خارجه عن بعد منه فلما أصبح الله بخير الصباح أتى أهل قابس يتسوقون مع الركب إلى صلاة الظهر فأتى الأعراب فغاروا على أبل الركب فنهبوا جملين لصاحب سيدي أحمد بن حمودة (3) ثم ذهبت أنا وسيدي أحمد بن الطيب لأمير المحلة هناك وفضلاء الحمارية (4) نشكو بما صار بنا وإذا بطائفة أخرى أخذوا بغل سيدي يحيى بن صالح من وطننا فلما سمع الركب بذلك نهبوا من كان بقابس في الركب وأخذوا الفضة وغيرها فدخلنا على القائد بين المغرب والعشاء فأخبرناه الخبر وقال لا بأس عليكم فغدا إن شاء الله يرجع ما لكم فخرجنا من عنده فوجدنا جماعة منهم ينتظروننا ليمسكونا في الركب فلما عرفوني تركوني فذهبوا إلى سيدي أحمد الطيب فلما زجرتهم تركوه وأتوا إلى العلام فوجدوه هاربا قبل ذلك فأمنا ذلك (5) فمكثنا غير بعيد إلا والإجمال رجعوا على يد الحمارية (6) رزقهم الله البركة وأعانهم ونصرهم على الظالمين.
__________________
(1) في ثلاث نسخ لازلت هذا الأمر العظيم.
(2) في نسخة بإسقاط فمنهم ظعنا لقابس.
(3) في نسخة حمود وفي أخرى حمودي.
(4) في نسخة الحمارنة وفي أخرى المحارنة.
(5) في نسخة بإسقاط فامنها ذلك.
(6) في نسخة الحمارنة وفي أخرى المحارنة.


وتوزر وقابس محل الخطفة بل توزر أعظم فكل من غفل عن حاجة في يده إلا وخطفوها فإياك والغفلة فيهما بل وفي غيرهما فإن الغفلة فيها مظنة التلف وقد زرنا الصحابي أبا لبابة الذي هو من الصحابة رضي الله عنه وقد زرناه مرارا وأعلمنا به بعض أصحابنا من الركب فانه من الصحابة قطعا وانه هو هذا إذ ثبت عندهم بالتواتر وهو من أسباب العلم وقد فضلت هذه القرية على سائر القرى بقبر هذا الصحابي.
أقول قال شيخ شيوخنا فيه ما نصه.
نكتة وأبو لبابة هذا من أصحاب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ذكره ابن ناجي في اختصار معالم الإيمان وروضات (1) الرضوان في مناقب المشهورين من صلحاء القيروان وهو كتاب مجتمع في سفر والأصل لأبي يزيد الدباغ القيرواني وذكر البلوي في رحلته أنه لقي صاحب هذا التأليف وأثنى عليه وعلى تأليفه هذا وقد أطال في خبره وذكر أن قبره مما تواتر عند أهل بلده وذكر أن من لم يذكره من ألف في أسماء الصحابة وأمكنة وفياتهم فانه لم يبلغه العلم به والتواتر المذكور مقدم على ذلك وكاف في إثبات أن ذلك قبره وقد بنى عليه أمير تونس حمودة بنيانا عظيما أثابه الله على قصده وبإزائه مدرسة بناها محمد باي في غاية الجودة والإتقان والحسن ومسجده كذلك وجعل لهذه المدرسة احباسا ورتب فيها عشرين طالبا يعطي كل واحد منهم ريالا على رأس كل شهر واستأجر فقيها يعلمهم ويصلي الصلوات الخمس بالمسجد المذكور إماما به فالله تعالى يرحمه به ويعفو عنه فلقد خلف ما يذكر عنه من الآثار الحسنة والله تعالى برحمته يبدل لمن يشاء السيئة بالحسنة.
__________________
(1) كذا في الرحلة الناصرية وجميع النسخ.


وأنشدنا هنالك لنفسه صهرنا الأحب أبو العباس البرنسي الشفشاوني عام تسعة :
نزلنا بقابس فشفينا فيه
 

غليل القلب من شوق اصهابة
 
وزرنا به ضريح إمام بر
 

وبحر في السخاء أبي لبابه
 
هو البحر المعين لوارديه
 

فرد ما شئت من بحر الصحابة
 
فايقنّا بنيل القصد حقا
 

وصدّقنا بإسراع الإجابة
 
أنلنا يا إلهي كل خير
 

وإحسان وزودنا الإنابة
 
وعاملنا فإنا قد أسأنا
 

بفضل لا تغلّق عنا بابه
 
وأمددنا بوافر مالعطايا
 

أدرّ علينا من درّ السحابة
 
ونوّر قلبنا وأملاه حبا
 

وصدقا ولتزل عنا حجابه
 
بلغه الله جميع مراده وجعله من خواص أهل محبته ووداده وأخبرت بأن المدرسة التي يدرس بها سيدي إبراهيم الجمني بجربة هو الذي بناها أيضا وصلينا الظهر عند أبي لبابة والعصر بمنزل الركب وهو آخر البلاد التي فيها ماء واد جار وفيها رحاء ماء غريبة الصنعة إلا أنها تتعطل كثيرا اه ـ.
تتمة فإننا أقمنا يومين في قابس وزرنا أبا لبابة المذكور وزرنا جميع من فيها من الأحياء والأموات واجتمعنا مع بعض فضلائها من طلبة العلم وصلحاء البلد كالمدرس سيدي عمر في المدرسة المذكورة وكذا اجتمعنا مع بعض فضلاء الحمارية (1) وفعلوا معنا خيرا عظيما وهو رد الجمال لأصحابنا ووصيناهم على السعي في رد البغل الذي انتبه العرب من يد بعض أصحابنا بإزاء الركب بين العشاءين جزام الله
__________________
(1) انظر ما قيل في صحيفة 128 وتحت عدد 2 وفي الرحلة العياشية والرحلة الناصرية الحمارنة فتأمل.


أحسن جزاء بمنه وكرمه.
ثم ظعنا منه ونزلنا قرية عرام بعد أن زرنا ما فيها من قبور صلحائها ثم ظعنا منها وسرنا نحو الثلاث مراحل فنزلنا الشيخ الصياح فزرناه ثم منه نحو المرحلتين نزلنا قرب برج الملح فأصاب الركب عطش تلك الليلة فأصبحنا والحمد لله في الزوارة (1) الخالية فسقينا الماء وأوردنا الخيل والبغال والإبل وماؤها عذب حلوا حسن المياه من عرام إليه وكلها خبيثة المياه إلا بئر السلطان فانه أيضا طيب وتلاقينا قبل الصباح بفضلاء أولاد مريم وما أحسنهم من فضلاء وكرماء ولقد كانوا متبعين للسنة جمعوا الخير ووعه وحبهم لنا قوي واعتقادهم فينا سني جعلهم الله أفضل الناس علما وعملا وجاها وحالا وأدام ذلك فيهم إلى يوم القيامة وقد أتوا لنا بشعير ومع ذلك انه مفقود في ذلك الوقت وإنما حملهم على ذلك حبنا وأكرمونا باللحم وما معه من الضيافة [فخف في الركب وهم بعداء منا](2) غير أنهم الحجة الثانية ضيفونا ضيافة عظيمة وذهبوا معنا من طرابلس إلى قابس بل إلى الشيخ سيدي مهذب أنا وجماعتي قد قدمنا مع الركب الفاسي وتخلف في طرابلس إلى انصرام رمضان ونحن أردنا العجلة فذهبوا معنا رضي الله عنهم وجزاهم عنا خيرا بمنه وكرمه.
تتمة فبعد السقي ذهبنا إلى أن خرجنا إلى الزوارة العامرة فنزلنا عند العصر بين السبخة والنبكة ثم منها إلى زواغة (3) وكانت مدينة عظيمة هي أصل طرابلس وبها كان ملكها وطرابلس كانت عامرة بالنصارى ثم انتقلت العمارة إليها بعد انجلاء النصارى منها ثم منها إلى الماية (4) ومررنا على الزاوية الغربية وهي كثيرة النخل قوية
__________________
(1) في نسخة زواوة وفي الرحلة العياشية الزوارات.
(2) هكذا ما بين القوسين في ثلاث نسخ وبإسقاطه في باقي النسخ.
(3) في نسخة زواغ وفي نسختين ازواغ.
(4) كذا في جميع النسخ.


العمارة فيها أفاضل وعلماء وعباد وزهاد معلومة بأهل الصلاح الأحياء والأموات غير أن الركب لم ينزلها وإنما اجتاز عنها فقط ومررنا على زنزور أيضا ثم منه إلى طرابلس وبينها وبين زنزور نحو اثني عشر ميلا والحمد لله أولا وآخرا.


ذكر وصولنا إلى طرابلس
وصلنا في أول شعبان صبيحة وسمع الإخوان بوصولنا وإتياننا فحركهم العزم والشوق إلى ملاقاتنا ومنهم من لقينا عن بعد كالأخ في الله سيدي محمد (1) بن عبد الخالق إذ نزلنا قرب بلاده وأتانا بخروف ضيافة لنا جزاه الله عنا خيرا وأكثر الإخوان إنما أتونا لزنزور كالمحب حقا والأخ في الله صدقا سيدي محمد (2) الشريف البلغيثي النوفلي وجميع أخوانه من الشرفاء وكذا جميع أحبابه كسيدي محمد بن عثمان (3) كاتب الدار الكريمة والشيخ المفتي ابن مقيل وجميع أحبابه وكذا خديم العلم وأهله الذي فاز عن أمثاله قائد عمورة في زنزور خرج إلينا بشوق وعشق يبحث في الركب بحثا شديدا واختلفنا معه في الطريق أنا وسيدي أحمد الطيب وجماعة من الإخوان أخذنا وسط البلد إلى أن خرجنا إلى قرب المنشية ولما تلاقينا مع سيدي محمد الشريف صار يبكي وأنا أبكي بالفرح مع ما فقد فيما مضى من الاجتماع وأما قائد عمورة فقد خرج عن أجناسه من العمال إذ بنى مدرسة عظيمة متقنة ما رأيت أظرف منها وأحسن من صنعتها وجعل فيها بيوتا متعددة ومطهرة طيبة ومسجدا في غاية يستحسنه الناظر وجعل أيضا بيتا للتدريس وغرس النخل الجيد وحبسها على المدرسة وزاد أحباسا عليها عظيمة وحاصل خدمته إنما هي على طلبة القرآن وطلبة العلم بأن جعل معلما للقرآن ومعلما للعلم وهو الفاضل والتقي الكامل تلميذ الشيخ النوراني سيدي إبراهيم الجمني أي الكبير الذي هو تلميذ الشيخ الخرشي وهو نور جربة إذ غالبها خوارج فان الشيخ سيدي إبراهيم شمس الحق في هذه البلدة فقد أفاد واستفيد منه بان نفع الناس شرقا وغربا وجوفا وقبلة وتلميذه المدرس في هذه المدرسة هو سيدي
__________________
(1) في نسخة احمد.
(2) في نسخة احمد.
(3) في نسخة عمار.


عبد الله وقد اجتمعنا معه في هذه المدرسة في الرجعة مع الطلبة والقائد المذكور [والشيخ المفتي ابن مقيل وأصحابه في ضيافة القائد المذكور](1) جزاه الله عنا خيرا وتقبل منه ورزقه التقوى والله يقول إنما يتقبل الله من المتقين.
فإن قلت ما هذا الثناء الذي تثني على صاحبك قائد عمورة فإن هذا الرجل لو كان يبني من ملكه وهو من جملة من يبني المساجد والطرق والقناطر [لكان الثناء عليه في محله](2) والذي يبني به ليس ملكا له شرعا لأنه إنما بناها من مال المسلمين الذي أخذه منهم ظلما وعدوانا لما علمت أن ما عنده إنما هو بطريق الغصب والتوظيف الشرعي مفقود في زماننا هذا فهم كالزانية تزني وتتصدق وقد قال صلى الله عليه وسلم ليتها لم تزن ولم تتصدق الحديث وحينئذ ليتهم لم يبنوا ولم يأخذوا مال المسلمين فما هذا المدح منكم إذ يحرم عليهم فضلا عن الثواب.
قلت قال الشيخ عبد الكريم الزواوي في شرح الوغليسية ما حاصل معناه أن ولاة هذا الزمان إن حصل منهم أفعال الخير المتعددة كالصدقة والهبة والوقف وبناء المساجد والمدارس وغيرها كالإحسان إلى العلماء والطلبة والفقراء هل يحصل لهم الثواب عما فعلوه من الحسنات صورة لإدخالهم السرور على المسلمين وإبقاء أثار فعلهم بعدهم وهو حسنة أولا يثابون لأن ذلك من مال غيرهم بل يحرم عليهم ذلك إذ يجب عليهم رده لأربابه فإعطاؤه لغيرهم تعد آخر فيكون غصبا بعد غصب إذ الوقت وما معه إنما يثمر شرعا بعد حصول الملك قال والحكم في ذلك أنهم يمدحون شرعا من جهة دعوة المسلمين لهم بالخير وذلك غنيمة عظيمة إذ من وصله المعروف منهم يدعو لهم بالخير والرحمة والعفو والغفران فإن استجيب لهم فالله يتولى إعطاء
__________________
(1) ما بين القوسين ساقط في نسختين.
(2) ما بين القوسين ساقط في ثلاث نسخ.


المظلوم فيما أظلم من عنده يوم القيامة لا سيما إذا تعذر الرد لأربابه لفقدهم أو لجهل أعيانهم فالواجب عليهم حينئذ التصدق به وقد فعلوه فلم يبق عليهم حق يسألون عنه وإما إذا تيسر الرد ببقاء عين المغصوب وتعين المغصوب منه فيجب عليهم رده باتفاق وإذا وقع ونزل وصرفه فيما ذكر فيثاب من جهة وهو توفية (1) عن ربه ويثاب من أخرى وهو تحصيل المنافع لمن حصلت له هذه الأشياء مع اغتنام دعائهم وحصول الميل منهم إليهم اه ـ بالمعنى.
قلت الغالب وجود الوجه الأول وهو تعذر الرد لجهل أربابه وحينئذ يجب شرعا صرفه في مصالح المسلمين فيكون فعل هذا القائد ممدوحا شرعا نعم بقي له أمر لا بد له من فعله وهو أن ينكف عن الأخذ بهذا الوجه من المسلمين رزق الله لنا ولهم الهداية والإنابة بمنه وكرمه.
فإن قلت هل يجوز لمن كان في تلك المدرسة من عالم أو متعلم الأخذ من تلك المدرسة والانتفاع بما فيها وإن كان غنيا كتحصيل الطهارة منها والصلاة فيها لأنها قد وقعت بوجه مباح بل بوجه مطلوب إذ الفاعل لذلك يطلب منه صرف ما أخذه في منافع المسلمين فيجوز حينئذ الأخذ والطهارة والصلاة [لأن ذمته عامرة به فيجب عليه إبراء نفسه من ذلك وما حصل منه يعد كصورة المتسلف](2) أو لا يجوز لعلمهم بأنه مغصوب ومشتريه ووارثه وموهوبه أن علموا كهو فتجري عليه أحكام الغصب.
قلت الحق الجواز من غير شك إذ قال صاحب المدخل أن المدرسة إذا بنيت من مال حرام وجهلت أربابه فيجوز للعالم أن يأخذ منها بوجه العلم انظره فأنت ترى
__________________
(1) كذا في نسخة وفي أربع تفويته.
(2) ما بين القوسين ساقط في نسخة.


أيها المخاطب أن نصه هذا إنما هو في عين النازلة فهو طوق في عنق ومع ذلك انه لم يجعل كتابه إلا فيما وافق الأثر وبعضهم يجعله أي صاحب المدخل مشددا في الدين لا مترخصا فإذا علمت هذا فاعلم أن ما يحصل من المدارس والمساجد من أحباس الملوك والعمال عليها وكذا ما يعطونه (1) للمدرسين ومن فيه مصالح المسلمين يجوز من غير شك إذ ما جهل أربابه [للعلماء والفقراء ومن فيه نفع الخلائق و](2) ليس طريقه إلا هذا وإما قولهم المشتري وما معه أن علموا كهو فخاص بتعيين المغصوب منه والمغصوب وهذا في غيره وكذلك الدراهم والأموال الموجودة في أيديهم إن جهلت أربابها [سبيلها هو هذا لأن المال إذا جهل ربه](3) يجب وضعه في بيت المال إن كان منتظما فلا أقل حينئذ من كونها للعلماء والفقراء ومن فيه نفع للخلق فلا يحل لمسلم فضلا عن عالم أن يقدح أو يسمع لمن هذا وصفه (4) بأن يقول يأكل الحرام بل هو من الحلال البين لأن الذي يأخذه المدرس أو المتعلم أو غيرهما حلال قطعا لأنه من أعظم وجوهه حسبك صاحب المدخل حجة بينك وبين الله تعالى والذي فيه الخلاف من مال المستغرقين للذمة بأموال المسلمين بان كان ماله حراما كله أو جله أو أقله على ما فيه من الخلاف بين العلماء إنما هو في غير من يأخذه [منهم بوجه العلم أو الفقراء أو النفع للمسلمين وإلا فالذي يأخذه](5) بذلك الوجه جائز من غير خلاف ألا ترى عبد الله بن عمر لم يكن أورع منه ولا أظلم من الحجاج بن يوسف في زمانه إذ كان يتعدى على النفس فضلا عن المال وهو يقبل الهدية منه لوجود الوجه
__________________
(1) في نسخة يقطعونه.
(2) ما بين القوسين ساقط في نسخة.
(3) ما بين القوسين ساقط في نسخة وفيها يجب وضعها.
(4) في نسخة أن يقدح فيمن هذا وصفه.
(5) ما بين القوسين ساقط في نسخة وفي أخرى في غير من يأخذه بذلك الوجه إلا من يأخذه بذلك الوجه فجائز من غير خلاف ألا ترى الخ.


الذي يأخذها به وهو العلم أو النفع للمسلمين انظر الخطاب عند قول خليل لا أن أخذ من العمال أو أكل عندهم بخلاف الخلفاء والمراد بالعمال من ينيبه الخليفة على الجباية فقط وليس له الإعطاء فلا يجوز الأخذ منه ولا الأكل عنده وإلا كان جرحة في شهادته والمراد بالخليفة من أذن له في الأخذ والعطاء فيدخل القواد (1) وسائر العمال فيجوز الأكل عندهم والأخذ منهم وذلك ليس بجرحة وهذا كله في غير من يأخذ ذلك بوجه العلم وما معه كما سبق وإنما نبهت على هذه المسألة لكثرة الجهل من الطلبة فيها فمنهم من يبالغ بالإباحة وهو خطاء ومنهم من يبالغ من التحريم وهو خطاء ومنهم من يجعل الخلاف في كل الناس وهو غفلة وجهل أيضا ومنهم من يجعل الخلاف أيضا فيمن جهل أربابه أو لا وهو أيضا خطاء وإنما المغصوب إذا كان ربه معينا فيجب رده لربه ولا يجوز لأحد أخذه اتفاقا وإذا فوته عن صاحبه وترتبت في ذمته القيمة كذبحه مثلا فهل يجوز لأحد الانتفاع به بأي وجه من وجوه الانتفاع كالأكل وغيره إذ ترتبت القيمة في ذمته وهو ظاهر كلام خليل وكلام ابن ناجي أو يمنع وهو الذي صرح به غير واحد من الفقهاء وبالجملة فالمال المجهول أربابه يجوز للعالم ومن فيه وجه من وجوه الأخذ أخذه والانتفاع به. وأما غيرهم فإن كان من الخليفة لا العمال فيجوز أيضا وأما المعين ربه قبل فواته فيجب رده لربه ولا يجوز لأحد أخذه مطلقا من عالم وغيره وإما أن فات بيد غاصبه بمفوّت مع بقاء العين كطبخه فهل يجوز الانتفاع به أم لا فقد تقدم ما فيه وإما من كان كل ماله حراما أو جله أو أقله في غير ما ذكر من الولاة ففيه الخلاف الذي ذكره التنائي في كبيره وعليه نظمه فإذا أحطت بهذه المسألة علما فليس كل أن تعترض على أحد من العلماء العاملين المشتغلين بإعطاء العلم أو أخذه بأخذهم من ولاة زماننا ما جهل أربابه فنزل قدمك لما تقدم من نص المدخل والخطاب وكذا غيره من المال المختلف فيه فانه
__________________
(1) في نسختين القياد.


لا ينكر على العلماء والفقهاء وأهل السنة إلا ما كان مجمعا عليه فحينئذ علماء مصر في وقتنا هذا أعني المقتدى بهم وكذا شيخنا سيدي عبد الله السوسي وسيدي محمد الغرياني (1) بتونس وغيره من علماء الأمصار والقرى والبادية ممن عرف بالعلم والعمل به ممن يأخذ من الولاة ما يستعين به على نفسه وأهله فجائز لهم أخذه بلا شك كما تقدم النص عليه ومن أراد الإنصاف والانتصاف فقد نقلنا له ما يبني عليه في نفسه ويحمل عليه غيره من العلماء المقتدى بهم فلا يحتاج إلى التأويل (2) لأنه نص صريح في الإباحة وإلا أصابه ما أصاب المعترضين على أهل الله فيخاف عليه سوء الخامة والعياذ بالله وقد علمت عظم الوقيعة فيهم والاعتراض عليهم من غير قصد دواء لهم ولا الشفقة عليهم والرأفة بهم يرد من باب الله وإن كان محقا في اعتراضه قاله الشيخ زروق في قواعده.
انعطاف في الرجوع إلى المقصود من ذكر أحوالنا وإخواننا في طرابلس إذ قد اجتمعنا بعامته وخاصتهم إذ لهم مزيد في المحبة والاعتقاد في أهل الخير والتشبث بهم ولا شك أن هذه خصلة عظيمة شرعا لأن من أحب قوما كان منهم وحشر معم والتحبب لهم ومودتهم لقدر عظيم عند الله ولله رد القائل في قوله :
لي سادة من عزهم
 

أقدامهم فوق الجباه
 
إن لم أكن منهم فلي
 

في حبهم عز وجاه
 
والمعتقد والمحب كالمحسن إذا لم يقدر على الإحسان لقوله صلى الله عليه وسلم يبلغ المرء بنيته ما لا يبلغه بعمله وبيان هذا الحديث أن المؤمن لو كان يخلد في الدنيا لتمنى بقاء الإيمان معه على الدوام فجزاه الله بالخلود في الجنة وكذا الكافر لو كان
__________________
(1) في نسخة القرفاني وفي نسختين الغرباني.
(2) في نسخة الناس.


يخلد في الدنيا لتمنى بقاء الشرك والكفر معه فيجازى بالخلود في النار جزاء على نيته وأما المحسن فيجازى بالإحسان والله لا يضيع أجر المحسنين وقد قال تعالى : (إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) وقال أيضا (ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) وأما المسيء فتكفيه إساءته إذ لا يخلو الإنسان من ضد ولو خاول العزلة في رأس جبل والنبي صلى الله عليه وسلم يقول ولا بد لكل مؤمن من منافق في جواره يبغضه على إيمانه أو كما قال ذكره الخازن في تفسير قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ) وقال أيضا صلى الله عليه وسلم لو دخل المؤمن جحر ضب لسلط عليه من يؤذيه لكن أهل الأذية فالله يكفينا شرهم ونقول حسبنا الله ونعم الوكيل منهم وإما المحسنون فالله يشكر فضلهم (1) وعملهم ويجازيهم بأحسن ما صنعوا نعم لم أصل إلى ما اعتقدوه فينا ولا أدعيه إذ الدعوى قد تكون أكثر مما عند الإنسان في نفس الأمر فيكون ذلك قدحا بينه وبين محبوبه وإن أخذ بذلك الوصف كان غشا في دينه كما ذكره الشبراخيتي وغيره قال وإنما يجب أن يبين عند الإعطاء أن هذا الوصف الذي أعطيتني لأجله لم أنصف به في نفس الأمر فإن قال أعطيت لله لا لهذا الوصف فخذه فالله لا يؤاخذه (2) وهو يجازيه عن صنعه وإلا فيجب رده لصاحبه لأنه غش في الدين والنبي صلى الله عليه وسلم يقول من غشنا فليس منا.
وأما أهل الخير والصلاح فلا أستطيع عدهم لكثرتهم جدا لا سيما الساكنون بخارج المدينة وأما من في المدينة فالصادق الملاطف [من يؤثرنا على نفسه جعل الله البكرة فيه وفي ذريته إذ ما أنفقه علينا خير من نفسه](3) أعني الشيخ المفتي سيدي محمد بن مقيل وأصحابه كالفقيه المدرس سيدي عبد العزيز وأولاده وقد أخذوا من
__________________
(1) في نسخة بإسقاط فضلهم.
(2) في ثلاث نسخ يتغير.
(3) ما بين القوسين ساقط في نسخة.


قلبي مجامعه ولنا ما لهم وعلينا ما عليهم حبا في الله ووالد الشيخ كان صديقا لنا في الحجة الأولى إذ هم محل الفضل والعلم من الزمان القديم نور الله محلهم بنور العلم إلى قيام الساعة وكذا الذكران من أصلابهم فقد أجادوا في احساننا كسوة وإطعاما وشراء ما نحتاجه من الحوائج كان الله لهم وليا ونصيرا أسأله سبحانه أن يدخله حضرته ويحفظه من كل حاسد مع بسط النعم عليه وعلى ذريته إلى غابر الدهر بمنه وكرمه.
ومن أحبابنا حقا صبغة الله العالم العامل الفاضل الفهامة محب السنة وأهلها صاحب اعتقاد في أهل السنة سيدي محمد العربي الفرجاني الشريف النوراني وأصحابه وأولاده على الإطلاق خصوصا العلامة الفاضل الفهامة الكامل سيدي محمد عوض ولدنا أصلح الله حاله وأظهر عليه فضله وكذال على إخوانه وقد سألت الله في غنى أبيهم وغناهم إلى قيام الساعة وتيقنا إن الله أجابنا كان الله في عونهم آمين.
وممن اجتمعت معه من الفقهاء القاضي ومقدم القاضي من الحنفية والفقيه الأجل سيدي عمر السوداني والشيخ الصكلاني وأصحابهما ومن هو أخونا في الله حقا وصدقا ، وكان لنا الود فيه حبا وشوقا ، ونية ورفقا ، صاحب الجد والاجتهاد في الأمور كلها على وفق السنة النبوية ، والحقيقة النورانية ، سيدي حسن السعداوي ، بلغه الله غاية الأماني ، وقد عقدت معه الأخوة بان الناجي يأخذ بيد أخيه رضي الله تعالى عنه ونفعنا به آمين فإنه يعلم الصبيان قلّ مثل في عصرنا من حبه الصدق وأهله ، وما أحسن نصحا وديانة وصدقا وزهدا ، ما كان فيه ، ظهر على فيه ، يعلوه نور ومع ذلك أنه ارئق ، في العلوم والدقائق ، بلغ الله أماله ، وتعلم حاله من كلامه ، وصدقه من جده واجتهاده ، رضي الله عنه وارضاه.


وكذا من أحبابنا الشيخ مصطفى الخطيب إذا رقم (1) أحسن ، وإذا تكلم بين وأعلن ، [ومن السعادة الغوث الحسن](2) ، وحاصله قد تعلق بنا ، جميع الفضلاء في المدينة من لم يحسن إلينا ، أحسن ظنه فينا ، اللهم قابل الجميع بالخير والفضل والرضى ، واغفر لنا ولهم ما سلف ومضى ، وأصلح حالنا استقبالا بما يرتضى ، بمنك وكرمك.
تتمة في الانعطاف إلى ما كان خارج المدينة منهم سويداء القلب وخلوص الود الذي هو أولى من نفسي ، أتذكره في كل نفسي ، أحيي باجتماعه ، وأموت بافتراقه ، وروحي روحه ، وجبحي جبحه (3) ، وهو أولى من نفسي ، تغمدني الله وإياه برحمته في رمسه ورمسي ، ذو الفتح الرباني ، والفهم الرحماني ، سيدي محمد الشريف النوارني ، جعل الله الفضل والعلم والولاية والغنى والزهد والكفاف والعفاف في ذريته وقرابته إلى غابر الدهر آمين وفضائله وأحواله الطبية وأعماله الحسنة ومقاصده الزكية لا تحصى ذو طب للقلوب ، بفتح من علام الغيوب ، جمع الله بيننا وبينه بالانتفاع ، ولا جعل ما وقع من الفراق آخر وداع ، بجاه من فضل بالاقتفاء والإتباع ، هذا وإن يدنا ويده في ماله سواء ، وأولادي وأولاده وعيال الجميع على حد الاستواء ، ومن تعلق بي وبه من قريب وحبيب وصديق وشيخ وأخ في الله وأحد رضي الله عنه وسدده ، وعلى الخير والطاعة أعانه وبالفتح والنصر أمده ، آمين ، قد أحسن الإحسان التام إلينا ، وأجرى ما لا عين رأت من الكرم لدينا ، ولكنه أحسن إلى نفسه إذ أنا نفسه وهو نفسي حاصله العبارة تقصر عما بيني وبينه من الحب والمودة فالإيجاز أولى ، والاختصار أعلى ، والتقصير أحلى ، إذ الإطناب ، بين الأحباب ، ضباب
__________________
(1) في نسخة إذ لم أر أحسن منه.
(2) ما بين القوسين ساقط في نسخة.
(3) في نسخة ومهجتي مهجته.


وسحاب ، وبالجملة فكل من يحبه يحبنا ، ومن قرب إليه بالدم قريب إلينا ، وصهره صهر لنا ، وأولاده كذلك فماله لنا ، وما عليه علينا ، رزق الله الجميع الصدق مع الحق ، ومع الخلق ، بمنه وكرمه وكذا أولاد الشيخ المعز سيدي محمد وسيدي أحمد وسيدي عبد الله وأحبابه وأصهاره وقرابته كلهم من النفس من أحباب الجميع وسيدي محمد ابن عزوز وإخوانه وسيدي إبراهيم وإخوانه وسيدي سلامة وأصحابه وسيدي أحمد بن إبراهيم ومن انتمى إليه وسيدي عبد الرحمان ومن تشبث به وسيدي عبد الله أمام الجمعة عندهم وأخوه سيدي أحمد الشريف وأولاده وسيدي محمد أخوه وسيدي أبو بكر وغيرهم من الشرفاء كأولاد عمه سيدي علي كلهم منا وإلينا ومن الفقهاء سيدي عبد النور فهو فقيه فاضل عالم نظم قصيدة في علم التوحيد لا بأس بها وأن يسر الله على اشرحها وأولاد الشيخ سيدي الصيد الولي الصالح والبدر الواضح وأولاده لا سيما من هو كبير السن عظيم الشأن سيدي عبد اللطيف وولده سيدي علي رحمه الله وسيدي الصيد وولد ولده سيدي أحمد وأولاد أعمامه جملة وتفصيلا إذ طبعت على حبهم وحب من يحبهم وأولاد الشيخ سيدي محمد بن سعيد وأولاد المرغني وأولاد الشيخ ابن جابر وكل من هو من أهل الفضل في الهنشير والساحل المنشية ولو زرناه مرة واحدة أو زارنا كذلك فهو منا سواء عينت اسمه أم لا وكذا أولاد الشيخ النعاس سيدي محمد وأولاد أخيه سيدي عبد الرحمان وسيدي إبراهيم وولده وطلبة محلهم على العموم من ذهب أو بقي ومن إخواننا حقا سيدي محمد بن عبد الخالق وأعمامه وقرابته فإنهم منا ونحن منهم وبالجملة فمن اجتمعنا معه ولو ساعة حبا في الله فهو له ما لنا وعليه ما علينا ولنا نصيب منه سواء سميناه أم لا إذ من تحقق بحالة لا يخلو الحاضرون منها نفعنا الله بهم وبإسلافهم بمنه وكرمه وبالجملة فأحبابنا كثيرون جعل الله الحب لأجله.
وأما الحجة الأولى فقد أدركنا فيها محقق الصلاح ، وصاحب النجاح ، نجم


الصباح ، ذا الأرباح ، صاحب الورع والعلم الصحيح ، والزهد والدواء لإخوانه ممن هو بالحب جريح ، العالم في كل المذاهب ، الذي طاعت وانقادتا له المواهب ، سيدي محمد المعزي (1) ومثله في الفقه سيدي محمد النعاس وكذا من البله سيدي عبد الخالق وكذا الذي هو تلميذ الشيخ سيدي محمد بن سعيد وهو الذي أعطى له كتابا مزبورا بالتركية وقال أقرأه فأخذه فقرأه وسمعت منه أنه قال لي من حينئذ أقرأ مكتوب التركي نفعنا الله بهم وبأمثالهم آمين وسيدي محمد المعزي (2) أظنه كل عرفة يحج من بيته رضي الله عنه وأرضاه وقد استفدنا منه إفادة عظيمة ولقد علمت أنه طيب الدين والدنيا لا يغادر شيئا إلا عرف سببه وطبه فمن جلس معه عرف أحكام الشريعة وأوصاف الحقيقة وما يخصه في أمر دينه ودنياه وحاله ووارده ومقامه حاصله يغترف من بحر الله فحدث عنه ولا حرج وكيف لا وشيخه الشيخ ابن سعيد إذ هو سلطان العارفين ، وملاك زمام السالكين ، ومربي المريدين ، والآخذ بيد المجذوبين ، إذ قيل عنه انه يسبغ في لمحة وأصحابه كلهم قد ظهر عليهم فضل الله لا سيما المعارف الإلهية ، والمواهب الربانية ، واللطائف الرحمانية ، وقد رأيت بعض كلامه في التوحيد الخاص وكذا تجريد التوحيد وتفريده يظاهي كلام الشيخ عبد القادر الجيلاني وكلام عبد الكريم منه أيضا وإنما يأتيه الكلام عند ورود الوجد عليه ، والحال لديه ، فيكتبه أصحابه نفعنا الله به وبأصحابه وأفاض علينا من بركاته آمين والحمد لله على زيارته وزيارة معاصرة الشيخ المرغني والشيخ الصيد والسيد ابن جابر بالنية والمحبة وكلهم متعاصرون أفاض الله علينا من بركاتهم آمين.
وكذا زرت من كان بالمدينة كسيدي عبد الوهاب وسيدي درغوث الذي اخذ المدينة من أيدي النصارى حاصله من ثبتت له عناية إلهية حيا أو ميتا فيها فقد زرناه
__________________
(1) في نسخة المعربي.
(2) في نسخة المعربي.


فعلا أو نية اللهم بجاه من دخلها من أول عمارتها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين أن تجعلني وأولادي وأزواجي وإخواني وطلبتي وأحبائي محبوبين عندك ، وعند رسولك وأوليائك ، ومحبين من غير محنة ، ولا مشقة ولا فضيحة ، ولا تسلط علينا جبارا عنيدا ، ولا أحدا من عبادك ولا شيطانا مريدا ، ولا نفسا متعدية علينا ، يا أرحم الراحمين ، يا حي يا قيوم برحمتك استغيث آمين يا رب العالمين.
تنبيه إنما نذكر من ذكر من الإخوان والمحبين وبيان أوصافهم ليتحقق السامع بأحوالهم ويتصف بأوصافهم والأقل أن تحضر عنده بركاتهم وأما ذكر أوصاف الطريق وبيان المواضع فان فيه اعتبارا ودلالة على أثار قدرة الله تعالى وتسخير الأكوان لنا والتنقل من حالة لحالة ليترقى بذلك صاحب السلوك إذ هذه الطريق أشبه شيء بطريق الآخرة فمنها يعرف الترقي في مقامات الله تعالى حتى يتحقق بحضرته ويكون في دائرته وناهيك بشيء يكون سببا للوصول إلى مرضاته وفيه أيضا التصبر والتسلي والتأسي بهذه الأفاضل في طريقهم إلى الحج ولا شيء أعظم من هذه لأن من رأى أحوالهم في الطريق ومعاملتهم في البيع والشراء والهبة والصدقة والضيافة وزيارة الإخوان والقيام بحقوقهم ووضع الأمانة وتولي الشراء والبيع بنفسه أو بائعه منهم أو من غيرهم يتحقق به الناظر والسامع بذلك أيضا فيقوي نوره ويتسع مدده لأن أوصاف النبي صلى الله عليه وسلم سارية في أحبابه وقائم مثلها فيهم وكما تخلفوا بخلفه صلى الله عليه وسلم انتدب الكلام عليهم إذ ذكر أوصافهم ذكر لأوصافه وقد علمت ما في ذكره صلى الله عليه وسلم من الثواب وذكره صلى الله عليه وسلم ذكر لله ولذكر الله أكبر وأما ذكر طريق الحج فهو كذكر الطريق الموصلة إلى الله قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني فلا يقال أن ذكر هذا ذكر لما لا يعني أولا فائدة فيه فنقول هذا ذكر الله تعالى كما سبق فإن قلت سلمنا ذكر ما ذكر فيه ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وذكره ذكر الله تعالى فما أحسن


بيته وما أحسن ذكر الطريق الموصلة إليه كالطرق الموصلة إلى رب البيت [فاعلم هذا فانه لم يهمل على شيء](1) وشرف العلم بشرف معلومه ولم يكن شيء أعز من بيت الله تعالى ولا شيء أعظم منه ولا أعظم من الطريق الموصلة إليه وأما ذكر المدن والقرى وبيان أوصافها وذكر الفلوات والصحاري والأنهار والعيون وحسن بناء المدن والأسوار والحوانيت والأسواق والأزقة والمساجد واتقانها والصوامع وأوصاف ما ذكر وملاقاة الرفاق والرجال من عامة المؤمنين وبيع الحوائج وشرائها في خاصة نفسه إذ لا فائدة تعود إلى غيره إذ هذه الأمور خاصة بمؤلف الرحلة فلا نفع فيها يتعدى لغيره من العلم أو المصالح لتجتلب أو المضار لتجتنب فذكرها عبث وهؤلاء المؤلفون مصونون عن العبث إذ مقامهم يتحاشى عن ذلك ولأنهم مشرعون والنبي صلى الله عليه وسلم ذكر أحواله للتشريع إذ هو بشر لا كالبشر فذكر أحواله من بيع وشراء ونزول وصعود وهبوط وشرب من بئر فلان ودخول بيت لفلان وصفة مسجده وبيته ودابته ولباسه ومأكله ومشربه وغير ذلك علم يفيد مصلحة أي مصلحة وأما هؤلاء فليس كذلك قلت نعم الأمر كما ذكرت لكن اتفق أهل الرحلة على ذكر ذلك قديما وحديثا فحينئذ لا يخلو عن فائدة بينة أما ما كان في خاصة نفسه إن كان خيرا فكذا مثله أن وقع بك فتشكر الله تعالى ليزيدك المعونة والخير لقوله تعالى ولئن شكرتم لأزيدنكم وإن كان مصيبة وامتحانا واختبارا فتتسلى به وتصبر كما صبر أولو العزم من الرسل فيسهل عليك حمل أعباء المصائب والله يقول إن الله مع الصابرين ولقوله أيضا (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) الآية وأما ذكر أوصاف المدن والقرى فلا اعتبار وقد قال بعض العلماء إنما سكن الأكابر الأمصار لتذكر آيات الله والاعتبار وحينئذ فمن لم يرها حصل له ذلك بسماع أوصافها وقد علمت أن تفكر ساعة خير
__________________
(1) ما بين القوسين ساقط في نسخة.


من عبادة كذا وكذا سنة كما في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم وكفى بهذا شرفا وفضلا وأما ذكر بيع حاجة كقوله بعت جملاا ، ودعته وغير ذلك من الأخبار بما يخصه فلان تعلم أن الفضل والشرف ليس بترك الأسباب وإن التوكل لا ينافي ذلك لقوله تعالى (رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ) ولم يقل رجال لا يتجرون ولا يبيعون وأيضا الفاضل لا يقف عن خدمة نفسه ودابته وضيفه وشيخه وأهل الخير والصلاح بل الشرف ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتولى ذلك بنفسه فكيف بغيره فصاحب الرحلة حين أخبرك بأنه فعل كذا كأنه قال لك السنة في هذا الطرق فعله إذ التوكل في القلب وهو لا ينافي الأسباب بل فعلها يقويه ويؤيده لأن النبي صلى الله عليه وسلم أعظم المتوكلين فانه يبيع ويشتري ويأخذ الزاد ويلاقي الرفاق ويصحب الرفقة وينزل على الماء ويتزود منه وأخبار صاحب الرحلة بأنه فعل ذلك ليقتدي به كما اقتدى هو به صلى الله عليه وسلم وقد قال الإمام الشافعي الشريف لا يأنف من ثلاث خدمته لنفسه ولدابته ولضيفه كما ذكره الشعراوي فإذا علمت هذا علمت أن ذكر ذلك ذكر لأحوال النبي صلى الله عليه وسلم وكفى بذلك فائدة وشرفا لهذا اللم فلا يحل لامرئ مسلم أن يقول تأليف هذا من العبث إذ هو الطريق وبيانها كبيان الطريق الموصلة إلى الله تعالى لأنها توصل إلى بيته بل توصل إلى رضاه وأي علم أشرف من هذا العلم وفائدته ظاهرة هذا وأن علم أمور الرحلة وبعض علم التاريخ يرجع إلى علم سيره صلى الله عليه وسلم فاعلم هذا فان فيه فضلا عظيما وأيضا النفس إذا علمت الطريق اشتاقت إلى الذهاب إلى بيت الله الحرام وأيضا معرفة الاستطاعة وعدمها إنما تكون ببيان المراحل وصعب الأماكن وسهلها وبيان المسافة بين المطاعن وبيان العذب منها وغيره ليعرف ما يتزود من الماء وقدر ما يعرفه من الأحمال وكل ذلك يحتاج فيه إلى تصور الطريق بالتفصيل ليعرف الإنسان حصول الاستطاعة لنفسه فيجب عليه أو عدمها فلا لأن الحكم


بالاستطاعة فرع التصور للطريق فاحتيج إلى بيان الرحلة فان قلت كتاب واحد يكفي قلت لأن الزمان والمكان يتغير فاحتيج إلى التعدد وأما بيان الأشجار ليستعد الإنسان إلى الشراء من وطنها لأن كثرته توجب كثرة الثمرة وكثرتها توجب رخاء الأسعار فينبغي للإنسان كثرة التزود منه ومثله القلة في الضد وأما غير الثمر فبيانه لاحتياج الدواب إليه فكل ذلك فيه إعانة للحاج والله يقول : (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى) الآية وبالجملة فهذا العلم شرف لشرف معلومه فالمنصف يظهر له الحق بأول إشارة والمعاند لو ملأت له الأرض حججا ما قبلها.
وإذا البينات لم تغن شيئا
 

فالتماس الهدى بهن عناء
 
تتمة وممن أقبل إلينا ووفق لمحبتنا الأجل الأعظم الحليم المشفق ذو الأخلاق الطيبة والطبائع السنية ودفع السيئة بالحسنة لقوله تعالى : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)(1)(فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) وكذا كفاه الله مئونة أعدائه من غير حرب ولا عسكر ولما اجتمعت معه قلت له امتثل الخير ولو من عدوك ، ولا تقبل الشر لو من صديقك ، وقلت له أيضا المحسن يجازي الإحسان ، والمسيء تكفيه إساءته ، زاده الله عقلا وعلما وحلما وصبرا (2) وهداية ورعاية حسنة وأن يخلد الولاية في ذريته إلى قيام الساعة مع العدل والحلم حسبما فيه غيره من أهل العدل والإحسان والرحمة للأمة المحمدية وذلك سيدي علي باشا نجل الوالي محمد باشا نجل الوالي أحمد باشا وفي الحجة الأولى أدركت جده وفي الثانية أدركت أباه في الطلعة وفي الرجعة أدركته هو جعل الله عاقبته خيرا من أوله وأصلح حضرته لأن قلب الأمير على قلوب قواعده وصلاحه بصلاحهم وفساده بفسادهم لأنه لا يخرج عن دار الملك حتى يتبين له المحسن من المسيء والصديق من العدو والطائع من العاصي
__________________
(1) في نسخة أحسن السيئة.
(2) في نسخة وعلما وجبرا ونصرا.


وهلاك الخلق إنما هو بهم فكان حقا عليه أن لا يقبل الشر من أحد إلا إذا حصل له العلم بذلك وإلا كان كرة في أيديهم فيهلكون به من شاءوا من عباد الله من غير موجب شرعي نعم العاقل من عقل عن الله ما يفعل إذا علمت هذا علمت أن الأمور نسبية الأمثال فالأمثل وإلا فأن نظر إلى العصر الأول فتجد أهل الطاعة منا كأهل المعاصي منهم غير أنك إذا نسبت من كان من أهل الزمان الأول والزمان الأتي إلى زماننا هذا فتجده أولى من غيره والأمر اعتباري وإلا فالظلم قد عم والجهل قد انتشر والبدعة قد صارت سنة والسنة قد صارت بدعة والحكم لله الواحد القهار ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العلمين فيالله وتالله مثلي لا يصلح بهم ولا للاجتماع معهم إذ لا دين لنا نتحصن به وأما هذا الرجل ومثله في محل الرفعة والتعظيم أن تعلق بمثلنا فيربح قطعا إذ من خذل من الأمراء لا يلتفت إلى أهل الخير بل يعدونهم كالهباء المنثور الحمد له على مثله فالله يحفظنا وإياه من كل حسود وأذاقه ما أذاق أصفياءه لأنه على كل شيء قدير ، وبالإجابة جدير ، يؤتي الملك من يشاء بالتصريف ، ويعز من يشاء بالتعريف ، ويذل من يشاء بالتسويف ، بيديه الخير من غير وجوب ولا إيجاب ولا تخويف.
تنبيه آخر قال شيخ شيوخنا سيدي أحمد بن ناصر ما نصه فائدة قال الشيخ محمد بن علي شارخ الشقراطسية ناقلا عن البكري ويذكر أن تفسير طرابلس بالعجمية ثلاث مدن قال وعلى مدينة طرابلس سور ضخم جليل البناء وهو على شاطئ البحر وبها أسواق حافلة وحمامات كثيرة فاضلة وفيها رباطات كثيرة يأوي إليها الصالحون ومرساها مأمون من أكثر الرياح ومدينة طرابلس كثيرة الثمار والخيرات وبها بساتين جليلة في شرقيها ويتصل بالمدينة سبخة كبيرة يرفع منها الملح الكثير ومن طرابلس إلى جبل نفوسه ثلاثة أيام وذكر الليث ابن سعد قال غزا عمرو بن العاص مدينة طرابلس سنة ثلاث وعشرين حتى نزل القبة على الشرف من شرقيها فحاصرها


شهرا لا يقدر منهم على شيء فخرج رجل من بني مدلج ذات يوم من عسكر عمرو يتصيد في سبعة نفر فمضوا غربي المدينة فاشتد عليهم الحر فأخذوا راجعين على ضفة البحر وكان البحر لا صقا بالمدينة ولم يكن بين البحر والمدينة سور وكانت سفن البحر شارعة في مرساها إلى بيوتهم فنظر المدلجي وأصحابه فإذا البحر قد غاص من ناجية المدينة فدخلوا منه حتى أتوا من ناحية الكنيسة فكبروا فلم يكن للروم مفزع إلا إلى سفنهم وأقبل عمرو بجيوشه حتى دخل عليهم فلم يفلت الروم إلا بما خف عليهم في مراكبهم وغنم عمرو ما كان بالمدينة وسور المدينة مما يلي البحر غير أصل إنما بناه هرثمة بن أعين في حين ولايته القيروان وبعث عمرو بن العاص إلى ودان بشر بن أرطأة وهو محاصر طرابلس فافتتحها وذلك سنة ثلاث وعشرين وأكثر معيشة أهل ودان التمر ولهم زرع يسقونه بالنضح وافتتح عمرو بن العاص نفوسة وكانوا نصارى وأم قرى جبل نفوسة شروين مدينة كبيرة آهلة جليلة وبين طرابلس ومدينة شروين خمسة أيام وبينهما حصن لبدة من بنيان الأوائل بالأجر والحجر حوله آثار عجيبة وخرائبي كثيرة يسكن هذا الحصن قوم من المغرب حماتهم نحو الألف فارس وهم محاربون لجميع من يحاربهم من قبائل البربر أزيد من عشرين ألفا بين راجل وفارس وظاهرون عليهم وفي وسط جبل نفوسة النخيل والزيتون الكثير والفواكه ويجتمع فيما حوله من القبائل ستة عشر ألف رجل وطول جبل نفوسة من المشرق إلى المغرب ستة أيام اه ـ كلامه مع بعض اختصار وتغيير وفي رحلة أبي سالم العياشي وهي مدينة مساحتها صغيرة ، وخيراتها كثيرة ، ونكايتها للعدو شهيرة ، ومآثرها جليلة ، ومعائبها قليلة ، أنيقة البناء ، فسيحة الفناء ، عالية الأسوار ، متناسبة الأدوار ، واسعة طريقها ، سهل طروقها ، إلى ما جمع لأهلها من زكاء الأوصاف ، وجميل الإنصاف ، وسماحة على المعتاد زائدة ، وعلى المتعاقبين بأنواع المبرة عائدة ، لا تكاد تسمع من واحد من أهلها لغوا إلا سلاما ، ولو لمن استحق ملاما ، لا سيما مع


الحجاج الواردين ، ومن انتسب إلى الخير من الفقراء العابدين ، فإنهم يبالغون في إكرامهم ، ولا يألون جهدا في أفضالهم عليهم وأنعامهم ، ولهذه المدينة بابان باب إلى البر وباب إلى البحر لأن البحر يحيط بكثير من جهاتها والحصن الذي فيه الأمير متصل بالمدينة من ناحية باب البر بينه وبين البحر ولأمير هذه المدينة نكاية للعدو دمرهم الله ولو مراكب قل نظيرها معدة للجهاد في البحر فلما تسافر وترجع بلا غنيمة وفلما أسرت لهم سفينة إلا أن تكون من سفن التجارة لا من سفن الجهاد فجزاهم الله خيرا وأعانهم على ما أولاهم من ذلك وسائر بلاد المسلمين أجمعين.
قال وكان عادة الركب إذا نزل هذه المدينة لا سيما في الذهاب أن يقيموا بها نحوا من شهر يستعدون فيها لدخول المفازة التي قل نظيرها وهي مفازة برقة ومن هذه المدينة يشتري الحجاج ما يحتاجون من الإبل والقرب الخ ما حاصل معناه أن الركب كان يمشي مشيا رويدا لأن مقصودهم الحج والشوق لتك الأماكن ويشفقون على الضعيف فالآن والعياذ بالله صارت حالة الركب تجارة فمسيرة شهرين صارت أربعين يوما غبطة لحصول الحوايج الدنيوية حتى انقطعت الصعاليك عن المشي أنا لله وأنا إليه راجعون.
وأما الإبل فأبل هذه البلدة أجود من غيرها لأنها ألفت العمل والخدمة الكثيرة وأنهم يستعملونها في كبير الأعمال حتى الحراثة والدراسة والرحي فتمرنت بذلك على المشاق العظيمة مع طبيب هواء البلد وقد قيل إن هواء الدنيا كلها في هواء هذه البلدة مع صفاء مرعاها فيقل حينئذ فيها الغش وتندر أمراضها وقد قيل للحجاج عليكم بجمال طرابلسية وقربة مصرية لأن قرب هذا البلد ردية الدباغ وماؤها خبيث المساغ ومع ذلك لا تمسك الماء إلا كما يمسكه الغربال ومع ذلك يحتاج صاحبها إلى كثير منها بل قد تؤديه إلى العطب والتلف في بعض المفاوز لكونها تضيع الماء


برشحها كثيرا. ثم قال وهذه المدينة قد شاهد أهلها بركة الحجاج والمجاهدين في أمر معاشهم فربما اجتمع فيها من الركبان الذاهبين والائبين خمسة أو ستة ويصادف ذلك في كثير من الأحيان خروج عسكر البحر للجهاد ومع ذلك لا يزيد فيها السعر على ما كان في كل مطعوم بل ربما نقص في الغالب مع أن البلد في كثير أحواله معروف بغلاء الأسعار بالنسبة إلى أرياف النيل وسواحل المغرب وجباله إلى أن أهلها مستكفون بها غاية وراضون بها نهاية وهي جديرة بذلك إذا اجتمع الأركاب فيها كثير الزحام على الأراحي غاية فيلاقي الحجاج من ذلك مشقة ولو لا ما جبل عليها أهلها من السماحة وحسن الخلق لما تهيأ للحجاج اتخاذ الزاد منها لصغرها وكثرة الواردين لا سيما من لم تطل أقامته اه ـ قلت ركبنا لم تطل إقامته في هذه السنة وإنما أقمنا بها نحو العشرة أيام وذلك شأن الأركاب في هذا الزمان لأن الناس يستصحبون معهم الزاد فلا يحتاجون إلا إلى ما قل وقد ذكر شيخ شيوخنا المذكور أنه بعد استقرار المنزل به ذهب لزيارة شيخه الفاضل مفتي البلد سيدي محمد بن أحمد بن مساهل رضي الله تعالى عنه قد استعفى عن الفتوى في آخر عمره وتبتل للعبادة وتدريس العلم مع ملازمة كتب الوعظ والتذكير وله مشاركة في العلوم ملازم التدريس وله سيمة حسنة وحالة مرضية بأن قال ما رأينا سيمة حسنة أولى منه ولا أصدق قولا ولا فعلا منهم وله باع في المطالعة وانقال في المذهب وكان منقطعا عن الاشتغال والتكاليف بحيث لا يفتر عن إقراء العلم صباحا ومساء وصيفا وشتاء بمعنى أنه يديم القراءة وقد اشتغل بالفتوى نحو الأربعين سنة ومع ذلك حمدت سيرته وقد أخذ طريقته عن الولي بلا نزاع بين تلك البقاع سيدي محمد الصيد رضي الله عنه والصيد في لغتهم الأسد وسمي بذلك لكثرة ردعه للظلام وقهره للجبابرة وهو أخذ عن سيدي عيسى بن محمد التلمساني المشهور بأبي معزة وهو أخذ عن الولي الكبير والعلم الشهير سيدي أبي عمرو القسطلاني المراكشي وكان هذا الشيخ


رضي الله عنه لا يجترئ أحد على معارضته فيما أمر به ولا يتعرض لمن انتسب إليه وظهرت له كرامات وقد ظهر فضله بسبب شيخه سيدي عيسى المذكور ولذا لم يزل ولده سيدي عبد الحفيظ يبالغ في تعظيم أولاد سيدي أبي عمرو بل في تعظيم كل من انتمى إليهم بقرابة أو خدمة أو جوار أو غير ذلك وقال ولقد أخبرني من حضره ذات يوم وقد غسل سيدي محمد بن أبي القاسم من أولاد سيدي أبي القاسم يده صباحا ورأسه من حناء كان بها في إنائه فأخذ سيدي عبد الحفيظ ما اجتمع من الغسالة في ذلك الإناء وشربه نفعه الله بحسن اعتقاده ولهذا السيد مزيد اعتقاد في كل من ينتسب إلى الصلاح وقد نفعه الله بذلك فطار صيته وانتشر ذكره في البلاد أكثر من أبيه وهابه الولاة فمن دونهم كما قيل له دنيا عريضة من كل المال قد أتاه نعما وحرثا وغيرهما يطعم منهما الواردين ويواسي المحتاجين أعانه الله على ما به تولاه ورزقه الشكر على ما أولاه وتوفي أبوه سيدي الصيد سنة خمسين وألف (1050) وقال أيضا لقد أخبرني محمد بن مساهل المذكور بان قال منذ عرفت الشيخ سيدي الصيد ما تركت جمعة في مسجده نحو أربعين سنة آنية ضحى وأصلي الجمعة وأرجع إلى المدينة إلا لعذر ظاهر وأبقى في مسجده إلى أن أصلي العصر في محلي المسمى بالهنشير وبينه وبين المدينة ستة أميال.
لطيفة قال أخبرني أيضا شيخنا هذا أن شيخه المذكور قال أن لأهل الله مراغة كمراغة الإبل لا يمر بها أحد منهم إلا تمرغ بها وأني لأرجو أن يجعلك الله مراغة لأوليائه ولأجل دعوة هذا الشيخ لا يدخل أحد هذه المدينة ممن فيه انتساب لهذا الطريق المبارك إلا كان أيواؤه إلى هذا الشيخ أما بالنزول عنده أو بالتردد إليه وكان رضي الله عنه يقوم بحوائجهم قدر الإمكان ويواسيهم نفعه الله بقصده الجميل.
نادرة قال وأخبرني شيخنا ابن مساهل عن بعض مشائخه أنه قال إذا أذن خلف


مسافر فذلك أمان له حتى يرجع من سفره وروى لنا في ذلك حديثا وقد فعل لنا ذلك رضي الله عنه حين ودعنا خارج داره فرأينا بركته والحمد لله اه ـ.
أقول لطيفة وكذا إذا قرأ وراء المسافر قوله :
وحيث اتجهت صادفتك عناية
 

وينصرك الرحمان من كل جانب
 
رجع سالما بإذن الله تعالى وقائله هو جبريل عليه السلام إذ قرأه وراء النبي صلى الله عليه وسلم حكاه الخفاجي في شرح الشفاء قال ما قرئ وراء مسافر إلا رجع سالما.
ثم قال غربية أخبرني أيضا أن سيدي علي بن الخضر العمروسي ذكره في شرحه على المختصر أن الزباد المسمى في عرف غربنا بالغالية نجس وإن كان عرق حي لمروره بمحل البول قال وكان بعض الصالحين لا يتطيب به لذلك وأظنه الشيخ اللقاني قال شيخنا وكنت أتوهم ذلك إلى أن بعث بحضرة سيدي عبد الحفيظ إلى فطاط من الفطوط التي يستخرج منها الزباد وكان عند بعض الأتراك فلما أحضر أمرنا متولي استخراج الزباد منه باستخراجه بحضرتنا ففعل فشاهدنا محل اجتماع ذلك منه خارجا عن محل البول لا يمر به أصلا وإنما هو جليدة رقيقة عن يمين المحل أو يساره يجتمع فيه ذلك العرق وتشتد عليه وتنطوي حتى يؤخذ منها قال فحينئذ أطمأنت نفوسنا وأيقنا بطهارته.
قلت وفي شرح المختصر للشيخ بعد الباقي الزباد كالمسك لخروجه من غير


مخرج البول والروث ولا يصل إلى محل خروج بوله ولا روثه كما أخبرني به مسلم ثقة في ذلك كذا قال الأجهوري في كبيره ومن خطه نقلت فيكون طاهرا وبه أفتى الشيخ سالم بعد التوقف حتى أخبره من له به معرفة وكذا له كما للأجهوري وهو خلاف من هذه الأماكن بملعقة صغيرة أو بدرهم رقيق اه ـ واقتصر صاحب القاموس على ما نصه وغلط الفقهاء واللغويون في قولهم الزباد دابة يجلب منها الطيب وإنما الدابة السنور والزباد الطيب وهو رشح يجتمع تحت ذنبها على المخرج فتمسك الدابة وتمنع الاضطراب ويسلت ذلك الوسخ المجتمع هنا بليطة أو بخرقة انتهى كلام الزرقاني بزيادة.
قلت ويؤيد ما للرزقاني ما عاينه الشيخ ابن مساهل المذكور مع من معه فلا يرتاب في طهارته إذا لبعده عن محل النجاسة لانطواء تلك الجلدة واشتدادها عليه بعد اجتماعه حتى يؤخذ منها.
ثم قال غريبة أخبرني الشيخ سيدي محمد بن مساهل سنة أربع وستين في الرحلة التي قبل هذه أنهم سمعوا في سنة اثنتين وستين وألف (1062) صوتا هائلا في ناحية البحر كصوت المدافع الكبار من قرب الضحى إلى الليل قال وظنناه سفنا للمسلمين تلاقت مع بعض السفن للنصارى وكما سمعنا ذلك الصوت سمعه أهل هذا الساحل إلى مراتة وسمعه حتى أهل فزان والإسكندرية وسمعه من الناحية الغربية أهل جربة وسوسة وتونس وكل يظن أنه قريب منه وبعد شهر أو شهرين قدمت مراكب من بر الترك وأخبروا أن ذلك الصوت لأمر هائل وذلك أن جزيرة من الجزائر خرجت في بعض نواحيها حجارة تطلع من البحر حتى إذا ارتفعت على الماء وعلت في الهواء تصدعت فيخرج منها نار ويسمع لها ذلك الصوت فإذا خرجت


النار وقعت الحجارة على الماء خفيفة كهيئة الجفافة ودام ذلك إلى الليل وارتفع من ذلك الجو دخان كثير فيه رائحة الكبريت وأعجب من هذا انهم قالوا أنه أصبح في ذلك البلد كل ما عندهم من الفضة نحاسا في تلك الليلة والله أعلم بغيبه قال وهذه المدينة معروفة بأهل الصدق في الأحوال من المجاذيب وقد أدركنا بها رجلين أو ثلاثة من المجاذيب تؤثر عليهم كرامات وحكايات غريبة تدل على صدقهم في مواجدهم وكانت فيما مضى فيها مزارات كثيرة لكثير من أكابر الصالحين ولا يعرف منهم الآن إلا القليل كسيدي سالم المشاط صاحب المسجد الجامع الذي بأقصى المدينة وقبره يزار.
قال وسبب خفاء كثير من قبور الصالحين المدفونين أن البلد تداولته أيدي المسلمين والنصارى مرارا عديدة فقد ذكر ابن بطوطة في رحلته أن النصارى استولوا عليها في أيام السلطان أبي عنان وافتداها منهم بخمسة قناطير من الذهب العين فعد ذلك من مآثرة انتهى قال وقد استولى عليها النصارى أيضا في القرن العاشر.
قلت وفي رحلتنا للحرمين الشريفين سنة ست وتسعين وألف (1096) حاصرها الكفار دمرهم الله تدميرا وذلك أن يوم نزولنا بها بمنزل الركب بسق البحر إذا بسفن ثلاث ظهرت على متن البحر ثم تتابعت الفك في اليوم نفسه إلى أن كملت اثنتين وعشرين سفينة فأقاموا عليها دمرهم الله بقية الثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة وأهل المدينة في تلك المدة في هول عظيم ونكد جسيم وعناء شديد وليس فيهم مدبر ولا ذو رأي حميد أو نظر سديد بل أخذوا في نقل أمتعتهم من المدينة لخارجها وحريمهم إلى سوانيهم بالمنشية ولما رأينا ذلك تكلمنا مع وجوههم على فعلهم الغير اللائق فيما يبدو لنا من إظهار الجزع والجبن لأعداء الله الكفرة اللآم الفجرة وقلنا لهم إن هذا الصنع الذميم مما يغريهم عليكم فاصبروا ولا تظهروا لهم


الوهن والجبن فقالوا هذا والله منها ليس بجبن وإنما حملنا على ما رأيتم ما أتوا به مما لا طاقة لنا به من البنبة يضربون بها ولا تقع على شيء كائن من كان إلا وهدمته ودكته والمسلمون في هذه الليالي كلها لا ينامون بل يحرسون على البحر ويطوفون حوله ونحن وركبنا معهم في ذلك مستهلون بالشهادة رافعون أصواتنا بالتبكير وملعنون بالصلاة على البشير النذير عليه أفضل الصلوات وأزكى التحيات من الملك القدير وعلى آله وصحابته ذوي المنهاج الواضح المنير فلما كان بعد صلاة العشاء ليلة السبت ضربت الكفرة دمرهم الله بمدافعهم فرأينا من ذلك ما لم نره قط ولا سمعنا به ترى البارود حين يخرج من بخش المدفع فإذا بكرة محماة تحكي الشهب خرجت منه صعدت ثم يرمون بأخرى وترتفع أكثر من الأولى ثم تتدلى هابطة فإذا وقعت بالأرض سمع لها صوت هائل تصمنه الأذان فتصدع في الموضع الذي وقعت فيه وتتفرق ولا تقع على بناء إلا هدمته ولا على بسيط مستو إلا وحفرته ولا على علية أو أسطوانة إلا وهدمتها ولا على شجرة إلا وأحرقتها أو قلعتها فتمكث في أعماق الأرض سويعة فتتكسر فيسمع لها صوت هائل أعظم من الأول ونحن في ذلك كله رافعو الأكف بالذلة والافتقار والخضوع والتضرع إلى الله تعالى الليل كله ولا نكتحل بنوم قط وما خرج مدفع من مدافعهم إلا وظننا أنه يقع علينا فتارة تقع حذاءنا وتارة تمر علينا وأكثر ما تقع بالمدينة أو البحر أو قرب المدينة خارجا وفي بعض الليالي وهي من الليالي الهائلة أخذوا في الضرب الليل كله إلى الصباح بل إلى الضحى لا يفترون عنه ساعة وضربوا فيما أخبرني به بعض فقهاء البلد بأزيد من تسعمائة كرة فلما رأينا هو لهم العظيم ومعنا النساء والصبيان وفيهن الحوامل خشينا عليهن أن يقذفن ما في أرحامهن مما يعاينّ فتحولنا لبعض البساتين المسورة فنزل الركب بها وأدخلنا حريمنا لبعض الديار ثم امسكوا عن الضرب إلى أن صلينا العشاء فضربوا أيضا دفعة واحدة فهاجت عليهم أرياح عاصفة وأفسدت كراهم


بإخماد ما تعلق بها من نار وعند الفيء عادوا للرمي إلى الضحى فلما قرب الزوال زحفوا إلى المرسى فعافهم من بالبرجين اللذين على البحر من المرابطين بهما البائعين أنفسهم من الله وقد لا يخلوان من حارس في السلم والحرب وردوهم على أعقابهم بما قذفوهم به من الكرى والمدافع حتى كسروا لهم صندلا صغيرا فنكصوا على أعقابهم وولوا أدبارهم ، وعانقوا أدبارهم ، والحمد لله رب العالمين فكثر اللغط والعويل بالبلد ، فجاء أهل الإسلام من كل وجهة مشاة وركبانا بعدد وعدد ، كل بحسب وسعه ، فاكفهرت وجوه الأبطال ، وكلحت شفاه الرجال ، وشمروا للنزال ، وتهيئوا للدفاع والقتال ، واحمرت الحدق ، فكسا الكفرة الفرق ، فارتحلوا إلى أبعد مكان فأبعدهم الله وأسحقهم ، وأذلهم وأقلقهم ، فكاد الإسلام يقتحم بأهله البحر إليهم وأشد الناس حنقا عليهم الحجيج فعملوا على النجاز ، والنصال والبراز ، ولو لا البحر لأراهم الله من أهل الإسلام ما يسوءهم فكتب كل وصيته وأعد الشهادة مغنما ، وفواتها مغرما ، كل يرجو أن تخرج الكفرة للبر واجتمعت آلاف مؤلفة من أهل الإسلام الأبطال من أهل الدفاع والقتال وما رد الكفرة من الخروج إلا ما رأوا من شدة الحزم وقوة العزم ، وأبلغ الغيظ من أهل الكفر والظلم ، حتى قالوا يكون بيننا وبينهم صلح على أن يدفع لهم المسلمون جميع ما عددهم من أسراهم وشرط عليهم المسلمون مثل ذلك والكفار على المسلمين يردوا لهم ما أخذوا منهم قبل ذلك الزمان في البحر في هدنة بينهم وقبل المسلمون لهم ذلك وقدره والله أعلم مائتا ألف ريال فرملية فحينئذ دخل الكفرة المدينة للتسوق وربما أغلظوا على بعض المسلمين في القول لتوعد أمير البلد من العثماني على من أساء على كافر ولو بكلمة بعقاب شديد وهو علج فأغرى ذلك الكفار على المسلمين فصبر أهل المدينة لذلك وأما المغاربة وجميع الحجيج فاغلظوا على الكفرة فاخشنوا لهم في القول وربما ضربوهم ولا ألقوا إليهم بالا إعزازا لدين الله وإعلاء لكلمة الله فرفع الكفرة ذلك لأمير البلد العلج


المذكور فقال إن المغاربة شداد على النصارى فاتركوهم لئلا يقع فيكم القتل ولا يد لي عليهم فدعوهم عنكم وتحملوا منهم ما واجهوكم به فأخذوا في دفع ما شرط عليهم الأمير وصاروا يدفعون لهم الخيل والزرع والإبل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وكلمنا علماءهم المالكية فقالوا إن هذا والله هو الصغار بعينه ولا قدرة لنا على ما فعله هؤلاء الأتراك وخرجوا تلك الأيام خارج المدينة مخافة حضور هذا الفعل الذميم.
تنبيه من جملة الدواهي المعضلات أننا دخلنا المدينة للجمعة فجلسنا نتظر الإمام فإذا برجال من أهل الدولتلي أرسلهم بالنداء لا تصلى الجمعة فقام لهم صاحبنا الفقيه سيدي أحمد بن محمد الهشتوكي فقال لهم أن هذا والله حرام لا يجوز كيف تترك الجمعة من غير عذر بيّن وأكثر من ذلك فقام فقيه منهم فقال هذا جائز عندنا فخرجنا من مسجدهم فأتينا مسجدا آخر تصلي به الجمعة المالكية فإذا برسول الدولتلي أتى ينادي بما نادى به أولا فأبى الإمام المالكي فصلاها رضي الله عنه قائلا والله حتى أصليها ولو تنفذ سالفتي فصليناها معه جزاه الله خيرا ووقانا وإياه ضيرا ثم أجلى الله الكفرة عن المدينة يوم الخميس بعد تمام المهادنة وإمضاء شروطها وفرح المسلمون بانتقالهم عنهم وإقلاعهم عن البحر غاية الفرح أخرى الله الكفرة وأذلهم وأعز أهل الإسلام وأحاطهم.
نكتة أخبرني بعض من يوثق به أن هذه الآلة التي يرمي بها الكفرة كانت تصنع من نحاس وحديد وذهب وفضة وأنواع أخرى من المعادن ويفرغونها على قدر القدر المتوسطة المسماة في عرف أهل بلدنا بالمقلاة ولها يدان مثلها وبابها ضيق قدر ما يدخل فيه الإنسان ثلاثة أصابع أو أربعة ويأخذون عود الكلخ ويثقبون وسطه طولا ويجعلون فيه فتيلة تخرج من فوقه وأسفله ويملئونها بارودا ومسامير وقطع الحديد


وعقاقير ويجعلون هذا العود في فمها ويسدون عليه بحلقة الحديد ويجعلونها في مدفع على هيئة المهراس بعد ما يجعلون فيه البارود ويرفعون فم هذا المدفع نحو السماء فإذا مس بنار خرجت النار مشتعلة في الفتيلة وهي طالعة في الجو والريح تنفخها والنار في الفتيلة وعود الكلخ يزيد اشتعالا بما يصيبه من الريح وترى في الجو على هيئة النجم فلا تصل النار إليها حتى تسقط حيث تسقط اه ـ.
تتمة هذه المدينة وأن نقصت حسا لأنها الآن لم يوجد فيها إلا حمامان وكذا الرباط فيها ومثلها الأسواق غير أنها لم تنقص معنى فإن خيرها كثير ونورها جدير نعم قد وجدنا فيها فرقا من أهل الخير والدين من طلبة العلم وغيرهم وبالجملة فمن يذوق أحوالهم ، وألقي السمع إليهم ، يرى بنور الله أفاضل أجلة ، وذوي المعرفة كالأهلة ، فليس لك أن تقول قل الخير وأهله ، وإنما قل على المحجوب والمعلول أفعاله ، وإلا فحضرة هؤلاء كاملة الأنوار ساطعة الأسرار ، لا تخلوا مواطنهم من المقربين والأبرار ، فيحق السعي إليهم ، مع خدمتهم ومودتهم والتحبب إليهم ، ليستمد منهم ويستفيد من أحوالهم ، ويقتبس من أنوارهم ، ليدخل في حضرتهم ، ويشرب من كأس قربهم ، وحينئذ يتخلق بخلق النبي صلى الله عليه وسلم فتسري فيه روحه الكريمة بل تسري فيه معاني أسماء الله وصفاته وينكشف له بالذوق عن كنه ذاته فترد عليه شطحات إلهية ، ومواهب صمدانية ، وأنوار فردانية ، فيغيب عن الأكوان بقدرة المكون حتى لا يراها إلا فتنة وبلوى إذ تقول بلسان حالها إنما نحن فتنة فلا تكفر فلا يسير حينئذ سيرة المهل غير أنه لو لا سلطان التمكين لطاش عقله لفجاءة البعث (1) فيقويه الله تبارك وتعالى في مقام الشهود وإلا اضمحلت نفسه (2) لمشاهدة الذات وكذا وصفه لمشاهدة وصفه وفعله لمشاهدة فعله فلا يرى السائر إلا
__________________
(1) في نسخة البغت.
(2) في نسخة لاضمحلال نفسه.


ذات المحبوب وصفاته وأفعاله فيصحبه في ذلك الوقت بعض المحو فيقول الجاهل تكدر وقته ، وعظمت محنته ، وعالت مصيبته ، والمعترض صاحب الحرمان ، وغلبت عليه النفس والشيطان ، وإلا لسلم لمن هذا وصفه إذ هو في تجليات المحبوب ، والغيب عن المربوب ، فجدير أن يؤيد في ذلك المقام وإلا فلا يستطيع أن يحمل ما للباقي إذ الفاني لا قدرة له على ذلك ، ولا يتحمل ما هنالك ، فيجول قلبه في معارف الله تعالى وإذا تليت عليه آيات القرآن زادته إيمانا وعلى ربه يتوكل فإذا تقوى عليه الله الشهود وسار في الأرواح ذهب سر الأسرار في قائمة عروس التجلي فلا ينعكس أصلا فذلك إسراء الأرواح لربهم فيحليها بما حلى به المقربين من عباده وحينئذ تكون له شطحات يشطح بما حلي به أما بسر الذات أو بمعنى الصفات أو بشذاء الأسماء فإذا تغذى بها ظهر ذلك على الأجباح ولذا قال بعض العارفين إذ نزل الوجد على الرأس حركه وعلى العين أدمعها وعلى اللسان انطقه بما به شطح وعلى اليد بطش بها وعلى الرجل رقصت فحينئذ يغيب الناس بسر اللهوت فينادي لسان الحقيقة بما يشبه الاتحاد فيقول مثلا أنا هو فإذا دام شربه ظهرت أنوار الحق عليه لأن ما فيك ، ظهر على فيك ، كل إناء بما فيه يرشح ، هذا وإن وسع التجلي لا يعرف قدره إلا صاحب التأييد من العزيز المقتدر هيهات من هو دون مقامه ، أن يشم رائحة أنعامه ، ولا أن يكون في قسمة من أقسامه ، نعم لا يفهم كلام الأخرس إلا أمه ، وفي ذلك الغيب وجمع الجمع يصير ملتقطا لدرر التوحيد ، وغرر التجريد ، لتجلي بها في منصة التوحيد ، فلا يعلم ما هو عليه إلا من شرب من مشربه ، وشرابه يرقيه إلى محبوبه ، وإن إلى ربك المنتهى ، فيصير هو سمعا له وبصرا ونطقا ، وإلى هذا المعنى أشار ابن مالك بقوله «وذو ارتفاع وانفصال أنا هو» أي الضمير بسر اللهوت المنفصل عن الخلق ، المتصل بالحق ، فإذا غاب بمحبوبه ، يقول في حال غيبه ومحوه ، إذ لا يرى إلا ذات المحبوب وأوصافها فلم يبق له سواه ينظر إليه ولذا يقولون الوجود واحد إذ لو


تعدد لهلكت العوام وأما من غلب عليه سطوة التجلي تلاشى كل شيء سواه وقال أنا هو غير أنه ممزوج بكدر الاتحاد ولذا لا تسمح الشريعة في مثل هذا القول نعم صاحب الحال محمول لا حامل فإذا رجع إلى صحوه قال أنت أذلو قال أنا هو مع الصحو لكفر بإجماع لأن الله تبارك وتعالى قسم أهل الحق قسمين متلونا ومتمكنا فصاحب التلوين ملكه الحال وهو أول مقامات النبي صلى الله عليه وسلم وبدايته بدليل قوله زملوني زملوني الحديث إذ التكاليف والتصاريف (1) لا يستطيع البشر حملها ولذا طلب المعونة بالتغطية والضم ليتيسر حمل أعبائها فلما تمكن يأتيه الملك ولا يتغير ودليل التلوين قوله تعالى : (الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) الآية وأما التمكين (2) فقوله تعالى : (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) ولقوله أيضا : (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ) الآية فلما تحقق بعض الفقراء من زماننا بهذا وظهرت عليه آثار الغيب والمحو لما صاحبهم من الشهود بملاحظة المعبود تحركت همتهم بالشطحات السالفة من أنواع الواردات المختلفة فمن رزق الإنابة سلم لهم أحوالهم ، ووكل أمرهم إلى مولاهم ، ومن حرم والعياذ بالله كفاه الحرمان وهو أصل كل شقاوة نازعهم في تواجدهم وأحوالهم وصار يبطلها بأدلة وهمية ، وتخيلات واهية ، ونزغات (3) شيطانية ، عله أن يسقطهم في عين الخلق ومن كان في عين الحق لا يسقطه عن الخلق والله يقول : (تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (7)) والذين كفروا بمشاهدة الحق وتحلية القلوب بالحق فتعسا لهم لما تحملوه من الحجاب العظيم غير أن هذا لا يكون إلا من الفقيه الفحّ الذي سولت له نفسه الحمقاء أن يقول ما يوجب الرجوع عن باب الله
__________________
(1) في نسخة التعاريف.
(2) في نسختين المتمكن.
(3) في نسخة ترّهات.


تعالى إذ تبت (1) يده أن تصل إلى هذه الأنوار ، وانكشفت شمسه عن هذه الأسرار ، فحرم الوصول إلى هذه الدار ، فخاب سعيه ، وطاش عقله ، فضل وأضل أن الله تولاهم ، ولم يتركهم لسواهم.
انعطاف إلى ما كنا بصدده وهو أن بعض المنتسبين والفقراء المتجردين قد برز في صورة ما ذكر من الأحوال والواردات والمواجد فقام بعض الفقهاء ينزح البحر بلسانه هيهات أن يصل إلى بعض معانيه وقد قال أبو يزيد البسطامي أعلى الولاية التصديق بأحوال الله أهل الله وأدناها التسليم لهم ولذلك نبهنا على أمر هؤلاء فإن فيهم من فتح له في باب [المعرفة أشراب على الخط السابق](2) من ورود الشهود على قلوبهم فأوردوها ورود الاتحاد لغيبتهم عن الأكوان بمشاهدة المكون فنطق الكل بحسب شهوده ، وتحرك على قدر وجده وصعوده ، فلما حلاهم الله في بواطنهم بتلك الحقائق ، وعظم أمرهم بتلك الدقائق ، وزين ظواهرهم بالإشراق فسقاهم من كأس حبه ، وكساه بحلة قبوله ، فكانت تنادي بلسان حالها إن هذا مقبول عندنا ، ومفتاح لدينا ، فمن أحسن إليه أحسن إلينا ، ومن أساء عليه فقد أساء علينا ، فمن أخذ بيده قلبناه ، ومن تشفع به شفعناه ، ومن أحبه أسعدناه ، ومن اعترض عليه رددناه ، فصار خليفة في أرضه ، ونائبا عن أحكامه وإبرامه ، فمن تعلق به دخل ، ومن قصده بلغ الأمل ، وبالجملة فأسواق الحق عامرة ، وأهلها مشهورة ، فأهل وروده مذكورة ، فإن سعيت إليهم بحسن اعتقاد قضيت مآربك منهم ، لأن الله يستحي أن يردهم ، وكذا يقصم بالهلاك من يبغضهم ، لقوله صلى الله عليه وسلم من عادى لي وليا فقد آذنته بالمحاربة ومن حارب الله ورسوله هلك وإنما ذكرت هذا لعلمي بهؤلاء في هذه المدينة غير أن بعضهم يدعي ما لم يصل إليه وبعضهم يعترف بأقل ما لنفسه وبعضهم
__________________
(1) في نسخة شلت.
(2) ما بين القوسين ساقط في نسخة وفي أخرى اسرأب فليحرز.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مشاركة مميزة

بناء شخصية  الأطفال   ...