الخميس، 8 مارس 2018

اسم هدا الكتاب : طلوع سعد السعود في أخبار وهران (الجزء الرابع من الكتابة )

سنة خمس وأربعين من السابع (1) بجيوش فيها ثلاثون ألف رام من المشاة فضلا عن غيرهم وأحاط بها فكان الهرّ مع صغر جرمه تأتيه العشرون سهما فأكثر فخرج منها يغمراسن بجيشه وقد أفرج له لشدة بأسه وصعد لبني ورنيد ودخلها الحفصي وعرضها على ولاته فأبوا خشية من يغمراسن فاصطلح معه ورجع كل لموضعه واتفقا معا على عداوة بني عبد المؤمن فسمع السعيد بذلك فأقسم لا بد يملك مملكتهما معا ونهض من مراكش يجرّ الأمم العظيمة والبحور الزاخرات من الجيوش وساعدته على ذلك بنو مرين فانجاز يغمراسن لحصن تمزريدت الغربية جنوب وجدة بجبل بني ورنيد وحاصره فيها السعيد بعد أن نزل بوادي سلي وسأل منه الدخول في طاعته فأبى فزحف له وتعلق بالجبل محرّضا على الهجوم فتعرض له يغمراسن للقتال ونصره الله عليه فقتل السعيد على يد يوسف ابن خزرون وأوتي له برأسه فأدخله على أمه لكونها أمرته بطاعته فأبى وأقسم لها أن يأتيها برأسه فأبر الله / قسمه وقال في ذلك الظفر الوزير أبو علي الحسن صاحب (ص 98) سبتة القصيدة السينية الطويلة التي مطلعها :
بشرى بعاجل أوجب لنا العرسا
 

وأصفر الدهر عنه بعد ما عبسا
 
واستولى يغمراسن على المحلة بما فيها فكان منه العقد اليتيم وغدار زمرّد والمصحف العثماني الذي بخطّه رضي‌الله‌عنه. وكان يغمراسن دينا فاضلا محبا للأولياء والعلماء فأتى بأبي إسحاق الشيخ إبراهيم بن يخلف بن عبد السلام التنسي وأخيه أبي الحسن علي بن يخلف بن عبد السلام من تنس لتلمسان إلى أن ماتا بها وقبرهما بالعبّاد. ووفد عليه خاتمة أهل الأدب أبو بكر محمد بن عبد الله بن داوود بن خطاب فأحسن إليه وصيّره صاحب القلم الأعلا (كذا) وارتحل لزيارة أبي اليمان القطب الشيخ واضح بن عاصم المكناسي بجبل وافرشان من وادي رهيو لنيل الفضل منه. قال الحافظ أبو راس في الحاوي : ولما جاء يحيى الملقب يغمراسن لزيارة سيدي واضح المكناسي فكوشف له عن ذلك وسد باب المغارة بالحجر فوقف السلطان بباب الخلوة فاستأذن على الشيخ فلم يأذن له فمكث حينا طويلا وكان يوما حارا فصار يتشفع إليه بخدّامه وقرابته
__________________
(1) الموافق 1247 ـ 1248 م.


وهو ممتنع فقال بعض وزارئه قد حصل المقصود فانصرف لعل الله ييسر رؤيته في غير هذا الوقت فقال يغمراسن والله لا أنصرف حتى يرضى عنا فلما رأى منهم أنهم يئسوا من لقائه برز لهم وقال يا يغمراسن ، أما تعلم وقوف ذي الحاجات (ص 99) ببابك وما يجدونه من الانكسار ومدافعة الحرس لطول / احتجابك عنهم وإنما جعلت لك ذلك للتيقظ من غفلتك فصار يغمراسن يتملّق بين يديه ويتعذّر له والشيخ في كل ذلك منقبض عنه وقد ألقى الله في قلب يغمراسن وجنده من هيبة الشيخ ما لا يوصف. ثم أنه خلا به وقال له أما كفاك ما ترتكب من الأعمال الخبيثة جمعت بين علجتين وهما أختان فتبّا للذّة تصيّر صاحبها إلى النار فقبّل عند ذلك السلطان أقدام الشيخ وقال أنا تائب لا أعود هذا. ثم التفت الشيخ لأخيه يحيى وقال لهءاتيهم بطعام فبعد ساعة قرب لهم طعاما جيّدا ولحما سمينا فرمى الشيخ ذلك وقال تطعم الزيار (كذا) خبز الشعير وتطعم الأمير ما أرى ، فقال يغمراسن إن لم يطب خاطرك لم نأكله فقال لا بل كولوا على بركة الله. ثم قال لأخيه أنت معذور تحتاج لما بيد يغمراسن لأنك لك ذرية بكلامه الزناتي فلما أكلوا انبسط الشيخ وقال من تولي عهدك فقال هذا وأشار لولده محمد فقال له الشيخ الرعية لا تحتاج للفقيه الحاذق الكيس لأن الفقيه مجبول على جمع المال يقول للدرهم درهمان فقال له السلطان ومن ترى فقال هذا وأشار لولده عثمان فسرّ يغمراسن ببقاء الملك في عقبه فلما هم بالانصراف قال الشيخ لأحد ولدي يغمراسن ألم توصك أمك أن تأتيها بحجاب أكتبه لك فقال نسيت وقبّل يده فقال الشيخ يا سيدي عزّوز ناوله إياه فناوله فحينئذ أوصي الشيخ يغمراسن بالرفق بالرعية وقال له يغمراسن كل راع مسؤول عن رعيته. وسيدي واضح هذا هو (ص 100) الذي تسمى عليه جد سيدي أبي عبد الله محمد المغوفل / بن محمد بن واضح بن عثمان بن محمد بن عيسى بن فكرون المغراوي سمّاه عليه والده لكونه تلميذه وتوفي سيدي واضح بن عثمان المغراوي سنة ست وخمسين وثمانمائة (1) كما في ذيل الديباج للشيخ أحمد بابا. ويغمراسن هو الذي بنا (كذا) الصومعتين بالجامعين الأعظمين من أقادير ، وتلمسان. ولم يكتب اسمه عليهما
__________________
(1) الموافق 1452 ـ 1453 م.


وقال علمهما عند ربي. قال الحافظ أبو راس في عجائب الأسفار : ويقال أن الجامع الذي بتلمسان القديمة بناه مولانا إدريس الأكبر وعمل له المنبر. وبالقديمة ضريح الشيخ داوود بن نصر أول من شرح البخاري توفي في آخر القرن الرابع (1). وحروبه مع زناتة والعرب أمر لا يحصى ولا يصدر من أحد لشرف همته ، فقد قال صاحب بغية الرواد : له في العرب وحدهم اثنان وسبعون غزوة ومثلها مع تجين (كذا) ومغراوة. ولما حل الأمير أبو إسحاق الحفصي بتلمسان لطلب ملكه بتونس سنة ثمان وسبعين من السابع (2) زوّج إحدى بناته المقصورات في خيام الخلافة لولد يغمراسن عثمان ثم بعد تمهد الملك له بعث يغمراسن ابنه إبراهيم المكنى بأبي عامر ليأت (كذا) بها فلما رجع بها لقيه يغمراسن بمليانة للتنويه ببنت سلطان تونس ولما نزلوا برهيو مات سنة إحدى وثمانين من السابع (3) وحمل لتلمسان فدفن بها.
ثم ابنه أبو سعيد عثمان باتفاق الملأ من بني عبد الوادي فشمّر في غزو الأعادي ذيله حتى أقام من كل ذي زيغ ميله ، فقتل ابن عبد القوي ملك تجين وانتزع لهم وانسريس والمدية وأخذ مازونة وتنس وفرشك (4) من يد مغراوة / وهرب (ص 101) مالكهم راشد بن منديل في البحر ، وقطع ملكهم. غير أن الحافظ أبو راس قال في عجائب الأسفار : قد رأيت راشدا بن منديل مذكورا في نحو السّبع من الثامن وزاد عثمان لبجاية فخربها وغزى (كذا) العرب فأجلاهم للصحراء وحرك عليه يوسف بن عبد الحق المريني خمس مرات كان الحصار صادر منه في الخامسة لتلمسان ثمان سنين وثلاثة أشهر ، وبنا (كذا) المنصورة وتوفي أبو سعيد في الحصار. ثم ابنه أبو زيان محمد بن أبي سعيد ونهض لحرب عدوه غير أنه عاجلته المنية في أثناء الحصار لمرض اعتراه.
ثم أخوه أبو حمّ (5) موسى بن عثمان وفي وقته حصل الفرج وزال الحصار
__________________
(1) الموافق أول القرن 11 م.
(2) الموافق 1279 ـ 1280 م.
(3) الموافق 1282 ـ 1283 م.
(4) الصحيح برشك بالباء وليس بالفاء قرية بين تنس وشرشال على ساحل البحر.
(5) أبو حمو يكتب بالواو بعد الميم ولكن المؤلف يهمل الواو دائما.


بسبب الولي أبي زيد عبد الرحمن الهزميري جاء من أغمات ليوسف بن يعقوب المريني شفيعا فأبى فذهب الشيخ مغاضبا وقال يأتي سعاذا (؟) يقضي هذاء وانصرف للمغرب فدخل عليه سعادة غلام العلامة أبي علي الملياني الذي قتله يوسف ابن يعقوب فألفاه (كذا) نائما وقد ألقى الله في قلبه طلب الثأر فوجأه بسكين في بطنه فبلغ الخبر الهزميري وهو بفاس فقال له خديمه نرجع لبلدنا فقال الشيخ وعبد الرحمن يموت فمات لأيام قلائل ودفن بفاس بروضة الأنوار. وأول ما بدأ به أبو حمّ هدم المنصورة وأصلح ما ثلم من تلمسان وبنى الأسوار وحفر الخناديس والأهرية وملأها طعاما وإيداما وحطبا وفحما وملحا وجميع ما يحتاج إليه بما لا حدّ له (ص 102) ثم استقبل بالتمهيد وتتبع الحركات بنفسه / على تجين ومغراوة وسائر المخالفين أيام الحصار وحرك عليه أبو سعيد المريني إلى أن بلغ وجدة ففرّ عنه أخوه يعيش لتلمسان فرجع وثار عليه راشد بن راشد المغراوي بشلف فنهض له وفر راشد لزواوة واستعصم بها فنازله أبو حمّ بوادي تمهل وبنى به قصره المعروف به (1) ففرّ راشد لبني أبي سعيد وانحاز للموحدين فبعث له جيشين عظيمين أحدهما لنظر مسعود بن أبي عامر الزياني والآخر لنظر موسى بن علي الغزّى فاستباحوا أبل قسنطينة وحصل التنافس بين الرؤساء كادت تبين الفتنة وعزل عامل مليانة وبعث به لتلمسان فاستقبح ابنه أبو تاشفين سجن خاله وأمره بالمسير للأمير فغضّ بصره ففر للمدية وثار بها وتبعه الغوغاء فرجع أبو حمّ مغاضبا على ابنه وصار يؤثر عليه مسعود بن أبي عامر بن عمه فأغرا (كذا) أبا تاشفين خواصّه بقتل المسعود وأبيه فقتلهما. وكان أبو حمّ محبا للعلماء والعلم وهو الذي بنى المدرسة المعروفة لابني الإمام وأعطى بلاد تجين للحشم فصلا بينه وبينهم.
ثم ابنه أبو تاشفين ، فاستولى على البدو والحضر ، واستخدم ربيعة ومضر وتولّع بتبييض الدور ، وبنى (كذا) القصور ، ونهض لخاله محمد بن يوسف الثائر على أبيه والموجب لقتله فحاصره ، بوانسريس إلى أن أخذه عنوة وقتله وعفا عن غيره ، ثم زاد لبجاية فأخذ رياحا أخذة رابية وأمر قائده موسى بن علي ببناء مدينة
__________________
(1) وهو الذي تحول إلى قرية عمي موى حاليا بين واد رهيو والشلف.


على وادي بجاية فبنيت في أربعين يوما وسمّاها تمزريدت الشرقية (1) وأما الغربية فهي التي / بجبل بني ورنيد كما مرّ. وجهز عامله يحيى الجمي جيوشا لغزو (ص 103) تونس تحت نظر ابن أبي عمران الحفصي فلقيهم مالكها أبو يحيى بجيوشه فهزموه واستولوا على حريمه وذخائره ومحلاته وأفلت جريحا لقسنطينة وزادوا فدخلوها واستراحوا بها أربعين يوما وأسلموها لابن أبي عمران فبعث له أبو سعيد المريني على الإقلاع عن بجاية فأبى وهمّ أبو سعيد بقتاله فعاجلته منيته (كذا). وكان له بالعلم وأهله احتفال عظيم فقد ورد عليه أبو موسى المشذالي فأكرمه وولّاه التدريس بمدرسته الجديدة وورد عليه أبو العباس البجائي تاجرا ودخل المدرسة القديمة فألفاهم يتكلمون بمجلس أبي زيد بن الإمام في قول ابن الحاجب في الأصول في حدّ العلم أنه صفة توجب تمييزا لا يحتمل التنقيض فقال يا سيدي هذا الحد غير مانع لانتقاضه بالفصل والخاصة فقال أبو زيد من المتكلم فقال أحمد البجائي فقال يقع الجواب بعد الضيافة وأنزله وأكرمه وسأله عن مقدمه فقال تاجرا فعرّف به الأمير فرفع عنه مغرمه ومن معه قدره مائة دينار وزاده صلة مائة دينار ذهبا ، ووقع بمجلسه السؤال عن ابن القاسم هل هو مقلدا أو مجتهد فقال أبو زيد مقلد النظر بأصول مالك وقال المشذالي مجتهد مطلق الاجتهاد واحتجّ بمخالفته لمالك في بعض المسائل واستظهر أبو زيد نصّ ابن التلمساني الذي مثل به للاجتهاد المخصوص / بابن القاسم لمالك والمازني (ص 104) للشافعي فقال المشذالي هذا مثال لا تلزم صحته. وحرك عليه أبو الحسن المريني فنزل بتاسالة وأطال بها إلى أن ثار عليه أخوه بسجلماسة فرجع له إلى أن قتله ومهّد المغرب ثم رجع لتلمسان وحاصرها وبنى عليها مدينته التي هي الآن محراث ولم يزل أبو تاشفين وأولاده ووزيره في المقاتلة معه إلى أن استشهدوا جميعا في يوم الأربعاء ثامن عشرين رمضان سنة سبع وثلاثين من الثامن (2) فدخلها المريني وبموته جرّ الحادث ، والخطب الكارث ، على الدولة الزيانية القفا ، وكدر بنيها الحنسى ما كان صفا.
__________________
(1) وهي قرية أقبو الحالية. على الضفة الغربية لوادي الصوماح.
(2) الموافق 10 أبريل 1337 م.


الدولة السادسة : المرينيون
ثم ملك وهران الدولة السادسة ، وهم المرينيون ، ويقال لهم بنوا حمامة. أما تسميتهم بالمرينيين فذلك نسبة لجدهم مرين بن أمير الناس على قول ، وابن ورتاجن على الآخر ، وأما تسميتهم ببني حمامة فذلك نسبة لجدهم حمامة ابن محمد بن ورزين. واختلف في نسبهم على ثلاثة أقوال ، فقال صاحب أثمد الأبصار وغيره إنهم أدارسة من ذرية يحيى بن إدريس ، وقال صاحب القرطاس إنهم زناتة من ذرية ماخوخ الزناتي ، وقال أيضا في موضع آخر إنهم من نسل قيس بن غيلان بن مضر. ومن زنات تفرقت قبائل زناتة فهم عرب صريحون وسبب تغيّر لسانهم عن العربية إلى البربرية أن بر بن نزار كان له ولدان : قيس ، (ص 105) ودهمان ، ابنا / غيلان. فدهمان ولده قليل وهم أهل بيت من قيس يعرفون ببني امامة. وقيس ولد أربعة رجال وجارية وهم : سعيد وعمر وحفصة أمهم مريم بنت أسد بن ربيعة بن نزار ، وبرّ ونماض أمهما بريع بنت محمد بن مجدل بن عمر ابن مضر المجدولي. وكان البربر يسكنون بالشام ويجاورون العرب في الأسواق والمساكن والمراعي ، ويشاركونهم في المياه والمساعي ويصاهرون بعضهم بعضا. وكانت البها بنت دهمان بن غيلان بن مضر من أجمل النساء وأكملهنّ ظرفا وطربا وحسنا فكثر طلابها للتّزويج من كل قبيلة فقال أبناء عمها قيس وهم : عمر وسعيد وبرّ وحفصة لا يتزوج بنت عمنا غيرنا فخيّروها فاختارت برّا لكمال شرفه وصغره وتزوجته فحسده اخوته عليها وهموا بقتله. وكانت أمه بريع من دهات (كذا) النساء فبعثت إلى ولدها بر وزوجته البها وأمرتهما بالذهاب معها لقومها فوافقاها وذهبوا فنزلوا عند أخواله وأعرس بها وامتنع من قومه فولدت له البها علوان ومادغس : فعلوان مات صغيرا ولم يعقّب ، ومادغس لقّب بالأبتر فهو


جدّ البتر ومن ولده جميع زناتة فبمكث برّ بالبربر تغير لسانه وأورث في ذريته فهذا هو السبب وقالت في ذلك أخته ترثيه :
وشاطت ببرّ داره عن بلاده
 

واطرح برّ نفسه حيث يمّما
 
وأورث برّ لكنة أعجميّة
 

وما كان برّ بالحجاز بأعجما
 
/ وقال أبو فارس في أرجوزته نظم السلوك :
فجاورت زناتة البرابرا
 

فصيرت كلامهم كما ترا
 
وما بدّل الدهر سوى أقوالهم
 

ولم يبدّل منتهى أحوالهم
 
بل فعلهم أربى على فعل العرب
 

في الحال والآثار ثم في الأدب
 
فانظر كلام العرب قد تبدّلا
 

وحالهم عن حاله تحوّلا
 
لا يعرفون اليوم ما الكلام
 

وما لهم نطق ولا إفهام
 
وإن تمادت بهم الأحوال
 

لم يبق في الدهر لهم أقوال
 
كذاك كانت قبلهم مرين
 

كلامهم كالدّرّ إذ يبين
 
فاتخذوا سواهم خليلا
 

وبدّلوا كلامهم تبديلا
 
وأصل مواطنهم كاخوتهم بني لومى ومديونة ، قبلة زاب إفريقية ثم دخلوا المغرب سنة تسع وستمائة (1) فنزلوا من فقيق إلى تفلالت إلى ملوية. وكانت بين بني لومى هؤلاء وبين بني مانّوا حروب عظيمة هلك فيها ماخوخ الزناتي صاحب الخيمة المشهورة التي آثارها للآن ببلاد أولاد علي من بني عامر في أواخر المائة الخامسة وكان بنوا لومى يمدون بني مرين بالجيوش وسبب مصير الملك إليهم أنهم كانوا ببلادهم المذكورة رائسهم (كذا) محمد بن ورزين. ثم قام ابنه حمامة مقامه ثم أخوه عسكر ثم ابنه المخضّب ولما سمعوا بعبد المؤمن بن علي الموحّدي غزى (كذا) وهران واستولى على أموال لمتونة وبعث بها لتنمليل تعرّضوا له من الزّاب مغلغلين إلى وادي تلاغ فاستولوا / عليها به ثم لحقهم (ص 107) الموحدون ومعهم بنوا عبد الوادي فكان المصاف بفحص حسّون وانكشف المرينيون وقتل شيخهم المخضب واكتسح العبد الواديّون حللهم سنة أربعين من
__________________
(1) الموافق 1212 ـ 1213 م.


السادس (1) فلحقوا بالصحراء وركد ريحهم إلى سنة عشرة من السابع (2) في وقت المنتصر الموحدي وكان صبيّا صغيرا لا يعرف شيئا أتوا على عادتهم للكيل فوجدوا الغرب لا حياة فيه لمن تنادي فأقاموا بمكانهم وبعثوا لإخوانهم على القدوم فأسرعوا على الخيل والنجائب ، يقطعون المهامة والسّباسب يريدون الدنو والبلاغ ، إلى أن وصلوا لوادي تلاغ ، فدخلوا المغرب بجيش كالجراد يقمع الحاضر والباد ، فظهر ما كان في الغيب مجهولا ليقضي الله أمرا كان مفعولا. قال أبو فارس في أرجوزته :
في عام عشرة وستمائة
 

أتوا إلى الغرب من البريّة
 
جاؤوا من الصحراء والسباسب
 

على ظهور الخيل والنجايب
 
كمثل ما قد دّخل الّلمتونيّون
 

من قبل ذا وهم لهم ميمّمون
 
فهذا سبب مصير الملك إليهم. قال ابن خلدون : وهم قوم مرهوب جانبهم شديد بأسهم من أقوى القبائل وأنجدها وأفرسها كثير جمعهم ، مضاهون للعرب والفرس واليونان والروم. وفيهم قال ابن الخطيب في رقم الحلل :
وأورث الله بلاد الغرب
 

للسّادات الغرّ الكرام النجب
 
أهل الخيول والرماح والهمم
 

أقوى بني الدنيا وأوفى بالذّمم
 
وأدرب الخلق بركض الخيل
 

وخوض أحشاء الفلا والليل
 
(ص 108) / قاموا وقد بان اختلال الطاعة
 

بمذهب السّنّة والجماعة
 
ولما دخلوا المغرب تفرقوا فيه وشنّوا الغارات فمن أذعن لهم سالموه ومن أبى قتلوه. ففرت الناس منهم وبلغ خبرهم إلى أمير الموحدين المستنصر فقال لقومه : ما ترون من هؤلاء فاتفق رأيهم على محاربتهم فبعثوا لهم جيشا فيه عشرون ألفا تحت رئاسة أبي علي بن واندين فسمعت مرين فلقيتهم بأكمل حالة وجعلوا أموالهم وحريمهم بقلعتي : تازة وزا فلما تراء الجمعان كانت الدائرة لمرين على الموحدين فقتلوهم ذريعا وهزموهم شنيعا واحتووا على ما في المحلة
__________________
(1) الموافق 1145 ـ 1146 م.
(2) الموافق 1213 ـ 1214 م.


بأجمعه ودخل فلّ رباط تازة وفاسا منهزمين ، وبالمشعلة مستترين ومنحرمين. وهي نبت يشبه الحلفا له أوراق طويلة عريضة تمسيها عامة المغرب بلحية الشيخ ويقال لها بالشلحة الأثموج وأكثر نبتها قبلة تازة سيما بلاد مكناسة وقلوبهم بالحزن مشتعلة ، فسمّي العام عام المشعلة وهو عام ثلاثة عشر وستمائة (1).
وأول ملوكهم بالمغرب عبد الحق بن محيوا وكان فاضلا صالحا متبركا به وهو الذي استخلص الملك من غيره لكنه لم يستول على كرسي الخلافة بمراكش. ثم ابنه أبو سعيد عثمان ، ثم أخوه أبو معرّف محمد بن عبد الحق وبايعته كافة مرين وسار فيهم سيرة حميدة وكان بطلا شجاعا ، شهما مهابا مطاعا ، كثير الغارات لا يفتر عن القتال والمحاولات. وفيه قال صاحب الأرجوزة :
/ ثم ولّي من بعده محمد
 

وكان في أموره مسدّد
 
فكان لا يفتر عن قتال
 

مواضبا للحرب والنّزال
 
كم عسكر له وكم حشود
 

ومن جميع جمّة الجنود
 
وكم من جيش جاء من مراكش
 

أفناه بالحروب والتناوش
 
نهاره وليله طعان
 

لكنه مؤيّد معان
 
ولم يزل في قتال الموحدين إلى أن قتل بصخرة أبي بياس من أحواز مدينة فاس ، يوم الخميس تاسع جمادى الثانية سنة اثنين وأربعين من السابع تحاملا مع زعيم الروم. ثم أخوه أبو يحيى زكرياء بن عبد الحق وهو أول من عمل من ملوكهم مراسم الملك من بنود وطبول وغيرها. وأوّل ما ابتدأ به تقسيم البلاد على قومه وإنزال كل قبيلة في ناحية وأمرهم بتكثير الجيش وركوب الرجال وما غلبت عليه كل قبيلة فهو لها وتوفي بفاس ودفن بإزاء قبر الفشتالي تبرّكا به.
ثم أخوه سلطان الجهاد أبو يوسف يعقوب بن عبد الحق المريني ولقبه المنصور. وقد استوفى أبو فارس في أرجوزته سيرته حيث قال :
سيرة يوسف بن عبد الحق
 

قد حاز فيها قصبات السّبق
 
__________________
(1) الموافق 1216 ـ 1217 م.



سيرته أن يقرأ الكتابا
 

ويذكر العلوم والآدابا
 
يقوم للصلاة ثلث الليل
 

وما له عن ورده بميل
 
(ص 110) إلى آخر الأبيات السبعة والعشرين وشرع في تمهيد المغرب ففتح / بلاده من أقصى سوس إلى وجدة وفتح مراكش وقطع ملك الموحدين ومحا أثرهم وجاز للأندلس فدوّخها وملك بها ما يزيد على خمسين قصرا ما بين مدن وحصن كمالقة ورندة والخضراء ، وطريف ومربات وأشبونة وما بين ذلك من الحصن والقرى والبروج وخطب له على جميع منابر الغرب فهو أول ملك حما (كذا) الإسلام من بني مرين ونزل في سنة ثمان وخمسين من السابع بتازة (1) يستنشق ريح يغمراسن فبلغه الخبر بأن النصارى دخلوا مدينة سلا غدرا ووضعوا السيف في رقاب أهلها فجدّ السير لها يومه وليلته إلى أن أدرك المسلمين وخلّصهم من العدوّ وأطرد العدو منها وبنا عليها (كذا) السّور وغزى (كذا) مراكش سنة ستين من السابع (2) فحاصرها شديدا وغلق أميرها المرتضى على نفسه ثم خرج منها ووقعت بينهما حروب عظيمة قتل فيها عبد الله ولد المريني فارتحل عنها. وفي ذلك قال أبو فارس عبد العزيز في أرجوزته :
في عام ستّمائة وستين
 

سار المراكش سلطان مرين
 
فوقف المنصور بجليز
 

مبرزا بأحسن التبريز
 
وعاد فيها المرتضى محصورا
 

ذا أرق في قصره مقصورا
 
ودارت الأعراب بالأسوار
 

واعتمدوا فيها على الإحصار
 
(ص 111) وضيّق على أبي دابوس بمراكش شديدا ولما أيقن بعدم النجدة / استصرخ بيغمراسن فشن الغارات على أطراف الغرب فرجع إليه المريني ووقع المصاف بوادي تلاغ الغربي وحصلت الحرب العظيمة بينهما من الضحى للظهر فرجعت الدائرة على يغمراسن فهزم وقتل أكبر أولاده عمر. ثم غزا (كذا) تلمسان في سنة تسع وستين من السابع (3) فلقيه يغمراسن بواد سلى قرب وجدة فوقع بينهما حرب
__________________
(1) الموافق 1259 ـ 1260 م.
(2) الموافق 1261 ـ 1262 م.
(3) الموافق 1270 ـ 1271 م.


عظيم مات فيه من جيش يغمراسن خلق كثير ولو لا ما حال الظلام بينهما لم تقم قائمة لبني عبد الوادي وفرّ يغمراسن لتلمسان وأضرمت محلته نارا وتبعه يعقوب المريني فمرّ بوجدة وجعل عاليها سافلها وسبا (كذا) أموالها وزاد لتلمسان فحاصرها شديدا وأدار محلاته بها وجاءه بها محمد بن عبد القوي إعانة ثم سرحه لأهله ولم ترتحل عنها حتى وصل التجيني بلده خشية عليه من يغمراسن ثم أقلع عنها ورجع للمغرب فقال بعض كتابه ، الملزمين لخدمة بابه :
فإنك إذا الخيل جالت حبستهم
 

قضاء من الرحمان ما منه عاصم
 
فذاك على اليمنى يبيد حمامتها
 

وهذا على اليسرى فأين المقاوم
 
ووالدهم في جاحم الحرب بينهم
 

يبيد حماة الجيش والسّقر قائم
 
فويحك يا يغمور هل لك حاجز
 

أيقظان حقا أنت أم أنت نائم
 
أفي كل عام تترك ابناك للفنى
 

وتسبى لك المغيد الحسان المكارم
 
وجهّز جيشا قدره خمسة آلاف لنظر ولده أبي زيان سنة ثلاث / وسبعين من (ص 112) السابع (1) فغزى (كذا) الأندلس به ونزل بطريف واستراح ثلاثا ومنه للحيرة فغنمها وبعث بالغنائم للجزيرة ووالى السير في الأرض يفتح ويسبي إلى شريش ورجع بالغنائم للجزيرة ولحقه والده في سنة أربع وسبعين من السابع (2) ففتح فتوحا كثيرة وغنم غنائم عظيمة وجال بالقتل والسبي والتخريب وقتل زعيم النصارى دنونة (3) وهزمت عساكره وأوتي له بالرؤوس فكانت نيفا وثمانية عشر ألفا على ما لصاحب الأنيس ، وتسعة آلاف على ما لصاحب رقم الحلل ، فجعلت تلا وأذّن عليها للصلاة وصلى المسلمون بالمعركة الظهر والعصر وأوتي له برأس دنونة فبعثه لابن الأحمر فكوفره ومسّكه ابن الأحمر وبعثه للفنش (الفونسو) تقرّبا منه وتجنبا من أبي يوسف. قال ابن الخطيب في رقم الحلل :
تسعة آلاف من الكفّار
 

دعا بهم داع إلى البوار
 
وعدد الأسارى سبعة آلاف وثمانمائة وثلاثون أسيرا والكراع أربعة عشر ألفا
__________________
(1) الموافق 1274 ـ 1275 م.
(2) الموافق 1275 ـ 1276 م.
(3) لم نتعرف على اسمه الحقيقي.


وستمائة والبقر مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا ، وأما الغنم فضاقت بها الأرض وبيعت الشاة بدرهم والمرأة بدينار ونصف. ولما قسم الغنائم ارتحل ونزل قصر الصخرة فأتاه هرنادة (1) ملك قشتالة لعقد الجزية وقبّل يد السلطان فدعا بماء بمرأى بطارقته وغسلها من قبلته فكانت له فخرا وفي ذلك قال لسان الدين ابن الخطيب في رقم الحلل : (ص 113)
/ واجتمع القوم بقصر الصخرة
 

وشاهد النّاس جميعا فخره
 
وحين حل بالخضراء بعث له أبو محمد بن أشقيلولة كتابا يهنّيه بالفتح مشتملا على قصيدة عينية فيها تسعة عشر بيتا مطلعها :
هبّت بنصركم الرياح الأربع
 

وجرت بسعدكم النجوم الطوالع
 
واصطلح في سنة أربع وسبعين من السابع (2) مع شانجة طاغية الروم فبعث له الطاغية بثلاثة عشر حملا من كتب المسلمين التي أخذوها ما بين الكتاب العزيز وتفاسيره وكتب الحديث وشراحاته وكتب الفروع والأصول واللغة والعربية والآداب وغيرها وأتاه العلامة الأديب أبو فارس عبد العزيز المكناسي ناظم الأرجوزة التي يقال لها نظم السلوك بقصيدة بائية مشتملة على مائتين وثلاثين بيتا يذكر فيها سيرته وجهاده وغزواته وجميع أموره كلها مطلعها :
بحمد الله أفتح الخطابا
 

وأبدأ في النظام؟ والكتابا
 
لعل الله يبلغني أمالي
 

ويفتح بالسّرور عليّ بابا
 
فأنشدها بين يديه قارئه أبو زيد عبد الرحمن الفاسي الغرابلي وحضور أشياخ بني مرين والعرب لقراءتها فاعطا (كذا) لقارئها مائتي دينار وللنّاظم ألف دينار وخلعا ومركوبا ومن أرادها بتمامها فعليه بالأنيس ، أو دليل الحيران. وتوفي ضحى يوم الثلاثاء ثاني عشرين من المحرم كما في الأنيس ، وصفر كما في (ص 114) عجائب الأخبار ، سنة خمس وثمانين من السابع (3) / بالجزيرة الخضراء بعد موت
__________________
(1) لعله يقصد : HERNANDO.
(2) الموافق 1275 ـ 1276 م.
(3) الموافق 20 مارس أو 21 أبريل 1286 م.


يغمراسن بخمس سنين كما في الخبر المعرب. وحمل إلى رباط الفتح من بلاد العدوة ودفن بمسجد شالة منها كما في الأنيس وبموته انصدع الإسلام. قال الحافظ أبو راس في عجائب الأسفار : ولو لا يغمراسن ألهاه بشن الغارات لا ستردّ كثيرا من الأندلس فكان له مانعا من الموانع.
ثم ابنه يوسف الناصر فصالح ابن الأحمر وجدد الصلح لابن الفنش (الفونسو) وأكثر من غزو الأندلس فأثخن في النصارى ثم صرف عزمه لغزو تلمسان بسبب ابن عطوا فحاصرها وبها ملكها عثمان بن يغمراسن ودام حصاره عليها أعواما وشهرا ومات ملكها عثمان أيام الحصار وانتهت عساكر المريني إلى إفريقية واشتدّ البلاء على أهل تلمسان إلى أن قتله غلامه وهو نائم مع إحدى جواريه فافرجت عساكر مرين عنها وحمل إلى شالة برباط الفتح ودفن بها. ولما مات جلس ابنه أبو سالم على الكرسي فغلبه ابن أخيه أبو ثابت وخلعه بإعانة أبي حمّ الزياني.
ثم أبو ثابت عامر بن عبد الله فارتحل عن تلمسان ورجع للمغرب فدوخه كثيرا وجال في نواحيه إلى أن توفي بقصبة طنجة فجلس على كرسي الملك عمّه علي بن يوسف فخلع فورا ورضوا بسليمان أخي (كذا) أبي ثابت. ثم أبو الربيع سليمان بن عبد الله أخو أبي ثابت فجدّد الصلح مع آل زيان وتوفي مريضا بتازة ودفن من ليلته بصحن جامع تازة وقد ترفّهت الناس في أيامه / باتخاذ الدّواب (ص 115) والملابس الجيدة وتشييد الدور وترويقها بالزّليج والرخام والنّقوش. ثم أبو سعيد عثمان السعيد بن يعقوب فمهّر الملك ودوّخ المغرب وأوقع بملوية ووجدة وبني يزناسن كثيرا وحاصر تلمسان شديدا وبها سلطانها أبو حمّ موسى بن عثمان ثم أفرج عنها ورجع للمغرب وغزى (كذا) الأندلس وطالت مدته في التدويخ ووقع الخلل بينه وبين ولده عمر فاجتمع العسكر على عمر وخاف السعيد من العسكر فانتصر عليه ولده وهرب السعيد لتازة ولحقه بها ولده وحصره إلى أن سلّم له الأمر بالأشهاد وبقي بتازة ثم سار ولده بالجيوش لفاس وحلّ به المرض الشديد فحاصره أبوه بها إلى أن سلّم له الأمر على أموال عظيمة أعطاها له السعيد مع سجلماسة وترك الملك لأبيه فاستقلّ به إلى أن مات. وهؤلاء الملوك التسعة من بني مرين لم يملك واحد منهم وهران.


ثم ملكها أبو الحسن المريني وهو عليّ بن عثمان السعيد بن يعقوب ابن عبد الحق بن محيو بن أبي بكر بن حمامة بن محمد بن ورزين بن فلوس ابن كرماط بن مرين فدوّخ المغرب بأجمعه وحاصر تلمسان مدة حصرا شديدا وبنى المنصورة غربي تلمسان مدة الحصار وفيها يقول ابن الخطيب السلماني في رقم الحلل :
ثم بنا المنصورة الشهيرة
 

البلدة الجامعة الكبيرة
 
(ص 116) / وقيل بناها يوسف بن يعقوب كما مرّ وفتك بأهل تلمسان فتكا عظيما وقاتله مالكها أبو تاشفين إلى أن استشهد هو وأولاده ووزيره فدخلها عنوة ولما حلّ بها طلب الإعانة منهم بالأموال للجهاد فقال له أبو زيد بن الإمام لا يصح لك حتى تكنس بيت المال وتصلي فيها ركعتين كما فعل عمر رضي‌الله‌عنه. وفتح ندرومة ووجدة ورجع للمغرب. ثم غزى (كذا) طريف بالأندلس فهزم هزيمة كبيرة حصدت فيها شوكة المسلمين. ثم غزى (كذا) وهران والمغرب الأوسط إلى أن وصل لإفريقية بسبب أن السلطان أبا بكر الأصغر الحفصي لما توفي سنة سبع وأربعين من الثامن (1) وكثر القتال بين بقيّة بني حفص وبين ولديه أبي العباس وأبي فارس وأضرمت إفريقية نار الفتنة هرب حاجب السلطان محمد بن تافركين للمغرب لسعاية بلغت به فلحق بأبي الحسن المريني وصار يرغبه في ملك تونس ويسهل عليه أمرها ويهوّنها عليه وكانت نفسه تحدثه لما فتح تلمسان بإفريقية ويتربّص بالسلطان أبي بكر فقويت عزائمه عليها ثم أخبر بمهلك ولدي أبي بكر أبي العباس وأبي فارس فارتحل من مراكش وجدّ السّير إلى تلمسان فوافته بها الحشود من كل جهة وارتحل في صفر سنة ثمان وأربعين من الثامن (2) يجرّ الدنيا بما حملت فنزل بوهران وفتحها وأمر ببناء البرج الأحمر بها فبني وجعل في وسطه دائرة لا تراكين لها بناء محكما واتقنه إلى أن كاد الجوّ يغصّ به وقلّما يوجد مثله في السّعة واتقان البناء فهو إيوان الحكم لكل من ملك (ص 117) وهران ثم بنا (كذا) ثانيا برج / المرسى كلاهما تلك السنة فبينما هو بوهران إذ وفدت عليه بها أولاد حمزة ، والكعوب وسائر أمراء إفريقية وبعث ابن مكي أمير
__________________
(1) الموافق 1346 ـ 1347 م.
(2) الموافق ماي ـ جوان 1347 م.


قابس وفده بالطاعة وابن جلول صاحب توزر وابن عابد صاحب قفصة وصاحب الحامة وصاحب نفطة كلهم بايعوه بوهران رغبة ورهبة وأدّوا بيعة ابن ثابت صاحب طرابلس لبعد داره ثم قدم في أثرهم يوسف بن منصور صاحب الزّاب ومعه كبير الذواودة يعقوب بن علي فأوسع الكل كرمه وجوائزه وعين القهارمة لإتمام البرجين المذكورين والعمالة والولاة وفي ذلك قال الحافظ أبو راس في سينيته :
ثامن قرن قدمها المريني أبو
 

حسن ثمت بيعة طرابلس
 
بنا بها الأحمر ففاق كل بنا
 

ثم بنا الثاني حذو سفن المرس
 
ثم ارتحل يجرّ الأمم قاصدا إفريقية فمرّ على كل بلدة ومكان في أمن وأمان إلى أن دخل تونس في يوم مشهود يقلّ مثله بعده في الوجود ، ومعه شيخ الموحدين بتونس أبو محمد بن تافركين بجنود عظام فبايعه بها خمسون ملكا ووافق ذلك موت الحاجب لتعلقات العلم وجامع أشتات النثر والنظم وإمام المصنفين بحكم أقرانه الراشدة العلامة ابن هارون أحد شارحي ابن الحاجب وشيخ ابن عرفة وزوجته في ليلة واحدة ، فقدم السلطان لما حضر جنازتهما للصلاة عليهما أبا عبد الله السبطي صاحب الفتوى بالمجلس الذي أولاده مشهورون بأولاد السّبطي للآن بفاس. ولما حلّ بتونس اندفع إليه الشعراء بها يهنونه بالفتح وكان سابقهم في تلك النوبة أبو القاسم الرحوي من ناشئة أهل الأدب فرفع / إليه قصيدة بائية محتوية على ثمان وستين بيتا مطلعها : (ص 118)
أجابك شرق إذ دعوت ومغرب
 

فمكّة هشّت للقاء ويثرب
 
ونادتك مصر والعراق وشامه
 

بدارا فصدع الدين عندك يشعب
 
وحيّتك أو كادت تحيّي منابر
 

عليها دعاة الحق باسمك تخطب
 
وانظر تمامها إن شئت في ترجمان العبر أو دليل الحيران.
ثم غزى (كذا) من تونس العرب بالقيروان بعد صلاة عيد الأضحى فوافاهم في الفرح بين بسيط تونس وبسيط القيروان المسمى بالثنية فأجفلوا أمامه وقاتلوه منهزمين وهو في اتباعهم إلى أن حلّ بالقيروان ورأوا أن لا ملجأ منه فاتفقوا على الاستماية (كذا) ودسّ إليهم من عسكر السلطان بنوا عبد الواد ومغراوة وتجين


فغلبوا بني مرين وواعدوهم بالمناجزة صبيحة يومهم ليتحيزوا إليهم براياتهم وصبحوا معسكر السلطان فركب إليهم التعبئة فاختلّ مصافه وتحيّز إليهم الكثير من جيشه فكانت الدائرة عليه ونكب نكبة عظيمة ونجا إلى القيروان فدخلها في الفلّ من عساكره وتدافعت ساقات العرب في إثره وتسابقوا إلى محلّته فنهبوها ودخلوا فساطيطه واستولوا على ذخائره والكثير من حريمه وأحاطوا بالقيروان ودارت حللهم بها وتعاوت ذيابهم بأطراف البقاع وأجلب ناعق الفتنة من كل مكان ولم ينج إلّا في أرذل حالة وذهب ليلا إلى سوسة على تعبئة فركب منها في الأسطل (كذا) إلى تونس وحل بها فشرع في إصلاح ما ثلم منها.
عودة وهران لدولة بني زيان
(ص 119) ثم / رجع ملك وهران للدولة الخامسة وهي دولة بني زيان فملكها بعد أن استولى على تلمسان أبو سعيد بن عبد الرحمن بن يحيى بن يغمراسن الزياني فأحيا (كذا) الدولة الزيانية بعد العفاء وأظهرها بعد طول الخفاء وهو سادس الملوك الزيانية ، وعاشر القاسمية ، بويع له في ربيع الأول سنة تسع وأربعين من الثامن (1) بأرض إفريقية وجاء مغربا ومعه تجين ومغراوة وبنوا عبد الواد ولما حلّ بشلف فارقته تجين ومغراوة بعد التحالف على المناصرة عند الحاجة وتمادى بنوا عبد الوادي بسلطانهم لتلمسان. وكان أبو عنان المريني أقام بها عثمان بن جرار أحد بني طاع الله فبعث لهم ابن جرار أخاه في جيش للمحاربة فكان مصاف القتال بسكّاك فقتل ابن جرار وأخذ ما معه إلّا اليسير وجاء أبو سعيد لتلمسان فسأل عاملها ابن جرّار الأمان فأمن ودخلها أبو سعيد في جمادى الثانية تلك السنة (2) ، فبرز في سماء الخلافة وشارك أخاه أبا ثابت في المملكة فكانت السكة والخطبة لأبي سعيد ، وأمر الحرب واستتباع الجيوش لأبي ثابت ، واختار أخوهما الأكبر أبو يعقوب سكنى ندرومة منقطعا للعبادة ، وتركا أبا الحسن المريني بالمشرق فمهدا البلاد ودوّخا العباد. فبينما هما كذلك إذ أتاهما الخبر أن أبا الحسن نزل بالجزائر ومعه وزمار بن عريف السويدي الهلالي على ما
__________________
(1) الموافق ماي حوان 1348 م.
(2) الموافق أوت سبتمبر 1348 م.


لابن خلدون ، والمخزومي ، / على ما للحفاظ الثلاثة : أبي راس المعسكري ، (ص 120) وموسى بن عيسى المازوني المغيلي ، وابن الخطيب التلمساني القرشي ، وتجين وعرب تلك النواحي ، وأنه رايم تلمسان فخرج أبو ثابت بجيش عظيم وبعث لعلي بن راشد المغراوي فالتقيا بالتاغية واتفقا على أن أبا ثابت يلقى أبا الحسن ، وعليا بن راشد يلقى الناصر ، فكان مصاف القتال بتيغرين وحصلت الحروب الشديدة التي يشيب لها رأس الوليد انهزم فيها المغراوي وثبت أبو ثابت إلى أن هزم أبا الحسن وقتل ولده الناصر وأعيانه ، ولو لا ظلام الليل (كذا) ما نجا أبو الحسن ودخل وزمار بن عريف بأبي الحسن للصحراء إلى أن وصل لسجلماسة وذهب مغرّبا ورجع أبو ثابت بالظفر والغنيمة.
ثم قتل مغراوة بعض بني عبد الوادي غيلة فتوجه لهم أبو ثابت وهم بالجبل المطل على تنس وهجم عليهم ففرّ علي بن راشد لتنس واقتحمها عليه فذبح عليّ نفسه وبه انقرض ملك بني ثابت بن منديل واستولى أبو ثابت على بركش والمدية ومليانة والجزائر ورجع لتلمسان وكتب له أبو عنان المريني على الإقلاع عليهم فأبى وسمع بموت علي بن راشد فأنف وتحرك لتلمسان ولقيه أبو سعد وأبو ثابت بجيش بلغ منه الإعجاب بأنقاد ونزلوا بسلى فكان مصاف القتال بوادي القصب ولما حمى الوطيس خدعت بنو عامر على عادتهم الذميمة وجرّت الهزيمة عل أبي سعيد وكبّ به فرسه فأخذ وقتل يوم السبت حادي عشرين جمادى الأولى سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة (1) واستمرّ / أبو ثابت لتلمسان فأقام بها يوما ولحق (ص 121) بالجزائر فاجتمع عنده جيش عظيم ورجع به مغربا لعدوه فكان مصاف القتال بوادي شلف فوقعت حروب يشيب لها الرضيع ونكص بنو مرين الأعقاب فحمل وزمار ابن عريف السويدي على أبي ثابت فردّهم على أعقابهم وحصلت الهزيمة ففرّ أبو ثابت وأبو حمّ موسى والوزير يحيى بن داوود مشرقين في ثياب التنكّر فأرصدهم صاحب بجاية وأخذهم حولها فقال لهم الآخذون من هو أبو ثابت منكم فتقدم أبو حمّ وقال أنا فأطلقوا غيري فورد عليهم من يعرف أبا ثابت وهو وزمار بن عريف السويدي فحملهم إلى أبي عنان المريني فقال أبو عنان
__________________
(1) الموافق 5 جويلية 1352 م.


لأبي ثابت كيف رأيتم أبطال بني مرين فقال أبو ثابت أعانكم السعد وأما الرجلة غلبناكم فيها فدفعه لبني جرار فقتلوه قصاصا ثالث عشر رمضان تلك السنة (1) وذهب أبو حمّ لتونس فاستقرّ بها عند أبي إسحاق إبراهيم بن أبي يحيى زكرياء الحفصي في نعمة شاملة إلى أن كان ما يأتي ذكره.
عودة وهران للدولة المرينية
ثم رجع ملك وهران للدولة السادسة وهي المرينية فملكها أبو عنان وذلك أن أبا الحسن لما رجع للمغرب حصل الخلل بينه وبين ابنه أبي عنان على الخلافة وغلبه ابنه على ذلك إلى أن عهد له بها فرجع له ابنه وتوفي سنة اثنين وخمسين من الثامن (2) ودفن بسلا. وسبب موته أنه لما رجع من مقاتلة ابنه ابن عنان تمرّض. ففصد لإزالة الدم واغتسل بالماء قصد الطهارة فتورّم ومات بعد أيام قليلة وهو الذي شيّد بناء جامع سيدي أبي مدين ، وبنا (كذا) جامع سيدي الحلوى. ولما مات تولّى أبو عنان فارس بن أبي الحسن بموضع أبيه وشرع في تدويخ المغرب وتمهيده ثم غزى (كذا) تلمسان سنة أربع وخمسين من الثامن (3) فحاصرها شديدا إلى أن دخلها عنوة وأطرد (كذا) عنها سلطانها صاحب الحرب أبا ثابت للمشرق ثم قتله بعد الظفر به وذبح سلطانها صاحب الأمر أبا سعيد بإفتاء الفقهاء له بذلك وخرّب تلمسان فحرثها غلام أسود على ثورين أسودين تلك السّنة. ثم تخطّا لوهران فملكها أيضا. وقد قال موسى بن صالح (ص 122) / الكاهن المعروف عند الناس بموسى ، وصالح المشهور بالكهانة ، إن تلمسان تحرث فكان كما قال وكان هذا الكاهن يسكن ببرابرة غمرة وأرضهم من المشتل إلى الزّاب. قال ابن خلدون : «واختلف الناس في أمره فبعضهم يقول بكهانته وبعضهم يقول بولايته ولا صحة لخبره ه» وقول الحافظ أبي راس في عجائب الأسفار : إن تلمسان حرثت سنة ستين من الثامن سبق قلم لأن أبا عنان كان ميتا
__________________
(1) الموافق 23 أكتوبر 1352 م.
(2) الموافق 1351 ـ 1352 م.
(3) الموافق 1353 ـ 1354 م.


في الستين وكانت تلمسان معمورة وهي حرثت في حياته وقت تخريبه لها. وكان أبو عنان عالما كبيرا يقرأ القرآن بالسبع (1). وقال الحافظ أبو راس في الشماريخ : أنه كان يقرأه (كذا) بالعشر ، وأن أباه كان يقرأه (كذا) بالسبع وكان أديبا كثير الاعتناء بشعر ابن خميس التلمساني فهو علم الأعلام ، ومستخدم السيف والأقلام ، وله بطش وبغض شديد في الأمور حتى أنه حبس الإمام ابن مرزوق الخطيب لاتهامه في تقصيره خطبة حفصة بنت سلطان تونس حتى قدم عليه شيوخ إفريقية بالخراج فقالوا له سمعنا في بلادنا أنك حبست عالما كبيرا فأمر بإطلاقه وقيل أطلق بعد موته وهو أول من اعتنا (كذا) بتعظيم المولد النبوي في البلاد الغربية فاقتدا (كذا) به أبو حمّ موسى بن يوسف الزياني أحد الأعياص وبنوا حفص بتونس لا سيما أبو فارس عبد العزيز الحفصي وتوفي يوم الأربعاء رابع عشرين ذي الحجة الحرام سنة تسع وخمسين من الثامن (2) وقد عاهد (كذا) بالملك لابنه أبي زيان فأبى أهل المجلس ذلك وعقدوا البيعة لأخيه السعيد ابن أبي عنان وكان صغيرا ابن خمس سنين وجزموا على الفتك بأبي زيان فأجبروه على البيعة لأخيه فبايع له وتلفت مهجته. واستقل بالأمر الحسن بن عمر كافل الخليفة السعيد بن أبي عنان فصارت الخلافة للسعيد وبقي تسعة أشعر ثم خلعه منها عمه أبو سالم إبراهيم بن أبي الحسن المريني في منتصف شعبان سنة ستين من الثامن (3).
عودة وهران للدولة الخامسة الزيانية
ثم رجع ملك وهران للدولة الخامسة الزيانية فملكها أبو حمّ موسى ابن يوسف الزياني وذلك أنه لما خلص من واقعة أبي عنان وذهب لتونس / فاستقر (ص 123) بها عند الملك الحفصي أبي إسحاق إبراهيم بن أبي يحيى زكرياء في نعمة شاملة إلى أن جاءه من المغرب سقير بن عامر الهلالي رئيس بني عامر بقبيله
__________________
(1) يقصد أنه كان يقرأ القرآن بالروايات السبع المشهورة والعشر كذلك.
(2) الموافق 27 نوفمبر 1358 م.
(3) الموافق 12 جويلية 1359 م.


ومعه مغراوة فجاؤوا مغرّبين به لجبل عياض ومنه للزاب وريغة ووارقلا وجبل مزاب وواد زرقون وغزوا أولاد عريف ساروا إليهم عشرة أيام بلياليها (كذا) فصبحوهم بواد ملّال فاستباحوا مالهم وقتلوا كثيرا من رجالهم من جملتهم عثمان ابن وزمار بن عريف السويدي فهذه الواقعة هي باكورة السّعد. ثم جاءهم البشير بموت أبي عنان فاستبشروا بنيل المراد. ثم بايعوه في خامس محرم سنة ستين من الثامن (1) وجاؤوا مغربين إلى أن وصلوا إلى مكرّة فسمع أهل وطن تلمسان فأتوه من كل حدب ينسلون (كذا) ثم زادوا لتلمسان وبها محمد بن أبي عنان فنزلها وحاصرها ثم دخل أقادير بعد حروب فسأل منه بنوا مرين الأمان فأمّنوا وأسلموا البلد. وبايعوا أبا حمّ فدخلها بعد صلاة ظهر يوم الخميس غرة ربيع الأول تلك السنة (2) ولما جلس على كرسي المملكة أنشأ يقول قصيدته الميمية التي من الطويل الذاكر فيها أحواله من حين مجيئه من تونس إلى حال دخوله تلمسان مطلعها :
جرت أدمعي بين الرّسوم الطّواسم
 

لما شطحتها من هبوب الرّواكم
 
وقفت بها مستفهما لخطابها
 

وأي خطاب للصعاب الصلادم
 
وانظر تمامها في الدر والعقيان ، أو بغية الرواد ، أو زهر البستان ، أو دليل الحيران ، أو لباب اللباب ، وكان أهم ما بدأ به الإحسان إلى أنصار الدولة ثم لوفود التهنئة ثم التفت إلى قبيله فاستركب منهم في يوم واحد ألفي فارس وضبط ملكه وأسّسه واجتمع بأبيه أبي يعقوب وابنه أبي تاشفين في عام الستين من الثامن فجهّز لأبيه جيشا دوّخ به المشرق وأخذ يحيى البطيوي بوانسريس أخذا وبيلا وفتح المدية ومليانة عنوة وأسر ما فيها من شيعة بني مرين واصطلح مع أبي سالم المريني لما أفضت الخلافة إليه في عام الستين المار وجهز لابنه أبي تاشفين في (ص 124) عام إحدى وستين من الثامن / جيشا (3) لحرب أبي زيان بن أبي يحيى الراشدي ففرّ أبو زيان واستولى أبو تاشفين على المال والذراري ، ولوزيره أبي محمد
__________________
(1) الموافق 7 ديسمبر 1358 م.
(2) الموافق 31 جانفي 1359 م.
(3) الموافق 1359 ـ 1360 م.


عبد الله بن مسلم جيشا لحرب محمد بن عثمان فهزمه الوزير هزيمة بليغة وجاءته البشارتان بالهزيمتين وفيها بايعته أهل البطحاء ، ومستغانيم ومزغران وجهز جيشا بعثه مع وزيره موسى بن برغوث لفتح وهران فكانت الدائرة على وزيره وهر جيشه وكبّ به فرسه فأخذ أسيرا وبعث به للمغرب وحرك عليه فيها أبو سالم المريني بجنود كالجراد المنتشر فدخل تلمسان وخرج أبو حمّ وتوجه للمغرب فدوّخه وبعد أربعين يوما فتح تلمسان من يد أبي سالم ودوّخ بني وطاط كثيرا ومات في تلك الواقعة سقير بن عامر فحمله بجنازة الملوك ودفنه بالعبّاد وكان في موته راحة له لأنه خادعه غفلة وأراد غدره لميله لبني مرين فأراحه الله منه وتلك عادة بني عامر بكبيرهم وصغيرهم. ثم نهض للجبهة الشرقية فدوّخها وفي سنة اثنين وستين من الثامن (1) فتح وهران عنوة على يد أبي موسى عمران فارس الولادي وسلّم له أبو سالم المريني الجزائر فاجتمعت له الجهة الشرقية وجاءه محمد بن موسى اليزناسي طريدا فآواه وأحسن إليه ولله درّ القائل :
تطاول دائي فاستفزّ منامي
 

وطال سهادي واستطال سقامي
 
وحرمت سبعا ليس للنفس بعدها
 

مقام بطيب وجدّ حزامي
 
منامي وعقلي والفؤادي وعبرتي
 

وقلبي ولبّي والتذاذ طعامي
 
واصطلح مع أبي سالم المريني أمير المغرب فردّ كلّ واحد الأسارى لصاحبه وذهب وزيره أبو محمد عبد الله بن مسلم للجهة الشرقية فمهدها ومات والده أبو يعقوب بالجزائر في شعبان تلك السنة فحمله ودفنه بباب أيلان وبنا (كذا) عليه المدرسة اليعقوبية ونقله لجوار أخويه أبي سعيد وأبي ثابت ولما كملت المدرسة نقل الثلاثة لها وجعل أطعمة ورتب أوقافا ، وأتاه خالد بن عامر صحبة محمد بن عمر للاختلاس فبعث لهما ابنه أبا تاشفين وعمران بن موسى فهزمهما ببني ورنيد ورجع أبو تاشفين منصورا ، وفي أربع وستين (2) من الثامن / جهز جيشا كثيفا لوزيره وأمره بطرد أبي زيان الراشدي أو الفتك به وبخالد (ص 125) ابن عامر القاتل لأخيه شعيب بن عامر غدرا ففرّا وأطردا عن الوطن. وفي خمس
__________________
(1) الموافق 1360 ـ 1361 م.
(2) الموافق 1362 ـ 1363 م.


وستين منه (1) جهز لوزيره جيشا لإطراد المنافقين فأزعجهم إلى المسيلة ومات وولّى بموضعه أخاه عثمان بن مسلم فاجتمعت عليه الحشود فأرسل ابنه أبا تاشفين ثم لحقه في جيشه ولما حل بالبطحاء نزل العدوّ بغليزان ووقع الحرب بينهما يوما كاملا وأبو حمّ بمحلته ينظر ففرّ عنه الناس ولم يشعر إلى أن وجد نفسه منفردا بخاصته فارتحل لحضرته وتكالب عليه العدو وزاد معه إلى سيق كأنه جراد منتشر واشتدّ القتال في الثنية فقطع رأس بعض أعيانهم فرجعوا منهزمين وذهب لحضرته. ولقد انتكب ثلاث نكبات : واحدة بناحية بجاية ، والأخرى بتسكاله ، وأخرى بوانسريس ، والأمر لله وحده. وفي سنة ست وستين منه (2) اجتمعت عليه العرب لأمر لم يرده الله فذهبوا خائبين وأذعنوا بالطاعة ، وأتى سويد لبابه الكريم يتلمسون الرضى فأصفح (كذا) عنهم وعفا ، وحضرت ليلة الميلاد النبوي على صاحبه أفضل الصلاة والسلام فاحتفل لها كعادته وأنشد قصيدته الجيمية المسمّة (كذا) بالمنفرجة المحتوية على أربعين بيتا من بحر البسيط مطلعها بتمامها للفائدة فيها بالتوسل :
يا من يجيب دعا المضطر في الدّيج
 

ويكشف الكرب عند الضيق والهرج
 
ولطف رحمته يأتي على قنط
 

إذا القنوط دعا يا أزمة الفرج
 
ومن إذا حلّ خطب واعترى توب
 

أبدا (كذا) من اللطف ما لم يجر في المهج
 
إني دعوتك جنح الليل يا املي
 

دعاء مبتهل بالعفو مبتهج
 
يا كاشف الضر عن أيوب حين دعا
 

قد مسّني الضر فاكشف ضرّ كل شجّ
 
أنت المنجي لنوح في سفينته
 

ومخرج يونس من ضيقة اللّجج
 
يا من وقى يوسف الصّديق كلّ أذى
 

لما رموه بجبّ ضيّق حرج
 
أجاب يعقوب لمّا أن بكا وشكا
 

وجاءه منه لطف لم يخله يج
 
وعاد بعد بصيرا حين هبّ له
 

نسيم نشر القميص الطّيب الأرج
 
(ص 126) / نجّا من النّار إبراهيم حين رمي
 

فيها وعادت سلاما دون ما وهج
 
يا من تكفّل موسى وهو منتبذ
 

باليمّ في جوف تابوت على لجج
 
__________________
(1) الموافق 1363 ـ 1364 م.
(2) الموافق 1364 ـ 1365 م.



يا من أعاد لللّام بعد ما يئست
 

موسى وقرّبه في المرسلين نج
 
يا من كفى المصطفى كيد الذي كفروا
 

إذ جاءهم بكتاب غير ذي عوج
 
يا من وقاه الرّدا في الغار إذ نسجت
 

ببابه عنكبوت خير منتسج
 
وكلّ ما حاولوا مكرا به انقلبوا
 

بالرعب ما بين مكبوت ومرتعج
 
من قد أتى رحمة للعالمين وقد
 

أحيا القلوب بوحي واضح الحجج
 
من عطّر الكون طيبا عند مولده
 

وأشرق الأفق من نور له بهج
 
من أنزلت فيه آيات مطهّرة
 

أنوارها كمصباح لاح منبلج
 
يبلي الجديدين أخلاقا وجدناهما
 

مع الجديدين في نور وفي بهج
 
في طيها كل علم ظلّ مندرجا
 

وأي علم لديها غير مندرج
 
وكم له معجزات ما لها عدد
 

جلّت عن الحصر من فرد ومزدوج
 
عمّت شفاعته للخلق أجمعهم
 

فبالوسيلة ترقى أرفع الدّرج
 
محمد خير خلق الله قاطبة
 

نور الهدى وإمام الرسل ذي السّرج
 
يا حادي العيس عرّج نحو أربعة
 

بالله عج بي على ذاك المحلّ عج
 
لله قوم إلى معناه قد وصلوا
 

بالعزم إذ وصلوا الروحة بالدّلج
 
ساروا فزاروا وفرط الذنب أقعدني
 

وقد مزجت بدمعي دمي ممتزج
 
فالجسم منتحل والدمع منهمل
 

والقلب مشتعل من حرّه الوهج
 
وقد تقلّدت ما لا نستطيع له
 

من الخلافة أوهنت قوّى حجج
 
يا ربّ عبدك موسى قد دعاك عسى
 

تنيله نفحة من نصرك الأرج
 
فكن نصيري فقد أصبحت مكتئبا
 

فالقلب من نكد الأوزار في السيرج
 
قد ضقت ذرعا بزلتي وكثرتها
 

فما اعتذاري إذ ذاك نبت بالحجج
 
فكم قطعت من الأيام في لعب
 

وفي ضلال وكم ضيعت من حجج
 
/ وفي البطالة لهوا قد مضى عمري
 

آه لتضييعه في اللهو والمرج
 
(ص 127) وكم عصيتك جهلا ثم تسترني
 

وباب فضلك عني غير مرتتج
 
منّي الإساءة والإحسان منك بدا
 

منّي الذنوب وكل العفو منك زج
 
كم جدت بالفضل والإحسان منك وكم
 

سترت بالفضل عن أفاعلي السمج
 
إني سألتك بالسرّ الذي ارتفعت
 

به السموات والأراضي لم تمج
 
أصلح بفضلك ما قد كان من خلل
 

واجبر بحلمك ما قد بان من عوج
 



واجعل لنا مخرجا في أثره فرجا
 

فكم تعامل بعد الضيق بالفرج
 
وصل صلاة على المختار من مضر
 

ما لاحت الشّهب في الأفق كالسرج
 
وتحرك لتدويخ المغرب بجميع عساكره شرقا وغربا فنزل جبل دبدوجاس خلال دياره ثم لثنية تيزى ، ثم فرط ، ثم لثنية بلزوز ، وقرية تابريد ، وغارت خيله لتازة ثم كرّ قافلا لتاوريرت فهدم أسوارها وخربها وعاد لحضرته العالية فدخلها سنة سبع وستين منه (1) وصرف إلى كوّر قطره جميع قواده فبعث إلى تجين راشد ابن أبي يحيى ، وإلى منداس ونزمار ، وإلى وانسريس إبراهيم بن محمد ، وإلى شلف عطية بن موسى ، وإلى المدية وادفل بن عبّ ، وإلى تدلس ابن راشد ، وإلى وجدة موسى بن خالد. وحرك عليه في سنة إحدى وسبعين من الثامن (2) أبو فارس عبد العزيز أبي الحسن المريني بجيوش عظيمة فأفرج له عن تلمسان وقصد نحو المشرق بجنوده فدخل لتلمسان أبو بكر بن غازي وزير أبي فارس ثم دخلها أبو فارس المريني في أثره في عاشوراء سنة اثنين وسبعين من الثامن (3) ولما حل بقصر الإمارة ألفى مكتوبا بحائطه هذه الأبيات من شعر أبي حمّ موسى بن يوسف الزياني ونصّها :
ساكناها ليالي آمنينا
 

وأياما تسرّ الناظرينا
 
(ص 128) / بناها جدّنا الملك المعلّا
 

وكنا نحن بعض الوارثينا
 
فلما أن جلانا الدّهر منها
 

تركناها لقوم آخرينا
 
فأمر عبد العزيز بتبديلها فقالوا في تغييرها :
سكنّاها ليالي خائفينا
 

وأياما تسوء الناظرينا
 
بناها جدّنا شيخ المعاصي
 

وكنّا نحن شرّ الوارثينا
 
فلمّا أن جلانا السيف عنها
 

تركناها لقوم غالبينا
 
ونظير هذا ما وقع للعلامة الشيخ أبي علي الحسن بن مسعود اليوسي رضي‌الله‌عنه فإنه لما رأى البيت التي (كذا) قيلت في مدح مسيلمة الكذاب وهي :
__________________
(1) الموافق 1364 ـ 1366 م.
(2) الموافق 1369 ـ 1370 م.
(3) الموافق 4 أوت 1370 م.



علوت بالمجد يا ابن الأكرمين أبا
 

وأنت غيث الورى لا زلت رحمانا
 
أبدلها بقوله :
سفلت بالكفر يا ابن الأرذلين أبا
 

وأنت شرّ الورى لا زلت شيطانا
 
قال التنسي في نظم الدر والعقيان : وما قاله المولى أبو حمّ وقيل فيه من الشعر فكثير. وأما حروبه ووقائعه في العرب وزناتة وسوق عمال بني مرين إليه في السلاسل وحركته إلى بلادهم وتحركه عليهم وما كان بينه وبينهم من الوقائع ، فأمر لا يحاط به. وقد تولى ذلك صاحب بغية الرواد وصاحب زهر البستان ه. وكان رحمه‌الله له اعتناء بالعلم وأهله في الغاية. وفي وقته كان شريف العلماء وعالم الشرفاء أبو عبد الله محمد بن أحمد بن علي بن يحيى بن محمد بن القاسم ابن حمّو فكان له محبا ومعظما ودرّس التفسير بالمدرسة اليعقوبية وحضر الخليفة أبو حمّ للختم وأطعم الناس فكان موسما عظيما. وقول الحافظ أبي راس في عجائب الأسفار أن أبا عبد الله الشريف وابني الإمام أبا زيد وأبا موسى وفدوا على أبي حمّ موسى بن يوسف فإنه صحيح بالنسبة لشريف العلماء ، وسبق قلم بالنسبة لابني الإمام لأنهما كانا في وقت أبي حم الأول في الوفود ، لا الثاني فكلامه فيه تلفيف رحمه‌الله وصنف رضي‌الله‌عنه كتابا أدبيا لولده خليفة عهده أبي تاشفين سمّاه : نظم السلوك في سياسة الملوك ، أتى فيه بالعجب العجاب (1) وأودعه من رائق نظمه ما يزري بأولي الألباب. ثم حصلت السعاية الخبيثة بينه وبين ولده أبي تاشفين الخليفة من بعده فعمد أبو تاشفين لأبيه أبي حمّ وخلعه من الملك وأسكنه بعض حجر القصر ووكّل به من لا يدعه يخرج ثم استلبه من الأموال والذخائر وبعثه لقصبة وهران فاعتقله بها واعتقل سائر إخوته بتلمسان ثم / قتلهم (ص 129) سنة ثمان وثمانين من الثامن (2) وبعث لأبيه بوهران من يقتله فأغلق الباب في وجوههم وصعد لجدران القصبة واستصرخ أهل البلد فأتوه من كل جهة وتدلّى لهم بعمامته والرهط واقف بباب القصبة فسألوا الأمان وطلبوا النجاة واجتمع أهل البلد عليه
__________________
(1) حقق هذا الكتاب ونشره الأستاذ عبد الحميد حاجيات ضمن كتابه : أبو حمو موسى الثاني.
(2) الموافق 1386 ـ 1387 م.


وجدّدوا له البيعة وارتحل من حينه لتلمسان فدخلها أوائل سنة تسع وثمانين منه (1) وأقام بملكه فسمع ابنه أبو تاشفين وهو بتيطرى فجاءه مغلغلا قبل تمام الأمر فدخل عليه وأحيط به ففرّ للصومعة واستعصم فسأل عنه فأخبر به فأخرجه منها وأدركه الندم وبكا (كذا) ثم عاد به للقصر وربطه مع حجرة أعوذ بالله من هذا العقوق فخلع أبوه نفسه وسلم له في الملك وسأل منه التوجه للمشرق في البحر بقصد الحج فجاء به لوهران وركبه من مرساها مع نصارى القطلان مكبّلا للإسكندرية فلما وصل بجاية سأل من رايس السفينة إخراجه لها فأخرجه ولما حلّ بها جددت له البيعة وجاء متوجها لتلمسان مستجيشا كل من ببلدة الشرقية من عرب وزناتة ثم ذهب مع الصحراء إلى ناحية المغرب فنزل بوادي زا ثم جاء لتلمسان وفرّ أبو تاشفين أمامه لفاس خائفا عاديته لأمور وقعت منه في إخوته فاستجاش بني مرين فبعث معه السلطان أبو العباس أحمد المريني زيان بن محمد الوطاسي بجيوش عظيمة وجاءوا لتلمسان فلقيهم أبو حمّ بجيشه بجبل بني ورنيد فاقتتلوا شديدا وكبّ به فرسه فاستشهد رحمه‌الله بموضع يقال له الغيران من بني ورنيد غرة ذي الحجة الحرام سنة إحدى وتسعين وسبعمائة (2) عن ثمان وستين سنة بعد ما ملك إحدى وثلاثين سنة. وهذا العجب الكبير في ملوك بني زيان كل خليفة اسمه أبي (كذا) حمّ يقتله ولده اسمه أبي (كذا) تاشفين على الرئاسة. ثم ابنه أبو تاشفين عبد الرحمن بن أبي حم موسى بن يوسف الزياني أحد الأعياص فهو تاسع الزيانيين وثالث عشر القاسميين. فاستقرّ في الملك ودوخ البربر والعربان وملك من ملوية إلى جبل الزبان. وكان عين الجود والكرم ومعدن النزاهة وعلو (ص 130) الهمم ، فهو ليث النزال ، وغيث النوال ، / فشمل الرعية عدله وأمانه ، وعمهم فضله وامتنانه وتوفي على سرير ملك سابع عشر ربيع الثاني وقيل رمضان سنة خمس وتسعين من الثامن (3).
__________________
(1) الموافق 1387 م.
(2) الموافق 21 نوفمبر 1389 م.
(3) الموافق 2 مارس 1393 م.


عودة وهران للدولة السادسة
ثم رجع ملك وهران للدولة السادسة المرينية فملكها أبو العباس أحمد ابن أبي سالم إبراهيم بن أبي الحسن المريني سلطان المغرب وذلك أنه لما سمع بموت السلطان أبي تاشفين الزياني خرج من فاس لتازة وبعث ابنه أبا فارس لتلمسان فاستولى عليها وأقام بها دعوة أبيه ثم زاد لوهران ومليانة وما وراءها من الجزائر ودلس إلى حدود بجاية فملكها تلك السنة وانقرضت دولة بني عبد الواد من المغرب الأوسط أمدا والله غالب على أمره. ولا زال السلطان أبو العباس بتازة إلى أن اعتراه مرض كان فيه حتفه فتوفي في المحرم سنة ست وتسعين من الثامن (1).
ثم استدعى المرينيون ابنه أبا فارس من تلمسان فلما جاءهم بايعوه بتازة ورجعوا به إلى فاس فاستقل بالملك وتمهد له المغرب ومنه ذهب ما تعلّق بحفظي من ملوك المرينيين إلى أبي سعيد ثم منه إلى محمد بن أبي ظريف بن أبي عنان ثم منه إلى آخر ملوكهم عبد الحق بن أبي سعيد الذي خلعه السيد محمد بن علي بن عمران الإدريسي الجوطي وتولى مكانه سنة خمس وسبعين من التاسع (2) فلذلك لم أذكرهم ولكون وهران خرجت عن ملكهم بالكلية بل لم يملكها إلّا من تقدّم ذكره منهم.
عودة وهران للدولة الخامسة
ثم رجع ملك وهران للدولة الخامسة الزيانية فملكها أبو زيان محمد ابن أبي حمّ موسى بن يوسف الزياني وبه انقطع ملك بني مرين بالمغرب الأوسط فلم يملكه أحد منهم. وذلك أن أبا تاشفين بن أبي حمّ موسى بن يوسف الزياني لما توفي على سرير الملك كما مرّ ، تولى بموضعه ابنه أبو ثابت فبقي في الملك أربعين يوما ودخل عليه عمّه أبو الحجاج فاغتاله. ثم تولى عمه أبو الحجاج
__________________
(1) الموافق 1393 ـ 1394 م.
(2) الموافق 1470 ـ 1471 م.


المذكور يوسف بن أبي حم موسى بن يوسف الزياني منسلخ جمادى الأولى سنة خمس وتسعين من الثامن (1) فجنّد الجنود وعقد الألوية والبنود. فلم تسامحه (ص 131) / الأيام في ملكه بامتداد الأوان بل أوغرت عليه صدور بني مرين ففوّقوا له سهم أخيه أبي زيان ، فخلعه لعشرة أشهر مضت من أيامه ، وتركته مخاصما مع أحلامه ، وذهب لبني عامر واستقرّ في أمان فوجه له من جرّعه كأس الحمام وكما تدين تدان.
ثم تولى أبو زيان المار غرة ربيع الثاني سنة ست وتسعين من الثامن (2) وتولّع بالعلم فلم تخل حضرته من مناظرة ، ولا عمرت إلّا بمذاكرة ومحاضرة ، فلاحت للعلم في أيامه شموس ، وارتاحت للاستغراق فيه نفوس بعد نفوس ، وصنّف كتابا نحا فيه منحا التصوف سمّاه : كتاب الإشارة في حكم العقل بين النفسين المطمئنة والأمارة ، ونسخ بيده نسخا من القرآن ونسخا من الشفا لأبي الفضل القاضي عياض ونسخة من صحيح البخاري وحبّسها كلّها بخزانته التي بمقدّم الجامع الأعظم بتلمسان وأتته هدية من ملك مصر أبي سعيد برقوق فوجّه له هدية جليلة ومعها قصيدة لامية من نظمه عدد أبياتها خمس وستون بيتا مطلعها :
لمن الركاب سيرهنّ خميل
 

فالصّبر إليّ بعدهنّ جميل
 
وانظر تمامها في نظم الدرر والعقيان للتنسي ، ولم يزل في دار ملكه مطاعا مديد الاطناب ، مهابا مرهوب الجناب ، إلى سنة واحد من التاسع (3) تحرك عليه لتلافته ، أخوه أبو محمد عبد الله مستجيشا ببني مرين وكثيرا من أهل الوطن ففرّ منه وانخلع من خلافته ، وتوجه للمشرق يلتمس معينا أو منجدا ويطلب ناصرا ومؤيدا ، والدهر يمنيه بالآمال المكذوب ويعده مواعد عرقوب. وهو في العرب والبرابر يتقلب من فئة لفئة ، ودام إلى سنة خمس وثمانمائة (4) سنة ، فاغتاله محمد
__________________
(1) الموافق 13 أبريل 1393 م.
(2) الموافق 3 فيفري 1394 م.
(3) الموافق 1398 ـ 1399 م.
(4) الموافق 1402 ـ 1403 م.


ابن مسعود الوعزاني بعد أن أظهر له الخدمة ، وقتله في بيته منتهكا منه أعظم الحرمة فعاجله الله بانتهاكها بأعظم النعمة والشدّة ، وكانت مدته خمس سنين بالعدة.
ثم أخوه أبو محمد عبد الله بن أبي حمّ موسى بن يوسف الزياني فخافه أرباب دولته ، وشرفت به بنوا مرين بعد أن كانوا من شيعته ، فدبّر / الجميع في (ص 132) خلعه أمرا أبرموه بالليل فلم يشعر إلى أن دهمته في مملكته من مرين الرجال والخيل فأسلمته أحبابه الذين ركن إليهم ، وكان يعوّل في المهمات عليهم فاعتقل وأخرج في هيئة توجب النحيس والغولة (كذا) وعوض مكانه محمد بن خولة ، وحمل من حينه للمغرب وحيدا ، مستوحشا فقيدا. ثم أبو عبد الله محمد بن خولة ابن أبي حمّ بن يوسف البارع سنة أربعة من التاسع (1) فكانت أيامه خير أيام ، ودولته خير دولة وعزّ وإحكام فهو عقدهم الثمين ومغناهم التام المكين. ولما توفي في ثالث عشر من التاس (2) بإثبات كتب على قبره هذه الثلاثة الأبيات (كذا) :
يا زائرين لقبري فيقوا
 

يسكن في القبر زائرا ومزورا
 
تركنا ما قد كسبنا تراثا
 

وسكنّا بعد القصور قبورا
 
يا إله الخلق فالطف بعبد
 

عاد بعد الغنا إليك فقيرا
 
ثم ابنه أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن أبي حمّ موسى وهو ممّن لم تمد له الأزمان. ولا كان له عليها معوان ، ولا ساعده على ما تقلّده إخوان ، فانقض عليه عمه السعيد ليث العرين المفلت من أشراك بني مرين ، وهجم عليه في قصر إمارته وخلعه لشهرين وأيام من ولايته ، فصح فيه قول الشاعر من البسيط ، المقتضى لكل معنى مركب وبسيط :
لا تطمئن إلى حظّ حظيت به
 

ولا تقل باغترار صحّ لي وثبت
 
فما الليالي وإن أعطت مقادتها
 

إلّا عدا المرء مهما استمكنت وثبت
 
ثم عمه السعيد بن أبي حمّ موسى بن يوسف الزياني فوجد حضرة الملك
__________________
(1) الموافق 1401 ـ 1402 م.
(2) الموافق 1410 ـ 1411 م.


مملوءة معمّمة ، من بدرات نقود متمّمة وسلع مرزّمة ، وعتاق خيل مسوّمة ، وجالت فيها يد الجود إلى أن صيرته للعدم بعد الوجود ، وبقي في أثوابه رافلا وعن عواقب أموره غافلا إذا بأهل فاس من كل معاند وجّهوا له غفلة أخاه عبد الواحد ، بعد ما مكث خمسة أشهر ونصفا فأسرع به أخوه تلفا وخرج السعيد (ص 133) للقائه. وكان ذلك سببا لشقائه ولما استقر في بسيط / واحد أدلج ليلا عبد الواحد بعد إبرامه الأمر مع الرؤساء والرعية فأدخلته البلد ليلا جماعة الرحويّة ، وأقام لهم النذيرة على الأسوار مشاعيل النيران علامة لمن هو بالمحلة على الإقامة ، ولما سمعوا أصحاب السعيد انصرفوا عنه وبقي كالوحيد ولم يتأمل في السابق قول الشاعر القائل بتحذيره لكل عارف ماهر :
إنّ الليالي لم تحسن إلى أحد
 

إلّا أساءت إليه بعد إحسان
 
ثم أخوه الهمام الماجد أبو مالك عبد الواحد بن أبي حمّ ، موسى الشائع ، سادس عشر رجب سنة أربعة عشر من القرن التاسع (1) فنفق في أيامه سوق الأدب ، وجاء بنوه إليه ينسلون من كل حدب ، فينقلبون بخير الحقائب ظافرين بجزيل الرغائب. ولما قصده من الأندلس محمد بن أبي طريق بن أبي عنان المريني قال له وقت التسليم والاقتباس أنا في حسب يغمراسن بن زيان حتى تعينني على فاس ، فقال له وصلت وجهز له الجيوش وأعطاه الأموال وآلة الملك وأرسل معه العمال حتى استولى على فاس وملكه في قصّته المشهورة ، ودوّخ مملكة المغرب الأقصى ، فكانت من مناقبه المأثورة ، واستمرّ عبد الواحد في الملك إلى سنة سبع وعشرين وثمانمائة (2) فخلعه ابن أخيه محمد بن أبي تاشفين المعروف بابن الحمرا على يد أبي فارس الحفصي صاحب تونس فخرج من تلمسان متوجها للغرب. ثم ابن أخيه أبو عبد الله محمد بن أبي تاشفين بن أبي حمّ موسى بن يوسف فقابل الدّهر أيامه بالإسعاد ، حتى صارت كالمواسم والأعياد. ثم فسد ما بينه وبين أبي فارس فأبدل سعيده بالناحس. وسببه أن
__________________
(1) الموافق 1411 ـ 1412 م.
(2) الموافق 1423 ـ 1424 م.


عبد الواحد لما توجه للمغرب حاول الحركة لتلمسان ، فلم يتمّ له الأمر ولم يكن المعان ، ووجه ابنه لتونس عند أبي فارس فأكرمه وكتب معه لأبيه بالقدوم فأرصده أبو عبد الله وأوتي به إليه فقتله ونظر مكاتب التونسي فهذا سبب الأمر مع ما تقدم بينهما من الكلام. ثم توجه عبد الواحد لتونس وواعده الحفصي بالانتصار وهو ذاهب للجريد فاستعمل ابن أبي حامد / وزير عبد الواحد مكاتب على ألسنة رؤساء (ص 134) الوطن يسئلونه القدوم نحوهم وذهب بها لأبي فارس وقال له أنّ أهل بلدنا يحبوننا وإذا كانت رائحتك معنا ولو فارسا نلنا المراد وهذه مكاتبتهم فأراها له فقال له نحن متحركون وإذا وصلنا لقسنطينة بعثنا معكم قائدها جاء الخير فرجع الوزير لعبد الواحد وأخبره فقال له هلكتنا فقال له أن الحفصي قد أفسد في المرة الأولى أموالا ولم يدرك شيئا منها وإذا ذهب معنا صاحبه فإن ربح فذلك وإن خسر فيأتي لثأر ما ضاع له فبعث معهم العلج وأخذ أخذا شنيعا فتحرك أبو فارس مع عبد الواحد وحصر تلمسان شديدا فخرج أبو عبد الله لجهة الغرب ودخلها عبد الواحد ورجع التونسي لبلده وبقي أبو عبد الله في الجهة الغربية ثم توجه للشرقية فدخل بركش وتنس ثم توجّه لتلمسان في جيش عظيم فدخلها وفرّ عبد الواحد صبيحة تلك الليلة فطلع عليه النهار ونزل على جواده ودخل شيشة بقرب باب كشوط بالمطمر فنظرته عجوز من أكابر عبد الوادي فدخلت عليه وجرّدته من ثيابه وصاحت بعبد الواد فدخلوا عليه وذبحوه وجرّوه إلى حمام الطبول ورموه هنالك. ولما استقرّ أبو عبد الله بحضرة ملكه وجّه عماله للنواحي فطار الخبر لأبي فارس فحرك له من فوره ولما قرب تلمسان خرج أبو عبد الله وذهب لبني يزناسن فأقام أبو فارس بعض قواده الأعلاج بتلمسان ولحقه لبني يزناسن وحاصره فزيّن له بعض أصحابه الرجوع لأبي فارس فرجع وأظهر له أبو فارس السرور والبشرى والترحب (كذا) ثم قبض عليه وعلى أصحابه فكان آخر العهد بهم ثم رجع أبو فارس لتلمسان وأخذ مشرقا فقيل له من يقوم بها فقال ما لها إلّا أحمد العاقل فأخرج منها عامله وانصرف للشرق.
ثم الماجد الفاضل الحليم الكامل النحرير الباسل ، أبو العباس أحمد العاقل بن أبي حمّ موسى بن يوسف الزياني فأظهر العدل في الرعيّة ، وسار فيما تملكه بالسيرة المحمودة المرضيّة وبانت شهامته ونجدته ، وقوّته وشدّته ، ثم عجز


عن النهوض وكلّ ، وتلاشا (كذا) ماله واضمحلّ واستولى المتغلبون على (ص 135) الأوطان ، وعثوا الثّرى زناتة والعربان ، ودامت / دولته على هذه الحالة اثنين وثلاثين سنة حتى استوفت أيامه المكتوبة بأتمّ سنة. فقام عليه أخوه أبو يحيى زكرياء ابن أبي حمّ موسى بن يوسف سنة ثمان وثلاثين من التاسع (1) فبايعه موسى ابن حمزة وسليمان بن موسى وعبد الله بن عثمان وتوجه لتلمسان فلم يتم له المراد ، وانعطف بوهران ، فاستولى عليها وكانت بينه وبين أخيه أحمد العاقل حروب استمرت بيده إلى سنة اثنين وخمسين من التاسع (2) فاقتحمها عمّال أخيه أحمد ودخلوها فهرب أبو يحيى في البحر بما خفّ ونزل ببجاية ثم زاد لتونس إلى أن مات بها. وقام عليه أيضا حفيد أخيه وهو أبو زيان محمد المستعين بن أبي ثابت بن أبي تاشفين بن أبي حم في أواخر إحدى وأربعين من التاسع (3) من تونس وتوجه للمغرب وبايعه بوطن حمزة أولاد بالليل ثم مليكش ثم ابن عمر موسى أهل أيليلي ، ثم الثعالية وبعض حصين ، ثم زاد للجزائر فحاصرها إلى أن أقرّ بعضها وأذعن البعض فدخلها أولا ابنه المتوكل سنة اثنين وأربعين منه (4) ثم دخلها أبوه المستعين عشية ذلك اليوم وذهب ابنه المتوكل فمهّد متيجة وفتح المدية ومليانة وتنس وخطب له بجميعها استقلالا وقصدته الناس حتى من تلمسان وعظم أمره على أحمد العاقل حتى نسي أمر أخيه أبي يحيى ثم ثقلت وطأته على أهل الجزائر والعرب فقاموا عليه في ثلاث وأربعين منه (5) وحاربوه فاستشهد مع جماعة من أصحابه ونجا ابنه المتوكل لكونه بتنس لأمر أراده الله. وقام عليه أيضا ابن أخيه أحمد بن الناصر بن أبي حمّ موسى سنة خمسين من التاسع (6) مع جماعة فلم ينجح له الأمر وأوتي به لأحمد العاقل فقتله وكان ذلك سبب بناء السور العظيم المدير على القصر الزائد لتلمسان حسنا. وحرك عليه
__________________
(1) الموافق 1434 ـ 1435 م.
(2) الموافق 1448 ـ 1449 م.
(3) الموافق 1438 م.
(4) الموافق 1438 ـ 1439 م.
(5) الموافق 1439 ـ 1440 م.
(6) الموافق 1446 ـ 1447 م.


أبو فارس الحفصي من تونس بالبحر الزاخر من الجيوش ومات قبل أن يصله بوانسريس كما مرّ.
ثم نهض أبو عبد الله محمد المتوكل على الله بن محمد المستعين بن أبي ثابت بن أبي تاشفين بن أبي حمّ موسى بن يوسف الزياني سنة ست وستين من التاسع (1) من مليانة ثائرا عليه وتوجه للمغرب والنصر يلوح أمامه فاستولى / على بني راشد ثم هوارة ثم مستغانيم ومزغران ثم فتح وهران ثم زاد لتلمسان (ص 136) فأقام عليها يومين ودخلها في الثالث وهرب أحمد العاقل لسيدي أبي مدين فأوتي له به فمنّ عليه وصرفه للأندلس واستقلّ بالملك. ثم حرك عليه أحمد العاقل لما رجع لهذه العدوة في جمع من الناس وحاصره بتلمسان فانتصر عليه المتوكل وعاجله بأمنيته سنة سبع وستين من التاسع (2) ودفنه بالعبّاد ونجا صاحبه محمد ابن غالية بن عبد الرحمن بن أبي عثمان بن أبي تاشفين فبقي في الغوغاء عليه محاصرا للبلد إلى أن قام عليه أهل البلد فقتلوا البعض من جمعه وفرّ الباقي وذهب محمد بن غالية لوجدة واستقرّ بها لقصد الضرر وصار يأتي مرة بعد أخرى للضواحي إلى أن جاء به حتفه مرة مع الأوباش بجبل بني ورنيد فسمع به المتوكل وبعث له جندا وحصل مصاف القتال بالجبل المذكور ووقع القتال الذريع فتفرق الجمع وأوقع الجند فيهم فكان ابن غالية من جملة الصرعى فقتل سنة ثمان وستين من التاسع (3) وجيء برأسه للمتوكل فوضعه في طست أصفر ودعا بمن يعرفه فميزوه وعرفوا عينه ثم جيء من الغد بجسده فدفن مع العاقل بالعبّاد. ونظم الحافظ التنسي في هذه القضية ومدح المتوكل وأولاده قصيدة طائية مشتملة على مائة بيت وأربعة أبيات عدد الكتب المنزلة انتخبها من بحر الطويل مطلعها :
أرقت لدمع من جفوني ينحطّ
 

كنثر نفيس الدّرّ أن خانه السّمط
 
وانظر تمامها في الدر والعقيان للتنسي. وتوفي يوم الأحد ثالث عشر
__________________
(1) الموافق 1461 ـ 1462 م.
(2) الموافق 1462 ـ 1463 م.
(3) الموافق 1463 ـ 1464 م.


ربيع الثاني سنة إحدى عشر من العاشر (1) بعد ما ملك خمسا وأربعين سنة واثنين وعشرين يوما.
ثم أخوه أبو حمّ ويقال له أبو قلموس (2) عبد الله بن محمد فقام عليه (ص 137) الإسبانيون وأخذوا من يده وهران ثم الأتراك وأخذوا من يده الجزائر / وغيرها فهو ممن لم يهن له في الملك قرار ، ولا استقرت في المملكة عمارة ولا دار ، آخر ملوك بني زيان الذين يشار إليهم بالملك جسما ، ولمن تغلب عليهم رسما ، وعجز عجزا كليا عن الدفاع ، وصار غير نافذ الكلمة ولا مطاع.
__________________
(1) الموافق 11 سبتمبر 1505 م.
(2) الحقيقة أنه يلقب بأبي قلمون بالنون في الأخير ، وليس بالسين ، وذلك في مختلف المصادر. ولعلّه سبق قلم من المؤلف.


الدولة السابعة : الإسبان
ثم ملك وهران الدولة السابعة ، وهم الإسبانيون ويقال لهم السبنيول سموا بذلك نسبة لمدينة إسبانيا بقطع الهمزة المكسورة وسكون السّين المهملة وفتح الباء الموحدة من أسفل بعدها ألف ساكن ثم نون موحّدة من أعلا مكسورة ثم ياء مثنات من تحت بعدها ألف مقصورة. وخالف أبو الفداء في ضبط غير الهمزة والسين المهملة فقال وإسبينيا بقطع الهمزة المكسورة من تحت وسكون السين المهملة وكسر الباء الموحدة من أسفل وبعدها ياء مثنات من تحت ساكنة وكسر النون الموحدة من فوق وفتح الياء المثنات من تحت وفي آخرها ألف مقصورة وهي قاعدتهم القديمة ودار ملكهم القويمة ، وقد تلاشت وبقي الاسم لها كما في عجائب الأسفار لأبي راس الحافظ ، وبهجة الناظر للشيخ المشرفي شيخ الحافظ أبي راس. وأما الآن فقاعدة ملكهم مدينة مادريد باللام وهي مدينة الطاغية ويقال لها مادريد بالدال. وكان يقال لها سابقا ما تريج بالتاء والجيم وهي حذاء طليطلة. ومسكنهم كما في كتب الحافظ أبي راس وكتاب شيخه الشيخ المشرفي ، بأرض الأندلس من قطلان وبرشلونة من جهة الشرق إلى إسبونة في جهة الغرب ، ويجاورونهم (كذا) الدبرقيز وهم البرتغير ببعض الغرب ، والفرانسيس من جهة الشرق ، وجبل الطار داخل في تخومهم إلّا أنه بيد الإنكليز. وقال صاحب الجغرافيا جاءت إسبانيا بين إفرانسا والبحر الأوسط والبرتقال والأوقيانوسيا (1) فتحدها إفرانسا في شمالها الشرقي ويحدّها البحر الأوسط في شرقها وجنوبها ويحدّها البرتقال في غربها ويحدّها الأقيانوسيا (1) في
__________________
(1) يقصد بالأقيانوسيا هنا المحيط الأطلسي.
(1) يقصد بالأقيانوسيا هنا المحيط الأطلسي.


(ص 138) غربي شمالها وجنوبها ، فهي جزيرة / غير كاملة لكونها لا تتصل بالبر إلّا بجبل البريني الفاصل بينها وبين إفرانسا فهي في أقصا جنوب أوروبا الغربي وليس بينها وبين عدوة الغرب إلا بوغاز جبل طارق القليل العرض. ومساحتها خمسمائة ألف كيل متر وهي خمسمائة ألف ميل يزيد أو ينقص شيئا لأن الكيل متر عند النصارى يشابه الميل عندنا تقريبا. وملكهم منذ مدة مديدة وهو يلقب بالملك الكثوليكي ومعناه المتبع للبطرك وهو الباب (1) وابتداء ملكهم في القرن الخامس من الميلاد المسيحي على صاحبه وعلى نبينا وكافة الأنبياء الصلاة والسلام وكانوا على عدة ملوك.
واختلف في أول من ملك أرض الاسبانيين وهي الأندلس للآن على أربعة أقوال. فقال بعض مؤرخي النصارى أن أول من ملك أرض الإسبانيين هم الإبريّون نسبة إلى جدهم الابر مجهول الأصل ، ثم الفنيسيان ، قيل أنهم الفرس وملوكها مدة ثم اليونانيون نسبة لجدّهم يونان بن يافث ، ثم القرطاجيون ، وبنوا بها مدينة يقال لها قرطاجنة ، ثم الرومان ومنهم الروم ، ثم الفندال وهم أمة من الجهة الجوفية من بر الافرنج خرجوا من بلدهم الكائنة بقرب بحر البلطيك ومرّوا ببلد الجرمانية وهي بلد النامسة (2) وبلد الغول وهي إفرانسا وتوجهوا في أوائل القرن الخامس المسيحي إلى اسبانيا وهي بلد الأندلس فاستقروا بها وتدينوا بدين المسيح عيسى بن مريم عليه‌السلام. غير أنهم كانوا يعدون من الروافض المتبعين لشيخ يقال له أريوس ، ثم الإفرنج ، ثم القبريقوا (3) ، ثم العرب في آخر القرن الأول من الهجرة ، ثم الإسبانيون استقلالا للآن بعد أن حاربوا المسلمين عليها نحو الثمانمائة سنة. وقال آخر منهم أن المملكة الإسبانية كانت تحت حكم الرومان ، فيما مضى من قديم الزمان ، وفي آخر القرن الأول من الهجرة فتحها الإسلام وبقيت ملوك النصارى مع الإسلام في حروب متتابعة مدة ثمانمائة سنة إلى أن غلبت النصارى المسلمين عليها سنة سبع وتسعين وسبعمائة من
__________________
(1) يقصد الباب في روما.
(2) يقصد بلاد النمسا.
(3) يقصد القريقواريون نسبة إلى قريقوار.


الهجرة (1) فبقيت في ملك / الإسبانيين للآن .. وكانت إسبانيا في السابق من دول (ص 139) أوربا الكبار لكونها كانت لها أملاك كبيرة في أمريكا الجنوبية وقد تملكوا عليها سنة سبع وتسعين وسبعمائة من الهجرة (2) بسبب ظهور ذي معرفة منهم من العلماء البحريين المنجمين يقال له كريستوف قلومب (كولومب) فكشف على أمريكا التي لا معرفة لهم بها قبله فتملكوا على أعظم جزء منها وعلى عدة أجزاء بجوانبها واستمرت بأيديهم إلى أن نزعت منهم سنة سبعة عشر ومائتين وألف (3) من الهجرة لاجتماع أهلها على الحكومة الجمهورية التي هم عليها للآن وخرجوا عن حكمهم فلم يبق لهم بأمريكا إلا جزيرة كوبا (4) ولذا لا تعدّ مملكة إسبانيا من كبار دول أوربا الآن لانحطاطها عن مقامها الأول ه.
وقال ابن خلدون أول من سكن الأندلس بعد الطوفان الأوربيون نسبة لجدهم أوروب من ولد طوبال بن يافت ودخلوا في طاعة الروم. ثم ملكها القوط نسبة لجدهم قوط من ولد ماغوغ بن يافت ثم لحق بهم القلنش من الروم الإغريقيين وباسم القلنش سمّيت الأندلس لما عرّبت. وقال ابن سعيد المغربي والحافظ أبو راس في الشماريخ أول من عمّر الأندلس أندس بن يافث بن نوح وأخوه سبت بن يافت بن نوح بالعدوة المقابلة لها وإليه تنسب مدينة سبتة فبقي أولاد أندس به ملوكا دهرا. ثم ملكها إشبيلان بن طيطش الرومي وبه سمّيت إشبيلية لما عرّبت. وطيطش هذا هو الذي فتك ببني إسرائيل وجلاهم الجلوة العظيمة التي سلّط الله عليهم بها الذلّ حتى انقطع ملكهم انقطاعا كليا للآن. ونقل من آثار الهيكل المبارك بالقدس إلى طليطلة حتى وجد ذلك موسى بن نصير بها فبعثه إلى الوليد بن عبد المالك الأموي بدمشق. ثم أنّ الأندلس تغلب عليهم الاغريق وهم الاغريقيون من الروم فبقوا دهرا ثم أخذها منهم القوط ملك
__________________
(1) هذا التاريخ خطأ لأن تاريخ المسلمين النهائي من الأندلس هو 897 ه‍ الموافق 1492 م. ولعله سهو أو تصحيف من المؤلف. لأن الفرق هو قرن بكامله وكذلك الأمر بالنسبة لاكتشاف أمريكا.
(2) الموافق 1396 ـ 1397 م وهو خطأ كذلك والصحيح 1492 وما بعده.
(3) فقدت إسبانيا كوبا عام 1898 وانتزعتها منها الولايات المتحدة الأمريكية.


منهم بطليطلة أحد قواعد الأندلس ستة وعشرون ملكا. وآخرهم لذريق (1) الذي قتله طارق بن زياد غلام موسى بن نصير في خلافة الوليد بن عبد الملك سنة اثنين وتسعين من الهجرة (2) وتزّوج امرأته ، ومن بقايا ذرية ملوكهم صارة بنت المنذر والدة اللغوي النحوي العلامة أبي عبد الله محمد بن عبد الله المعروف (ص 140) بابن القوطية / بضم الواو المتوفى سنة سبع وستين وثلاثمائة (3) بقرطبة وأصله من مرسية مدينة بالأندلس. قال الشبراملسي وقوط هذا هو أبو السّودان والسّند والهند. وقال شيخنا الزياني في دليل الحيران ثم أن إسبانيا لما تملكها الرومان انقسمت مملكتها على خمسة أقسام. فقسم يقال له الأقاسط لتملّكهم عليه وقسم يقال له الألى ، وقسم يقال له الأراق ، والقسم القبليّ يقال له النفار ، وقسم يقال له القطلان ، وجملة الأقسام الخمسة يقال لها إبيرى. ثم قال لها ها إسبانيا ثم قيل لها إسبانيا بترك الهاء ، وكانت تسميتها بإسبانيا وقت اجتماعهم على ملك واحد وذلك سنة ثمان وثمانين وثمانمائة من الهجرة (4) وقيل غير ذلك. وسكّانها وقتئذ ستة عشر مليونا ونصفا ، والمليون ألف ألف. وأرضهم جيّدة للغراسة لا للفلاحة ، وما يستنبت. ولذلك عظمت فاكهتها. ويوجد بها من الخيل المسومة والبغال المقوّمة ، والحمر الفارهة ما يرتضى. كما يوجد بها معادن الحديد والنحاس والرصاص والزواق إلّا أن الغالب على أهلها الفقر لقلة الصناعة عندهم كما غلب عليهم القساوة والفظاظة ، وشدة البغض ، والحقد ، والضل ، والعداوة ، وكثرة سفك الدماء والجهل. وتنقسم مملكتهم إلى ثلاثة عشر ولاية ، منها ثمانية ساحلية بشاطىء البحر وهي : غليسيا وإستوريا وقسطيلية القديمة والأقاليم البسكية وكتسالونيا ، وبلنسية ومرسية وأندلسية مع غرناطة القديمة ومنها خمسة داخلية وهي : أرغون ونافرا وليوني واسترمارودة وقسطيلية الجديدة.
وأشهر مدنها مادريد التي هي الآن قاعدة ملكهم وقد استولى عليها
__________________
(1) اسمه الحقيقي باللاتينية رودريك : REDRIC.
(2) الموافق 710 ـ 1711 م.
(3) الموافق 977 ـ 978 م.
(4) الموافق 1483 ـ 1484 م.


الفرانسيس سنة ست وعشرين من القرن الثالث عشر (1) ثم برشلونة وهي ذات مرسى كبيرة على البحر الأوسط من أكبر مراسي إسبانيا وأخص مراسي البحر الأوسط. ثم بلنسية ثم إشبيلية ثم مالقة ثم سرقسطة ثم قادس ويقال لها قالس باللّام بدل الدال وهي على البحر المحيط المغربي ولها مرسي عظيمة حصينة. وقد استولى عليها الفرانسيس سنة أربعين (2) من القرن الثاني عشر / ثم غرناطة ، (ص 141) وكانت قاعدة أحد ملوك الإسلام ، ثم السهلة ، وشاطبة ، وشريش ، وطليطلة ، وروندة ، وطرطوشة ، وقرطبة ، وطريف ، وميورقة ، ومنورقة ، ويابسة (3) ، وبطليوس ، وقطلان ، وصقلية ، وهي سلسلة وغيرهم. وبها جبال كثيرة أكبرها جبل بريني ثم سيارنقادا ، ثم سياربونيل ، ثم سياركوادلوب ، ثم جبال الأستورية ، ثم جبال طليطلة.
وبها أودية كثيرة أكبرها نهر إبرة ، ثم دوروا ، ثم ناغوا ، ثم مينوا ، ثم الواد الكبر ، ثم كراديانا.
أنهار الشمال الإفريقي والعالم
وأما هذه العدوة وغيرها (4) فقال الحافظ أبو راس في الشماريخ ، ونهر المغرب الأقصى وادي الربيع ويمتنع عبوره أيام الأمطار فتنظره داخلا في البحر المغربي نحو السبعين ميلا عند أزمّور ومنبعه من جبال درن. وينبع منها نهر آخر ببلاد درعة إلى أن يغوص في الرمال قبلة سوس الأقصى. ونهر ملوية منبعه من جبال قبلة تازة ويصبّ في البحر الرومي عند غسّاسة. ونهر المغرب الأوسط شلف وهو لبني واتيل ويقال لهم بنوا واطيل منبعه من جبال راشد وهو جبل العمور ويدخل إلى التل من بلاد حصين ثم يمر إلى أن يصبّ في البحر الرومي
__________________
(1) الموافق 1811 ـ 1812 م.
(2) الموافق 1727 ـ 1728 م.
(3) اعتبر كلا من صقلية ، وميوقة ، ومينورقة ، ويابسة ، مدنا وهي جزر.
(4) من هنا إلى نهاية صفحة 143 استطراد خارج عن موضوع إسبانيا وفيه كثير من المبالغات البعيدة عن الحقيقة.


ما بين كلميتوا وجبل عياشة أحد بطون مغراوة. ونهر المغرب الأدنا مجردة يصب في البحر الرومي عند بنزرت على مرحلة من تونس. ثم قال صاحب بهجة الناظرين وآية المستدلين ، أن عدد أنهار الدنيا الكبار مائتان وسبعون نهرا. وعدد العيون الكبار مائتان وثلاثون عينا وهي في الأرض كالعرق في البدن. وقال صاحب الخريدة أنّ بهذا الرّبع المسكون مائتي نهر كل نهر منها طوله خمسون فرسخا إلى ألف فرسخ. فمنها ما يجري من المشرق إلى المغرب وعكسه ومنها ما يجري من الشمال إلى الجنوب وعكسه وكلها تنبع من الجبال وتصب في البحر. فمن الأنهار العظيمة بالمشرق النيل ، والفرات ، والدجلة ، وسيحون ، وجيحون ، وأن النيل المبارك ليس في الدنيا أطول منه لأنه مسيرة شهرين في الإسلام ، وشهرين في الكفر ، وشهرين في البرية ، وأربعة أشهر في الخراب ، (ص 142) / ومخرجه من جبل القمر خط الاستواء. وسمي بذلك لأن القمر لا يطلع على ذلك الجبل أصلا لخروجه عن الخطّ ، وميله عن نوره وضوئه ، فيخرج من بحر الظلمات من تحت جبل القمر وأنه ينبع من اثنتا عشرة عينا ، وقيل مبدؤه من خلف خط الاستواء بإحدى عشر درجة. وذهب بعضهم إلى أن مجراه من جبال الثلج وهي بجبل قاف. وأنه يخترق البحر الأخضر بقدرة الله تعالى ويمرّ على معادن الذهب والياقوت فيسير ما شاء الله إلى أن يأتي لبحيرة الزنج. قال حاكيه ولو لا دخوله في البحر المالح واختلاطه به لما كان يستطاع أن يشرب منه لشدة حلاوته وأنّ الله تعالى سخر للنيل كل نهر على وجه الأرض في المشرق والمغرب وذلّله له فإذا أراد الله تعالى أن يجري نيل مصر أمر كل نهر أن يمده فإذا انتهى جريه إلى ما قدّره الله تعالى أمر كل نهر أن يجري إلى عنصره. ومصداق هذا أنك ترى النيل مخالفا لكل نهر على وجه الأرض لأنه يزيد إذا نقصت وينقص إذا زادت لأنها تمدّه بما بها والله أعلم. قال صاحب الخريدة وقد حملت الشياطين مقرس الأول وهو عبقام إلى هذا الجبل فرأى النيل كيف يخرج من البحر الأسود ومن تحت جبل القصر فبنا (كذا) في صفح (كذا) ذلك الجبل قصرا فيه خمس وثمانون تمثالا من نحاس جعلها جامعة لما يخرج من هذا الماء من هذا الجبل بقدر مصاب في أحكام مديدة يجري الماء منه إلى تلك التماثيل فيخرج من حلوقها على قياس معلوم وأذرع قدرها ثمانية عشر ذرعا في كل ذراع


اثنان وثلاثون أصبعا والزائد يغيض إلى الرمال ثم يصب إلى أنهار فيصل لبطحتين ويخرج منهما للبطحة المجمعة فيشق جبالها المعترضة ويخرج نحو الشمال مغربا فيخرج منه نهر واحد ويفترق في أرض النوبة فتصب منه فرقة إلى أقصى المغرب والأخرى إلى مصر منحدرا منها إلى أسوان ثم ينقسم في صحاري البلاد على أربعة فرق كل فرقة إلى ناحية ثم يصب في بحر الإسكندرية. وأن رجلا من ولد العيص بن إسحاق بن إبراهيم عليه‌السلام يسمى حايد لما دخل مصر ورأى عجائبهاءالا (كذا) على نفسه أن لا يفارق النيل إلى منتهاه أو يموت فسار ثلاثين / سنة في العمران ومثلها في الخراب حتى انتهى إلى بحر أخضر فرأى النيل يشقّه (ص 143) فركب به دابة سخرها الله له وعدت زمانا فوقع في أرض حديد جبالها وأشجارها حديدا ثم أخرى نحاسا جبالها وأشجارها كذلك ، ثم على ثالثة فضة جبالها وأشجارها فضّة ، ثم رابعة ذهبا جبالها وأشجارها كذلك ، ثم انتهى إلى سور متّسع من ذهب وفيه قبّة عالية من ذهب لها أربعة أبواب : ثلاثة تغيض في الأرض وهي سيحون ، وحيحون ، والفرات ، والرابع يجري على الأرض وهو النّيل وأنه أتاه ملك حسن الهيئة فسلم عليه وقال له هذه الجنة سيأتيك رزقك منها فلا تؤثر عليه شيئا من الدنيا فبينما هو في ذلك إذ أتاه عنقود عنب له ثلاثة ألوان أحدها كاللؤلؤ ، والثاني كالزبرجد الأخضر ، والثالث كالياقوت الأحمر ، فقال له الملك يا حايد هذا من حصرم الجنة فأخذه ورجع فوجد شيخا تحت شجرة تفاح فحدّثه وأنّسه وقال له يا حايد خذا هذا التفاح وكله فقال إن معي طعاما أغناني عن تفاحك فقال صدقت إني أعلم به وبمن أتاك به وهو أخي وهذا من الجنة أيضا ولم يزل به الشيخ إلى أن أكل منه وحين عضّ على التفاحة رأى الملك يعضّ على أصبعه ويقول له أتعرف هذا هو الذي أخرج أباك من الجنة ولو قنعت بالعنقود لأكل منه أهل الدنيا ولم ينفذ وهو الآن مجهودك إلى مكانك فبكى حايد وندم وسار حتى دخل مصر وصار يحدّث بما رأى في سفره من العجائب. ه.
جبال العالم
وجملة جبال الأرض سبعمائة وتسعون جبلا وكلها طويلة عظيمة وارتفع عليها جبل بالشام باثنا عشر ميلا. وإلى عدد هذه الجبال وارتفاعها وارتفاع جبل


الشام عليها أشار الشيخ : أبو زكرياء يحيى بن سعيد السوسي ، ثم السملالي ، في رجزه : خبر الزمان بقوله :
وعن مقاتل فلما دوّرت
 

الأرض بالجبال حيث ثبتت
 
كانت على الماء تميد دائرة
 

إلى اليمين والشمال سائره
 
فسلّط الريح على الماء يضربه
 

حتى أعاد زبده ولعبه
 
فأمر عزوجل رجعت
 

جميع موجه جبالا جمدت
 
144) / عدّتها خاء كذا يقال
 

قاف وظاء بعدها مشال
 
إلى أن قال :
جبال الأرض كلها طول عظام
 

وجبل بالشام من فوقها قام
 
زاد عليها يا أخي للأعلا
 

وطوله عنها بييا ميلا
 
موقع إسبانيا والأقاليم الأرضية
ومحل إسبانيا من مماليك أوربا هو الجزء الثامن عشر وذلك أن الأقدمين من أهل الجغرافية كالإدريسي قسموا معمور الأرض إلى سبعة أقسام وسموها أقاليم جمع إقليم ، كل إقليم بكسر الهمزة كقنديل فيه سبعمائة فرسخ في سبعمائة فرسخ من غير أن يدخل ذلك جبل ولا واد. والبحر الأعظم محيط بذلك كله ويحيط به جبل قاف. نصّ عليه ابن الجوزي ، ونقله عنه الشيخ إبراهيم الشبرخيتي في شرحه المختصر الشيخ خليل المالكي في باب الجهاد منه لدى قوله كتأمين غيره إقليما فجعلوا السند والهند إقليما واحدا ، والحجاز إقليما ، ومصر بشامه وغربه إقليما واحدا ، لاتحاد دينه وميقاته ، وبابل إقليما ، والروم إقليما ، وأضاف له بعضهم الشام والترك وياجوج وماجوج إقليما واحدا والصين إقليم ، وأضاف له بعضهم ما ولاها من ياجوج وماجوج. وأن المتأخرين منهم ، ومنهم النصارى ، قسموه إلى خمسة أقسام أصلية وهي : أوربا ، وآسيا ، وإفريقيا ، وأمريكا ؛ وجزائر أوقيانوسيا ، فأما أوربا فجزؤها على ثمانية عشر مملكة ، فمنها ثلاثة في شمالها وهي جزائر الإنكليز ، ومملكة سويد ، مع نرفيج ، ومملكة دينرمك ، ومنها واحدة في شرقها وهي الموسك. ومنها ستة في وسطها وهي:


افرانسا ، والبلجيك ، وهلاند ، والممالك المعاهدة ويقال لهم الألمان ، ولتريش وهم النامسة ، وسويس (1). ومنها ثمانية في جنوبها وهي : إسبانيا ، وبرتقال ، وطليان ، ومملكة القريق ، وهم اليونان ، ونصف مملكة الترك ، والرملي ، والسّرب ، والجبل الأسود. وهذا القسم هو الصغير بالنسبة للأربعة الباقية. وأما إيسيّا (2) فجزؤها على تسعة مماليك وهي : بلاد سبري ، ونصف مملكة الترك أيضا ، وبلاد / التتار ، ومملكة العجم ، وأرض الصين ، وأرض يافون ، وبلاد (ص 145) الهند ، وبلاد السند ، وجزير العرب. وأما إفريقيا فجزؤها على ستة مماليك وهي : مملكة مراكش ، وبر الجزائر ، ومملكة تونس ، ومملكة طرابلس ، ومملكة مصر ، وبلاد الصحراء. وأما أمريكا فإنها شمالية وجنوبية فالشمالية جزؤها إلى أربعة مماليك وهي : أمريكا المسكوبية وبيرثانيا الجديدة ، وبلاد الليتانوزي ، وبلاد المكسيك. والجنوبية جزؤها إلى ثلاثة مماليك وهي : بلاد قلوسبيا ، وبلاد بير ، ومملكة بريزيل. وأما جزائر أوقيانوسيا فإنها لا تضبط كغيرها لكثرة جزائرها ، وفي كل من هذه الأقسام عدّة حصن ، وقرى ، ومدن ، وشعاب وأودية ممتدين بين أوربا وإفريقيا وأمريكا. والبحر المحيط الأكبر وهو ممتد بين آسيا وأمريكا والبحر المحيط الهندي وهو ممتد بين إفريقيا وآسيا وأوقيانوسيا.
محيط الدائرة الأرضية
وحاصله أن دور الأرض في كتب الأوائل أربعة وعشرون وألف ميل ولما بلغ المأمون العباسي ذلك أراد تحقيقه أمر بني موسى الذين ينسب إليهم جبل بني موسى المشهورين وهم محمد بن موسى ابن شاكر وأخواه أحمد والحسين وكان لهم همم عالية في تحصيل العلوم القديمة وكان الغالب عليهم الهندسة ، والحيل ، والموسيقى بتحرير ذلك فسألوا عن الأراضي المتساوية فأخبروا بصحراء سنجار ووطأة الكوفة فأرسل معهم المأمون جماعة يثق إلى أقوالهم فساروا إلى
__________________
(1) يقصد بلاد سويسرا ، والنمسا.
(2) يقصد قارة آسيا.


صحراء سنجار وحققوا ارتفاع القطب الشمالي وضربوا هناك وتدا وربطوا فيه حبلا طويلا ومشوا إلى الجهة الشمالية على الاستواء من غير انحراف حسب الإمكان وبقي كلما فرغ حبل نصبوا في الأرض وتدا آخر وربطوا فيه حبلا آخر كفعلهم الأول حتى انتهوا كذلك إلى موضع قد زاد فيه ارتفاع القطب الشمالي المذكور درجة محققة ومسحوا ذلك القدر فكان ستة وستين ميلا وثلثي ميل ثم وقفوا عند موقفهم الأول وربطوا في الوتد حبلا ومشوا إلى جهة الجنوب من غير (ص 146) انحراف وفعلوا ما شرحناه / حتى انتهوا إلى موضع قد انحطّ فيه ارتفاع القطب الشمالي درجة ومسحوا ذلك القدر فكان ستة وستين ميلا وثلثي ميل ثم عادوا إلى المأمون وأخبروه بذلك فأراد المأمون تحقيق ذلك في موضع آخر فسيّرهم إلى أرض الكوفة فساروا إليها وفعلوا كما فعلوا في أرض سنجار فوافق الحسابات وعادوا إلى المأمون فتحقق صحة ذلك وصحة ما نقل من كتب الأوائل لمطابقة ما اعتبره ثم ضربوا الأميال المذكورة في ثلاثمائة وستين وهي درج الفلك فكان الحاصل أربعة وعشرين ألف ميل وهو دور الأرض. قال أبو الفدا أقول كذا نقله ابن خلكان ونقل غيره من المؤرخين أن الذي وجد في أيام المأمون لحصة الدرجة الستة وستون ميلا وثلثا ميل وهو غير صحيح فإن ذلك هو حصة الدرجة على رأي المتقدمين وأما في أيام المأمون فإنه وجد حصة الدرجة ستة وخمسين ميلا وقد تحقق ذلك في علم الهيئة ه. ثم اقتدى النصارى بذلك في جعلهم لمعرفة مساحة الأرض علامتين أحدهما (كذا) للتحقيق وهي سلسلة الحديد والأخرى للتقريب وهي البوصلة والجبر.
أصل الإسبان
وأعلم أنه لا خلاف في أن الإسبانيين من ولد يافث بن نوح عليه‌السلام. وإنما الخلاف في كونهم من ولد يافث لصلبه أو من ولد حفيده وهل هم إخوة الفرنج أو من الروم. فقال الحافظ أبو راس في عجائب الأسفار ، والإسبانيون هؤلاء من الليطنيين (1) وهم الكتيم وكانوا من أعظم ملوك العالم. وقال أيضا في
__________________
(1) يقصد اللاتينيين.


الشماريخ والليطنيون من ولد ليطن بن يونان. وقال في موضع آخر منه أن الليطنّيين وهم الكتيم المعروفون بالروم من بني يونان. وقال في موضع آخر أيضا منه والمحققون ينسبون الروم جميعا إلى يونان الإغريقيين ، والليطنيين. ويونان معدود في التورية من ولد يافث لصلبه واسمه فيها ياقمان. وعن البيهقي أن يونان ابن علجان بن يافث ولذا يقال لهم العلوج وأن الشعوب الثلاثة وهم الإغريقيون والليطنيون والعلوج من يونان ، والليطنيون من ولد ليطن بن يونان كما مرّ وأن الإسكندري الرومي منهم ه. وفي الإصحاح العاشر من التورية / أن الليطنيين (ص 147) وهم الكتّيم من ولد كتّيم بن يونان بن يافث بن نوح. قال شيخنا الزياني في دليل الحيران فأنت ترى أنهم من ولد يافث بلا خلاف وإنما الخلاف في وجه اتصالهم به على ثلاثة أقوال ومرجعها إلى قولين وهما كون يونان ولد يافث لصلبه أو حفيده. والصحيح أنه حفيده ، لأن يافث له اثنا عشر ولدا على الصحيح وهم : كومر ، وياوان ، وماغوغ ، وطوبال ، وماسخ وطيراش ، وماذاي ، وشئويل ، وعلجان ، وأندس ، وست ، وسوس ، وأن الإسبانيين أخوة الفرنج وهم الفرنسيس ، والطليان ، والبرتقال ، لاشتراكهم في اللتانة والكتوليكية وهي اتباعهم للبطرك وهو الباب وضربهم للناقوس واعتكافهم على الأصنام في البيع.
وقال الحافظ أبو راس في عجائب الأخبار ، لا شك أنهم فرقة من الروم لا من الفرنج بدليل ما ذكره شهاب الدين الخفاجي على الشفا من أن كتاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي كتبه إلى هرقل عظيم الروم يقال له بالرومية أراقليوش يدعوه للإسلام هو الآن عند ملك طليطلة. وقد أراه لابن الصائغ النحوي لما أوفده عليه سلطان مصر قلاوون ، ثم قال أيضا وقد سمعت أنه عند النامسة (1) المجاورين للموسك ه. ومعلوم أن الإسبانيين هم الذين أخذوا منا طليطلة. وفي الأنيس المطرب أن الناصر بن المنصور لما غزى (كذا) الأندلس بجيش يضيق عنه الفضاء وسمع الفنش (الفونسو) وملوك النصارى بذلك واهتزمت منه ملوك الروم جاءه منهم بيونة لإشبيلية مستسلما خاضعا بهدية عظيمة مقدما بين يديه كتاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي كتبه لهرقل عظيم الروم يستشفع به ويعلمه أن الملك عنده
__________________
(1) يقصد النمسا.


موروث لأكابر عن أكابر وأن هذا الكتاب عندهم يتوارثونه محفوظا مطيبا في حلة خضراء في وسط صندوق من ذهب مملوء مسكا وطيبا تعظيما وإجلالا لحقه ، فقضى له أمير المؤمنين مآربه وذلك سنة سبع وستمائة ه (1). والروم هم بنوا الأصفر وسمّوا بذلك إما لكون جدهم اسمه الأصفر أو لأنه كان أصفر اللون أو لأنه كان بخديه خاصة صفورة ، أقوال ثلاثة. وكان اجتماع الإسبانيين على ملك واحد سنة ثمان وثمانين وثمانمائة من الهجرة (2).
قائمة ملوك الإسبان
وأول ملوكهم المجتمعة عليه تلك السنة فردنند وزوجته إيزابيلة مشتركين (ص 148) في المملكة / وبقي في الملك خمسا وثلاثين سنة وخلع. ولما استقر في الملك غزى (كذا) غراطة في رجب سنة خمس وتسعين من التاسع (3) وبها سلطانها أبو عبد الله محمد حسن فنزل بمرجها وأفسد زرعها ورجع ثم جهز لها جيشا عظيما في ثاني عشر جمادى الثانية ست وتسعين منه (4) فنزل بمرجها أيضا وحاصرها وضيق عليها إلى أن أخذها صلحا على سبعة وستين شرطا وقعت بينه وبين أهلها منها : أن يكون التأمين بجملة الناس ، وأن يكون بقاؤهم في أماكنهم ، وأن يقيموا (كذا) شريعتهم كما كانت ، وأن لا يتعرضوا لها بتغيير ولا استثناء أمور ، وأن تبقى المساجد على حالها ، وأن تبقى الأوقاف على حالها ، وأن تكون الحرية لجميع المسلمين مؤبدة ، وأن لا يدخل نصراني دار مسلم ، وأن لا يغصبوا أحدا ، وأن لا يتولى على المسلمين يهودي ولا نصراني ، وأن يطلقوا جميع أسارى غرناطة ، وأن من هرب من أسارى غيرها لها لا يرد لمالكه بل يأخذ ثمنه من عند السلطان ، وأن من أراد الانتقال لا يمنع ، وأن الذهاب يكون في مدة معينة في مراكب السلطان بلا كراء ، ومن زاول الأجل فيلزمه الكراء مع تعشير ماله ، وأن لا يؤخذ أحد بذنب غيره ، وأنّ من أسلم من النصارى لا يلزم
__________________
(1) الموافق 1210 ـ 1211 م.
(2) الموافق 1483 ـ 1484 م.
(3) الموافق 1489 ـ 1490 م.
(4) الموافق ماي جوان 1490 م.


بالرجوع لذلك الدين ، وأنّ من تنصّر من المسلمين يوقف حتى يظهر حاله ، وأنه لا عقاب على من قتل نصرانيا أيام الحرب ، وأن لا يؤخذ منه ما سلبه منهم أيام العداوة ، وأن لا يكلف المسلم بضيافة أجناد النصارى ، وأنهم لا يزيدون في المقام على العتاد ، وأن ترفع عن المسلمين جميع المظالم ، وأن ترفع عنهم جميع المغارم ، وأن لا يطلع النصراني للسور ، وأن لا يتطلع على دور المسلمين ، وأن لا يستطلع على عوراتهم ، وأن لا يدخل لمساجدهم ، وأن يسير المسلم في بلاد النصارى آمنا من كل شيء ، وأن لا يجعل المسلم علامة كما يجعلها اليهودي ، وأن لا يمنع المؤذن من الأذان ، وأن لا يمنع المصلي من الصلاة ، وأن لا يمنع الصائم من الصيام ، وأن لا يمنع الحاج من الحج ، وأن لا يمنعوا المسلمين من إقامة المواسم ، وأن لا يتعرضوا لهم في النكاح وغيره ، وأنّ من ضحك من النصارى على المسلمين يعاقب ، وأن لا يحجروا عليهم في مقابرهم ، وأن يوافق على كل شرط من الشروط صاحب رومة ، وأن تكون موافقته بخط يده ، وخاتمه معا ، إلى غير ذلك من بقية الشروط. ودخل أهل البشرات في ذلك وكان / دخوله لها في ربيع الأول سنة سبع وتسعين منه (1) وذهب سلطان (ص 149) غرناطة لفاس بأن خرج على مليلية فاستقر به إلى أن مات وذهب عمه أبو عبد الله محمد الزغلي صاحب إش (كذا) للمغرب الأوسط فخرج على وهران ونزل بتلمسان واستقر بها إلى أن مات وكان خروجها في آخر شوال تلك السنة وصفت الأندلس بأجمعها للنصارى ولا حول ولا قوة إلّا بالله. فكان أول ما أخذوا لنا مدينة طليطلة سنة ثمان وتسعين من الخامس أخذها اذفونش بن فراند بن هراند صلحا من يد الأمير الظاهر من ولد إسماعيل بن عبد الرحمن ناصر الدولة الهواري. وآخر ما أخذوا لنا مدينة غرناطة سنة سبع وتسعين من التاسع وإنا لله وإنّا إليه راجعون. وإلى ذلك أشار الحافظ أبو راس في سينيته بقوله :
طليطلة هي باكورة فتحهم
 

من الهواري رجعت لأذفنس
 
ءاخر ذلك غرناطة حلّ بها
 

ما لقت شقرة من الويل والركس
 
من بعد عزّ بني نصر ومواقها
 

طاغية ينظرهم نظر الشوس
 
__________________
(1) الموافق جانفي 1492 م.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مشاركة مميزة

بناء شخصية  الأطفال   ...