الخميس، 8 مارس 2018

كتاب التاريخ والجغرافيا :  للمؤلف عبد زكرياء بن محمّد بن محمود القزويني بعنوان  -  اثار البلاد واخبار العباد ( الجزء الرابع من الكتابة )

وينسب إليها عمرو بن عبيد. كان عالما زاهدا ورعا. كان بينه وبين السفّاح والمنصور قبل خلافتهما معرفة ، وكانوا خائفين متواترين ، وعمرو بن عبيد يعاودهما في قضاء حاجتهما. فلمّا صارت الخلافة إلى المنصور عصى عليه أهل البصرة ، فجاء بنفسه بخراب البصرة. أهل البصرة تعلّقوا بعمرو بن عبيد وسألوه أن يشفع لهم ، فركب حمارا وعليه نعلان من الخوص ، وذهب إلى المنصور ، فلمّا رآه أكرمه وقبل شفاعته وسأله أن يقبل منه مالا ، فأبى قبول المال ، فألحّ عليه المنصور فأبى ، فحلف المنصور أن يقبله فحلف هو أن لا يقبله ، وكان المهدي ابن المنصور حاضرا فقال : يا عمّ أيحلف الخليفة وتحلف أنت؟ فقال : نعم للخليفة ما يكفّر به يمينه وليس لعمّك ما يكفر به يمينه! وقام من عنده وخرج والمنصور يقول : كلّكم يمشي رويد ، كلّكم يطلب صيد ، غير عمرو بن عبيد!
وحكي أن رجلا قال له : فلان لم يزل يذكرك بالسوء! فقال : والله ما راعيت حقّ مجالسته حين نقلت إلي حديثه ، ولا راعيت حقّي حين بلغتني عن أخي ما أكرهه! اعلم أن الموت يعمّنا والبعث يحشرنا والقيامة تجمعنا ، والله يحكم بيننا! وحكي أنّه مرّ على قوم وقوف قال : ما وقوفكم؟ قالوا : السلطان يقطع يد سارق! قال : سارق العلانية يقطع يد سارق السرّ.
وينسب إليها القاضي أبو بكر بن الطيب الباقلاني. كان إماما عالما فاضلا.
ولمّا سمع الشيخ أبو القاسم بن برهان كلام القاضي أبي بكر ومناظرته قال :ما سمعت كلام أحد من الفقهاء والخطباء والبلغاء مثل هذا. وتعجّب من فصاحته وبلاغته وحسن تقريره. وزعم بعضهم أنّه هو المبعوث على رأس المائة الرابعة لتجديد أمر الدين ، وله تصانيف كثيرة ، وكان مشهورا بوفور العلم وحسن الجواب ؛ حضر بعض محافل النظر وكان أشعريّ الاعتقاد ، فقال ابن المعلم :قد جاء الشيطان! وابن المعلم كان شيخ الشيعة فسمع القاضي أبو بكر ما قاله فقال :ألم تر أنّا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزّهم أزّا؟وحكي أن عضد الدولة أراد أن يبعث رسولا إلى الروم وقال : ان النصارى

يسألون ويناظرون فمن يصلح؟ قالوا : ليس لهم مثل القاضي أبي بكر ، فإنّه يناظرهم ويغلبهم في كلّ ما يقولونه. فبعثه إلى قيصر الروم ، فلمّا أراد الدخول عليه علم الرومي انّه لا يخدم كما هي عادة الرسل ، فاتّخذ الباب الذي يدخل منه إلى قيصر بابا قصيرا ، من أراد دخوله ينحني ، فلمّا وصل القاضي إلى ذلك عرف الحال فأدار ظهره إلى الباب ، ودخل راكعا ظهره إلى الباب ، فتعجّب قيصر من فطنته ووقع في نفسه هيبته.
فلمّا أدّى الرسالة رأى عنده بعض الرهابين فقال له القاضي مستهزئا :كيف أنت وكيف الأولاد؟ فقال له قيصر : إنّك لسان الأمّة ومقدم علماء هذه الملّلة! أما علمت أن هؤلاء متنزّهون عن الأهل والولد؟ فقال القاضي :إنّكم لا تنزّهون الله عن الأهل والولد وتنزّهون هؤلاء ، فهؤلاء أجلّ عندكم من الله تعالى! وقال بعض طاغية الروم للقاضي : اخبرني عن زوجة نبيّكم عائشة وما قيل فيها. قال القاضي : قيل في حقّ عائشة ما قيل في حقّ مريم بنت عمران ، وعائشة ما ولدت ومريم ولدت ، وقد برّأ الله تعالى كلّ واحدة منهما!
وحكى بعض الصالحين : انّه لمّا توفي القاضي أبو بكر رأيت في منامي جمعا عليهم ثياب بيض ، ولهم وجوه حسنة وروائح طيّبة ، قلت لهم : من أين جئتم؟ قالوا : من زيارة القاضي أبي بكر الأشعري. قلت : ما فعل الله به؟قالوا : غفر الله له ورفع درجته. فمشيت إليه فرأيته وعليه ثياب حسنة في روضة خضرة نضرة ، فهممت أن أسأله عن حاله فسمعته يقرأ بصوت عال : هاؤم اقرأوا كتابيه. اني ظننت اني ملاق حسابيه. فهو في عيشة راضية. في جنّة عالية.
بغداد
أمّ الدنيا وسيّدة البلاد وجنّة الأرض ومدينة السلام ، وقبّة الإسلام ومجمع الرافدين ، ومعدن الظرائف ومنشأ أرباب الغايات ، هواؤها ألطف من كلّ هواء ، وماؤها أعذب من كلّ ماء ، وتربتها أطيب من كلّ تربة ، ونسيمها

أرقّ من كلّ نسيم!
بناها المنصور أبو جعفر عبد الله بن محمّد بن عليّ بن عبد الله بن عبّاس ، ولمّا أراد المنصور بناء مدينة بعث روّادا يرتاد موضعا ، قال له : أرى يا أمير المؤمنين أن تبنى على شاطىء دجلة ، تجلب إليها الميرة والأمتعة من البرّ والبحر ، وتأتيها المادة من دجلة والفرات ، وتحمل إليها ظرائف الهند والصين ، وتأتيها ميرة أرمينية وآذربيجان وديار بكر وربيعة ، لا يحمل الجند الكثير إلّا مثل هذا الموضع. فأعجب المنصور قوله وأمر المنجّمين ، وفيهم نوبخت ، باختيار وقت للبناء فاختاروا طالع القوس الدرجة التي كانت الشمس فيها ، فاتّفقوا على أن هذا الطالع ممّا يدلّ على كثرة العمارة وطول البقاء ، واجتماع الناس فيها وسلامتهم عن الأعداء. فاستحسن المنصور ذلك ثمّ قال نوبخت : وخلّة أخرى يا أمير المؤمنين. قال : وما هي؟ قال : لا يتّفق بها موت خليفة! فتبسّم المنصور وقال :الحمد لله على ذلك. وكان كما قال ، فإن المنصور مات حاجّا ، والمهدي مات بماسبذان ، والهادي بعيساباد ، والرشيد بطوس ، والأمين أخذ في شبارته وقتل بالجانب الشرقي ، والمأمون بطرسوس ، والمعتصم والواثق والمتوكّل والمستنصر بسامرّا. ثمّ انتقل الخلفاء إلى التاج وتعطّلت مدينة المنصور من الخلفاء ؛ قال عمارة بن عقيل :
أعاينت في طول من الأرض أو عرض
 

كبغداد من دار بها مسكن الخفض؟
 
صفا العيش في بغداد واخضرّ عوده
 

وعيش سواها غير خفض ولا غض
 
قضى ربّها أن لا يموت خليفة
 

بها ، إنّه ما شاء في خلقه يقضي
 
ذكر أبو بكر الخطيب أن المنصور بنى مدينة بالجانب الغربي ، ووضع اللبنة الأولى بيده ، وجعل داره وجامعها في وسطها ، وبنى فيها قبّة فوق ايوان كان علوها ثمانين ذراعا. والقبّة خضراء على رأسها تمثال فارس بيده رمح ، فإذا رأوا ذلك التمثال استقبل بعض الجهات ومدّ رمحه نحوها ، فعلموا أن بعض الخوارج

يظهر من تلك الجهة ، فلا يطول الوقت حتى يأتي الخبر ان خارجيّا ظهر من تلك الجهة. وقد سقط رأس هذه القبّة سنة تسع وعشرين وثلاثمائة في يوم مطير ريّح ، وكانت تلك القبّة علم بغداد وتاج البلد ، ومأثرة بني العبّاس.
وكان بجانبها الشرقي محلّة تسمّى باب الطاق ، كان بها سوق الطير فاعتقدوا ان من تعسّر عليه شيء من الأمور فاشترى طيرا من باب الطاق وأرسله ، سهل عليه ذلك الأمر. وكان عبد الله بن طاهر طال مقامه ببغداد ، ولم يحصل له اذن الخليفة ، فاجتاز يوما بباب الطاق فرأى قمرية تنوح ، فأمر بشرائها واطلاقها ، فامتنع صاحبها أن يبيعها إلّا بخمسمائة درهم ، فاشتراها وأطلقها وأنشأ يقول :
ناحت مطوّقة بباب الطّاق
 

فجرت سوابق دمعي المهراق
 
كانت تغرّد بالأراك وربّما
 

كانت تغرّد في فروع السّاق
 
فرمى الفراق بها العراق فأصبحت
 

بعد الأراك تنوح في الأشواق
 
فجعت بإفراج فأسبل دمعها
 

إنّ الدّموع تبوح بالمشتاق
 
تعس الفراق وتبّ حبل وتينه
 

وسقاه من سمّ الأساود ساقي
 
ماذا أراد بقصده قمريّة
 

لم تدر ما بغداد في الآفاق
 
بي مثل ما بك يا حمامة فاسألي
 

من فكّ أسرك أن يحلّ وثاقي!
 
هذه صفة المدينة الغربيّة ، والآن لم يبق منها أثر. وبغداد عبارة عن المدينة الشرقيّة. كان أصلها قصر جعفر بن يحيى البرمكي ، والآن هي مدينة عظيمة كثيرة الأهل والخيرات والثمرات. تجبى إليها لطائف الدنيا وظرائف العالم إذ ما من متاع ثمين ولا عرض نفيس إلّا ويحمل إليها ، فهي مجمع لطيبات الدنيا ومحاسنها ، ومعدن لأرباب الغايات وآحاد الدهر في كلّ علم وصنعة.
وبها حريم الخلافة ، وعليه سور ابتداؤه من دجلة وانتهاؤه إلى دجلة كشبه الهلال ، وله أبواب : باب سوق التمر باب شاهق البناء عال ، أغلق من أوّل أيّام

الناصر واستمرّ إغلاقه. ذكر أن المسترشد خرج منه فأصابه ما أصابه فتطيّروا به وأغلقوه. وباب النوبي وعنده العتبة التي يقبّلها الملوك والرسل إذا قدموا بغداد.
وباب العامة وعليه باب عظيم من الحديد نقله المعتصم من عمورية لم ير مصراعان أكبر منهما من الحديد.
ومن عجائبها دار الشجرة من أبنية المقتدر بالله ، دار فيحاء ذات بساتين مؤنقة ، وإنّما سمّيت بذلك لشجرة كانت هناك من الذهب والفضّة في وسط بركة كبيرة أمام أبوابها ، ولها من الذهب والفضّة ثمانية عشر غصنا ، ولكلّ غصن فروع كثيرة مكلّلة بأنواع الجواهر على شكل الثمار. وعلى أغصانها أنواع الطير من الذهب والفضّة ، إذا هبّ الهواء سمعت منها الهدير والصفير.
وفي جانب الدار عن يمين البركة تمثال خمسة عشر فارسا ، ومثله عن يسار البركة ، قد ألبسوا أنواع الحرير المدبّج مقلّدين بالسيوف ، وفي أيديهم المطارد يحركون على خطّ واحد ، فيظنّ أن كلّ واحد قاصد إلى صاحبه.
ومن مفاخرها المدرسة التي أنشأها المستنصر بالله. لم يبن مثلها قبلها في حسن عمارتها ورفعة بنائها ، وطيب موضعها على شاطىء دجلة وأحد جوانبها في الماء.
لم يعرف موضع أكثر منها أوقافا ولا أرفه منها سكّانا. وعلى باب المدرسة ايوان ركب في صدره صندوق الساعات على وضع عجيب ، يعرف منه أوقات الصلوات وانقضاء الساعات الزمانية نهارا وليلا ؛ قال أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي :
يا أيّها المنصور يا مالكا
 

برأيه صعب اللّيالي يهون!
 
شيّدت لله ورضوانه
 

أشرف بنيان يروق العيون
 
إيوان حسن وصفه مدهش
 

يحار في منظره النّاظرون!
 
تهدي إلى الطّاعات ساعاته
 

النّاس ، وبالنّجم هم يهتدون
 
صوّر فيه فلك دائر
 

والشّمس تجري ما لها من سكون
 
دائرة من لازورد حلت
 

نقطة تبر فيه سرّ مصون
 



فتلك في الشّكل وهذا معا
 

كمثل هاء ركّبت وسط نون
 
فهي لإحياء العلى والنّدى
 

دائرة مركزها العالمون
 
وأمّا أولو الفضل من العلماء والزهّاد والعبّاد والأدباء والشعراء والصنّاع فلا يعلم عددهم إلّا الله. ولنذكر بعض مشاهيرها إن شاء الله.
ينسب إليها القاضي أبو يوسف. ذكر أنّه كان رآه رجل يهودي وقت الظهيرة يمشي راكبا على بغلة ، واليهودي يمشي راجلا جائعا ضعيفا ، فقال للقاضي :أليس نبيّكم يقول الدنيا سجن المؤمن وجنّة الكافر؟ قال : نعم. قال : فأنت في السجن وأنا في الجنّة والحالة هذه! فقال القاضي : نعم يا عدوّ الله ، بالنسبة إلى ما أعد الله لي من الكرامة في الآخرة في السجن ، وأنت بالنسبة إلى ما أعدّ الله لك في الآخرة من العذاب في الجنّة!
وحكي أن الهادي الخليفة اشترى جارية فاستفتى فقال الفقهاء : لا بدّ من الاستبراء أو الاعتاق والتزويج. فقال القاضي أبو يوسف : زوّجها من بعض أصحابك وهو يطلّقها قبل الدخول وحلّت لك.
وحكي أن الرشيد قال لزبيدة : أنت طالق ثلاثا إن بتّ الليلة في مملكتي! فاستفتوا في ذلك فقال أبو يوسف : تبيت في بعض المساجد فإن المساجد لله! فولّاه القضاء بجميع مملكته.
وحكي أن زبيدة قالت للرشيد : أنت من أهل النار. فقال لها : إن كنت من أهل النار فأنت طالق ثلاثا! فسألوا عنه فقال : هل يخاف مقام ربّه؟قالوا : نعم. قال : فلا يقع الطلاق لأن الله تعالى يقول : ولمن خاف مقام ربّه جنّتان.
وينسب إليها القاضي يحيى بن أكثم. كان فاضلا غزير العلم ذكي الطبع ، لطيفا حسن الصورة حلو الكلام ، كان المأمون يرى له لا يفارقه ، ويضرب به المثل في الذكاء. ولي القضاء وهو ابن سبع عشرة سنة فقال بعض الحاضرين في مجلس

الخليفة : أصلح الله القاضي! كم يكون سنّ عمره؟ فعلم يحيى انّه قصد بذلك استحقاره لقلّة سنه ، فقال : سنّ عمري مثل سنّ عمر بن عتّاب بن أسيد حين ولّاه رسول الله ، عليه السلام ، قضاء مكّة! فتعجّب الحاضرون من جوابه.
وحكي انّه كان ناظر الوقوف ببغداد فوقف العميان له وقالوا : يا أبا سعيد اعطنا حقّنا! فأمر بحبسهم ، فقيل له : لم حبست العميان وقد طلبوا حقّهم؟ فقال : هؤلاء يستحقّون ابلغ من ذلك ، إنّهم شبّهوني بأبي سعيد اللوطي من مدينة كذا! وكان هذا قصدهم فما فات القاضي ذلك.
وحكي انّه اجتاز بجمع من مماليك الخليفة صبيانا حسانا فقال لهم : لولا أنتم لكنّا مؤمنين. فعرف المأمون ذلك فأمر أن يذهب كلّ يوم إلى باب داره أربعمائة مملوك حسن الصورة ، حتى إذا ركب يمشون في خدمته إلى دار الخلافة ركابا.
وينسب إليها أبو عبد الله أحمد بن محمّد بن حنبل. كان أصله من مرو وجيء به حملا إلى بغداد فنشأ بها. فلمّا كان أيّام المعتصم وقع في محنة المعتزلة ، جمع المعتصم بينه وبين المعتزلة وكبيرهم القاضي أبو داود. قالوا : ان القرآن مخلوق! قال لهم أحمد : ما الدليل على ذلك؟ قالوا : قوله تعالى : وما يأتيهم من ذكر من ربّهم محدث. فقال لهم أحمد : المراد من الذكر ههنا الذكر عند قوله تعالى : ص والقرآن ذي الذكر. فالذكر مضاف إلى القرآن فيكون غير القرآن ، وههنا مطلق وفي ص مقيّد ، فيجب حمل المطلّق على المقيّد. فانقطعت حجّتهم ، فقال المعتصم لأبي داود : ما تقول في هذا؟ فقال القاضي : هذا ضالّ مضلّ يجب تأديبه!
وعن ميمون بن الإصبع قال : كنت حاضرا عند محنة أحمد ، فلمّا ضرب سوطا قال : بسم الله ، فلمّا ضرب الثاني قال : لا حول ولا قوّة إلّا بالله ؛ فلمّا ضرب الثالث قال : القرآن كلام الله غير مخلوق ، فلمّا ضرب الرابع قال :

لا يصيبنا إلّا ما كتب الله لنا!
وعن محمّد بن إسماعيل قال : سمعت شابّا يقول : ضربت لأحمد ثمانين سوطا لو ضربت فيلا لهدته فجرى دمه تحت الخشب! ثمّ أمر بحبسه فانتشر ذكر ذلك واستقبح من الخليفة ، وورد كتاب المأمون من طرسوس يأمر بإشخاص أحمد. فدعا المعتصم عند ذلك أحمد وقال للناس : أتعرفون هذا الرجل؟ قالوا :نعم هو أحمد بن حنبل. قال : انظروا إليه ما به كسر ولا هشم. وسلّمه إليهم.
وحكى صالح بن أحمد قال : دخلت على أبي وبين يديه كتاب كتب إليه :بلغني أبا عبد الله ما أنت فيه من الضيق ، وما عليك من الدين ، وقد بعثت إليك أربعة آلاف درهم على يد فلان ، لا من زكاة ولا من صدقة وإنّما هي من إرث أبي! فقال أحمد : قل لصاحب هذا الكتاب : أمّا الدين فصاحبه لا يرهقنا ونحن نعافيه ، والعيال في نعمة من الله. قال : فذهبت إلى الرجل وقلت له ما قال أبي ، والله يعلم ما نحن فيه من الضيق. فلمّا مضت سنة قال : لو قبلناها لذهبت!
وحكى أحمد بن حرار قال : كانت أمّي زمنة عشرين سنة فقالت لي يوما :اذهب إلى أحمد بن حنبل وسله أن يدعو الله لي. فذهبت ودققت الباب فقالوا :من؟ قلت : رجل من ذاك الجانب ، وسألتني أمّي الزمنة ان أسألك أن تدعو الله لها. فسمعت قائلا يقول : نحن أحوج إلى من يدعو الله لنا! فوليت منصرفا فخرجت عجوز من داره وقالت : أنت الذي كلّمت أبا عبد الله؟قلت : نعم. قالت : تركته يدعو الله لها. فجئت إلى بيتي ودققت الباب ، فخرجت أمّي على رجليها تمشي وقالت : قد وهب الله لي العافية.
وذكروا أن أحمد بن حنبل جعله المعتصم في حلّ يوم قتل بابك الخرّمي أو يوم فتح عمورية. وتوفي أحمد سنة إحدى وأربعين ومائتين عن تسع وسبعين سنة.
وحكى أبو بكر المروزي قال : رأيت أحمد بن حنبل بعد موته في المنام في روضة ، وعليه حلّتان خضراوان وعلى رأسه تاج من نور ، وهو يمشي مشيا

لم أكن أعرفه. فقلت : يا أحمد ما هذه المشية؟ قال : هذه مشية الخدام في دار السلام! فقلت : ما هذا التاج الذي أراه فوق رأسك؟ فقال : ان ربّي أوقفني وحاسبني حسابا يسيرا ، وحباني وقربني وأباحني النظر وتوّجني بهذا التاج ، وقال لي : يا أحمد هذا تاج الوقار توجتك به كما قلت القرآن كلامي غير مخلوق.
وينسب إليها أبو عليّ الحسين بن صالح بن خيران. كان عالما شافعيّ المذهب جامعا بين العلم والعمل والورع. طلبه عليّ بن عيسى وزير المقتدر لتوليته القضاء ، فأبى وهرب فختم بابه بضعة عشر يوما ، قال أبو عبد الله بن الحسن العسكري : كنت صغيرا وعبرت مع أبي على باب أبي علي بن خيران ، وقد وكل به الوزير عليّ بن عيسى ، وشاهدت الموكّلين على بابه فقال لي أبي : يا بني ابصر هذا حتى تتحدّث إن عشت أنّ إنسانا فعل به هذا فامتنع عن القضاء. ثمّ إن الوزير عفا عنه وقال : ما أردنا بالشيخ أبي عليّ إلّا خيرا ، وأردنا أن نعلم الناس أن في ملكنا رجلا يعرض عليه قضاء الشرق والغرب وهو لا يقبل. توفي ابن خيران في حدود عشرين وثلاثمائة.
وينسب إليها أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي. كان عالما بعلم التفسير والحديث والفقه والأدب والوعظ ، وله تصانيف كثيرة في فنون العلوم. وكان أيضا ظريفا سئل وهو على المنبر : أبو بكر أفضل أم عليّ؟فقال : الذي كانت ابنته تحته! فقالت السّنّيّة : فضّل أبا بكر! وقالت الشيعة :فضّل عليّا! وكانت له جارية حظية عنده فمرضت مرضا شديدا فقال وهو على المنبر : يا إلهي يا إلهي ما لنا شيء إلّا هي ، قد رمتني بالدواهي والدواهي والدواهي :ونقل أنّهم كتبوا على رقعة إليه وهو على المنبر : إن ههنا امرأة بها داء الابنة والعياذ بالله تعالى فماذا تصنع بها؟ فقال :
يقولون ليلى في العراق مريضة
 

فيا ليتني كنت الطّبيب المداويا
 
توفي سنة سبع وتسعين وخمسمائة.

وينسب إليها الوزير عليّ بن عيسى وزير المقتدر ووزير ابنه المطيع. ركب يوم الموسم كما كان الوزراء يركبون في موكب عظيم ، فرآه جمع من الغرباء قالوا : من هذا؟ وكانت امرأة عجوز تمشي على الطريق قالت : كم تقولون من هذا؟ هذا واحد سقط من عين الله تعالى ، فابتلاه الله بهذا كما ترونه! فسمع هذا القول عليّ بن عيسى ، فرجع إلى بيته واستعفى من الوزارة وجاور مكّة إلى أن مات.
وينسب إليها أبو نصر بشر بن الحرث الحافي. ذكر أيّوب العطّار انّه قال له بشر : ألا أحدّثك عن بدو أمري؟ بينا أنا أمشي إذ رأيت قرطاسا على وجه الأرض عليه اسم الله تعالى ، فأخذته وكنت لا أملك إلّا درهما واحدا اشتريت به الماورد والمسك ، غسلت القرطاس بالماورد وطيّبته بالمسك ثمّ رجعت إلى منزلي ونمت ، فأتاني آت يقول : طيّبت اسمي لأطيّبنّ ذكرك وطهرته لأطهّرنّ قلبك!
وحكت زبيدة أخت بشر أن بشرا دخل عليّ ليلة من الليالي ، فوضع إحدى رجليه داخل الدار والأخرى خارجها وهو كذلك إلى أن أصبح ، فقلت له : في ماذا كنت تفكّر؟ قال : في بشر اليهودي وبشر النصراني وبشر المجوسي! ونفسي ما الذي سبق مني حتى خصّني الله تعالى دونهم؟ فتفكّرت في تفضيله وحمدته على أن جعلني من خاصّته وألبسني لباس أحبّائه.
وحكي أن بشرا الحافي دعي إلى دعوة ، فلمّا وضع الطعام بين يديه أراد أن يمدّ يده إليه فما امتدّت حتى فعل ذلك ثلاث مرّات فقال بعض الحاضرين الذي كان يعرف بشرا : ما كان لصاحب الدعوة حاجة إلى إحضار من أظهر أن طعامه ذو شبهة.
وحكي أن أحمد بن حنبل سئل عن مسألة في الورع فقال : لا يحلّ لي أن أتكلّم في الورع وأنا آكل من غلّة بغداد! لو كان بشر بن الحرث حاضرا لأجابك فإنّه لا يأكل من غلّة بغداد ولا من طعام السواد! توفي سنة تسع وعشرين

ومائتين عن خمس وسبعين سنة.
وحكى الحسن بن مروان قال : رأيت بشرا الحافي في المنام بعد موته فقلت له :أبا نصر ما فعل الله بك؟ فقال : غفر لي ولكلّ من تبع جنازتي! وكانت جنازته قد رفعت أوّل النهار ، فما وصل إلى القبر إلّا وقت العشاء لكثرة الخلق. وقال لي خزيمة : رأيت أحمد بن حنبل في المنام فقلت له : ما فعل الله بك؟ قال : غفر لي وتوّجني وألبسني نعلين من ذهب! قلت : فما فعل الله ببشر؟ قال :بخ بخ! من مثل بشر تركته بين يدي الخليل وبين يديه مائدة الطعام ، والخليل مقبل عليه وهو يقول له : كل يا من لم يأكل ، واشرب يا من لم يشرب ، وانعم يا من لم ينعم! وقال غيره : رأيت بشرا الحافي في المنام فقلت : ما فعل الله بك؟ قال : غفر لي وقال يا بشر أما استجبت مني وكنت تخافني كلّ ذلك الخوف؟ ورآه غيره فقال له : ما فعل الله بك؟ فقال : قال لي يا بشر لقد توفيتك يوم توفيتك وما على وجه الأرض أحبّ إليّ منك!
وينسب إليها أبو عبد الله الحرث بن أسد المحاسبي. كان عديم النظير في زمانه علما وورعا وحالا. كان يقول : ثلاثة أشياء عزيزة : حسن الوجه مع الصيانة ، وحسن الخلق مع الديانة ، وحسن الإجابة مع الأمانة ، مات أبوه أسد المحاسبي وخلّف من المال ألوفا ما أخذ الحرث منه حبّة ، وكان محتاجا إلى دانق ، وذاك لأن أباه كان رافضيّا. فقال الحرث : أهل ملّتين لا يتوارثان!
وحكى الجنيد : ان المحاسبي اجتاز بي يوما فرأيت أثر الجوع في وجهه ، فقلت : يا عمّ لو دخلت علينا ساعة! فدخل فعمدت إلى بيت عمّي ، وكان عندهم أطعمة فاخرة ، فجئت بأنواع من الطعام ووضعته بين يديه. فمدّ يده وأخذ لقمة رفعها إلى فيه يلوكها ولا يزدردها ، ثمّ قام سريعا ورمى اللقمة في الدهليز وخرج ما كلّمني. فلمّا كان الغد قلت : يا عمّ سررتني ثمّ نغّصت عليّ! فقال : يا بنيّ أمّا الفاقة فكانت شديدة ، وقد اجتهدت أن أنال من الطعام الذي جعلته بين يديّ. ولكن بيني وبين الله علامة ، وهي أن الطعام إذا لم يكن

مرضيا يرتفع منه إلى أنفي زفر لا تقبله نفسي! توفي سنة ثلاث وأربعين ومائتين.
وينسب إليها أبو الحسن السري بن المغلّس السّقطي خال أبي القاسم الجنيد وأستاذه وتلميذ معروف الكرخي. دعا له أستاذه معروف وقال له : أغنى الله قلبك! فوضع الله تعالى فيه الزهد. وقيل : ان امرأة اجتازت بالسري ومعها ظرف فيه شيء فسقط من يدها وانكسر ، فأخذ السريّ شيئا من دكانه وأعطاها بدل ما ضاع عليها ، فرأى معروف ذلك فأعجبه وقال له : ابغض الله إليك الدنيا! فتركها وتزهّد كما دعا له.
وحكي أن امرأة جاءت إلى السري وقالت : يا أبا الحسن ، أنا من جيرانك ، وإن ابني أخذه الطائف ، واني أخشى أن يؤذيه ، فإن رأيت أن تجيء معي أو تبعث إليه أحدا. فقام يصلّي وطوّل صلاته فقالت المرأة : أبا الحسن ، الله الله في ولدي! إني أخشى أن يؤذيه السلطان! فسلّم وقال لها : أنا في حاجتك. فما برحت حتى جاءت امرأة وقالت لها : لك البشرى فقد خلّوا عن ابنك!
حكى الجنيد قال : دخلت على السري فإذا هو قاعد يبكي وبين يديه كوز مكسور ، قلت : ما سبب البكاء؟ قال : كنت صائما فجاءت ابنتي بكوز ماء فعلّقته حتى يبرد فأفطر عليه ، فأخذتني عيني فنمت فرأيت جارية دخلت عليّ من هذا الباب في غاية الحسن ، فقلت لها : لمن أنت؟ قالت : لمن لا يبرّد الماء في الكيزان الخضر! وضربت بكمّها الكوز ومرّت وهو هذا. قال الجنيد : فمكثت اختلفت إليه مدّة طويلة أرى الكوز المكسور بين يديه.
وحكي أن السري كلّ ليلة إذا أفطر ترك لقمة ، فإذا أصبح جاءت عصفورة وأكلت تلك اللقمة من يده. فجاءت العصفورة في بعض الأيّام ووقعت على شيء من جدار حجرته ثمّ طارت وما أكلت اللقمة ، فحزن الشيخ لذلك وقال : بذنب مني نفرت العصفورة ، حتى تذكّر انّه اشتهى الخبز بالقديد فأكل ، فعلم ان انقطاع العصفورة بسبب ذلك ، فعهد أن لا يتناول أبدا شيئا من الادام فعادت العصفورة.

وحكي انّه اشترى كرّ لوز بستّين دينارا ، وكتب في دستوره ثلاثة دنانير ربحه ، فارتفع الربح وصار اللوز بتسعين دينارا. فأتاه الدلال وأخبره انّه بتسعين دينارا فقال : اني عقدت عقدا بيني وبين الله تعالى اني أبيعه بثلاثة وستّين لأجله لست أبيعه بأكثر من ذلك! فقال الدلال : واني عقدت عقدا بيني وبين الله تعالى اني لا أغش مسلما! توفي السري سنة إحدى وخمسين ومائتين.
وينسب إليها أبو القاسم الجنيد بن محمّد بن الجنيد. أصله من نهاوند ومولده بغداد. كان أبوه زجّاجا وكان هو خرّازا. صحب الحرث المحاسبي وخاله السري السقطي. وكان الجنيد يفتي على مذهب سفيان الثوري. كان ورده في كلّ يوم ثلاثمائة ركعة وثلاثين ألف تسبيحة. وعن جعفر الخلدي أن الجنيد عشرين سنة ما كان يأكل في كل أسبوع إلا مرّة.
حكى أبو عمرو الزجاجي قال : أردت الحجّ فدخلت على الجنيد فأعطاني درهما شددته في مئزري ، فلم أنزل منزلا إلّا وجدت رزقا فما احتجت إلى إخراج الدرهم ؛ فلمّا عدت إلى بغداد ودخلت عليه مدّ يده وأخذ الدرهم.
وحكى بعض الهاربين عن ظالم قال : رأيت الجنيد واقفا على باب رباطه فقلت : يا شيخ أجرني أجارك الله! فقال : ادخل الرباط. فدخلت فما كان إلّا يسيرا حتى وصل الطالب بسيف مسلول فقال للشيخ : أين مشى هذا الهارب؟فقال الشيخ : دخل الرباط. فمرّ على وجهه وقال : تريد أن تقويّه عليّ! قال الهارب : قلت للشيخ كيف دللته عليّ ، أليس لو دخل الرباط قتلني؟ فقال الشيخ : وهل نجوت إلّا بقولي دخل الرباط؟ فما زال منّا الصدق ومنه اللطف.
وحكي أن رجلا أتى الجنيد بخمسمائة دينار ، وكان هو جالسا بين أصحابه ، وقال له : خذ هذا وأنفق على أصحابك. فقال له : هل لك غيرها؟ قال :نعم لي دنانير كثيرة! قال : فهل تريد غيرها؟ قال : نعم. قال : خذها إليك فأنت أحوج إليها منّا.
قال أبو محمّد الجزري : لمّا كان مرض موته كنت على رأسه وهو يقرأ

ويسجد ، فقلت : أبا قاسم ارفق بنفسك. فقال : يا أبا محمّد هو ذا صحيفتي تطوى ، وأنا أحوج ما كنت الساعة! ولم يزل باكيا وساجدا حتى فارق الدنيا سنة ثمان وستّين ومائتين.
وقال جعفر الخلدي : رأيت الجنيد بعد موته في المنام قلت : ما فعل الله بك يا أبا قاسم؟ فقال : طاحت تلك الإشارات وغابت تلك العبارات ، ونفدت تلك العلوم وامّحت تلك الرسوم ، وما بقينا إلّا على الركيعات التي كنّا نصلّيها في جوف الليل!
وينسب إليها أبو الحسن عليّ بن محمّد المزيّن الصغير. كان من المشايخ الكبار صاحب الحالات والكرامات. حكى أبو عبد الله بن خفيف قال : سمعت أبا الحسن بمكّة يقول : كنت في بادية تبوك فقدمت إلى بئر لأستقي منها ، فزلقت رجلي فوقعت في قعر البئر فرأيت في البئر زاوية ، فأصلحت موضعا وجلست عليه لئلا يفسد الماء ما عليّ من اللباس ، وطابت نفسي وسكن قلبي ، فبينما أنا قاعد إذا أنا بشخشخة فتأمّلت فإذا حيّة عظيمة تنزل عليّ ، فراجعت نفسي فإذا نفسي ساكنة ، فنزلت ولفت ذنبها عليّ وأنا هادىء السر لا أضطرب شيئا ، وأخرجتني من البئر وحلّت عني ذنبها ، فلا أدري الأرض ابتلعتها أم السماء رفعتها؟ فقمت ومشيت إلى حاجتي.
وحكى جعفر الخلدي : عزمت على السفر فودّعت أبا الحسن المزيّن وقلت :زوّدني شيئا. فقال : إن ضاع شيء وأردت وجدانه أو أردت أن يجمع الله بينك وبين إنسان فقل : يا جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد.
ردّ إليّ ضالّتي أو اجمع بيني وبين فلان. قال : فما دعوت في شيء إلّا استجبت. توفي بمكّة مجاورا سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة.
وينسب إليها محمّد بن إسماعيل ، ويعرف بخير النسّاج ، كان من أقران الثوري. عاش مائة وعشرين سنة. كان أسود عزم الحجّ. أخذه رجل على باب الحرم وقال : أنت عبدي واسمك خير! فمكث على ذلك مدّة يستعمله في

نسج الخزّ ثمّ عرف أنّه ليس عبده ولا اسمه خير ، قال له : أنت في حلّ من جميع ما عملت لك. وفارقه.
وحكي أن رجلا جاءه وقال له : يا شيخ أمس قد بعت الغزل وشددت ثمنه في مئزرك ، وأنا جئت خلفك وحللته فقبّضت يدي! فضحك الشيخ وأومى إلى يده فحلّت وقال : اصرف هذه الدراهم في شيء من حاجتك ولا تعد إلى مثلها. ورئي في المنام بعد موته ، قيل له : ما فعل الله بك؟ قال : لا تسألني عن هذا ، استرحت من دنياكم الوضرة!
وينسب إليها أبو محمّد رويم بن أحمد البغدادي. كان من كبار المشايخ وكان عالما بعلم القراءة والفقه على مذهب داود ، وكان يقول : من حكمة الحكيم الشريعة على إخوانه والتضييق على نفسه ، لأن حكم الشريعة اتّباع العلم وحكم الورع التضييق على نفسه.
حكي انّه اجتاز وقت الظهيرة بدرب في بغداد وكان عطشان ، فاستسقى من بيت فخرجت جارية بكوز ماء فأخذ منها وشرب ، فقالت الجارية : صوفي يشرب بالنهار! فما أفطر بعد ذلك. توفي سنة ثلاث وثلاثمائة.
وينسب إليها أبو سعيد أحمد بن عيسى الخرّاز. كان من المشايخ الكبار ، صحب ذا النون المصري والسريّ السّقطي وبشرا الحافي ، وكان أبو سعيد يمشي بالتوكّل.
حكى عن نفسه قال : دخلت البادية مرّة بغير زاد فأصابني فاقة ، فرأيت المرحلة من بعيد فسررت بأن وصلت إلى العمارة ثمّ فكرت في نفسي اني سلوت ، واتّكلت على غيري فآليت ألّا أدخل المرحلة إلّا إذا حملت إليها ، فحفرت لنفسي في الرمل حفيرة وواريت جسدي فيها إلى صدري ، فلمّا كان نصف الليل سمعوا صوتا عاليا : يا أهل المرحلة إن لله وليّا في هذه المرحلة فالحقوه! فجاءت جماعة وأخرجوني وحملوني إلى القرية.
وينسب إليها الأستاذ عليّ بن هلال الخطّاط ، ويعرف بابن البوّاب. كان

عديم النظير في صنعته ، لم يوجد مثله لا قبله ولا بعده ، فإن الكتابة العربيّة كانت بطريقة الكوفيّة ثمّ إن الوزير أبا الحسن بن مقلة نقلها إلى طريقته ، وطريقته أيضا حسنة ، ثمّ إن ابن البوّاب نقل طريقة ابن مقلة إلى طريقته التي عجز عنها جميع الكتّاب من حسنها وحلاوتها وقوّتها وصفاتها ، ولا يعرف لطافة ما فيها إلّا كبار الكتّاب ، فإنّه لو كتب حرفا واحدا مائة مرّة لا يخالف شيء منها شيئا لأنّها قلبت في قالب واحد ، والناس كلّهم بعده على طريقته. توفي سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة.
وينسب إليها أبو نواس الحسن بن هانىء. كان أديبا فصيحا بليغا شاعرا أوحد زمانه. حكي أن الرشيد قرأ يوما : ونادى فرعون في قومه قال : يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون؟ فقال : اطلبوا لي شخصا أنذل ما يكون حتى أولّيه مصر. فطلبوا شخصا مخبّلا كما أراد الخليفة ، فولّاه مصر وكان اسمه خصيبا. فلمّا ولّي أحسن السيرة وباشر الكرم وانتشر ذكره في البلاد حتى قيل :
إذا لم تزر أرض الخصيب ركابنا
 

فأين لنا أرض سواه نزور
 
فتى يشتري حسن الثّناء بماله
 

ويعلم أنّ الدّائرات تدور
 
فقصده شعراء العراق وأبو نواس معهم وهو صبي ، فلمّا دنوا من مصر قالوا ذات يوم : نحن من أرض العراق وندخل مصر فلا يأخذن علينا المصريون خطأ أو عيبا! ليعرض كلّ واحد منّا شعره حتى نعتبره ، فإن كان شيء منها محتاجا إلى إصلاح أصلحناه. فأظهر كلّ واحد ما معه على القوم ، فقالوا لأبي نواس : هات ما عندك. فقال : عندي هذا :
واللّيل ليل والنّهار نهار
 

والبغل بغل والحمار حمار
 
والدّيك ديك والدّجاجة زوجه
 

والبطّ بطّ والهزار هزار
 


فضحكوا وقالوا : هذا أيضا له وجه للمضاحك! فلمّا دخلوا على الخصيب وضعوا كرسيّا كلّ واحد من الشعراء يقف عليه ويورد شعره حتى أوردوا جميعهم. بقي أبو نواس فقال بعض الشعراء : ارفعوا الكرسي ، ما بقي أحد! فقال أبو نواس : اصبروا حتى أورد بيتا واحدا ثمّ بعد ذلك إن أردتم فارفعوا ، فأنشأ يقول :
أنت الخصيب وهذه مصر
 

فتشابها فكلاهما بحر!
 
فتحيّر الشعراء وأنشد قصيدة خيرا من قصائدهم كلّها.
وحكي أن محمّدا الأمين أمر بحبسه وأمر أن لا يترك عنده كاغد ودواة ، فحبس في دار ، فدخل عليه خادم من خدام الخليفة ونام عنده وعليه جبّة سوداء ، فأخذ قطعة جصّ من الحائط وكتب على جبّة الخادم :
ما قدر عبدك بي نواس
 

وهو ليس بذي لباس
 
ولغيره أولى بها
 

إن كنت تعمل بالقياس
 
ولئن قتلت أبا نواسك
 

قيل من هو بو نواس؟
 
فقرأوا وفرّجوا عنه.
وذكر أنّه رئي في المنام بعد موته فقيل له : ما فعل الله بك؟ قال : قد غفر لي بأبيات قلتها وهي تحت وسادتي ؛ فوجدوا تحت وسادته رقعة فيها مكتوب :
يا ربّ إن عظمت ذنوبي كثرة
 

فلقد علمت بأنّ عفوك أعظم
 
إن كان لا يرجوك إلّا المحسن
 

فمن الذي يرجوه عبد مجرم
 
أدعوك يا ربّي إليك تضرّعا
 

فإذا رددت يدي فمن ذا يرحم
 
ما لي إليك وسيلة غير الرّجا
 

وكريم عفوك ثمّ إني مسلم
 


بغشور
مدينة بين هراة ومرو الروذ ، ينسب إليها سيّد الابدال أبو الحسين الثوري.
كان يسكن الخراب ولا يدخل المدينة إلّا يوم الجمعة ، فإذا أراد الجنيد زيارته أخذ معه شيئا من الطعام ويدور في الخراب إلى أن يجده. فإذا وجده ألحّ عليه ليأكل معه ويقول له : إلى كم تسيح؟ فيجيبه : إلى حصول المقصود وهيهات من ذلك!
وحكي أن الجنيد بعث إليه شيئا من الذهب ، قطعتان كانتا من الجنيد والباقي كان من غيره. فلمّا وصل إليه أخذ قطعتي الجنيد وردّ الباقي.
وحكى عن نفسه قال : كان في نفسي شيء من الكرامات فأردت تجربته ، فرأيت الصبيان معهم قصبة في رأسها خيط يصطادون بها السمك ، فأخذت قصبة ووقفت بين زوقين فقلت : وعزّتك إن لم تخرج لي سمكة فيها ثلاثة أرطال لأغرقنّ نفسي! فخرجت سمكة فيها ثلاثة أرطال.
وحكي أنّه وقع ببغداد حريق فوقف تاجر على طرف الحريق يقول : من أخرج هذين الغلامين له ألف دينار! فقالوا : من يجسر أن يقرب إلى هذه النار؟حتى حضر أبو الحسين الثوري وقال : بسم الله الرحمن الرحيم! وأخرج الغلامين لم يتأذّ شعرة منهما. فقيل له : كيف دخلت هذه النار؟ قال : سنّ الله انّه لم يحرق الغلامين ، وهما غير مذنبين. وحكي أنّه سمع قائلا يقول :
ما زلت أنزل من ودادك منزلا
 

تتحيّر الألباب عند نزوله
 
فاشتدّ به الوجد فلم يزل يعدو في أجمة قصب قطعت رؤوسها حتى تقطعت قدمه ومات ، عليه رحمة الله.
وحكي أن أبا الحسين أحمد بن محمّد الثوري دخل يوما الماء ليغتسل ، فجاء لصّ وأخذ ثيابه ، فلمّا خرج لم يجد ثيابه ، فرجع إلى الماء فما كان إلّا قليل

وجاء اللصّ ومعه ثياب أبي الحسين ، وقد جفّت يده اليمنى ، فخرج أبو الحسين من الماء ولبس ثيابه ثمّ قال : يا سيّدي ، ردّ عليّ ثيابي ، ردّ عليه يده! فردّ الله عليه يده.
وحكي أن الثوري مرض فجاء الجنيد إليه لعيادته بشيء من الدراهم فردّها ، ومرض الجنيد فذهب إليه الثوري ووضع يده على جبهته فعوفي من ساعته ، وقال للجنيد : إذا عدت إخوانك فأوفهم مثل هذا البرّ! توفي الثوري سنة خمس وتسعين ومائتين ، رحمة الله عليه.
وينسب إليها الإمام العالم البارع الورع محيي السنّة أبو محمّد الحسين بن مسعود الفراء البغوي. كان عديم النظير في علم التفسير وأحاديث رسول الله ، صلّى الله عليه وسلّم ، ومعرفة الصحابة وأسامي الرواة وعلم الفقه والأدب ، وتصانيفه في غاية الحسن والصحة واعتماد أهل الحديث والفقه على تصانيفه ، وسمّوه محيي السنّة. كان معاصرا للإمام حجّة الإسلام أبي حامد الغزّالي ، والإمام فخر الإسلام أبي المحاسن الروياني ، رحمة الله عليهم أجمعين.
بلاد الدّيلم
بأرض الجبال بقرب قزوين. وهي بلاد كلّها جبال ووهاد ، وفيها خلق كثير من الديلم ، وهم أشدّ الناس حمقا وجهلا! بينهم قتال فإذا قتل واحد منهم قتلوا من تلك القبيلة أيّ واحد كان. وكانوا ملوك بلاد الجبال قديما. ذكر أنّ أصلهم من بني تميم ، ولذلك ترى أكثرهم يميلون إلى الأدب والعربيّة.
منهم ملوك آل بويه وكانوا كلّهم فضلاء أدباء.
ينسب إليها شمس المعالي قابوس بن وشمكير. كان ملكا فاضلا أديبا. كان أخوه مرداويج صاحب بلاد الجبال ، وكان عساكره الديلم والترك وبينهما خصومة ، وهو ينصر الديلم لأنّهم كانوا أنسابه ، فالترك كبسوا عليه في الحمّام وقتلوه ، فقام قابوس مقامه وتضعضع الملك ، فانتزع آل بويه بلاد الجبال منه ،

فذهب إلى طبرستان يستنجد بملوك بني سامان ، ويحارب آل بويه إلى أن غدر به ابنه منوجهر وحبسه في بعض القلاع ، وملوك الديلم ما كانوا في طاعة الخلفاء.
فلمّا وقع لقابوس ما وقع قال المقتدر بالله :
قد قبس القابسات قابوس
 

ونجمه في السّماء منحوس!
 
فكيف يرجى الفلاح من رجل
 

يكون في آخر اسمه بوس؟
 
فلمّا سمع قابوس ذلك قال :
يا ذا الذي بصروف الدّهر عيّرنا
 

هل عاند الدّهر إلّا من له خطر؟
 
أما ترى البحر تعلو فوقه جيف
 

ويستقرّ بأدنى قعره الدّرر؟
 
وفي السّماء نجوم غير ذي عدد
 

وليس يكسف إلّا الشّمس والقمر
 
بلخ
مدينة عظيمة من أمّهات بلاد خراسان. بناها منوجهر بن ايرج بن افريدون.
أهلها مخصوصون بالطرمذة من بين سائر بلاد خراسان.
كان بها النوبهار ، وهو أعظم بيت من بيوت الأصنام. لمّا سمع ملوك ذلك الزمان بشرف الكعبة واحترام العرب إيّاها ، بنوا هذا البيت مضاهاة للكعبة ، وزيّنوه بالديباج والحرير والجواهر النفيسة ، ونصبوا الأصنام حوله. والفرس والترك تعظّمه وتحجّ إليه وتهدي إليه الهدايا. وكان طول البيت مائة ذراع في عرض مائة ، وأكثر من مائة ارتفاعا ، وسدانته للبرامكة ، وملوك الهند والصين يأتون إليه ، فإذا وافوا سجدوا للصنم وقبّلوا يد برمك. وكان برمك يحكم في تلك البلاد كلّها ، ولم يزل برمك بعد برمك إلى أن فتحت خراسان في أيّام عثمان بن عفّان ، رضي الله عنه ، وانتهت السدانة إلى برمك أبي خالد ، فرغب في الإسلام وسار إلى عثمان وضمن المدينة بمال. وفتح عبد الله بن عامر بن كريز

خراسان وبعث إلى النوبهار الأحنف بن قيس بن الهيثم فخرّبها.
ينسب إليها من المشاهير إبراهيم بن أدهم العجلي ، رحمه الله ، كان من ملوك بلخ ، وكان سبب تركه الدنيا انّه كان في بعض متصيّداته يركض خلف صيد ليرميه ، فالتفت الصيد إليه وقال : لغير هذا خلقت يا إبراهيم! فرجع ومرّ على بعض رعاته ونزل عن دابته ، وخلع ثيابه وأعطاها للراعي ولبس ثياب الراعي واختار الزهد.
وحكي أنّه ركب سفينة في بعض أسفاره ، فلمّا توغّل في البحر طالبه الملّاح بالأجرة وألحّ عليه ، فقال له إبراهيم : اخرجني إلى هذه الجزيرة حتى أؤدي أجرتك! فأخرجه إليها وذهب معه فصلّى إبراهيم ركعتين وقال : إلهي يطلب أجرة السفينة! فسمع قائلا يقول : خذ يا إبراهيم. فمدّ يده نحو السماء وأخذ دينارين دفعهما إلى الملّاح وقال : لا تذكر هذا لأحد! ورجعا إلى السفينة فهبّت ريح عاصف واضطربت السفينة فأشرفت على الهلاك ، فقال الملّاح :اذهبوا إلى هذا الشيخ ليدعو الله. فذهب القوم إليه وهو مشغول بنفسه في زاوية ؛ قالوا : إن السفينة أشرفت على الهلاك ، ادع الله تعالى لعلّه يرحمنا! فنظر إبراهيم بموق عينه نحو السماء وقال : يا مرسل الرياح منّ علينا بالعاطفة والنجاح! فسكنت الريح في الحال.
وحكي أنّه مرّ به بعض رعاته من بلخ فرآه جالسا على طرف ماء يرقع دلقا ، فجلس إليه يعيره بترك الملك واختيار الفقر ، فرمى إبراهيم إبرته في الماء وقال :ردّوا إليّ إبرتي! فأخرج سمك كثير من الماء رؤوسها وفي فم كلّ واحدة إبرة من الذهب. فقال : لست أريد غير إبرتي! فأخرجت واحدة رأسها بإبرته.
فقال للرجل : أيّ الملكين خير هذا أم ذاك؟وحكي أنّه اجتاز به جنديّ سأل منه الطريق فأشار إلى المقبرة ، فتأذّى الرجل الجندي وضربه فشجّ رأسه. فلمّا عرف انّه إبراهيم جاء إليه معتذرا فقال له : إنّك وقت ضربتني دعوت لك لأنّك حصّلت لي ثوابا فقابلت ذلك بالدعاء.

وحكي أن إبراهيم كان ناطورا في بستان بأجرة ، فإذا هو نائم وحيّة تروحه بطاقة نرجس. وجاءه رجل جندي يطلب منه شيئا من الثمرة ، وهو يقول : أنا ناطور ما أمرني صاحب البستان ببذل شيء منها! فجعل الجندي يضربه وهو يقول : اضرب على رأس طالما عصى الله تعالى! توفي سنة إحدى وستّين ومائة.
وينسب إليها أبو عليّ شقيق بن إبراهيم البلخي من كبار مشايخ خراسان ، أستاذ حاتم الأصمّ. وكان أوّل أمره رجلا تاجرا سافر إلى بلاد الهند. دخل بيتا من بيوت الأصنام فرأى رجلا حلق رأسه ولحيته يعبد الصنم فقال له : ان لك إلها خالقا رازقا فاعبده ولا تعبد الصنم ، فإنّه لا يضرّ ولا ينفع! فقال عابد الصنم :إن كان كما تقول فلم لا تقعد في بيتك وتتعب للتجارة ، فإنّه يرزقك في بيتك؟فتنبّه شقيق لقوله وأخذ في طريق الزهد.
وحكي أن أهله شكت إليه من الفاقة فقام يظهر أنّه يمشي إلى شغل الطين ودخل بعض المساجد وصلّى إلى آخر النهار وعاد إلى أهله وقال : عملت مع الملك فقال اعمل أسبوعا حى أوفيك أجرتك دفعة واحدة. وكان كلّ يوم يمشي إلى المسجد ويصلّي ، فلمّا كان اليوم السابع قال في نفسه : لو لم يكن اليوم معي شيء تخاصمني أهلي! فأجر نفسه من شخص ليعمل له يومه وأهله تنتظر مجيئه آخر النهار بأجرة الأيّام ، إذ دقّ الباب أحد وقال : بعثني الملك بأجرة الأيّام التي عمل له فيها شقيق ، ويقول لشقيق : ما الذي صدّك عنّا حتى اشتغلت اليوم بشغل غيرنا؟ فذهبت المرأة إليه فسلّم إليها صرّة فيها سبعون دينارا.
وحكى حاتم الأصمّ أن علي بن عيسى بن ماهان كان أمير بلخ ، وكان يحبّ كلاب الصيد ، ففقد كلب من كلابه يوما ، فاتّهم به جار شقيق فاستجار به ، فدخل شقيق على الأمير وقال : خلّوا سبيله فإني أردّ لكم كلبكم إلى ثلاثة أيّام.
فخلّوا سبيله فانصرف شقيق مهتمّا لما صنع ، فلمّا كان اليوم الثالث كان رجل من أهل بلخ غائبا ، وكان من رفقاء شقيق ، وكان لشقيق فتى ، وهو رفيقه ، رأى في الصحراء كلبا في رقبته قلادة فقال : أهديه إلى شقيق. فحمله إليه فإذا

هو كلب الأمير سلّمه إليه.
استشهد شقيق في غزوة كولان سنة أربع وتسعين ومائة.
وينسب إليها أبو حامد أحمد بن حضرويه من كبار مشايخ خراسان. صحب أبا تراب النّخشبي وكان زين العارفين أبو يزيد يقول : أستاذنا أحمد ذكر أنّه اجتمع عليه سبعمائة دينار دينا ، فمرض وغرماؤه حضروا عنده فقال : اللهم إنّك جعلت الرهون وثيقة لأرباب الأموال وأنت وثيقتي فادّعني ، فدقّ بابه أحد وقال : أين غرماء أحمد؟ وقضى عنه جميع ديونه ثمّ فارق الدنيا ، وذلك في سنة أربع ومائتين عن خمس وتسعين سنة.
وينسب إليها عبد الجليل بن محمّد الملقّب بالرشيد ، ويعرف بوطواط.
كان كاتبا للسلطان خوارزمشاه إتسز. وكان أديبا فاضلا بارعا ذا نظم ونثر بالعربيّة والعجميّة ، والسلطان يحبّه لا يفارقه ساعة لظرافته وحسن مجالسته ، فأمر أن يبنى له قصر بحذاء قصر السلطان حتى يحادثه من الروشن ، فأخرج الرشيد رأسه مرّة من الروشن فقال السلطان : يا رشيد أرى رأس ذئب خارجا من روشنك! فقال : أيّها الملك ما هو رأس الذئب ، ذاك سجنجل أنا أخرجته! فضحك السلطان من عجيب جوابه!
وحكي أن أحدا من أصحاب الديوان يستعير دوابّه كثيرا فكتب إليه :بلغني من النوادر المطربة والحكايات المضحكة أن تاجرا استأجر حمارا من نيسابور إلى بغداد ، وكان حمارا ضعيفا لا يمكنه السير ، ولا يرجى منه الخير ، إذا حرّك سقط ، وإذا ضرب ضرط ، من مكاري قليل السكون ، كثير الجنون ، طول الطريق يبكي دما ، ويتنفّس الصعداء ندما ، فبعد اللتيّا والتي وصل إلى بغداد والحمار ضئيل ، ولم يبق من المكاري إلّا القليل ، إذ سمع صيحة هائلة تصرع القلوب ، وتشقّ الجيوب ، فالتفت المكاري فإذا المحتسب بدرّته ، وصاحب الشرطة لابس ثوب شرّته ، فقال المكاري : ماذا حدث؟ قالوا :ههنا تاجر فاجر ، أخذ مع غلام الخطيب ، كالغصن الرطيب ، تواتر عليه

الصفعات المغمية ، والضربات المدمية ، طلبوا حمارا ، وكان حمارا المكاري حاضرا ، فتعادوا إليه ، وأركبوا التاجر عليه ، فالمكاري ذهب عنه القرار ، وينادي بالويل ويعدو خلف الحمار ، إلى أن طيف بجميع المحالّ والبلد بغداد.
فلمّا كان المساء ردّوا الحمار إلى المكاري جائعا سلّمه الطّوى إلى التّوى ، والصّدى إلى الردى! فأخذه المكاري مترحّما مدّ أذنيه ، وتفل ما بين عينيه ، وزاد في علفه ، خوفا من تلفه. فلمّا دنا الصباح ، وظهر أثر النهار ولاح ، قرع سمعه صوت أهول من الصيحة الأمسية ، فالتفت المكاري فإذا المحتسب على الباب ، وصاحب الشرطة كاشر الناب ، فقال المكاري : ماذا حدث؟قالوا : ذاك التاجر أخذ مرّة أخرى مع غلام القاضي ، كالسيف الماضي ، فأراد المكاري أن يواري الحمار ، فسبقت العامة إليه ، وأركبوا التاجر عليه ، والمكاري يعدو خلفه ويصيح ، بعين باكية وقلب جريح ، إلى أن طيف به في جميع المحالّ ثمّ ردّوه إلى المكاري وقد أشرف على الهلاك ، ولا يقدر على الحراك ، فبات المكاري مسلوب القرار ، في مداواة الحمار ، فلمّا انتشرت أعلام الضوء ، في أقطار الجوّ ، صكّت أذنه من الصيحتين الأوليين ، فالتفت فإذا المحتسب في الدرب ، وصاحب الشرطة منشمر للضرب ، فقال المكاري : ماذا حدث؟قالوا : ذاك التاجر أخذ مرّة أخرى مع غلام الرئيس ، كالدرّ النفيس ، والعامة رأت حمار المكاري فعدت إليه فعدا المكاري إلى التاجر وقال : يا خبيث! ان لم تترك صنعتك الشنيعة ، ولم ترجع عن فعلتك القبيحة ، فاشتر حمارا يركبونك عليه كلّ يوم فقد أهلكت حماري ، وأزلت قراري! وها أنا أقول ما قال المكاري للتاجر ، إن أردت أن تكون كاتبا للأمير ، فهيّىء النقس والطرس ، وإلّا فالزم البيت والعرس.

بلد
قرية من أعمال الموصل يقال لها بلد باشاي. حكى الشيخ عمر التسليمي ، وكان من أهل التصوّف ، قال : وصلت إلى هذه القرية ، فلمّا كان وقت خروج نور الغبيراء اهتاج بنسائها شهوة الوقاع ، يستحيين من ذلك لغلبة الشهوة ولا قدرة للرجال على قضاء أوطارهن. فعند ذلك أخرجن إلى واد بقرب الضيعة ، وهنّ بها كالسنانير عند هيجانها ، إلى أن انقضت مدّتهن ثمّ تراجعن إلى بيوتهن وقد عاد إليهن التمييز! قال : وسمعت أن كلّ سنة في هذا الوقت تحدث بهن هذه الحالة.
بلور
ناحية بقرب قشمير ؛ قال صاحب تحفة الغرائب : بها موضع في كلّ سنة ثلاثة أشهر يدوم فيه الثلج والمطر بحيث لا يرى فيها قرص الشمس. وحكي ان بهذه الأرض بيتا فيه صنم على صورة امرأة لها ثديان ، وكلّ من طال مرضه وضجر منه يدخل على هذا الصنم ويمسح يده على ثديها ، فيتقاطر من ثديها ثلاث قطرات فيمزج تلك القطرات بالماء ويشرب ، فإما يزول مرضه أو يموت سريعا ويستريح من تعب المرض.
بنان
موضع لست أعرف أرضه. ينسب إليه أبو الخير البناني صاحب العجائب رحمه الله. سمع بفضله إبراهيم بن المولد فذهب إليه ، فقام أبو الخير يصلّي بالقوم فما أعجب إبراهيم قراءته الفاتحة ، فأنكر عليه في باطنه ، فعرف أبو الخير ذلك بنور الباطن. فلمّا فارقه إبراهيم وخرج من عنده اعترضه سبع ، وكانت صومعة أبي الخير في غيضة كان فيها سباع ، فعاد إلى الشيخ وقال : ان

سبعا صال عليّ! فخرج الشيخ وقال للسبع : ما قلت لكم لا تتعرّضوا لأضيافي؟
فولّى الأسد وذهب ، فقال الشيخ : يا إبراهيم اشتغلتم بتقويم الظاهر ونحن اشتغلنا بتقويم الباطن ، فخفتم أنتم من السبع وخاف السبع منّا!
بوشنج
مدينة كبيرة من مدن خراسان ، ذات مياه وبساتين وأشجار كثيرة.
ينسب إليها منصور بن عمّار. كان واعظا عظيما عجيب الكلام طيّب الوعظ مشهورا ؛ حكى سليم بن منصور قال : رأيته في المنام فقلت : ما فعل الله بك؟ قال : غفر لي وأدناني وقرّبني وقال : يا شيخ السوء أتدري لم غفرت لك؟ قلت : لا يا ربّ! قال : انّك جلست للناس يوما فبكّيتهم فبكى فيهم عبد من عبادي لم يبك من خشيتي قطّ ، فغفرت له ووهبت أهل المجلس له ووهبتك فيمن وهبت له.
وحكي أن منصور بن عمّار وجد رقعة عليها «بسم الله الرحمن الرحيم» فأخذها فلم يجد لها موضعا فأكلها. فرأى في نومه قائلا يقول : فتح الله عليك باب الحكمة باحترامك اسم الله تعالى.
وحكى أبو الحسن السعدي قال : رأيت منصور بن عمّار في النوم بعد موته فقلت : ما فعل الله بك؟ فقال لي : قال أنت منصور بن عمار؟ قلت : نعم يا ربّ! قال : أنت الذي تزهد في الدنيا وترغب فيها. قلت : قد كان ذلك ولكن ما اتّخذت مجلسا إلّا بدأت بالثناء عليك ، وثنيت بالصلاة على نبيّك ، وثلثت بالنصيحة لعبادك. فقال : صدق! ضعوا له كرسيّا يمجّدني في سمائي بين ملائكتي كما مجدني في الأرض بين عبادي. والله الموفق.
وحكي أن رجلا شريفا جمع يوما ندماءه للشرب ، وسلّم إلى غلامه أربعة دراهم ليشتري لهم بها فواكه ، فاجتاز الغلام بمجلس منصور بن عمار وكان يطلب لفقير أربعة دراهم ، فقال : من يعطي له أربعة دراهم ادعو له

أربع دعوات. فدفع إليه الغلام الدراهم فقال منصور : ما الذي تريد من الدعوات؟ فقال : أريد العتق! فقال : اللهمّ ارزقه العتق! قال : وما الآخر؟ قال : أن يخلف الله عليّ دراهمي. فدعا له به. قال : وما الآخر؟ قال : ان يتوب الله على سيّدي. فدعا له به. قال : وما الآخر؟ قال : أن يغفر الله لي ولك ولسيّدي وللحاضرين. فدعا به. فلمّا رجع إلى سيّده قال : ما الذي أبطأ بك؟ فقصّ عليه القصّة فقال : سألت لنفسي العتق. فقال : أنت حرّ لوجه الله تعالى! قال : وان يخلف عليّ الدراهم. قال : لك أربعة آلاف درهم. قال :وما الثالث؟ قال : أن يتوب الله عليك. قال : تبت إلى الله عزّ وجلّ. قال :وما الرابع؟ قال : أن يغفر الله لي ولك وله وللحاضرين. فقال : هذا ليس إليّ! فلمّا نام رأى في نومه قائلا يقول له : أنت فعلت ما كان إليك ، أترى اني لم أفعل ما إليّ؟ قد غفرت لك وللغلام وللحاضرين ولمنصور.
باخرز
بلدة من بلاد خراسان. ينسب إليها أبو الحسن الباخرزي. كان أديبا فاضلا بارعا لطيفا ، أشعاره في غاية الحسن ومعانيه في غاية اللطف. وله ديوان كبير أكثره في مدح نظام الملك وبعض الأدباء. التقط من ديوانه الأبيات العجيبة قدر ألف بيت سمّاه الأحسن. وكان بينه وبين أبي نصر الكندري مخاشنة في دولة بني سبكتكين ، فلمّا ظهرت الدولة السلجوقية ما كان أحد من العمّال يجسر على الاختلاط بهم ، فأوّل من دخل معهم أبو نصر الكندري. استوزره السلطان طغرلبك فصار مالك البلاد. أحضر أبا الحسن الباخرزي وأحسن إليه وقال :إني تفاءلت بهجوك لي. إذا كان أوّله أقبل فإن أبا الحسن هجاه بأبيات أوّلها :
أقبل من كندر مسخرة
 

للشّؤم في وجهه علامات
 
واقطعوا باخرز لأمير زوج امرأة من نساء بني سلجوق ، فرأت أبا الحسن

وقالت : أتى رسول الله ، صلّى الله عليه وسلّم ، في المنام على هذه الصورة.
فصار محظوظا عندهم ، وآخر الأمر قتل بسبب هذه المرأة ، وصار حسن صورته وبالا عليه كريش الطاووس وشعر الثعلب.
بيهق
بليدة بخراسان. ينسب إليها الإمام أبو بكر أحمد البيهقي. كان أوحد زمانه في الحديث والفقه والأصول ، وله السنن الكبير وتصانيف كثيرة. كان على سيرة علماء السلف قانعا من الدنيا بالقليل الذي لا بدّ منه. قال إمام الحرمين : ما من أحد من أصحاب الشافعي إلّا وللشافعي عليه منّة إلّا البيهقي فإن له على الشافعي منّة ، لأن تصانيفه كلّها في نصرة مذهب الشافعي.
حكى الفقيه أبو بكر بن عبد العزيز المروزي : رأيت في المنام تابوتا يعلو فوقه نور نحو السماء فقلت : ما هذا؟ قالوا : فيه تصانيف أبي بكر البيهقي.
وحكى بعض الفقهاء قال : رأيت الشافعي قاعدا على سرير وهو يقول : استفدت من كتاب أحمد البيهقي حديث كذا وحديث كذا.
تبريز
مدينة حصينة ذات أسوار محكمة. وهي الآن قصبة بلاد آذربيجان. بها عدّة أنهر والبساتين محيطة بها. زعم المنجّمون أنّها لا تصيبها من الترك آفة لأن طالعها عقرب والمريخ صاحبها ، فكان الأمر إلى الآن كما قالوا ، ما سلم من بلاد آذربيجان مدينة من الترك غير تبريز.
وهي مدينة آهلة كثيرة الخيرات والأموال والصناعات ، وبقربها حمّامات كثيرة عجيبة النفع يقصدها المرضى والزمنى ينتفعون بها. وتحمل منها الثياب العتّابي والسقلاطون والأطلس والنسج إلى الآفاق. ونقودها ونقود أكثر بلاد آذربيجان الصفر المضروب فلوسا. وقطاع الطنجير والهاون والمنارة إذا أرادوا

المعاملة عليها اشتروا بها المتاع ، فما فضل أخذوا به قطعة صغيرة.
ينسب إليها أبو زكرياء التبريزي. كان أديبا فاضلا كثير التصانيف.
فلمّا بنى نظام الملك المدرسة النظاميّة ببغداد ، جعلوا أبا زكرياء خازن خزانة الكتب. فلمّا وصل نظام الملك إلى بغداد دخل المدرسة ليتفرّج عليها ، وفي خدمته أعيان جميع البلاد ووجوهها ، فقعد في المدرسة في محفل عظيم والشعراء يقومون ينشدون مدائحه والدعاة يدعون له. فقام رجل ودعا لنظام الملك وقال : هذا خير عظيم قد تمّ على يدك! ما سبقك بها أحد ، وكلّ ما فيها حسن إلّا شيئا واحدا ، وهو أن أبا زكرياء التبريزي خازن خزانة الكتب ، وانّه رجل به أبنة يدعو الصبيان إلى نفسه! فانكسر أبو زكرياء انكسارا شديدا في ذلك المحفل العظيم. فلمّا قام نظام الملك قال لناظر المدرسة : كم معيشة أبي زكرياء؟ قال : عشرة دنانير! قال : اجعلها خمسة عشر ان كان كما يقول لا تكفيه عشرة دنانير! فانكسر أبو زكرياء من فضيحة ذلك المتعدّي وكفاه ذلك كفارة لجميع ذنوبه ، ومن ذلك اليوم ما حضر شيئا من المحافل والمجامع حياء وخجالة.
تهران
قرية كبيرة من قرى الري كثيرة البساتين كثيرة الأشجار مؤنقة الثمار.
ولهم تحت الأرض بيوت كنافقاء اليربوع ، إذا جاءهم قاصد عدوّ اختبأوا فيها ، فالعدو يحاصرهم يوما أو أيّاما ويمشي. فإذا خرجوا من تحت الأرض أكثروا الفساد من القتل والنهب وقطع الطريق. وفي أكثر الأوقات أهلها عصاة على السلاطين ، ولا حيلة إلى ضبطهم إلّا بالمداراة.
وفيها اثنتا عشرة محلّة كلّ محلّة تحارب الأخرى ، وإذا دخلوا في طاعة السلطان يجتمع عاملها بمشايخ القرية يطالبهم بالخراج ، وتوافقوا على اداء الخراج المعهود للسلطان. يأتي أحدهم بديك ويقول : هذا بدينار! والآخر يأتي باجّانة ويقول : هذا بدينار! ويؤدّون الخراج على هذا الوجه وإلّا فلا فائدة منهم

أصلا. وهم مترصّدون للخلاف ، ويرضى الوالي منهم بأن يقال : انّهم في الطاعة وأدّوا الخراج. وانّهم لا يزرعون على البقر خوفا من أنّهم إذا خالفوا يؤخذ عواملهم ، وإنّما يزرعون بالمساحي ولا يقتنون الدواب والمواشي لما ذكرنا أن أعداءهم كثيرون فيأخذون مواشيهم.
وفواكههم كثيرة وحسنة جدّا ، سيّما رمّانهم فإن مثلها غير موجود في شيء من البلاد.
جاجرم
مدينة بأرض خراسان مشهورة بقرب اسفرايين. بها عين تنبع قناة بين جاجرم واسفرايين ؛ حدّثني بعض فقهاء خراسان : من غاص في ماء هذه العين يزول جربه.
الجبال
ناحية مشهورة يقال لها قهستان. شرقها مفازة خراسان وفارس ، وغربها آذربيجان ، وشمالها بحر الخزر ، وجنوبها العراق وخوزستان. وهي أطيب النواحي هواء وماء وتربة. وأهلها أصحّ الناس مزاجا وأحسنهم صورة ؛ قالوا : إنها تربة ديلميّة لا تقبل العدل والانصاف ومن وليها عصى! وكتب الإسكندر إلى أرسطاطاليس : أرى بأرض الجبال ملوكا حسانا لا أختار قتلهم ، وان تركتهم لا آمن عصيانهم ، فماذا ترى؟ فكتب إليه أرسطاطاليس : أن سلّم كلّ بقعة إلى أحد. ففعل ذلك وظهرت ملوك الطوائف ، فلمّا مات الإسكندر اختلفوا فغلبهم أردشير بن بابك جد ملوك ساسان. فاتّخذها الأكاسرة مصيفا لطيب هوائها وسلامتها من سموم العراق وسخونة مائه وكثرة ذبابه وهوامه وحشراته ، ولذلك قال أبو دلف العجلي :
وإني امرؤ كسرويّ الفعال
 

أصيف الجبال وأشتو العراقا
 


لا ينبت بها النخل والنارنج والليمون والأترج ، ولا يعيش بها الفيل والجاموس ولو حملا إليها ماتا دون سنة. وقصبتها أصفهان والري وهمذان وقزوين. وبها من الجبال والأودية ما لا يحصى.
بها جبل أروند وهو جبل نزه خضر نضر مطلّ على همذان ، حكى بعض أهل همذان قال : دخلت على جعفر بن محمّد الصادق فقال : من أين أنت؟قلت : من همذان. قال : أتعرف جبلها راوند؟ قلت : جعلني الله فداك! جبلها أروند؟ قال : نعم إن فيها عينا من عيون الجنّة! وأهل همذان يرون الماء الذي على قلّة الجبل ، فإنّها يخرج منها الماء في وقت من أوقات السنة معلوم ، ومنبعه من شقّ في صخر وهو ماء عذب شديد البرد ، فإذا جاوزت أيّامه المعدودة ذهب إلى وقته من العام المقبل لا يزيد ولا ينقص ، وهو شفاء للمرضى يأتونه من كلّ جهة ، وذكروا أنّه يكثر إذا كثر الناس عليه ويقلّ إذا قلّوا.
وبها جبل بيستون بين همذان وحلوان وهو عال ممتنع لا ترتقى ذروته ، ومن أعلاه إلى أسفله أملس كأنّه منحوت وعرضه ثلاثة أيّام وأكثر. ذكر في تواريخ العجم أن حظية كسرى ابرويز شيرين المشهورة بالحسن والجمال عشقها رجل حجّار اسمه فرهاذ ، وتاه في حبّها واشتهر ذلك بين الناس ، فذكر أمره لأبرويز فقال لأصحابه : ماذا ترون في أمر هذا الرجل ان تركته وما هو عليه فهتك وقبح ، وإن قتلته أو حبسته فعاقبت غير مجرم؟ فقال بعض الحاضرين :اشغله بحجر حتى يصرف عمره فيه! فاستصوب كسرى رأيه وأمر بإحضاره ، فدخل وهو رجل ضخم البدن طويل القامة مثل الجمل الهائج ، فأمر كسرى بإكرامه وقال : ان على طريقنا حجرا يمنعنا من المرور ، نريد أن تفتح فيه طريقا يصلح لسلوكنا فيه ، وقد عرفنا دربتك وذكاءك! وأشار إلى بيستون لفرط شموخه وصلابة حجره. فقال الصانع : ارفع هذا الحجر من طريق الملك ان وعدني بشيرين! فتأذى كسرى من هذا لأنّها كانت حظيته ، لكن قال في نفسه :من يقدر على قطع بيستون؟ فقال في جوابه : نفعل ذلك إذا فرغت! فخرج

فرهاذ من عند كسرى وشرع في قطع الجبل ، ورسم فيه دربا يتسع لعشرين فارسا عرضا ، وسمكه أعلى من الرايات والأعلام ، فكان يقطع طول نهاره وينقل طول ليله ، ويرصف القطاع الكبار شبه الأعدال في سفح الجبل ترصيفا حسنا يحشو خللها بالنحاتة ، ويسوّيها مع الطريق. وكان ينحت من الجبل شبه منارة عظيمة ثمّ يقطعها قطعا كلّ قطعة كعدل ويرميها ، ولقد رأيت عند اجتيازي به شبه منارة فتح جوانبها وما قطعها بعد ، ورأيت قطعا من الحجر كالأعدال عليها آثار ضرب الفأس ، وفي كلّ قطعة حفرتان في جانبيها ، ليجعل اليد فيها عند رفعها. فذكر يوما عند كسرى شدّة اهتمامه بقطع الجبل ، فقال بعض الحاضرين : رأيته يرمي بكلّ ضربة شبه جبل ، ولو بقي على ما هو عليه لا يبعد أن يفتح الطريق. فانفرق كسرى فقال بعضهم : أنا أكفيك أمره! فبعث إليه من أخبره بموت شيرين. فلمّا سمع ذلك ضرب فأسه على الحجر وأثبته فيه ، ثمّ جعل يضرب رأسه على الفأس إلى أن مات. ومقدار فتحه من الجبل غلوة سهم ، وتلك الآثار باقية إلى الآن لا ريب فيها.
وقال أحمد بن محمّد الهمذاني : في سفح جبل بيستون ايوان منحوت من الحجر ، وفي وسط الايوان صورة فرس كسرى شبديز وابرويز راكب عليه ، وعلى حيطان الايوان صورة شيرين ومواليها ؛ قيل : صوّرها فطرس بن سنمّار ، وسنمّار هو الذي بنى الخورنق بظاهر الحيرة ، وسببه أن شبديز كان أذكى الدواب وأعظمها خلقا وأظهرها خلقا ، وأصبرها على طول الركض ، كان لا يبول ولا يروث ما دام عليه سرجه ، ولا يخرّ ولا يزبد ما دام عليه لجامه.
كان ملك الهند أهداه إلى ابرويز ، فاتّفق أنّه اشتكى وزاد شكواه فقال كسرى : من أخبرني بموته قتلته! فلمّا مات خاف صاحب خيله أن يسأل عنه فيجب عليه الخبر بموته ، فجاء إلى البلهبد مغنيه وسأله أن يخبر كسرى ذلك في شيء من الغناء ، وكان البلهبد أحذق الناس بالغناء ففعل ذلك. فلمّا سمع كسرى به فطن بمعناه وقال : ويحك! مات شبديز؟ فقال : الملك يقوله! فقال كسرى : زه! ما

أحسن ما تخلّصت وخلّصت غيرك! وجزع عليه فطرس بن سنمّار فصوّره على أحسن مثال ، بحيث لا يكاد يفرق بينهما إلّا بإدارات الروح ، وجاء كسرى فتأمّله باكيا وقال : يشدّ ما بقي هذا التمثال إلينا ، وذكرنا ما يصير حالنا إليه بموت جسدنا وطموس صورتنا ، ودروس أثرنا الذي لا بدّ منه ، وسيبقى هذا التمثال أثرا من جمال صورتنا للواقفين عليه حتى كأنّنا بعضهم ونشاهدهم.
وحكي من عجائب هذا التمثال انّه لم ير مثله ، ولم يقف أحد منذ صوّر من أهل الفكر اللطيف والنظر الدقيق عليه إلّا تعجّب منه ، حتى قال بعض الناس :انّها ليست من صنعة البشر! ولقد أعطي ذاك المصوّر ما لم يعط غيره ، فأيّ شيء أعجب من أن سخّرت له الحجار كما أراد ، حتى في الموضع الذي أراد أحمر جاء أحمر ، وفي الموضع الذي أراد أبيض جاء أبيض ، وكذلك سائر الألوان ، والظاهر أن الأصباغ التي فيه عالجها بصنف من المعالجات العجيبة لم يغيّرها طول الليالي ، وصوّر الفرس واقفا في وسط الإيوان ، وكسرى راكب عليه لابس درعا كأنّه زرد به من حديد ، يتبيّن مسامير الزرد في حلقها ، وصوّر شيرين بحيث يظهر الحسن والملاحة في وجهها كأنّها تسلب القلوب بغنجها. وسمعت أن بعض الناس عشق على صورة شيرين ، وصار من عشقها متيّما ، فكسروا أنفها لئلا يعشق عليها غيره. وذكر قصة شبديز خالد الفيّاض فقال :
والملك كسرى شهنشاه يقبضه
 

سهم بريش جناح الموت مقطوب
 
إذ كان لذّته شبديز يركبه
 

وغنج شيرين والدّيباج والطيّب
 
بالنّار آلى يمينا شدّ ما غلظت
 

ان من يد أفعى الشبديز مصلوب
 
حتى إذا أصبح الشّبديز منجدلا
 

وكان ما مثله في الناس مركوب
 
ناحت عليه من الأوتار أربعة
 

بالفارسيّة نوحا فيه تطريب
 
ورنّم الهربد الأوتار فالتهبت
 

من سحر راحته اليسرى شآبيب
 



فقال : مات؟ فقالوا : أنت فهت به
 

فأصبح الحنث عنه وهو مجذوب!
 
لولا البلهبد والأوتار تندبه
 

لم يستطع نعي شبديز المزاريب
 
أخنى الزّمان عليهم فاجر هدبهم
 

فما ترى منهم إلّا الملاعيب
 
وبها جبل دماوند ، وهو بقرب الري يناطح النجوم ارتفاعا ويحكيها امتناعا ، لا يعلوه الغيم في ارتفاعه ولا الطير في تحليقه ؛ قال مسعر بن مهلهل : انّه جبل مشرف عال شاهق لا يفارق أعلاه الثلج صيفا ولا شتاء ، ولا يقدر الإنسان أن يعلو ذروته ، يراه الناظر من عقبة همذان ، والناظر من الري يظن أنّه مشرف عليه وبينهما فرسخان ، فصعدت الجبل حتى وصلت إلى نصفه بمشقّة شديدة ، ومخاطرة بالنفس ، فرأيت عينا كبريتيّة ، وحولها كبريت مستحجر ، فإذا طلعت عليه الشمس التهبت نارا ، والدخان يصعد من العين الكبريتيّة. وحكى أهل تلك النواحي أنّهم إذا رأوا النمل يذخر الحبّ الكثير تكون السنة سنة جدب ، وإذا دامت عليهم الأمطار حتى تأذّوا منها صبّوا لبن الماعز على النار فانقطعت.
قال : جرّبت هذا مرارا فوجدته صحيحا. وقالوا : إذا رأينا قلّة هذا الجبل في وقت من الأوقات متحسّرا عن الثلج ، وقعت فتنة وأريقت دماء من الجانب الذي نراه متحسّرا. وبقرب الجبل معدن الكحل الرازي والمرتك والاسربّ والزاج. هذا كلّه قول مسعر.
وحكى محمّد بن إبراهيم الضرّاب قال : ان أبي سمع أن بدماوند معدن الكبريت الأحمر ، فاتّخذ مغارف حديد طول السواعد واحتال في إخراجه ، فذكر انّه لا يقرب من ناره حديدة إلّا ذابت من ساعتها. وذكر أهل دماوند أن رجلا من أهل خراسان اتّخذ مغارف حديديّة طويلة مطلية بها ، عالجها بها وأخرج من الكبريت لبعض الملوك.
وحكى عليّ بن رزين وكان حكيما له تصانيف قال : وجّهت جماعة إلى جبل دماوند وهو جبل عظيم شاهق في الهواء ، يرى من مائة فرسخ ، وعلى رأسه

أبدا مثل السحاب المتراكم ، لا ينحسر شتاء ولا صيفا ، ويخرج من أسفله نهر ماؤه أصفر كبريتي ، فذكر الجماعة أنّهم وصلوا إلى قلّته في خمسة أيّام وخمس ليال ، فوجدوا قلّته نحوا من مائة جريب مساحة ، على أن الناظر إليها من أسفله يراها كالمخروط. قالوا : وجدنا رملا تغيب فيه الأقدام ، وانّهم لم يروا عليها دابّة ولا أثر حيوان ، وان الطير لا يصل إلى أعلاها والبرد فيها شديد والريح عاصف. وانّهم عدّوا سبعين كوّة يخرج منها الدخان الكبريتي ، ورأوا حول كلّ ثقب من تلك الكوى كبريتا أصفر كأنّه ذهب ، وحملوا معهم شيئا منه. وذكروا أنّهم رأوا على قلّته الجبال الشامخة مثل التلال ، ورأوا بحر الخزر كالنهر الصغير ، وبينهما عشرون فرسخا.
وبها جبل ساوة وهو على مرحلة منها. رأيته جبلا شامخا إذا أصعدت عليه قدر غلوة سهم رأيت ايوانا كبيرا يتسع لألف نفس ، وفي آخره قد برز من سقفه أربعة أحجار شبيهة بثدي النساء ، يتقاطر الماء من ثلاثة والرابع يابس.
أهل ساوة يقولون : انّه مصّه كافر فيبس! وتحتها حوض يجتمع فيه الماء الذي يتقاطر منها ، وعلى باب الإيوان ثقبة لها بابان ، وفيها انخفاض وارتفاع ؛ يقول أهل ساوة : ان ولد الرشدة يقدر أن يدخل من باب ويخرج من الآخر وولد الزنية لا يقدر!
وبها جبل كركس كوه جبل دورته فرسخان في مفازة بين الري والقم ، وهو جبل وعر المسلك في مفازة بعيدة عن العمارات ، في وسطه ساحة فيها ماء ، والجبال محيطة بها من جميع جوانبها ، فمن كان فيها كأنّه في مثل حظيرة.
وسمّي كركس كوه لأن النسر كان يأوي إليه ، وكركس هو النسر ، فلو اتّخذ معقلا كان حصينا إلّا أنّه في مفازة بعيدة عن البلاد قلّما يجتاز بها أحد.
وبها جبل نهاوند ، وهو بقرب نهاوند ، قال ابن الفقيه : على هذا الجبل طلسمان صورة سمك وثور ، قالوا : إنّهما لأجل الماء لئلّا يقلّ ماؤه ، وماؤه ينقسم قسمين : قسم يجري إلى نهاوند ، والآخر إلى الدينور.

وبها جبل يله بشم. هذا الجبل بقرب قرية يقال لها يل ، وهي من ضياع قزوين على ثلاثة فراسخ منها. حدّثني من صعد هذا الجبل قال : عليه صور حيوانات مسخها الله تعالى حجرا ، منها راع متكىء على عصاه يرعى غنمه ، وامرأة تحلب بقرة ، وغير ذلك من صور الإنسان والبهائم. وهذا شيء يعرفه أهل قزوين.
وينسب إليها الوزير مهلب بن عبد الله. كان وزيرا فاضلا قعد به الزمان حتى صار في ضنك من العيش شديد ، فرافقه بعض أصدقائه في سفره فاشتهى لحما ولم يقدر على ثمنه ، فاشترى رفيقه له بدرهم لحما ، فأنشأ يقول :
ألا موت يباع فأشتريه
 

فهذا العيش ما لا خير فيه!
 
إذا أبصرت قبرا من بعيد
 

وددت لو انّني من ساكنيه!
 
ألا رحم الإله ذنوب عبد
 

تصدّق بالوفاة على أخيه!
 
ثمّ بعد ذلك علا أمره وارتفعت مكانته ، فقصده ذلك الرفيق والبوّاب منعه من الدخول عليه ، فكتب على رقعة :
ألا قل للوزير : فدتك نفسي
 

وأهلي ثمّ ما ملّكت فيه
 
أتذكر إذ تقول لضنك عيش :
 

ألا موت يباع فأشتريه
 
فأحضره وحيّاه وجعله من خاصّته.
جبّل
قرية بين النعمانية وواسط ، وكانت في قديم الزمان مدينة يضرب بقاضيها المثل في قلّة العقل! ومن حديثه ما ذكر أن المأمون أراد المضي إلى واسط ، فاستكرى القاضي جمعا ليثنوا عليه عند وصول الخليفة ، فاتّفق أن شبارة الخليفة وصلت ، وما كان من الجمع المستكرين أحد حاضرا ، فخاف القاضي

أن تفوت الفرصة فجعل يعدو على شاطىء دجلة مقابل الشبارة وينادي بأعلى صوته : يا أمير المؤمنين ، نعم القاضي قاضي جبّل! فضحك يحيى بن اكثم ، وكان راكبا في الشبارة مع الخليفة ، وقال : يا أمير المؤمنين هذا المنادي هو قاضي جبّل يثني على نفسه! فضحك المأمون وأمر له بشيء وعزله وقال : لا يجوز أن يلي شيئا من أمور المسلمين من هذا عقله.
جرباذقان
بليدة من بلاد قهستان بين أصفهان وهمذان ذات سور وقهندز ، لها رئيس يقال له جمال باده ، لا يمشي إلى أحد من ملوك قهستان البتّة. وله موضع حصين وإلى داره عقود وأبواب وحرّاس ، والملوك كانوا يسامحونه بذلك ويقولون :إنّ أذيّته وإزعاجه غير مبارك!
وكان الأمر على ذلك إلى أن ملك الجبال خوارزمشاه محمّد ، سلّمها إلى ابنه وإلى عماد الملك ، فوصل عماد الملك إلى جرباذقان. أخبر بعادة الرئيس انّه لا يمشي إلى أحد ، فغضب من ذلك وبعث إليه يطلبه فأبى. فبعث إليه عسكره دخلوا المدينة قهرا ، وتحصّن الرئيس بالقلعة فحاصروها أيّاما وقتل من الطرفين.
فلمّا اشتدّ الأمر عليه نزل بالليل وهرب ، فخرب عماد الملك القلعة وقتل أكثر أهلها لأنّهم قتلوا أصحاب عماد الملك. فعمّا قريب ورد عساكر التتر وهرب عماد الملك فقتلوه في الطريق ، وقتلوا ابن خوارزمشاه وعاد الرئيس إلى حاله كما كان.
جرجان
مدينة عظيمة مشهورة بقرب طبرستان. بناها يزيد بن المهلّب بن أبي صفرة ، وهي أقلّ ندى ومطرا من طبرستان ، يجري بينهما نهر تجري فيه السفن ، بها فواكه الصرود والجروم ، وهي بين السهل والجبل والبرّ والبحر.

بها البلح والنخل والزيتون والجوز والرمّان والأترج وقصب السكّر ، وبها من الثمار والحبوب السهليّة والجبليّة المباحة ، يعيش بها الفقراء. ويوجد في صيفها جنيّ الصيف والشتاء من الباذنجان والفجل والجزر ، وفي الشتاء الجدي والحملان والألبان والرياحين : كالخزامى والخيري والبنفسج والنرجس والأترج والنارنج.
وهي مجمع طير البرّ والبحر ، لكن هواءها رديء لأنّه يختلف في يوم مضرّ سيما بالغرباء.
وحكي انّه كان بنيسابور في أيّام الطاهرية ستّمائة رجل من بني هلال يقطعون الطريق ، فظفروا بهم ونقلوا ثلاثمائة إلى جرجان وثلاثمائة إلى جرجانيّة بخوارزم. فلمّا تمّ عليهم الحول لم يبق ممّن كان بجرجان إلّا ثلاث أنفس ، ولم يمت ممّن كان بجرجانيّة إلّا ثلاثة.
وبجرجان من العناب الجيّد والخشب الخلنج الذي يتّخذ منه النشّاب والظروف والأطباق ، ويحمل إلى سائر البلاد. وبها ثعابين تهول الناظر ولا ضرر لها.
وذكر أبو الريحان الخوارزمي انّه شوهد بجرجان مدرة صار بعضها قارا والبعض الآخر بحالها.
بها عين سياه سنك ؛ قال صاحب تحفة الغرائب : بجرجان موضع يسمّى سياه سنك ، به عين ماء على تلّ يأخذ الناس ماءها للشرب ، وفي الطريق إليها دودة ، فمن أخذ من ذلك الماء وأصاب رجله تلك الدودة يصير الماء الذي معه مرّا فيبدّده ، ويعود إليها يأخذ مرّة أخرى ، وهذا عندهم مشهور.
ينسب إليها كرز بن وبرة كان من الأبدال ، قال فضيل : إذا خرج كرز بن وبرة يأمر بالمعروف يضربونه حتى يغشى عليه ، فسأل ربّه أن يعرّفه الاسم الأعظم بشرط أن لا يسأل به شيئا من أمور الدنيا ، فأعطاه الله ذلك ، فسأل أن يقوّيه على قراءة القرآن ، فكان يختم كلّ يوم وليلة ثلاث ختمات.
حكى أبو سليمان المكتب قال : صحبت كرز بن وبرة إلى مكّة ، فكان إذا نزل القوم أدرج ثيابه في الرحل واشتغل بالصلاة ، فإذا سمع رغاء الإبل أقبل ،

فتأخر يوما عن الوقت ، فذهبت في طلبه فإذا هو في وهدة في وقت حارّ ، وإذا سحابة تظلّه فقال : يا أبا سليمان ، أريد أن تكتم ما رأيت! فحلفت أن لا أخبر أحدا في حياته. وحكي انّه لمّا توفي رأوا أهل القبور في النوم ، عليهم ثياب جدد ، فقيل لهم : ما هذا؟ قالوا : ان أهل القبور كلّهم لبسوا ثيابا جددا لقدوم كرز بن وبرة!
وينسب إليها أبو سعيد إسماعيل بن أحمد الجرجاني. كان وحيد دهره في الفقه والأصول والعربيّة ، مع كثرة العبادة والمجاهدة وحسن الخلق والاهتمام بأمور الدين والنصيحة للمسلمين ، وهو القائل :
إني ادّخرت ليوم ورد منيّتي
 

عند الإله من الأمور خطيرا
 
قولي بأنّ إلهنا هو أوحد
 

ونفيت عنه شريكه ونظيرا
 
وشهادتي أنّ النّبيّ محمّدا
 

كان الرّسول مبشّرا ونذيرا
 
ومحبّتي آل النّبيّ وصحبه
 

كلّا أراه بالثّناء جديرا
 
وتمسّكي بالشّافعيّ وعلمه
 

ذاك الّذي فتق العلوم بحورا
 
وجميل ظنّي بالإله وإن جنت
 

نفسي بأنواع الذّنوب كثيرا
 
إنّ الظّلوم لنفسه إن يأته
 

مستغفرا يجد الإله غفورا
 
فاشهد إلهي أنّني مستغفر
 

لا أستطيع لما مننت شكورا
 
هذا الذي أعددته لشدائدي
 

وكفى بربّك هاديا ونصيرا!
 
قبض أبو سعيد في صلاة المغرب عند قوله : وإيّاك نستعين ، وفاضت روحه وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة.
وينسب إليها القاضي أبو الحسن عليّ بن عبد العزيز الجرجاني. كان أديبا فقيها شاعرا ، وهو القائل :
يقولون لي : فيك انقباض! وإنّما
 

رأوا رجلا عن موقف الذلّ أحجما
 



يرى الناس من داناهم هان عندهم
 

ومن أكرمته عزّة النّفس أكرما
 
وينسب إليها الإمام عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني. كان عالما فاضلا أديبا عارفا بعلم البيان ، له كتاب في إعجاز القرآن في غاية الحسن ما سبقه أحد في ذلك الأسلوب. من لم يطالع ذلك الكتاب لا يعرف قدره ودقّة نظره ولطافة طبعه ، واطّلاعه على معجزات القرآن.
وبها مشهد لبعض أولاد عليّ الرضا ، العجم يسمّونه «كور سرخ» ، النذر له يفضي إلى قضاء الحاجة ، وهذا أمر مشهور في بلاد العجم ، يحمل إليها أموال كثيرة ويصرف إلى جمع من العلويّين هناك.
جرجرايا
قرية من أعمال بغداد مشهورة. ينسب إليها عليّ الجرجرائي ، كان من الابدال ، لا يدخل العمران ولا يختلط بأحد ؛ حكى بشر الحافي قال : لقيته على عين ماء فلمّا أبصرني عدا ، قال : بذنب مني رأيت اليوم إنسيّا! فعدوت خلفه وقلت : أوصني! فالتفت إليّ وقال : عانق الفقر وعاشر الصبر ، وخالف الشهوة واجعل بيتك أخلى من لحدك يوم تنقل إليه ، على هذا طاب المصير إلى الله تعالى!
الجزيرة
بلاد تشتمل على ديار بكر ومضر وربيعة ، وإنّما سمّيت جزيرة لأنّها بين دجلة والفرات ، وهما يقبلان من بلاد الروم ، وينحطان متسامتين حتى يصبّا في بحر فارس ، وقصبتها الموصل وحرّان ، والجزيرة بليدة فوق الموصل تدور دجلة حولها كالهلال ، ولا سبيل إليها من اليبس إلّا واحد ؛ قالوا : من خاصية هذه البلاد كثرة الدماميل. قال ابن همّام السلولي :


أبدا إذا يمشي يحيك كأنّما
 

به من دماميل الجزيرة ناخس
 
وحكي أن ضرار بن عمرو طلع به الدماميل ، وهو ابن تسعين سنة ، فتعجّب الناس فقالوا : احتملها من الجزيرة!
ينسب إليها بنو الأثير الجزريّون. كانوا ثلاثة اخوة فضلاء ، رأيت منهم الضياء ، كان شيخا حسن الصورة فاضلا حلو الحديث كريم الطبع ، له تصانيف كثيرة منها : المثل السائر كتاب في علم البيان في غاية الحسن ، وكتاب في شرح الألفاظ الغريبد التي وردت في أحاديث رسول الله ، صلّى الله عليه وسلّم ، وغيرهما.
جوهسته
قرية من قرى همذان. بها قصر بهرام جور ، وبهرام من ملوك الفرس.
كان أرمى الناس لم ير رام مثله ، وهذا القصر عظيم جدّا وكلّه حجر واحد ، منقورة بيوته ومجالسه وخزائنه وغرفه وشرفاته وسائر حيطانه ، وهو كثير المجالس والخزائن والدهاليز والغرف. وفي مواضع منها كتابات بالعجميّة تتضمّن أخبار ملوكهم الماضين وحسن سيرتهم ، وفي كلّ ركن من أركانه صورة جارية عليها كتابة ، وبقربه ناووس الطيبة ، وسيأتي ذكرها إن شاء الله تعالى.
جوين
ناحية بين خراسان وقهستان كثيرة الخيرات وافرة الغلّات. وهي أربعمائة قرية على أربعمائة قناة. والقنوات منشأها من مرتفع من الأرض ، والقرى على متسفّل أحدهما بجانب الآخر.
ينسب إليها أبو المعالي عبد الملك بن محمّد إمام الحرمين الإمام العلامة ، ما رأت العيون قبله ولا بعده مثله في غزارة العلم ، وفصاحة اللسان ، وجودة

الذهن. من رآه من العلماء تحيّر فيه ، شاع ذكره في الآفاق ، فلمّا كان زمان أبي نصر الكندري وأمر بلعن المذاهب على رأس المنبر ، فارق الإمام خراسان وذهب إلى الحجاز ودرّس بمكّة. فانقضت تلك المدّة سريعا بموت طغرلبك وقتل الكندري ، فعاد إمام الحرمين إلى خراسان وبنى له نظام الملك مدرسة بنيسابور ، فظهرت تلامذته وانتشرت تصانيفه. وكان في حلقته ثلاثمائة فقيه من الفحول ، بلغوا مبلغ التدريس كأبي حامد الغزّالي ، وصنّف نهاية المطلب عشرين مجلّدا. توفي سنة ثمان وثمانين وأربعمائة.
جيلان
غيضة بين قزوين وبحر الخزر صعبة المسلك لكثرة ما بها من الجبال والوهاد والأشجار والمياه ، في كلّ بقعة ملك مستقلّ لا يطيع غيره ، والحرب بينهم قائمة ، والمطر كثير جدّا ربّما يستمرّ أربعين يوما لا ينقطع ليلا ولا نهارا ، ويضجر الناس منه. وبيوتهم من الأخشاب والاخصاص وسط الأشجار ، ولا حدّ لكثرة أشجارها الطوال لو كانت بأرض أخرى كان لها قيمة.
ونساؤها أحسن النساء صورة لا يستترن عن الرجال يخرجن مكشوفات الوجه والرأس والصدر.
وبها من الخيل الهماليج ما لا يوجد في غيرها من البلاد ، ولم ير أحسن منها صورة ومشيا.
ومن عجائبها ما سمعت ولا صدقت حتى جرّبت ، وهو ان المطر إذا دام عندهم ضجروا منه ، فإن سمعوا بالليل صوت ابن آوى وعقبه نباح كلب يبشر بعضهم بعضا بصحو الغد ، وعندهم من بنات آوى والكلاب كثير ، وهذا شيء أشهر عندهم وجرّبت مرارا ما أخطأ شيء.
مأكولهم الرزّ الجيّد المولاني والسمك ، ويؤدون زكاة الرز ولا يتركونه أصلا. ويقتنون دود الابريسم ، شغل رجالهم زراعة الرزّ وشغل نسائهم تربية

دود القزّ والرزق الحلال في زماننا عندهم. ونساؤهم ينسجن الميازر والمشدات الفرية الملاح وتحمل منها إلى سائر البلاد.
ومن عاداتهم أن فقهاءهم في كلّ سنة يستأذنون من الأمير الأمر بالمعروف ، فإذا أذن لهم أحضروا كلّ واحد كائنا من كان وضربوه مائة خشبة ، فربّما يحلف الرجل أيمانا انّه ما شرب ولا زنى فيقول الفقيه : ايش صنعتك؟ فيقول :بقّال أنا! فيقول : أما كان بيدك الميزان؟ فيقول : نعم. فيأمر بضربه مائة!
ينسب إليها الشيخ محمّد بن خالد الملقّب بنور الدين. كان شيخا عظيم الشأن ظاهر الكرامات. رأيته في صغر سني كان شيخا مهيبا وضيء الوجه طويل القامة ، كثّ اللحية طويلها ، ما رآه أحد ولو كان ملكا إلّا أخذته هيبته.
له مصنّفات في عجائب أحواله ومشاهدته الملائكة والجنّة والنار ، وأحوال الأموات وخواصّ الأذكار والآيات.
حكى بعض من صحبه قال : سرنا ذات يوم فرفع لنا خان فقصدناه ، فقال بعض السابلة : لا تدخلوا الخان فإنّه يأوي إليه سبع! فقال الشيخ : نتّكل على الله. فدخلناها وفرش الشيخ مصلّاءة يصلّي ، فسمعت زئير الأسد فأنكرت في نفسي على الشيخ لدخول الخان ، فدخل الخان سبع هائل ، فلمّا رآنا جعل يأتينا إتيانا لينا لا إتيان صائل ، وأنا أنظر إلى شكله فذهب عقلي ، فهربت إلى الشيخ وجعلته بيني وبين الأسد ، فجاء وافترش عند مصلّى الشيخ ، فلمّا فرغ الشيخ من صلاته مسح رأسه وقال بالعجميّة : فارق هذا الموضع ولا ترجع تفزّع الناس ههنا! فقام السبع وخرج من الخان ولم يره أحد بعد ذلك هناك.
الحضر
مدينة كانت بين تكريت وسنجار مبنية بالحجارة المهندمة ، كان على سورها ستّون برجا كبارا ، بين البرج والبرج تسعة أبراج صغار ، بإزاء كلّ برج قصر وإلى جانبه حمّام. وبجانب المدينة نهر الثرثار وكان نهرا عظيما عليه جنان بناها

الضّيزن بن معاوية ، وكان من قضاعة من قبل شابور بن اردشير ملك الفرس ، وقد طلسمها أن لا يقدر على هدمها إلّا بدم الحمامة الورقاء ، ودم حيض المرأة الزرقاء ؛ وإيّاها أراد عدي بن زيد :
وأخو الحضر إذ بناه وإذ دجلة تجبى إليه والخابور
 

شاده جندلا وجلّله كلسا ، وللطّير في ذراه وكور
 
فاتّفق أنّه ظهر لشابور خصم بخراسان ، فذهب إليه وطالت غيبته فعصى ضيزن عليه واستولى على بلاد الجزيرة ، وأغار على بلاد الفرس وخرب السواد وأسر ماه أخت شابور الملك. فلمّا عاد شابور من خراسان وأخبر بما فعل ضيزن ، ذهب إليه بعساكره وحاصره سنين ولم يظفر بشيء ، فهمّ بالرجوع فصعدت النّصيرة بنت الضيزن السطح ورأت شابور فعشقته ، فبعثت إليه أن ما لي عندك ان دللتك على فتح هذه المدينة؟ فقال شابور : آخذك لنفسي وأرفعك على نسائي. فقالت : خذ من دم حمامة ورقاء ، واخلطه بدم حيض امرأة زرقاء ، واكتب بهما واشدده في عنق ورشان وأرسله ، فإنّه إذا وقع على السور تهدّم! ففعل كما قالت فدخل المدينة وقتل مائة ألف رجل وأسر البقيّة ، وقتل ضيزن وأنسابه فقال الحدس بن الدلهاث :
ألم يجزيك والأبناء تمنى
 

بما لاقت سراة بني العبيد؟
 
ومقتل ضيزن وبني أبيه
 

وإجلاء القبائل من يزيد
 
أتاهم بالفيول مجلّلات
 

وبالأبطال شابور الجنود
 
فهدّم من بروج الحضر صخرا
 

كأنّ ثقاله زبر الحديد!
 
ثمّ سار شابور إلى عين التمر وعرّس بالنصيرة هناك ، فلم تنم هي تلك الليلة تململا على فراشها ، فقال لها شابور : ما أصابك؟ فقالت : لم أنم قطّ على فراش أخشن من هذا! فنظر فإذا في الفراش ورقة آس لصقت بين عكنتين

من عكنها ، فقال لها شابور : بم كان أبواك يغذوانك؟ قالت : بشهد الأبكار ولباب البرّ ومخّ الثنيان! فقال شابور : أنت ما وفيت لأبويك مع حسن صنيعهما بك ، فكيف تفين لي؟ ثمّ أمر أن تصعد بناء عاليا وقال : ألم أرفعك فوق نسائي؟ قالت : بلى! فأمر بفرسين جموحين وشدّت ذوائبها في ذنبيهما ثمّ استحضرا فقطعاها ؛ قال عدي بن زيد :
والحضر صبّت عليه داهية
 

شديدة أيد مناكبها
 
ربيبة لم ترقّ والدها
 

بحبّها إذ ضاع راقبها
 
فكان حظّ العروس إذ جشر
 

الصّبح دما يجري سبايبها
 
حصن الطاق
حصن حصين بطبرستان ، كان في قديم الزمان خزانة ملوك الفرس ، وأوّل من اتّخذه منوجهر بن ايرج بن فريدون ، وهو نقب في موضع عال في جبل صعب المسلك ، والنقب يشبه بابا صغيرا ، فإذا دخله الإنسان مشى نحو ميل في ظلمة شديدة ثمّ يخرج إلى موضع واسع شبيه بمدينة ، قد أحاطت به الجبال من جميع الجوانب. وهي جبال لا يمكن صعودها لارتفاعها ، وفي هذه السعة مغارات وكهوف ، وفي وسطها عين غزيرة الماء ينبع من ثقبة ويغور في أخرى ، وبينهما عشرة أذرع. وكان في أيّام الفرس يحفظ هذا النقب رجلان معهما سلّم يدلونه من الموضع ، إذا أراد أحدهما النزول في دهر طويل ، وعندهما ما يحتاجان إليه لسنين كثيرة.
ولم يزل الأمر على ذلك إلى أن ملك العرب طبرستان ، فحاولوا الصعود عليه فتعذّر عليهم ذلك إلى أن ولّي المازيار طبرستان ، فقصد هذا الموضع وأقام عليه مدّة حتى صعد رجل من أصحابه إليه ، فدلّى حبالا وأصعد قوما فيهم المازيار ، فوقف على ما في تلك الكهوف من الأموال والسلاح والكنوز ،

وكان بيده إلى أن مات. وانقطع السبيل إليه إلى هذه الغاية.
ومن العجائب ما ذكره ابن الفقيه انّه إلى جانب هذا الطاق شبيه بالدكان ، إذا لطخ بعذرة أو شيء من الأقذار ارتفعت في الحال سحابة فمطرت عليه حتى تغسله وتنظّفه ، وان ذلك مشهور عندهم لا يتمارى فيه اثنان.
حلوان
مدينة بين همذان وبغداد. كانت عامرة طيّبة والآن خراب ، وتينها ورمانها في غاية الطيب ، لم يوجد في شيء من البلاد مثلهما. وفي حواليها عدّة عيون كبريتيّة ينتفع بها من عدّة أدواء. وكان بها نخلتان مشهورتان على طريق السابلة ، وصل إليهما مطيع بن اياس فقال :
أسعداني يا نخلتي حلوان
 

وابكيا لي من ريب هذا الزّمان
 
واعلما أنّ ريبه لم يزل
 

يفرّق بين الألّاف والجيران
 
واسعداني وأيقنا أنّ نحسا
 

سوف يأتيكما فتفترقان!
 
حكى المدائني أن المنصور اجتاز عليهما ، وكانت إحداهما على الطريق ضيّقت على الأحمال والأثقال ، فأمر بقطعها فأنشد قول مطيع فقال : والله لا كنت ذلك النحس! ثمّ اجتاز المهدي بهما واستطاب الموضع ، ودعا لحسنه المغنيّة وقال لها : أما ترين طيب هذا الموضع؟ غنّيني بحياتي! فغنّت :
أيا نخلتي وادي بوانة حبّذا
 

إذا نام حرّاس النّخيل جناكما!
 
فقال لها : أحسنت! لقد هممت بقطع هاتين النخلتين فمنعتني. فقالت : أعيذك بالله أن تكون نحسهما! وأنشدت قول مطيع ، ثمّ اجتاز بهما الرشيد عند خروجه إلى خراسان وقد هاج به الدم بحلوان ، فأشار عليه الطبيب بأكل الجمّار ، فطلب ذلك من دهقان حلوان فقال : ليست أرضنا أرض نخل لكن

على العقبة نخلتان فاقطعوا إحداهما. فقطعوا. فلمّا اجتاز الرشيد بهما وجد إحداهما مقطوعة والأخرى قائمة وعليها مكتوب :
واعلما إن بقيتما أنّ نحسا
 

سوف يأتيكما فتفترقان!
 
فاغتمّ الرشيد لذلك وقال : لقد عزّ عليّ ان كنت نحسهما ، ولو كنت سمعت هذا الشعر ما قطعت هذه النخلة ولو قتلني الدم! فاتّفق انّه لم يرجع من ذلك السفر.
الحويزة
كورة بين واسط والبصرة وخوزستان في وسط البطائح في غاية الرداءة.
كتب وفادار بن خودكام إلى صديق له كتابا من الحويزة : وما أدراك ما الحويزة! دار الهوان ومنزل الحرمان! ثمّ ما أدراك ما الحويزة! أرضها رغام وسماؤها قتام ، وسحابها جهام وسمومها سهام ، ومياهها سمام وطعامها حرام ، وأهلها لئام ، وخواصّها عوام ، وعوامّها طغام! لا يروي ريعها ولا يرجى نفعها ، ولا يمري ضرعها ولا يرعى زرعها ، ولقد صدق الله قوله فيها : ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات! وأنا منها بين هواء وبيء وماء رديء ، وشباب غمر وشيخ غوي ، يتّخذون الغمر أدبا والزور إلى أرزاقهم سببا ، يأكلون الدنيا سلبا ويعدون الدين لهوا ولعبا ولو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا.
إذا سقى الله أرضا صوب غادية
 

فلا سقاها سوى النّيران تضطرم
 
ينسب إليها أبو العبّاس أحمد بن محمّد الحويزي. وكان من أعاجيب الزمان في الجمع بين الأمور المتضادة : كان ذا فضل وتمييز ، وجور وظلم مع إظهار الزهد والتقشّف والتسبيح الدائم والصلاة الكثيرة. وإذا عزل اشتغل بمطالعة

الكتب ، ويظهر انّه أراد العزل وكره العمل وخدمة الظلمة فقال أبو الحكم الأندلسي :
رأيت الحويزيّ يهوى الخمول
 

ويلزم زاوية المنزل
 
لعمري لقد صار حلسا له
 

كما كان في الزّمن الأوّل
 
يدافع بالشّعر أوقاته
 

وإن جاع طالع في المجمل!
 
وإذا خرج صار أظلم ممّا كان حتى انّه في بعض ولاياته كان نائما على سطح ، فصعدوا إليه ووجأوه بالسكّين.
الحيرة
مدينة كانت في قديم الزمان بأرض الكوفة على ساحل البحر ، فإن بحر فارس في قديم الزمان كان ممتدّا إلى أرض الكوفة ، والآن لا أثر للمدينة ولا للبحر ، ومكان المدينة دجلة.
ينسب إليها النعمان بن امرىء القيس صاحب الحيرة من ملوك بني لخم.
نبى بالحيرة قصرا يقال له الخورنق في ستّين سنة ، قصرا عجيبا ما كان لأحد من الملوك مثله. فبينا هو ذات يوم جالس على الخورنق إذ رأى البساتين والنخل والأشجار والأنهار ممّا يلي المغرب ، والفرات ممّا يلي المشرق ، والخورنق مكانه ، فأعجبه ذلك وقال لوزيره : أرأيت مثل هذا المنظر وحسنه؟ فقال : ما رأيت أيّها الملك لا نظير له لو كان دائما! فقال له : ما الذي يدوم؟ فقال : ما عند الله في الآخرة! فقال : بم ينال ذلك؟ فقال : بترك الدنيا وعبادة الله! فترك النعمان الملك ولبس المسح ورافقه وزيره ، ولم يعلم خبرهما إلى الآن ؛ قال عدي بن زيد :
وتبيّن ربّ الخورنق ، إذ
 

أشرف يوما وللهدى تفكير
 



سرّه ما رأى وكثرة ما يم
 

لك والبحر معرضا والسّدير
 
فارعوى قلبه وقال : فما غب
 

طة حيّ إلى الممات يصير؟
 
ثمّ بعد الفلاح والملك والإ
 

مّة وارتهم هناك القبور!
 
ثمّ صاروا كأنّهم ورق جفّ
 

فألوت به الصّبا والدّبور
 
وينسب إليها أبو عثمان إسماعيل الحيري. كان من عباد الله الصالحين.
حكي من كرم أخلاقه ان رجلا دعاه إلى ضيافته فذهب إليه ، فلمّا انتهى إلى باب داره قال : ما لي وجه الضيافة! فرجع ثمّ طلبه بعد ذلك مرّة أخرى فأجابه ، فلمّا انتهى إلى باب داره قال له مثل ذلك ، ثمّ دعاه مرّة ثالثة وقال له مثل ذلك.
فعاد الشيخ فقال الداعي : اني أردت أن أجرّبك ، وجعل يمدحه فقال الشيخ :لا تمدحني على خلق يوجد في الكلاب ، إذا دعي الكلب أجاب وإن زجر انزجر! توفي سنة ثمان وتسعين ومائتين.
حيزان
بليدة ذات بساتين كثيرة ومياه غزيرة ، من بلاد ديار بكر بقرب إسعرت.
بها الشاهبلوط ، وليس الشاهبلوط في شيء من بلاد الجزيرة والشام والعراق إلّا بها. والبندق أيضا بها كثير.
خاوران
ناحية ذات قرى بخراسان. بها خيرات كثيرة وينسب إليها الوزير أبو عليّ شاذان ، كان وزيرا لملوك بني سامان ، وبقي في الوزارة مدّة طويلة حتى يوزّر الآباء والأبناء منهم ، ولطول مدّة وزارته قيل فيه :
وقالوا العزل للعمّال حيض
 

نجاه الله من حيض بغيض
 
فإن يك هكذا ، فأبو عليّ
 

من اللّاتي يئسن من المحيض
 


وينسب إليها أسعد الميهني. كان عالما فاضلا مشهورا بالعلم والعمل ، مدرّسا للمدرسة النظاميّة ببغداد.
وينسب إليها الشيخ أبو سعيد بن أبي الخير. وهو الذي وضع طريقة التصوّف وبنى الخانقاه ، ورتّب السفرة في اليوم مرّتين ، وآداب الصوفيّة كلّها منسوبة إليه ، وكذا الانقطاع عن الدنيا. ذكر في مقاماته انّه قال : ان الله تعالى وكّل بي أسود على عاتقه عصا ، كلّما فترت عن الذكر تعرّض لي وقال لي : قل الله!
وحكي انّه كان لأبي سعيد رفيق أوّل أمره في طلب العلم ، فلمّا كان آخره قال له ذلك الرفيق : بم وصلت؟ فقال له أبو سعيد : أتذكر وقتا كنّا نقرأ التفسير على أستاذنا فلان؟ قال : نعم. قال : فلمّا انتهينا إلى قوله : قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون. عملت بهذه الآية!
وحكي انّه كان في خدمته رجلان : كان لأحدهما مئزران ، والآخر لا مئزر على رأسه ، فوقع في قلبه ان صاحب المئزرين يؤثر أحدهما له ثمّ منعه عن ذلك مانع ، حتى كان ذلك ثلاث مرّات ، فقال للشيخ : الخاطر الذي يخطر لنا من الله أو من أنفسنا؟ فقال : ان كان لخير فمن الله ولا يخاطب في مئزر أكثر من ثلاث مرّات. ومشايخ الصوفيّة كلّهم تلامذة أبي سعيد ، وآدابهم مأخوذة من أفعال رسول الله ، صلّى الله عليه وسلّم.
وينسب إليها الأنوري الشاعر ، شعره في غاية الحسن ألطف من الماء ، شعره بالعجميّة كشعر أبي العتاهية بالعربيّة.
خراسان
بلاد مشهورة. شرقيها ما وراء النهر ، وغربيها قهستان. قصبتها مرو وهراة وبلخ ونيسابور. وهي من أحسن أرض الله وأعمرها وأكثرها خيرا ، وأهلها أحسن الناس صورة وأكملهم عقلا وأقومهم طبعا ، وأكثرهم رغبة في الدين والعلم. أخبرني بعض فقهاء خراسان أن بها موضعا يقال له سفان به غار ، من

دخله برأ من مرضه أيّ مرض كان.
وبها جبل كلستان. حدّثني بعض فقهاء خراسان أن في هذا الجبل كهفا شبه ايوان ، وفيه شبه دهليز يمشي فيه الإنسان منحنيا مسافة ، ثمّ يظهر الضوء في آخره ويتبيّن محوّط شبه حظيرة ، فيها عين ينبع الماء منها وينعقد حجرا على شبه القضبان. وفي هذه الحظيرة ثقبة يخرج منها ريح شديدة لا يمكن دخولها من شدّة الريح.
بها نهر الرّزيق بمرو ، عليه سقي بساتينهم وزروعهم ، وعليه طواحينهم.
وانّه نهر مبارك تبرّك به المسلمون في الوقعة العظيمة التي كانت بين المسلمين والفرس. قتل فيه يزدجرد بن شهريار آخر الأكاسرة في زمن عمر بن الخطّاب.
وذاك أن المسلمين كشفوا الفرس كشفا قبيحا ، فمنعهم النهر عن الهرب ودخل كسرى طاحونة تدور على الرزيق لمّا فاته الهرب ، وكان عليه سلب نفيس طمع الطحّان في سلبه فقتله وأخذ سلبه.
بها عين فراوور ، وفراوور اسم موضع بخراسان. حدّثني بعض فقهاء خراسان قال : من المشهور عندنا أن من اغتسل بماء العين التي بفراوور ، أو غاص فيه يزول عنه حمى الربع.
وينسب إليها أبو عبد الرحمن حاتم بن يوسف الأصمّ ، من أكابر مشايخ خراسان ، وكان تلميذ شقيق البلخي ، لم يكن أصمّ لكن تصامم فسمّي بذلك ، وسببه أن امرأة حضرت عنده تسأله مسألة ، فسبقت منها ريح فقال لها : إني ثقيل السمع ما أسمع كلامك فارفعي صوتك! وإنّما قال ذلك لئلّا تخجل المرأة ، ففرحت المرأة بذلك.
حكى عن نفسه انّه كان في بعض الغزوات ، فغلبه رجل تركيّ وأضجعه يريد ذبحه. قال : ولم يشتغل قلبي به بل انتظر ماذا حكى الله تعالى ، قال : فبينا هو يطلب السكين من جفنه إذ أصابه سهم عرب قتله وقمت أنا. توفي سنة سبع وثلاثين ومائتين.

وينسب إليها الشيخ حبيب العجمي وكان من الابدال ظاهر الكرامات.
حكي ان حسنا البصري دخل عليه وقت صلاة المغرب ، فدخل مسجدا ليصلّي فيه ، وكان حبيب العجمي يصلّي فيه فكره أن يصلّي خلفه لكونه عجميّا يقع في قراءته لحن ، فما صلّى خلفه. فرأى في نومه : لو صلّيت خلفه لغفرنا ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر! ورئي حبيب في النوم بعد وفاته فقيل له : ما فعل الله بك؟ فقال : ذهبت العجمة وبقيت النعمة.
وبها الثعلب الطيّار. ذكر الأمير أبو المؤيّد بن النعمان أن بخراسان شعبا يسمّى بحرا ، ومن ناحية بروان بها صنف من الثعلب له جناحان يطير بهما ، فإذا ابتدأ بالطيران يطير مقدار غلوة سهم أو أكثر ، ثمّ يقع ويطير طيرانا دون الأوّل ، ثمّ يقع ويطير طيرانا دون الثاني.
وبها فارة المسك. وهو حيوان شبيه بالخشف حين تضعه الظبية ، تقطع منه سرّته فيصير مسكا.
خرقان
مدينة بقرب بسطام ، بينهما أربعة فراسخ ، ينسب إليها الشيخ أبو القاسم الخرقاني من المشايخ الكبار المذكور في طبقاتهم. له بخرقان قبر ذكروا أن من حضر هناك يغلبه قبض شديد جدّا.
خوار
بلدة من بلاد قهستان بين الري ونيسابور. بها قطن كثير يحمل منها إلى سائر البلاد. ينسب إليها الجلال الخواري. كان واعظا عديم النظير في زمانه صاحب النظم والنثر والبديهة والقبول التام ، عند الخواصّ والعوام. حكي أن السلطان طغرل بن أرسلان وصل إلى الري وعساكره أرسلوا خيلهم في مزدرعاتهم ، فذهب صدر الدين الوزّان وأخذ معه الجلال الخواري حتى يذكر عند السلطان

فصلا ويعرّفه حال المزارع. فلمّا دخل صدر الدين على السلطان مع أصحابه تخلّف الجلال ، منعه البوّاب ، فلمّا دخلوا أرادوا الجلال ليتكلّم فقالوا : منعه البوّاب. فاستأذنوا له من السلطان فأذن ، فلمّا دخل شرع في الكلام. قال له السلطان : اجلس. فجلس وقال :
داعي دولتت كه بفرمان نشسته است
 

انجا بباي بوذ كي دربان نشسته است
 
بروانه ز شمع سلاطين بذو رسيد
 

كفتاكي اندر آي كه سلطان نشسته است
 
جون سجده كه بديذم بروانه سهو كفت
 

كه اسكندر بجاي سليمان نشسته است
 
دعوى همي كنم كه جو تو نيست در جهان
 

واينك كواه عدل كه وزان نشسته است
 
كر دستور تو كه جو موراند وجون ملخ
 

بر خوشهاء ودانه دهقان نشسته است
 
باران عدل بار كه اين خاك بيالهاست
 

تا بر اميد وعده باران نشسته است
 
أنشد هذه الأبيات ارتجالا ، فتعجّب الحاضرون واستحسن السلطان ذلك ، وأمر بإزالة التعرّض عن المزارع.
خواف
مدينة بخراسان بقرب نسا ، كبيرة آهلة ذات قرى وبساتين ومياه كثيرة.
ينسب إليها الإمام أبو المظفر الخوافي مشهور بالفضل سيّما في علم الجدل. وكان من خيار تلامذة إمام الحرمين ، وكان إمام الحرمين تعجبه مناظرته ومطالبه الصحيحة وفنونه الدقيقة ، فاختاره لمصاحبته ومحادثته. حكي أن بعض الفضلاء حضر حلقة إمام الحرمين ، واستدلّ استدلالا جيّدا وقام مشهورا ، وكان الخوافي غير حاضر ، فلمّا حضر ذكر له ذلك فقال : ان المقدمة الفلانية ممنوعة فكيف سلّمتموها؟ وذهب إلى المستدلّ وطلب منه إعادة الدليل ، وما قام من عنده حتى أفحمه.

خوست
مدينة من بلاد الغور بقرب باميان ، حدّثني أوحد المقري الغزنوي ان في بعض السنين أصاب أهل هذه المدينة قحط ، فوجدوا صنفا من الحبّ زرعوه وأكلوا منه ضرورة ، فأصابهم مرض في أرجلهم فصاروا جميعا عرجا ، فكان يأتي كلّ واحد بعصاتين.
دامسيان
من قرى قزوين بينهما عشرة فراسخ ، لأهل هذه القرية شبكة عظيمة جدّا وهي مشتركة بين أهل القرية : لأحدهم حبّة ولآخر نصف حبّة ، وعلى هذا يبيعونها ويشترونها ويرثونها. وفي كلّ سنة أو مرّتين ينصبون هذه الشبكة ويسوقون الصيد إليها ، فإذا دخلت فيها سدّوا بابها ودخلوا فيها يرمونها بالنشاب والمقالع والعصي ، فيدخلها شيء كثير من الصيد ، فيقسمونها فيما بينهم على قدر ملكهم في الشبكة ويقدّ دون لحومها.
دامغان
بلد كبير بين الري ونيسابور كثير الفواكه والمياه والأشجار ؛ قال مسعر ابن مهلهل : الرياح لا تنقطع بها ليلا ونهارا.
من عجائبها مقسم للماء كسروي ، يخرج ماؤه من مغارة ثمّ ينقسم إذا انحدر منه على مائة وعشرين قسما لمائة وعشرين رستاقا ، لا يزيد أحد الأقسام على الآخر ولا يمكن تأليفه إلّا على هذه النسبة ، وإنّه مستطرف جدّا.
ومن عجائبها فلجة في جبل بين دامغان وسمنان ، تخرج منها في وقت من السنة ريح لا تصيب أحدا إلّا أهلكته. وهذه الفلجة طولها فرسخ وعرضها نحو أربعمائة ذراع ، وإلى فرسخين ينال المارّة أذاها ليلا ونهارا من إنسان أو

دابّة أو حيوان ، وقلّ من يسلم منها إذا صادف زمانها.
وبها جبل ؛ قال صاحب تحفة الغرائب : هو جبل مشهور عليه عين ان ألقي فيها نجاسة يهبّ هواء قويّ ، بحيث يخاف منه الهدم والخراب.
وبها عين يقال لها باذخاني ؛ قال صاحب تحفة الغرائب : من أعمال دامغان قرية يقال لها كهن بها عين تسمّى باذخاني ، إذا أراد أهل القرية هبوب الريح لتنقية الحبّ عند الدياس ، أخذوا خرقة الحيض ورموها في تلك العين فيتحرّك الهواء ، ومن شرب من ذلك الماء ينتفخ بطنه ، ومن حمل معه شيئا منه فإذا فارق منبعه يصير حجرا.
داوردان
بلدة كانت من غربي واسط على فرسخ منها ؛ قال ابن عبّاس : وقع فيها طاعون فهرب منها عامّة أهلها ونزلوا ناحية منها ، فهلك بعض من أقام بها وسلم بعض. فلمّا ارتفع الطاعون رجع الهاربون فقال من بقي من المقيمين : أصحابنا الطاعنون احرم منّا ، فلو وقع الطاعون مرّة أخرى لنخرجن! فوقع الطاعون في القابل فهربوا ، وهم بضعة وثلاثون ألفا ، حتى نزلوا ذلك المكان ، وكان واد أفيح ، فناداهم ملك من أسفل الوادي وأعلاه أن موتوا ، فماتوا عن آخرهم.
فاجتاز عليهم حزقيل النبيّ ، عليه السلام ، فسأل الله تعالى أن يحييهم فأحياهم الله في ثيابهم التي ماتوا فيها ، فرجعوا إلى قومهم أحياء ، ويعرفون أنّهم كانوا موتى بوجوههم حتى ماتوا بآجالهم المحتومة ، وذلك قوله تعالى : ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت ، فقال لهم الله موتوا فماتوا ثمّ أحياهم! وبنوا في الموضع الذي ذهبوا إليه ديرا يسمّى دير حزقيل ، وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى.

دور
قرية من قرى بغداد من أعمال دجيل. ينسب إليها يحيى بن محمّد بن هبيرة وزير المقتفي. كان وزيرا ذا رأي وعلم ودين وثبات في الأمور. حكى الوزير وقال : تطاول علينا مسعود بن محمود السلجوقي ، فعزم المقتفي أن يحاربه فقلت : هذا ليس بصواب! ولا وجه لنا إلّا الالتجاء إلى الله. فاستصوب رأيي فخرجت من عنده يوم الجمعة لأربع وعشرين من جمادى الأولى وقلت : ان النبيّ ، عليه السلام ، دعا شهرا فينبغي أن ندعو شهرا. ثمّ لازمت الدعاء كلّ ليلة إلى أن كان يوم الرابع والعشرين من جمادى الآخرة ، فجاء الخبر بأن السلطان مات على سرير ملكه وتبدّد شمل أصحابه ، وأورثنا الله أرضهم وديارهم.
حكي أنه قبل وزارته كان بينه وبين رجل بغدادي ساكن بالجانب الغربي صداقة ، فسلّم الرجل إلى يحيى ثلاثمائة دينار وقال له : إذا أنا متّ جهزني منها ، وادفني بمقبرة معروف الكرخي ، وتصدّق بالباقي على الفقراء. فلمّا مات قام يحيى وجهزه ودفنه كما وصى والذهب في كمّه عائدا إلى الجانب الشرقي ، قال :فوقفت على الجسر فسقط الذهب من كمّي في الماء وهو مربوط في منديل ، فضربت بيدي على الأخرى وحولقت ، فقال رجل : ما لك؟ فحكيت له فخلع ثيابه وغاص ، وطلع والمنديل في فمه ، فأخذت المنديل وأعطيته منها خمسة دنانير ، ففرح بذلك ولعن أباه ، فأنكرت عليه فقال : انّه مات وأزواني! فسألته عن أبيه فإذا هو ابن الرجل الميت فقلت : من يشهد لك بذلك؟ فأتى بمن شهد له انّه ابن ذلك الميت فسلّمت إليه المال.
وكان كثيرا ما ينشد لنفسه :
يا أيّها النّاس ، إني ناصح لكم
 

فعوا كلامي فإني ذو تجاريب
 
لا تلهينّكم الدّنيا بزخرفها
 

فما يدوم على حسن ولا طيب!
 


وحكى عبد الله بن زرّ قال : كنت بالجزيرة فرأيت في نومي فوجا من الملائكة يقولون : مات الليلة وليّ من أولياء الله! فتحدّثت بها وأرّختها ، فلمّا رجعت إلى بغداد وسألت قالوا : مات في تلك الليلة الوزير ابن هبيرة ، رحمة الله عليه! وحكى عبد الله بن عبد الرحمن المقري قال : رأيت الوزير ابن هبيرة في النوم فسألته عن حاله فأجاب :
قد سئلنا عن حالنا فأجبنا
 

بعد ما حال حالنا وحجبنا
 
فوجدنا مضاعفا ما كسبنا
 

ووجدنا ممحّصا ما اكتسبنا
 
دوراق
بلدة بخوزستان. بها حمّات كثيرة يقصدها أصحاب العاهات ؛ قال الشيخ عمر التسليمي : إنّها عيون كثيرة تنبع في جبل كلّها حارّة ، فربّما يصعد منها دخان يلتهب ، فترى شعلته أحمر وأخضر وأصفر وأبيض ، ويجتمع في حوضين أحدهما للرجال والآخر للنساء ، فمن نزل فيه يسيرا يسيرا ينتفع به ، ومن طفر فيه يحترق بطنه وينتفّط.
ديار بكر
ناحية ذات قرى ومدن كثيرة بين الشام والعراق. قصبتها الموصل وحرّان وبها دجلة والفرات.
من عجائبها عين الهرماس وهي بقرب نصيبين على مرحلة منها ، وهي مسدودة بالحجارة والرصاص لئلّا يخرج منها ماء كثير فتغرق المدينة. حكي أن المتوكل على الله لمّا وصل إلى نصيبين سمع بأمر هذه العين وعجيب شأنها وكثرة مائها ، فأمر بفتح بعضها ففتح منها شيء يسير ، فغلب الماء غلبة عظيمة فأمر في الحال بسدّها وردّها إلى ما كانت ، فمن هذه العين تحصل عين الهرماس وتسقي نصيبين ، وفاضلها ينصب إلى الخابور ثمّ إلى الثرثار ثمّ إلى دجلة.

دير الجبّ
دير بين الموصل وإربل ، يقصده الناس لدفع الصرع فيبرأ منهم كثير.
دير الجودي
وهو دير مبني على قلّة الجودي ، وهو جبل استوت عليه سفينة نوح ، عليه السلام ؛ قيل : انّه مبنيّ منذ أيّام نوح ولم تجدّد عمارته إلى هذا الوقت ، زعموا أن سطحه يشبر فيكون عشرين شبرا مثلا ، ثمّ يشبر فيكون اثنين وعشرين ، ثمّ يشبر فيكون ثمانية عشر ، فكلّما شبر اختلف عدده.
دير حزقيل
دير مشهور بين البصرة وعسكر مكرم ، وهو بالموضع الذي ذهب إليه أهل داوردان الذين خرجوا من ديارهم ، وهم ألوف ، حذر الموت فقال لهم الله موتوا فماتوا ثمّ أحياهم. فبنوا ذلك الموضع ديرا ، وهو منسوب إلى حزقيل النبيّ ، عليه السلام ؛ حكى أبو العبّاس المبرّد قال : اجتزت به فقلت لأصحابي : أريد أن أدخله. فدخلناه فرأينا منظرا حسنا وإذا في بعض بيوته كهل مشدود حسن الصورة ، عليه آثار النعمة ، فسلّمنا عليه فردّ علينا السلام وقال :من أين أنتم يا فتيان؟ قلنا : من البصرة. فقال : ما أقدمكم هذا البلد الغليظ هواؤه الثقيل ماؤه الجفاة أهله؟ قلنا : طلب العلم. قال : جيّد! أتنشدونني أم أنشدكم؟ قلنا : أنشدنا. فأنشد :
لمّا أناخوا قبيل الصّبح عيسهم
 

وثوّروها فسارت بالهوى الإبل
 
وأبرزت من خلال السّجف ناظرها
 

ترنو إليّ ودمع العين منهمل
 
وودّعت ببنان خلته عنما
 

فقلت : لا حملت رجلاك يا جمل!
 



إني على العهد لم أنقض مودّتهم
 

يا ليت شعري بطول العهد ما فعلوا؟
 
فقال له فتى من المجان كان معنا : مات! قال : أفأموت أنا أيضا؟ قال له : مت راشدا! فتمطّى وقضى نحبه.
دير الخنافس
قال الخالدي : هذا الدير بغربي دجلة بقرب الموصل على قلّة جبل شامخ ، وهو دير صغير لا يسكنه أكثر من راهبين ، وهو نزه لعلوه على الضياع وإشرافه على أنهار نينوى. وله عيد في كلّ عام مرّة ، يقصده أهل تلك الضياع ثلاثة أيّام تسوّد حيطانه وسقوفه وفرشه من الخنافس الصغار اللواتي كالنمل ، فإذا انقضت تلك الأيّام لا يوجد في تلك الأرض من تلك الخنافس واحدة. فإذا علم الرهبان بدنو تلك الأيّام يخرج ما في الدير من القماش ، وهذا أمر مشهور هناك يعرفه أهل تلك الناحية.
دير سعيد
بغربي الموصل ، وهو دير حسن البناء واسع الفناء ، يكتسي أيّام الربيع طرائف الأزهار وغرائب الأنوار. ولتربتها خاصّية عجيبة في دفع أذية لدغ العقارب ، حتى لو ذرّت في بيتها ماتت.
دير العذارى
بين الموصل وباجرمى ، وهو دير قديم به نساء عذارى قد ترهبّن وأقمن به للعبادة. حكى أبو الفرج الأصفهاني انّه بلغ بعض الملوك ان فيهنّ نساء ذوات جمال ، فأمر بحملهن إليه ليختار منهن ما شاء ، فبلغهن ذلك فقمن ليلتهن يصلّين ويستكفين شرّه. فطرق ذلك الملك طارق أبلغه من ليلته فأصبحن صياما ، فلذلك تصوم النصارى صوم العذارى إلى الآن.

وحكى الجاحظ أن فتيانا من ثعلبة أرادوا القطع على مال يمرّ بهم بقرب دير العذارى ، فجاءهم من أخبرهم أن السلطان قد علم بهم وبعث الخيل في طلبهم ، فاختفوا في دير العذارى إلى أن عرفوا أن الخيل رجعت من الطلب فأمنوا ، فقال بعضهم : ما الذي يمنعكم أن تأخذوا هذا القسّ وتشدّوه وثيقا ، ثمّ يخلو كل واحد منكم بواحدة من هؤلاء الأبكار ، فإذا طلع الفجر تفرّقتم في البلاد؟ ففعلوا ما أجمعوا عليه فوجدوا كلّهن ثيّباب فرع القسّ منهن قبلهم ، فقال بعضهم :
ودير العذارى فضوح لهنّ
 

وعند القسوس حديث عجيب
 
خلونا بعشرين صوفيّة
 

ومسّ الرّواهب أمر غريب
 
إذا هنّ يزهرن زهر الظرّاف
 

وباب المدينة فجّ رحيب
 
وقد بات بالدّير ليل التّمام
 

فحول صلاب وجمع مهيب
 
وللقسّ حزن يهيض القلوب
 

ووجد يدلّ عليه النّحيب
 
وقد كان عيرا لذي عانة
 

فصبّ على العير ليث هبوب
 
دير القيّارة
بقرب الموصل في الجانب الغربي مشرف على دجلة ، تحته عين تفور بماء حارّ ، يصبّ في دجلة ويخرج معه القار ، فما دام القار في مائة فهو لين ، فإذا فارق الماء وبرد جفّ. ويحصل منها قير كثير يحمل إلى البلاد ، وأهل الموصل يقصدون هذا الموضع للنزه ، ويستحمّون بهذا الماء فإنّه يقلع البثور وينفع من أمراض كثيرة.
دير كردشير
في وسط مفازة معطشة مهلكة بين الري والقم. لولا هذا الدير لم يتيسّر قطعها. بناها أردشير بن بابك ، وهو حصن عظيم هائل البناء عالي السور ، مبني بآجرّ كبار ، وفيه أبنية وآزاج وعقود ، وصحنه قدر جريبين أو

أكثر. وحوله صهاريج منقورة في الحجارة واسعة ، تشرب السابلة منها طول السنة. وعلى بعض أساطينه مكتوب : كلّ آجرّة من هذا الدير تقوم بدرهم وثلثين وثلاثة أرطال خبز ، ودانق توابل وقنّينة خمر ، فمن صدق فبذلك ، وإلّا فلينطح رأسه بأيّ أركانه شاء.
دير متّى
بشرقي الموصل على جبل شامخ ، من أشرفه ينظر إلى جميع رستاق نينوى.
وهو دير عجيب البناء ، أكثر بيوته منقورة في الصخر ، فيه نحو مائة راهب لا يأكلون إلّا جمعا في بيت الشتاء أو بيت الصيف ، وهما منقوران في صخر ، كلّ بيت منهما يسع جميع الرهبان ، وفي كلّ بيت عشرون مائدة منقورة من الصخر ، وفي ظهر كلّ واحدة منها بويت عليه باب مغلق ، فيه آلة المائدة من غضارة وظروفية وسكرجة ، لا تختلط آلة هذه بآلة هذه. ولرأس الدير مائدة لطيفة على دكّان في صدر البيت يجلس إليها وحده. وكلّ ذلك منحوت من الحجر ملصق بالأرض.
دير مر توما
بميّافارقين على فرسخين منها في جبل عال. له عيد يجتمع الناس إليه وينذر له النذور ، ومر توما شاهد فيه ، تزعم النصارى أن له ألف سنة وزيادة ، وانّه ممّن شاهد عيسى ، عليه السلام ، وهو في خزانة خشب لها أبواب تفتح أيّام أعيادهم ، فيظهر نصفه الأعلى وهو قائم.
دير مر جرجيس
على جبل عال بقرب جزيرة ابن عمر. على بابه أشجار لا يدرى ما هي ، لها ثمرة شبيهة باللّوز طيّبة الطعام ، وبها زرازير لا تفارقه صيفا ولا شتاء ،

ولا يقدر أحد على صيد شيء منها البتّة ، وبالليل يظهر حوله أفاع ، لا يستطيع أحد أن يسير في جبله ليلا من كثرة الأفاعي ؛ كلّ ذلك عن الخالدي.
رأس العيس
مدينة بين حرّان ونصيبين في فضاء من الأرض ، بها عيون كثيرة عجيبة صافية ، تجتمع كلّها فيصير نهر الخابور ، وأشهرها عين الصرار ، فإنّها لصفاء مائها تبين الحصاة في قعرها ، وعمقها أكثر من عشرة أذرع ، نثر المتوكّل فيها عشرة آلاف درهم فأخرجها أهل المدينة جميعا ، ما ضاع منها درهم ، ومنبع هذا الماء من صخر صلد يخرج منه ماء كثير بقوّة.
رحبة الشّام
مدينة مشهورة ، ينسب إليها أبو جابر الرحبي ، كان من أصحاب الكرامات الظاهرة. حكى أبو جابر قال : رأيت أهل الرحبة ينكرون كرامات الأولياء ، فركبت سبعا ذات يوم ودخلت المدينة وقلت : أين الذين ينكرون كرامات الأولياء؟
روذبار
بلاد بأرض الجبال ، كلّها جبال ووهاد وأشجار ومياه ، وعماراتها قرى وقلاع حصينة وسكّانها ديالم.
ينسب إليها أبو عليّ أحمد بن محمّد الروذباري ، أصله من روذبار وسكن بغداد وسمع الحديث من إبراهيم الحربي ، وأخذ الفقه من أبي العبّاس بن شريح ، والأدب من ثعلب ، وصحب الجنيد. حكى أبو منصور معمر الأصفهاني انّه قال : سمعت أبا عليّ الروذباري انّه قال : أنفقت على الفقراء كذا وكذا ألفا ، وما جعلت يدي فوق يد فقير بل كانوا يأخذونه مني ويدهم فوق يدي. توفي

بمصر سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة.
وينسب إليها أبو عبد الله أحمد بن عطاء الروذباري. كان ابن أخت أبي علي ، حكي انّه كان راكبا على جمل فغاصت رجله في الرمل فقال : جلّ الله! فقال الجمل أيضا : جل الله! وحكي أنّه دعي يوما هو وأصحابه إلى دعوة ، فإذا هم يمشون على الطريق فقال إنسان : هؤلاء الصوفية مستحلّون أموال الناس! وبسط لسانه فيهم وقال : ان واحدا منهم استقرض مني مائة درهم ولم يردها إليّ ، ولست أدري أين أطلبه؟ فقال أبو عبد الله لصاحب الدعوة وكان محبّا له ولهذه الطائفة : ائتني بمائة درهم! فأتى بها فقال لبعض أصحابه : احمل إلى ذلك الإنسان وقل له ان هذا الذي استقرض منك بعض أصحابنا ، وقد وقع لنا خبره عذر.
روذ راور
كورة بقرب همذان على ثلاثة فراسخ منها. وهي ثلاث وتسعون قرية متّصلة المزارع ، ملتفّة الجنان مطّردة الأنهار. في أشجارها جميع أنواع الفواكه لطيب تربتها وعذوبة مائها ولطافة هوائها. أرضها تنبت الزعفران وليس في جميع الأرض موضع ينبت به الزعفران إلّا أرض روذراور ، منها يحمل إلى جميع البلاد.
رويان
ناحية بين طبرستان وبحر الخزر من بلاد مازندران ، ينسب إليها الإمام فخر الإسلام أبو المحاسن الروياني ، وهو أوّل من أفتى بإلحاد الباطنيّة لأنّهم كانوا يقولون : لا بدّ من معلّم يعلّم الناس الطريق إلى الله ، وذلك المعلّم يقول :لا يجب عليكم إلّا طاعتي ، وما سوى ذلك فإن شئتم فافعلوا وإن شئتم لا تفعلوا.
فالشيخ جاء إلى قزوين وأفتى بإلحادهم ، ووصّى لأهل قزوين أن لا يكون بينهم

وبين الباطنيّة اختلاط أصلا ، وقال : إن وقع بينكم اختلاط فهم قوم عندهم حيل يخدعون بعضكم ، وإذا خدعوا بعضكم وقع الخلاف والفتنة. فالأمر كان على ما أشار إليه فخر الإسلام ، إن جاء من ذلك الجانب طائر قتلوه ، فلمّا عاد إلى رويان بعثوا إليه الفدائيّة وقتلوه. عاش حميدا ومات شهيدا.
الرّيّ
مدينة مشهورة من أمّهات البلاد وأعلام المدن ، كثيرة الخيرات وافرة الغلّات والثمرات قديمة البناء ؛ قال ابن الكلبي : بناها هوشنج بعد كيومرث.
وقال غيره : بناها راز بن خراسان لأن النسبة إليها رازي. وهي مدينة عجيبة في فضاء من الأرض ، وإلى جانبها جبل أقرع لا ينبت شيئا يقال له طبرك.
قالوا : انّه معدن الذهب ، إلّا ان نيله لا يفي بالنفقة عليه ولهذا تركوا معالجته.
ودور هذه المدينة كلّها تحت الأرض ، ودورهم في غاية الظلمة وصعوبة المسلك ، وإنّما فعلوا ذلك لكثرة ما يطرقهم من العساكر ، فإن كانوا مخالفين نهبوا دورهم ، وإن كانوا موافقين نزلوا في دورهم غصبا ، فاتّخذوا مسالك الدور مظلمة ليسلموا من ذلك.
والناس يحفرون بها يجدون جواهر نفيسة وقطاع الذهب ، وبها كنوز في كلّ وقت يظهر منها شيء ، لأنّها ما زالت موضع سرير الملك. وفي سنة أربع عشرة وستّمائة في زمن ايلقلمش ظهر بها حباب كان فيها دنانير عجيبة ، ولم يعرف انّها ضرب أي ملك ، وذكر انّها خربت مرارا بالسيف والخسف.
وقال جعفر بن محمّد الرازي : لمّا ورد المهدي في خلافة المنصور بنى المدينة التي بها الناس اليوم ، على يد عمّار بن الخصيب ، وتمّت عمارتها سنة ثمان وخمسين ومائة ، ومياه هذه المدينة جارية في نفس المدينة ، لكنها من أقذر المياه لأنّهم يغسلون فيها جميع النجاسات ، وتمشي إليها مياه الحمّامات ، وأهل المدينة لا يأخذون منها إلّا نصف الليل لأنّه في هذا الوقت يصفو عن النجاسات

التي تلقى فيه. وهواؤها في فصل الخريف سهام مسمومة ، قلّما تخطىء سيما في حقّ الغرباء ، فإن الفواكه في هذا الوقت بها كثيرة رخيصة كالتين والخوخ والعنب ، فإن العنب لا يقدرون على تحصيله إلى الشتاء. وبها نوع من العنب يسمّونه الملاحي ، حبّاته كحبّات البسر وعنقوده كعذق التمر ، ربّما يكون مائة رطل. هذا النوع يبقى إلى الشتاء ، ويحمل من الري إلى قزوين طول الشتاء ، ومع كبر حبّاته قشره رقيق وطعمه طيّب. وبها نوع آخر من العنب شبيه الرازقي إلّا أن ثجيره ضعيف جدّا ، إذا قطفوه تركوه في الظلّ حتى يتزبّب ويكون زبيبه طيّبا جدّا ، يحمل إلى سائر البلاد.
ويجلب من الري طين يغسل به الرأس في غاية النعومة ، يحمل هدية إلى سائر البلاد. وصناع المشط بالري لهم صنعة دقيقة ، يعملون أمشاطا في غاية الحسن تحمل هدية إلى البلاد. والآلات والأثاث المتّخذة من الخشب الخلنج خشبها بطبرستان يتّخذون منها هناك ، وهي خشبة لا لطف فيها ، ويحملونها إلى الري فيتركها أهل الري في الخرط مرّة أخرى ، ويلطّفونها ثمّ يزوّقونها بأنواع التزاويق من الري تحمل إلى جميع البلاد.
وأهل الري شافعيّة وحنفيّة. وأصحاب الشافعي أقلّ عددا من أصحاب أبي حنيفة ، والعصبيّة واقعة بينهم حتى أدّت إلى الحروب ، وكان الظفر لأصحاب الشافعي في جميعها مع قلّة عددهم. والغالب على أهل الري القتل والسفك ، ومعهم شيء من الأريحيّة ، من ذلك حكي أن رجلا من أرباب الثروة كان جارا لبعض العيّارين ، فجاء وقت وضع حمل زوجة صاحب الثروة ، ومن عادتهم أنّهم يزيّنون الدار في هذا الوقت ويظهرون الأثاث والقماش ، فلمّا أمسوا وكان لهم داران اجتمعوا كلّهم عند صاحبة الطلق وخلت الدار الأخرى ، فقال العيار : ما منعكم أن تنزلوا وتجمعوا جميع ما في هذه الدار؟ فنزلوا وأصعدوا جميع ما فيها إذ سمعوا ضجيج النساء يقلن : وضعت غلاما! فقال العيار لأصحابه :إن هؤلاء فرحوا بهذا المولود ، وإذا أحسّوا بالقماش يتبدّل فرحهم بالترح

ويعدّون الولد شؤما. ردوا القماش إليهم ليزداد فرحهم ويكون المولود ميمون النقيبة. فقالوا للقوم : خذوا قماشكم فإنّا رددناها لأجل هذا المولود.
وينسب إليها الإمام العلّامة أبو عبد الله محمّد بن عمر الرازي ، إمام الوقت ونادرة الدهر وأعجوبة الزمان :
لقد وجدت مكان القول ذا سعة
 

فإن وجدت لسانا قائلا فقل
 
ذكر أبو القاسم عليّ بن حسن بن عساكر عن أبي هريرة عن رسول الله ، صلّى الله عليه وسلّم ، انّه قال : إن الله تعالى يبعث لهذه الأمّة في كلّ مائة سنة من يجدّد لها دينها. قال : فكان على رأس المائة الأولى عمر بن عبد العزيز ، وعلى الثانية محمّد بن ادريس الشافعي ، وعلى رأس المائة الثالثة أبو العبّاس أحمد ابن شريح ، وعلى رأس المائة الرابعة القاضي أبو بكر محمّد بن الطيب الباقلاني ، وعلى رأس الخامسة أبو حامد محمّد بن محمّد الغزّالي ، وعلى رأس المائة السادسة أبو عبد الله محمّد بن عمر الرازي.
حكي أن فخر الدين الرازي ورد بخارى ، وحضر حلقة رضى الدين النيسابوري ، وكان في حلقته أربعمائة فاضل مثل ركن الدين العميدي وركن الدين الطاووسي ومن كان من طبقاتهم ومن كان دونهم ، واستدلّ في ذلك المجلس فلم يبق من القوم إلّا من أورد عليه سؤالا أو سؤالين ، فأعادها كلّها ، فلمّا قال : والاعتداد عن هذه الفوائد ، قال رضى الدين : لا حاجة إلى الجواب فإنّه لا مزيد على هذا. وتعجّب القوم ضبطه وإعادته وترتيبه. وحكي انّه قبل اشتهاره ذهب إلى خوارزم مع رسول ، فقال أهل خوارزم للرسول : سمعنا ان معك رجلا فاضلا نريد أن نسمع منه فائدة ، وكانوا في الجامع يوم الجمعة بعد الصلاة ، فأشار الرسول إلى فخر الدين بذلك ، فقال فخر الدين : افعل ذلك بشرط أن لا يبحثوا إلّا موجها. فالتزموا ذلك. فقال : من أي علم تريدون؟

قالوا : من علم الكلام فإنّه دأبنا. قال : أي مسألة تريدون؟ اختاروا مسألة شرع فيها وقررها بأدنى زمان ، وكان هناك من العوامّ خلق كثير وعوامّ خوارزم متكلّمة كلّهم عرفوا أن فخر الدين قرر الدليل وغلبهم كلّهم. فأراد مرتّب القوم أن يخفي ذلك محافظة لمحفل الرئيس فقال : قد طال الوقت وكثرت الفوائد. اليوم نقتصر على هذا ، وتمامه في مجلس آخر في حضرة مولانا. فقال فخر الدين : أيّها الخوارزمي إن مولانا لا يقوم من هذا المجلس إلّا كافرا أو فاسقا ، لأني ألزمته الحكم بالحجّة ، فإن لم يعتقد فهو كافر على زعمه ، وان اعتقد ولم يعترف به فهو فاسق على زعمه.
وحكي انّه ورد بخارى ، وسمع أن أحدا من أهل بخارى ذكر اشكالات على إشارات أبي عليّ ، فلمّا ورد فخر الدين بخارى أوصى لأصحابه أن لا يعرضوا ذلك على فخر الدين ، فقال فخر الدين لأحد من أصحاب الرجل : اغزني ليلة واحدة. ففعل فضبطها كلّها في ليلة واحدة ، وقام وذهب إليه أوّل النهار وقال له : سمعت أنّك أوردت الاشكالات على أبي عليّ ، فمعنى كلام أبي علي هذا كيف تورد عليه الاشكال حتى أتى على جميعها ، ثمّ قال له : أما تتقي الله فهو كلام الرجل ما تعرف وتفسرها من عندك تفسيرا فاسدا وتورد عليه الاشكال؟ فقال الرجل : أظنّ انّك الفخر الرازي! فقال : ما أخطأت في هذا الظنّ! وقام وخرج.
وحكي انّه كان يعظ على المنبر بخوارزم وعوامّ خوارزم كلّهم متكلّمة يبحثون بحثا صحيحا ، وكان يأتي بمسألة مختلفة بين المعتزلة والأشاعرة ، ثمّ يقررها تقريرا تامّا ويقول : أئمّة المعتزلة لا يقدرون على مثل هذا التقرير. ويقول لهم :أما هذا تقرير حسن؟ يقولون : نعم. فيقول : اسمعوا إبطاله! فيبطله بأدلّة أقوى منها ، فالمعتزلة عزموا على ترك الاعتزال لأن الواجب عليهم اتباع الدليل ، فقال لهم مشايخهم : لا تخالفوا مذهبكم فإن هذا رجل أعطاه الله في التقرير قوّة عجيبة ، فإن هذا لقوته. لا لضعف مذهبكم.

وحكي انّه كان على المنبر فنقل شيئا من التوراة فقالوا له : كيف عرفت انّه في التوراة؟ فقال : أي سفر شئتم عيّنوا حتى أقرأه عليكم! وجاءته حمامة خلفها باشق يريد صيدها ، فدخلت الحمامة خلف ظهر الشيخ فقال بعض الحاضرين :
جاءت سليمان الزّمان بشجوها
 

والموت يلمع من جناح الخاطف
 
من عرف الورقاء أنّ جنابكم
 

حرم ، وأنّك مأمن للخائف؟
 
فالشيخ خلع عليه قميصه وعمامته. توفي عيد الفطر سنة ستّ وستمائة.
وينسب إليها أبو إسحق إبراهيم بن أحمد الخوّاص. كان من أقران الجنيد والنوري. كان إبراهيم متوكّلا يمشي في أسفاره بلا زاد ، وحكى منصور ابن عبد الله الهروي قال : كنت مع قوم في مسجد رسول الله ، صلّى الله عليه وسلّم ، نتحدّث في كرامات الأنبياء ، ومعنا رجل مكفوف يسمع حديثنا ، فلمّا فرغنا قال : آنسكم الله فإني أنست بحديثكم ، فاسمعوا عني أيضا حديثا عجيبا. قال : كنت رأيت قبل عماي رجلا غريبا يخرج من المدينة يمشي مسرعا ، فمشيت خلفه حتى أدركته ، قلت له : اخلع ثيابك! فقال لي : اذهب حتى لا يصيبك ضرر! فشددت عليه وكلفته خلع ثيابه ، فدفعني مرارا بالكلام فأبيت إلّا خلع الثياب. فلمّا علم اني لست أندفع عنه أشار إليّ عينيّ فعميتا ، وذهب عني فبتّ تلك الليلة فرأيته في النوم فقلت : يا عبد الله وحقّ من أكرمك هذه الكرامة من أنت؟ قال : إبراهيم الخواص!
وحكى الخواص ، رحمة الله عليه : انتهيت إلى رجل صرعه الشيطان فجعلت أؤذن في أذنه ، فناداني الشيطان من خوفه يقول : دعني أقتله ، فإنّه يقول : القرآن مخلوق! وحكى بعضهم قال : صحب الخواص مع اثنين فانتهينا إلى مسجد في المفازة فأوينا إليه ، وكان الوقت شاتيا والمسجد لا باب له ، فلمّا أصبحنا وجدنا إبراهيم واقفا على باب المسجد يستر الباب ببدنه ، قال :

خشيت أن تجدوا البرد فسترت الباب ببدني.
وحكى الخواص ، رحمه الله ، قال : رافقني في بعض أسفاري راهب فمضينا أسبوعا ما أكلنا. فقال لي الراهب : يا راهب الحنفية ، هات إن كان عندك انبساط ، فقد بلغنا في الجوع! فقلت : اللهمّ لا تفضحني عند هذا الكافر! فرأيت طبقا فيه خبز وشواء ورطب وماء ، فأكلنا ومشينا أسبوعا آخر ، فقلت :يا راهب النصارى ، هات إن كان عندك انبساط فالنوبة لك! فدعا فرأيت طبقا فيه أكثر مما كان على طبقي ، فتحيّرت وأبيت أن آكل منها ، فقال لي الراهب :كل فإني أبشرك ببشريين : أحدهما أني أشهد أن لا إله إلّا الله وأن محمّدا رسول الله ، والثاني اني قلت يا رب ان كان لهذا الرجل خطر فافتح عليّ فتحا! فأكلنا ومشينا إلى مكّة ، فأقام بها مدّة ثمّ توفي بها ودفن في البطحاء.
وحكى إبراهيم قال : في بعض أسفاري انتهيت إلى شجرة قعدت تحتها ، فإذا سبع هائل يأتي نحوي ، فلمّا دنا مني رأيته يعرج ، فإذا يده منتفخة وفيها فنخ ، فهمهم وتركها في حجري ، وعرفت انّه يقول : عالج هذه! فأخذت خشبة فتحت بها الفنخ ثمّ شددته بخرقة خرقتها من ثوبي ، فغاب ثمّ جاءني ومعه شبلان يبصبصان ورغيف تركه عندي ومشى.
وحكى إبراهيم ، رحمه الله ، قال : ركبت البحر مرّة ، فجاءنا ريح عاصف يمشي بالمركب على غير اختيارنا ، فالركاب كانوا يدعون الله تعالى وكلّ واحد ينذر نذرا ، وأنا قلت : ان نجاني الله تعالى من هذه لا آكل لحم الفيل! هكذا جرى على لساني ، فالريح رمتنا إلى جزيرة فرأينا في الجزيرة ولد فيل ، فالقوم أخذوه وذبحوه وجعلوا يأكلونه ، فأشاروا إليّ بأكله فأبيت أن آكل لأجل النذر. فأكل القوم كلّهم من لحم ولد الفيل ، فلمّا كان الليل جاء الفيل فما وجد الولد ، فرأى القوم فجعل يشمّ واحدا واحدا ويحطمه بخفّه حتى فرغ عن الكلّ ، فأنا وقعت على وجهي حتى لا أراه وأيقنت بالهلاك. فلمّا شمّني لفّ خرطومه عليّ وحملني على ظهره وجعل يمشي طول الليل بي ، فلمّا أصبحت

وصل إلى بيش فتركني هناك ومضى.
وحكى أبو حامد الأسود قال : سافرت مع الخواص ذات مرّة ، فانتهينا إلى ظلّ شجرة ، فأقبل إلينا سبع هائل ، فصعدت الشجرة خوفا وإبراهيم نام تحت الشجرة ، فجاء السبع فشمّه من رأسه إلى قدمه وذهب ، فلمّا كانت الليلة أوينا إلى مسجد فوقعت بقّة على إبراهيم فأنّ أنينا ، فقلت له : هذا عجب! البارحة ما كنت تئنّ من أسد ، والآن تئنّ من بقّة؟ فقال : هذه الحالة غير تلك الحالة ، البارحة كنت بالله والليلة أنا بنفسي! وحكي أن الخواص ، رحمة الله عليه ، لمّا دنت وفاته طلب الماء وتوضّأ وتوفي سنة إحدى وتسعين ومائتين ، فرئي بعد وفاته في النوم فقيل له : ما فعل الله بك؟ فقال : أثابني على كلّ عمل عملته ثمّ أنزلني منزلا فوق منازل أهل الجنّة وقال : يا إبراهيم هذا المنزل بسبب انّك قدمت إلينا بالطهارة!
وينسب إليها يحيى بن معاذ الرازي. كان شيخ الوقت وصاحب اللسان في الوعظ والقبول عند الناس ، إلى أن اتّصل بزين العارفين أبي يزيد البسطامي ، فرأى من حالاته ما تحيّر فيها ، فعلم أن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء ، فلازم خدمته وذكر عنه حكايات عجيبة.
وحكي انّه رأى بايزيد من بعد صلاة العشاء إلى طلوع الفجر مستوفزا على صدور قدميه ، رافعا أخمصيه ضاربا بدفّيه على صدره ، شاخصا بعينيه لا يطرف ، ثمّ سجد عند الفجر فأطال ثمّ قعد وقال : اللهمّ إن قوما طلبوك فأعطيتهم المشي على الماء والمشي على الهواء فرضوا منك بذلك ، وإني أعوذ بك من ذلك ، وإنّ قوما طلبوك فأعطيتهم كنوز الأرض ورضوا بذلك ، وإني أعوذ بك من ذلك ، وإن قوما طلبوك فأعطيتهم طي الأرض فإنّهم رضوا بذلك ، واني أعوذ بك من ذلك ، حتى عدّ نيفا وعشرين مقاما من مقامات الأولياء ، ثمّ التفت إليّ فرآني فقال : يحيى! قلت : نعم يا سيّدي! فقال : منذ متى أنت هنا؟ قلت :منذ حين. فسكت فقلت : يا سيّدي حدّثني بشيء. فقال : أحدّثك بما يصلح

لك ، ادخلني في الفلك الأسفل فدورني في الملكوت السفلي وأراني الأرض وما تحتها إلى الثرى ، ثمّ أدخلني في الفلك العلوي فطوف في السموات وأراني ما فيها من الجنان إلى العرش ، ثمّ أوقفني بين يديه وقال : سلني أي شيء رأيت حتى أهبه لك! فقلت : يا سيّدي ما رأيت شيئا استحسنته فأسألك إيّاه. فقال :أنت عبدي حقّا بعبدي لأجلي صدقا لأفعلن بك ولأفعلن! وذكر أشياء ؛ قال يحيى : فهالني ذلك وامتلأت به وعجبت منه فقلت : يا سيّدي لم ما سألته المعرفة به وقد قال لك سلني ما شئت؟ قال : فصاح فيّ صيحة وقال لي : اسكت! ويلك غرت عليه مني؟ لا أحبّ أن يعرفه سواه.
وحكي أن من لطف الله تعالى في حقّ يحيى انّه تكلّم ببلخ وفضّل الغنى على الفقر ، فأعطي ثلاثين ألف درهم ، فسمع بعض المشايخ ذلك فقال : ما أعجبه لا بارك الله له في هذا المال! فخرج من بلخ يريد نيسابور ، فوقع عليه اللصوص وأخذوا منه المال. وحكى يحيى انّه. دخل المسجد فوقعت جنية على باب المسجد فقلت : ان ذلك لذنب مني ، حتى تذكّرت اني قدمت رجلي اليسرى ، فقلت :تبت لا أعود إلى مثله! فنوديت : يا يحيى أدركت سوء الأدب بحسن المعذرة فأدركناك بالفضل والمغفرة. توفي سنة ثمان وخمسين ومائتين.
زاوه
كورة بخراسان. ينسب إليها الشيخ حيدر وهو رجل مشهور ، كان عجيب الشأن : في الصيف يدخل في النار ، وفي الشتاء يدخل في وسط الثلج ، والناس من الأطراف يقصدونه لرؤية هذا الأمر العجيب. فمن رآه على تلك الحالة لا يملك نفسه أن يترك الدنيا ويلبس اللباد ويمشي حافيا ، وسمعت أن كثيرا ما يأتي الأمراء وأرباب الدنيا فكلّما رأوه رموا أنفسهم من الفرس ولبسوا اللباد. ولقد رأيت من الأتراك مماليك في غاية الحسن وقد لبسوا اللباد يمشون حفاة ؛ قالوا : انّهم أصحاب حيدر!

وحكى بعض المتصوفة أن الشيخ رئي يوما فوق قبّة عالية لا يمكن صعودها ، فتعجّبوا منه كيف صعد إليها ، ثمّ انّه جعل ينزل منها كما يمشي أحدكم على الأرض المستوية!
وكان هذا الشيخ باقيا إلى مجيء التتر سنة سبع عشرة وستمائة.
زرّاعة
قرية في شرقي الموصل قرب باعشيقا ، بها عين النيلوفر ، وهي عين فوارة يجتمع فيها ماء كثير ، ينبت في ذلك الماء النيلوفر ويعدّ نوعا من أنواع دخل القرية ، ويضمنه العامل في القرية بمال.
ززّ
كورة بهمذان يجلب منها الززي ، وهي ثمرة عجيبة مشهورة تربّى بالخلّ ، لها منافع كثيرة ، ويكون طعم خلّه طيّبا جدّا ولا يوجد في جميع البلاد إلّا هناك ، ومنها يحمل إلى سائر البلاد.
زنجان
مدينة مشهورة بأرض الجبال بين أبهر وخلخال ، جادّة الروم وخراسان والشام والعراق ، لا تزال الحرامية كامنة حواليها. والبلدة في غاية الطيب ، وأهلها أحسن الناس صورة وظرافة وبذلة.
وفي جبالها معادن الحديد ويحمل منها إلى البلاد ، وإذا وقع عندهم جدب لا يبيعون الخبز إلّا مع الحديد ، فمن أراد شري الخبز يزن ثمن الخبز والمسامير.
وحكي انّه وصل إليها قفل آخر النهار فقال بعضهم لبعض : المصلحة أن لا نبيت هاهنا ونرحل ، حتى إذا كان الغد بعدنا عن هذه الأرض. فدخلوا المدينة حتى يشتروا شيئا من الخبز ، فما وجدوا الخبز إلّا عند خبّاز واحد ، وكان عنده

برذعة فقال : لست أبيع الخبز إلّا مع البرذعة! وكلّ واحد يؤدي ثمن الخبز وثمن البرذعة ، يأخذ الخبز ويترك البرذعة ، حتى جاء رجل ظريف ، قال الخبّاز :هات ثمن البرذعة! فقال الرجل : حاجتي إلى البرذعة أمسّ من حاجتي إلى الخبز ، وأدّى ثمنها وأخذها من عند الخبّاز وأحرقها.
وحكي أن رجلا طوالا أراد شري البطيخ فأخذ يستامه وقال للبائع : انّها صغار! فقال البائع : من الموضع الذي تنظر يرى الجمل عصفورا وانّها ليست بصغار.
وحكي أن رجلا من أوساط الناس حلف بأبيه فقال بعض الحاضرين :وهل كان لك أب؟ فقال : وهل يكون الإنسان بلا أب؟ قال : ما كان أبا يذكر في المحافل!
ومن عجائبها ما ذكره أبو الريحان الخوارزمي عن أبي الفرج الزنجاني : أنه لا يرى بزنجان عقرب إلّا في موضع يسمّى مقبرة الطير ، فإن أخرجت منها عادت إليها سريعا ، وما ذاك إلّا لطيب تربتها ولطافة هوائها.
وبها جبل بزاو ؛ قالوا : انّه من أنزه المواضع وأطيبها ، وليس على وجه الأرض موضع أرقّ منه هواء ولا أعذب ماء ولا أطيب رائحة ، نباته الرياحين فراسخ في فراسخ تفوح روائحها من بعد بعيد ، فإذا كان فصل الربيع يرى أديمه مثل الديباج المنقش من ألوان الرياحين.
ينسب إليها جلال الطبيب. كان طبيبا عديم النظير في الآفاق ، كان في خدمة ازبك بن محمّد بن ايلدكز ، صاحب آذربيجان وأرّان ، لا يفارقه ، يقول : ان حياتي محفوظة بهذا الرجل! وكان آية في المعالجات ، ما كان يمشي إلى المريض بل يستخبر عنه ويأمر بدواء حقير ، ويكون البرء حاصلا. كان وجوده فائدة عظيمة للناس ، ما وجد مثله بعده.

ساباط
بليدة كانت بقرب مدائن كسرى ، أصله بلاشاباد يعني عمارة بلاش ، وهو من ملوك الفرس ، فعربته العرب وقالوا ساباط. ينسب إليها حجّام كان يحجم الناس نسيئة ، فإذا لم يأته أحد يحجم أمّه حتى لا يراه الناس بطالا ، فما زال يحجمها حتى ماتت ، فقالت العرب : افرغ من حجّام ساباط!
وكان كسرى ابرويز ألقى النعمان بن المنذر تحت أرجل الفيل بساباط ، لمّا قتل عديّ بن زيد وجاء إلى كسرى مستغفرا ، فما قبل توبته ؛ قال الشاعر :
فأدخل بيتا سقفه صدر فيله
 

بساباط والحيطان فيه قوائمه
 
سامرّا
مدينة عظيمة كانت على طرف شرقي دجلة بين بغداد وتكريت ، بناها المعتصم سنة إحدى وعشرين ومائتين ، وسبب بنائها أن جيوشه كثروا حتى بلغ مماليكه سبعين ألفا ، فمدّوا أيديهم على حرم الناس. وإذا ركبوا انحطم كثير من الصبيان والعميان والضعفاء من ازدحام الخيل ، فاجتمع عامّة أهل بغداد ووقفوا للمعتصم وقالوا : قد عمنّا أذى جيوشك! إمّا تمنعهم أو تقلبهم عنّا وإلّا حاربناك بدعاء السحر! فقال : اما تقلّبهم فلا يكون إلّا بتقلّبي ، ولكني أوصيهم بترك الأذى ، فما زادتهم الوصيّة إلّا زيادة الفساد ، فوقفوا له مرّة أخرى وقالوا : إما تحوّلت عنّا وإلّا حاربناك بدعاء السحر! فقال : هذه الجيوش لا قدرة لي بها ، نعم أتحوّل وكرامة. وساق من فوره حتى نزل سامرّا وبنى بها دارا وأمر عسكره بمثل ذلك حتى صارت أعظم بلاد الله بناء وأهلا. وأنفق على جامعها خمسمائة ألف دينار ، وجعل وجوه حيطانها كلّها المينا ، وبنى المنارة التي كانت إحدى العجائب وحفر الاسحقي.
وبنى الملوك والأمراء بها دورا وقصورا ، وبنى الخلفاء بها أيضا قصورا

عجيبة ، وكان المعتصم والواثق والمتوكّل بنوا بها قصورا ، والمتوكّل اشتقّ من دجلة قناتين شتويّة وصيفيّة ، وتدخلان الجامع وتتخلّلان شوارع المدينة.
وفي جامعها السرداب المعروف الذي تزعم الشيعة ان مهديهم يخرج منه ، لأنّهم زعموا أن محمّد بن الحسن دخل فيه ، وكان على باب هذا السرداب فرس أصفر ، سرجه ولجامه من الذهب إلى زمن السلطان سنجر بن ملكشاه.
جاء يوم الجمعة إلى الصلاة فقال : هذا الفرس ههنا لأيّ شيء؟ فقالوا : ليخرج من هذا الموضع خير الناس يركبه. فقال : ليس يخرج منه خير مني! وركبه.
زعموا أنّه ما كان مباركا لأن الغزّ غلبته وزال ملكه. ولم تزل سامرّا في زيادة عمارة من أيّام المعتصم إلى أيّام المستعين ، فعند ذلك قويت شوكة الأتراك ووقعت المخالفة في الدولة ، فلم تزل في نقص إلى زمان المعتضد بالله ، فإنّه انتقل إلى بغداد وترك سامّرا بالكلية ، فلم يبق بها إلّا كرخ سامرّا وموضع المشهد والباقي خراب يباب ، يستوحش الناظر إليها بعد ان لم يكن في الأرض أحسن ولا أجمل ولا أوسع ملكا منها. فسبحان من يقلّب الأمور ولا يتغيّر بتغيّر الأزمنة والدهور! قال ابن المعتزّ :
غدت سرّ من را في العفاء فيا لها
 

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
 
تفرّق أهلوها ولم يعف رسمها
 

لما نسجته من جنوب وشمال
 
إذا ما امرؤ منهم شكا سوء حاله
 

يقولون : لا تهلك أسى وتجمّل!
 
ساوه
مدينة طيّبة كثيرة الخيرات والثمرات والمياه والأشجار ، في وهدة من الأرض. وكانت في قديم الزمان على ساحل بحيرة غاضت عند مولد النبيّ ، صلّى الله عليه وسلّم ، ورأيت موضع البحيرة زرعوه شعيرا. وحدّثني بعض مشايخها انّه شاهد السفينة تجري فيها. وأهل ساوه مخصوصون بحسن الصورة

واستقامة الطبع ، ومعرفة وزن الشعر وعلم الغناء ، وذلك يترشح منهم حتى من نسائهم وصبيانهم ، وكلّهم على مذهب الشافعي ، ما فيها واحد يخالفهم إلّا الغريب.
وبها رباطات ومدارس ومارستانات والطاق الذي على باب الجامع ، وهو طاق عال جدّا مثل طاق كسرى ، على طرفيه منارتان في غاية العلوّ ليس في شيء من البلاد مثله. وفي وسط الجامع خزانة الكتب المنسوبة إلى الوزير أبي طاهر الخاتوني ، فيها كلّ كتاب معتبر كان في زمانه مع أشياء نادرة من الخطوط المنسوبة والاصطرلابات والكرات.
ومن عجائبها أن الترنجبين يقع في كلّ ثلاثين سنة بأرضها على الشوك الذي يختصّ به ، ويكثر حتى يجمع ويبتاع على الناس منه شيء كثير ، وأنا شاهدت ذلك مرّة.
وينسب إليها القاضي عمر بن سهلان. كان أديبا فقيها حكيما خصّه الله تعالى بلطافة الطبع وفطانة الذهن ، وفصاحة الكلام ومتانة البيان. جميع تصانيفه حسن ، وكان معاصر الإمام حجّة الاسلام الغزالي.
ومن عجائب ما حكي من لطف الله تعالى في حقّه انّه قال : أردت الاشتغال بالعلوم وما كان لي مال ولم يبن في ذلك الوقت شيء من المدارس ، وكان له خطّ في غاية الحسن ، قال : كتبت ثلاث نسخ من كتاب الشفاء لأبي علي بن سينا ، وكان إذ ذاك للشفاء رواج عظيم ، بعت كلّ نسخة بمائة دينار وأودعت ثمنها ثلاثمائة دينار عند بزّاز صديق لي. وكلّما احتجت أخذت منها وأنفقت حتى غلب علي ظني اني استوفيتها ، فانقطعت عنه ، فرآني الرجل وقال : ما لي أراك تأخرت عن طلب النفقة؟ قلت : لأني استوفيتها! قال : لا ، بعد أكثره باق! فكنت أمشي إليه بعد ذلك مرّة أخرى ثمّ انقطعت لمّا علمت اني استوفيت أكثر من مالي ، فرآني وقال : ما سبب انقطاعك؟ قلت : جزاك الله عني خيرا! اني استوفيت أكثر من مالي! فقال : لا تنقطع فإنّه قد بقي منها بعد كثير!

فكنت أمشي مرّة أخرى مستحيا ثمّ انقطعت بالكلية ، فرآني الرجل وسأل ان لا أنقطع فامتنعت ، فلمّا أيس عن ذلك أخرج من كمّه ثلاثمائة دينار وقال : هذا رأس مالك والذي أخذته مكسبها ، لأني كنت أتجر لك عليها ، ولله تعالى الحمد إذ وفّقني لبعض قضاء حاجة مثلك.
وينسب إليها القاضي عدّة. كان واعظا ظريفا حلو الكلام يرى الملوك له.
حكي انّه كان يعقد مجلس الوعظ بهمذان ، وينفي التشبيه والقوم لم يقدروا عليه لمكانته عند السلطان ، فكانوا يكتبون إليه رقاعا ويشتمونه فيها في نفسه وأهله وأولاده ، وهو يقول : قد كتبوا كيت وكيت وهذا ممكن ، لكن وجود الإله على العرش محال!
وحكي أن بعض الملوك أراد رسولا يبعثه إلى ملك آخر ، فعيّنوا على القاضي عدّة فقالوا : انّه جيّد لكنّه يفسد الرسالة بطلب المال! فقال : حلّفوه أن لا يطلب شيئا! فحلفوه وبعثوه ، فلمّا ذهب إليهم صبر أيّاما لم يبعث إليه أحد شيئا غير المرسل إليه ، فعقد مجلسا وقال : يا قوم ، إن مرسلي حلّفني أن لا أطلب من أحد شيئا ، فقولوا أنتم من حلّفكم أن لا تبعثوا إليّ شيئا؟ وله حكايات عجيبة من هذا الجنس ، وبهذا مقنع.
وينسب إليها التاج محمّد الواعظ المعروف بشجويه. كان واعظا فقيها حلو الكلام عذب اللهجة ، ذا قبول عند الخواص والعوام ، وكان وعظه معائب طبقات الناس ، فإذا حضر ملك يقول : أيّها الملك ، ماذا تقول في عبد لبعض الملوك ، اصطفاه سيّده في حال هوانه وأفاض إليه أنواع إحسانه ، وفوّض إليه أمر البلاد وجعل بيده أزمّة العباد ، ثمّ ان هذا العبد خرّب بلاده وقهر بالظلم عباده ، وخالف أمر سيّده وعصى وتجاوز عن حدّه واعتدى ، فهل يستحقّ هذا العبد من سيّده إلّا العذاب العظيم والعقاب الأليم؟ ثمّ قال : أنت ذلك العبد أيّها الملك ، إن الله اصطفاك على العباد وجعل بيدك أمر البلاد ، وأمرك بالعدل والإحسان ونهاك عن الظلم والطغيان ، وأنت نهارك مصروف في غصب

الأموال وسفك الدماء ، وليلك بالفسق والفجور ، فما استحقّ من الله تعالى كفى بنفسك! وكان يقول في العالم : أيّها العالم إذا جاءك المستفتي تقول لا مساغ لسؤالك في الشرع أصلا ، وإذا ترك القرطاس تحت المصلّى يكون ذلك وجها عن الصيدلاني أو الكرابيسي أو الاصطخري. ويقول في المتصوّفية : أيّها الشيخ إذا حضرت الدعوة تأكل أكل البعير ولو كان حراما ، وتسمّي ابن صاحب المنزل شاهدا وزوجته سكرجة ، وتترك العفاف خلف الزلى. وهذا من اصطلاحات الصوفية ، والعفاف ليس يتخذونه لمذاكيرهم بتركه خلف الزلى. وفي اليوم الثاني يمشي يقول : فقير قد نسي خرقة خلف الزلى ، ليعرفهم أنّه صاحب العفاف الكبير ، فمن له إليه حاجة يطلبه ، فكان يتّخذ لكلّ طبقة من طبقات الناس عيبا على هذا المثال.
وينسب إليها جماعة ما كان لهم نظير في وقتهم مثل عماد الملك ، وزير السلطان خوارزمشاه ، كان وزيرا ذا رأي وعلم.
وتاج الدين كمالان. كان عالما ذا فنون من الخلاف والأصول والمذهب.
وبها المسكوي الطبيب. كان طبيبا فاضلا وحيد دهره.
وسعد المغني فإنّه جمع بين الصوت والصنعة ، وله أقوال يتعجّب منها أهل تلك الصنعة.
ومنها رتك المصارع. طاف أكثر البلاد وصارع كلّ مصارع فيها وغلبه ولم يغلب قطّ.
ومنها الصفي كانون الشطرنجي ، فإنّه كان يطرح الفرس لمن كان في الطبقة العالية.
ومن عاداتهم المحاجزة ، وهي أن القوم إذا كان فصل الربيع كلّ جمعة بعد الصلاة خرج من محلّتين من كلّ واحدة منهما مائتان أو ثلاثمائة غلام ، يلتقون صفّين عراة ويتلاكمون أشدّ الملاكمة ، ولا يزال كذلك إلى أن ينهزم أحد الصفّين.

سبران
صقع من نواحي الباميان بين بست وكابل ؛ قال نصر : به جبال فيها عيون ماء لا تقبل النجاسات ، وإذا ألقي فيها شيء من النجاسات ماج وغلا نجو جهة الملقي ، فإن أدركه أحاط به وغرّقه.
سرجهان
قلعة على قلّة جبل من جبال الديلم مشرف على قاع قزوين وابهر وزنجان ، وهي قلعة عجيبة من أحصن القلاع وأحكمها ، وعليها قلّة ، وهي حصن على حصن ، بعد استخلاص الطبقة السفلى تبقى قلّتها حصنا حصينا لا يسهل استخلاصها.
سرخس
مدينة بين مرو ونيسابور بناها سرخس بن جودرز ، وهي كبيرة آهلة غنّاء كثيرة الخيرات ، لا ماء لها في الصيف إلّا من الآبار ، ولأهلها يد باسطة في عمل العصائب والمقانع المنقوشة بالذهب ، منها تحمل إلى سائر الآفاق.
وينسب إليها أحمد بن الطيب السرخسي الحكيم الظريف الذي تظهر حكمته مع الظرافة. ذكر أنّه سئل عن لذّات الدنيا فقال : لذّات الدنيا ثلاث :
أكل اللحم ، وركوب اللحم ، وإدخال اللحم في اللحم ؛ فسمع ذلك شاعر نظمها :
ألم تر لذّة الدّنيا ثلاثا
 

إليها مال كلّ بالطّباع
 
فذلك كلّها في اللّحم توجد
 

بأكل أو ركوب أو جماع
 
ومن كلامه : أربعة أشياء لا قبل لها : الدين والمرض والنار والسلطنة.

سلماس
مدينة بآذربيجان بين تبريز وأرمية. بها ماء من اغتسل به ذهب عنه الجذام.
سمعت أن مجذوما موصليّا ذهب إليه ، فما رجع إلّا سليما نقيّ الجسد.
سميرم
كورة بين أصفهان وشيراز. بها عين ماء يدفع الجراد بها ، وهي من أعجب عجائب الدنيا : وهو أن الجراد إذا وقعت بأرض يحمل من ذلك الماء إلى تلك الأرض ، بشرط أن لا يوضع الظرف الذي فيه الماء على الأرض ، ولا يلتفت حامله إلى ورائه ، فيتبع ذلك الماء من الطير السودانيّة عدد لا يحصى ويقتل الجراد. ورأيت في سنة ستّ وستّمائة بأرض قزوين جرادا ، كانت تستر شعاع الشمس عند طيرانها ، وما تركت بها ورقة خضراء ، وباضت بها ، قيل ان كلّ جرادة تبيض مائة بيضة ، فإذا تفرّخت بيضها في السنة القابلة لا تقدر فراخها على الطيران فتقيم بها حتى تقوى ثمّ تطير عنها إلى أرض أخرى ، فبعث أهل قزوين رجلين أمينين في طلب ذلك الماء لدفع الجراد للسنة القابلة ، فأتيا به في إناء فجاء عقيب الماء من السودانيّة عدد لا يحصى ، وشرعت في قتل الجراد وأهلكتها عن آخرها. قيل : إن كلّ واحد من السودانيّة كان يقتل كلّ يوم من الجراد شيئا كثيرا حتى قالوا قريبا من ألف ، لأنّها كانت تأكل وتقذف ثم تأكل وتقذف ولا تفارق تلك الأرض حتى تقتل جميعها. وحدّث حامل ذلك الماء انّه ما رأى شيئا من السودانيّة عند المنبع ، قال : فلمّا اغترفت وشرعت في الرجوع رأيت في كلّ منزل يحوم الطير حولنا ، وهذا من الخواص العجيبة الكثيرة النفع ، وانّه مشهور ببلاد قهستان ، فسبحان من لا يطّلع على أسرار حكمته إلّا هو!

سناباذ
من قرى طوس على ميل منها ، بها قبر الرشيد ، حكي أن بعض المنجّمين حكم أن موت الرشيد يكون بأرض طوس فقال : إذا لا نطأ تلك الأرض أبدا! حتى ظهر بخراسان رافع بن الليث بن نصر بن سيّار وعظم أمره ، فأشاروا إلى الرشيد أنّه لا يندفع إن لم يمض إليه بنفسه. وكان الرشيد يكره ذلك ، قالوا : ان مصالح الملك لا تترك بقول منجّم ، ونحن نجمع بينهما نمشي إلى خراسان على وجه يكون بيننا وبين طوس مسافة بعيدة. فلمّا وصلوا إلى نيسابور ضلّوا عن الطريق في بعض الليالي ، فساقوا سوقا شديدا فأصبحوا وهم على باب طوس ، فأتى الرشيد قشعريرة فأراد أن يتحوّل منها ، فما أمكنه وزاد به حتى مات ودفن هناك ؛ قال عبّاس بن الأحنف وكان مع الرشيد :
قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا
 

ثمّ القفول فقد جئنا خراسانا
 
أين الذي كنت أرجوه وآمله
 

ذاك الذي كنت أخشاه فقد كانا
 
وكان المأمون مع الرشيد بخراسان ، جعل قبر الرشيد وقبر عليّ بن موسى الرضا في قبّة واحدة ؛ قال دعبل الخزاعي وهو شيعيّ :
قبران في طوس : خير الناس كلّهم
 

وقبر شرّهم هذا من العبر
 
ما ينفع الرّجس من قرب الزّكيّ ولا
 

على الزّكيّ بقرب الرّجس من ضرر
 
وذكر بعض مشايخ طوس أن الرشيد في القبر الذي يعرفه الناس للرضا ، والرضا في القبر الذي يعرفه الناس للرشيد ، وذلك من تدبير المأمون. والقبران متقاربان في قبّة واحدة ، وأهل تلك القرية شيعة بالغوا في تزيين القبر الذي اعتقدوا أنّه للرضا ، وهو للرشيد!

سنجار
مدينة مشهورة بأرض الجزيرة بقرب الموصل ونصيبين ، في لحف جبل عال ، وهي طيّبة جدّا كثيرة المياه والبساتين والعمارات الحسنة كأنّها مختصر دمشق ، وما رأيت أحسن من حماماتها. بيوتها واسعة جدّا وفرشها فصوص ، وكذلك تأزيرها ، وتحت كلّ أنبوبة حوض حجرية مثمنة في غاية الحسن ، وفي سقفها جامات ملونة الأحمر والأصفر والأخضر والأبيض على وضع النقوش ، فالقاعد في الحمّام كأنّه في بيت مدبّج.
قال أحمد الهمذاني : إن سفينة نوح ، عليه السلام ، نطحت جبل سنجار بعد ستّة أشهر وثمانية أيّام ، فطابت نفسه ، عليه السلام ، وعلم أن الماء أخذ في النضوب فقال : ليكن هذا الجبل مباركا! فصارت مدينة طيبة كثيرة الأنهار والأشجار والنخل والأترج والنارنج.
وحكي أن جارية السلطان ملكشاه ضربها الطلق بأرض سنجار فقال المنجّمون :إن كان وضعها لا يكون اليوم يكون ولدها ملكا عظيما! فأمر السلطان أن تجعل معلّقة ، ففعلوا فولدت السلطان سنجر ، فسمّوا المدينة باسمه ، وكان ملكا عظيما كما قالوا.
وبقرب سنجار قصر عبّاس بن عمرو الغنوي والي مصر. كان قصرا عجيب العمارة مطلّا على بساتين ومياه كثيرة ، من أطيب المواضع وأحسنها. وكان بعد العبّاس ينزل بها الملوك لطيب مكانها وحسن عمارتها ؛ حكى عمران بن شاهين قال : نزلنا بها مع معتمد الدولة قرواش بن المقلد فرأينا على بعض حيطانها مكتوبا :
يا قصر عبّاس بن عمرو
 

كيف فارقك ابن عمرك؟
 
قد كنت تغتال الدّهور
 

فكيف غالك ريب دهرك؟
 
واها لعزّك! بل لجودك
 

بل لمجدك بل لفخرك!
 
كتبه عليّ بن عبد الله بن حمدان بخطّه سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة ، وهو

سيف الدولة ممدوح المتنبي ، وتحته مكتوب :
يا قصر ضعضعك الزّمان
 

وحطّ من علياء قدرك
 
ومحا محاسن أسطر
 

شرفت بهنّ متون جدرك
 
واها لكاتبها الكريم
 

وقدره الموفي بقدرك!
 
وكتبه الغضنفر بن الحسن بن عبد الله بن حمدان في سنة اثنتين وستّين وثلاثمائة وهو ناصر الدولة ابن أخي سيف الدولة ، وتحته مكتوب :
يا قصر ما فعل الأولى
 

ضربوا قبابهم بعقرك!
 
أخنى الزّمان عليهم
 

وطواهم تطويل نشرك!
 
واها لقاصر عمر من
 

يحتال فيك وطول عمرك
 
وكتبه المقلّد بن المسيّب في سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة ، وهو أبو قرواش أحد العظماء فكتب قرواش تحته :
يا قصر أين ثوى الكرام
 

السّاكنون قديم عصرك؟
 
ولقد أطال تفجّعي
 

يا ابن المسيّب رقم سطرك!
 
وعلمت أني لاحق بك
 

تابع في صوب إثرك
 
سهرورد
بليدة بأرض الجبال بقرب زنجان. ينسب إليها أبو الفتوح محمّد بن يحيى الملقّب بشهاب الدين ، وكان حكيما عالما تاركا الدنيا صاحب العجائب والأمور الغريبة. كان مرتاضا منقطعا عن الناس ، حكى بعض فقهاء قزوين قال : نزلت برباط بأرض الروم في وقت الشتاء فسمعت صوت قراءة القرآن ، فقلت لخادم الرباط : من هذا القارىء؟ فقال : شهاب الدين السهروردي. قلت :

إني منذ مدّة سمعت به وأردت أن أراه. فأدخلني عليه فقال : لا يدخل عليه أحد ، لكن إذا علت الشمس يخرج ويصعد السطح ويقعد في الشمس فأبصره! قال : فقعدت على طرف الصفّة حتى خرج ، فرأيته عليه لباد أسود وعلى رأسه أيضا قلنسوة من لباد أسود ، فقمت وسلّمت عليه وعرّفته أني قصدت زيارته ، وسألته أن يجلس معي ساعة على طرف الصفّة ، فطوى مصلّاي وجلس ، فجعلت أحدّثه وهو في عالم آخر فقلت : لو لبست شيئا غير هذا اللباد! فقال : يتوسّخ.
فقلت : تغسله. فقال : يتوسّخ. فقلت : تغسله. فقال : ما حييت لغسل الثياب ، لي شغل أهمّ من ذلك.
وكان معاصرا لفخر الدين الرازي ، جرى بينهما مباحثات ، ورأى فخر الدين بعد موته كتابه التلويحات في الحكمة فقبله. وحكي انّه كان جالسا على طرف بركة مع جمع ، فتحدّثوا في معجزات الأنبياء فقال بعضهم : فلق البحر أعجبها. فقال الشهاب : ليس ذلك شيئا بالنسبة إلى معجزات الأنبياء. وأشار إلى البركة فانشقّ الماء فيها نصفين حتى رأوا أرض البركة. وحكي انّه لمّا قبض عليه بحلب حبس في دار فرأوا مكتوبا على جائزة لا يوصل إليها إلّا بالسلاليم :بيت الظالم خراب ولو بعد حين! وكان كذلك : ذهب الملك عن الملك الظاهر عن قريب وخرب بيتهم.
شاذياخ
اسم مدينة بخراسان على قرب نيسابور. كانت بستانا لعبد الله بن طاهر بن الحسين. ذكر الحاكم أبو عبد الله في تاريخ نيسابور أن عبد الله بن طاهر قدم نيسابور بعساكره ، فنزلوا في دور الناس غصبا ، فاتّفق أن بعض أصحابه دخل دار رجل له زوجة حسناء ، وكان رجلا غيورا لا يفارق داره غيرة على زوجته ، فقال له الجندي يوما : اذهب بفرسي واسقه ماء! فلم يجسر على خلافه ولم يستطع مفارقة أهله ، فقال لزوجته : اذهبي أنت بفرسه واسقيه حتى احفظ

أنا أمتعتنا! فمضت المرأة وكانت وضيئة حسناء ، فاتّفق ركوب عبد الله بن طاهر ، فرأى المرأة تقود الفرس فقال لها : ما شأنك؟ لست أهلا لهذا! فقالت :هذا فعل عبد الله بن طاهر! فأخبرته الحال فغضب وحولق ، فأمر العرفاء في عسكره : من بات بالمدينة حلّ ماله ودمه! وسار إلى شاذياخ وبنى بها قصرا ، والجند كلّهم بنوا بجنبه دورا ، فعمرت وصارت أحسن الأماكن وأطيبها ؛ قال الشاعر :
فاشرب هنيئا عليك التّاج مرتفقا
 

بالشّاذياخ ، ودع غمدان لليمن
 
فأنت أولى بتاج الملك تلبسه
 

من ابن هوذة فيها وابن ذي يزن
 
فلمّا استولى الغزّ على خراسان في عهد سنجر بن ملكشاه سنة ثمان وأربعين وخمسمائة ، وخربوا نيسابور وأحرقوها ، انتقل من بقي منهم إلى شاذياخ وعمروها حتى صارت أحسن بلاد الله وأطيبها ، وكانت ذات سور حصين وخندق وكثرة خلق إلى سنة ثماني عشرة وستمائة ، استولى عليها التتر وخرّبوها ، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون!
شاه دز
قلعة حصينة كانت على قلة جبل بقرب أصفهان ، بناها السلطان ملكشاه ابن ألب أرسلان سنة خمس مائة. وسبب بنائها أن رجلا من بطارقة الروم جاء إلى السلطان وأسلم وصار من مقربيه ، وكان معه يوما في الاصطياد فهرب منهم كلب حسن الصيد وصعد هذا الجبل فتبعه السلطان والبطريق ، فقال للسلطان : لو كان مثل هذا الجبل عندنا لاتّخذنا عليه معقلا وانتفعنا به! فأمر السلطان أن يبنى عليه قلعة ، فمنعه نظام الملك فلم يقبل قوله ، فبنوا عليه قلعة في غاية الحصانة لا حيلة في استخلاصها. ففرح السلطان به وجعل كوتواله بعض من كان من خواص السلطان أميرا معتبرا ، وكان ابن عطاش أحمد بن عبد الملك

معلّما لوشاقية هذا الأمير ، وهو داع من دعاة الباطنيّة ، حمله الأمير معه إلى القلعة. فلمّا استقرّ فيها دعا القوم إلى مذهب الباطنيّة فأجابوه ، وبعث الدعاة إلى أصفهان فأجابه من أصفهان أيضا خلق كثير. فلمّا علم نظام الملك ذلك قال للسلطان : منعتك عن بناء القلعة فما قبلت ، والآن أقول استدرك أمر هذا الملحد ، وإلّا يفضي إلى فساد لا يمكن دفعه! فنزل السلطان على القلعة وحاصرها سبع سنين حتى استخلصها ، وأنزل ابن عطاش منها ، وكان عالما بعلم النجوم ، وقد أركبوه على جمل وأدخلوه في أصفهان ، واستقبله جميع أهل أصفهان بالطبول والبوقات والدفوف ، والمساخرة يرقصون قدّامه ، والعوام يرمونه بالأبعار والأقذار ، قيل له : ما رأيت هذا في طالعك؟ قال : رأيت في طالعي ارتقاء لكن ما رأيت انّه يكون على هذا الوجه! وصلب في أصفهان وكفي شرّه ، فقالوا للسلطان : قلعة دلّ عليها كلب ، وأشار إلى عمارتها كافر ، وملكها ملحد لا يرجى منها الخير! فأمر بخرابها.
شكمبة
بليدة من ناحية دنباوند ، كثيرة المزارع والبساتين والثمار والأعناب. وهي أشدّ تلك النواحي بردا ، يضرب أهل جرجان وطبرستان بقاضيها المثل في تشويش الصورة واضطراب الخلقة ، فإذا رأوا أحدا كريه الصورة قالوا : مثل قاضي شكمبة! قال قائلهم :
رأيت رأسا كدبّة ولحية كمذبّه
 

فقلت : ذا التّيس من هو؟ فقال : قاضي شكمبه!
 
شهرزور
كورة واسعة في الجبال بين اربل وهمذان. بها قرى ومدن. أهلها أكراد قطاع الطريق ؛ قال مسعر بن مهلهل : بلدهم ينشىء ستّين ألف بيت من الأكراد ،

وقصبتها دزدان. وكانت مدينة ذات سور عريض عال حتى تركض الخيل على سورها لسعته ، وكان رئيسها عاصيا على السلاطين ، قال : وكنت أنظر إلى رئيسها وهو جالس على برج مبني على بابها عال ، ينظر إلى عدّة فراسخ وبيده سيف مجرد ، فمتى رأى خيلا من بعض الجهات لمع بسيفه. فانجفلت المواشي والقوافل إلى المدينة وقالوا : انّها مدينة منصورة ممتنعة عمّن يرومها. دعا لها داود وسليمان ، عليهما السلام.
ينسب إليها طالوت الذي بعثه الله تعالى ملكا إلى بني إسرائيل فقالوا : أنّى يكون له الملك علينا ونحن أحقّ بالملك منه؟ والمتغلّبون عليها إلى اليوم يزعمون أنّهم من ولد طالوت. وهي مخصوصة بقلّة رمد العين والجدري ؛ هذا آخر كلام مسعر.
وبها جبل ينبت حبّ الزلم الصالح لأدوية الباه ، لم يعرف في مكان غيره.
وبها نوع من الكرم يأتي سنة بالعنب وسنة بثمرة شبيهة بالجزر شديدة الحمرة ، أسود الرأس يقولون له الودع. وبها عقارب قتّالة أضرّ من عقارب نصيبين.
شهرستان
مدينة بخراسان بين نيسابور وخوارزم على طرف بادية الرمل. وبساتينها ومزارعها بعيدة عنها ، والرمال متّصلة بها لا تزال تسفّ. ولها وقف على رجال وثيران ينحّون الرمل عنها أبدا. وربّما يغشاها في يوم واحد أضعاف ما ينحوّن عنها زمانا طويلا ، والناس ينظرون إليه وهو يجري كالماء الجاري. يجلب منها العمائم الرفاع الطوال ولأهلها يد باسطة في صنعتها.
وينسب إليها الشهرستاني صاحب كتاب الملل والنحل ، وكان رجلا فاضلا متكلّما ، ويزعم أنّه انتهى إلى مقام الحيرة ، وهو القائل :
لقد طفت في تلك المعاهد كلّها
 

وصيّرت طرفي بين تلك المعالم
 
فلم أر إلّا واضعا كفّ حائر
 

على ذقن أو قارعا سنّ نادم!
 


شيز
مدينة بآذربيجان بين المراغة وزنجان ، قال مسعر بن مهلهل : بها معدن الذهب والفضّة والزئبق والزرنيخ الأصفر والاسرب. ولها سور محيط بها. وفي وسطها بحيرة لا يدرك قعرها. وإني أرسيت فيه أربعة عشر ألف ذراع وكسورا من ألف ما استقرّ ، واستدارتها نحو جريب بالهاشمي. ومتى بلّ بمائها تراب صار لوقته حجرا صلدا.
بها بيت نار عظيم الشأن عند المجوس ، منها تذكى نيران المجوس من المشرق إلى المغرب ، وعلى رأس قبّته هلال فضّة قيل هو طلسم حاول كثير من المتغلّبين قلعه فلم يقدروا. ومن عجائب هذا البيت انّهم يوقدون منه منذ سبعمائة سنة ، فلا يوجد فيه رماد البتّة ولا ينقطع الوقود عنه ساعة من الزمان.
ومن عجائب هذه المدينة انّه إذا قصدها عدوّ ونصب المنجنيق عليها فإن حجر المنجنيق يقع خارج السور ولا يصل إليه ، وإن كان يرمى إليه من مسافة ذراع.
إلى ههنا كلام مسعر ، وكان رجلا سياحا طاف البلاد ورأى عجائبها ، وأكثر عجائب البلدان منقول منه.
وحكى غير مسعر أن بالشيز نار اذرخس ، وهي نار عظيمة عند المجوس كان إذا الملك منهم زارها أتاها راجلا.
وينسب إليها زرادشت نبيّ المجوس ، قيل : انّه كان من شيز ، ذهب إلى جبل سبلان معتزلا عن الناس وأتى بكتاب اسمه باستا ، وهو بالعجميّة لم يفهم معناه إلّا من المفسر. وأتى يدّعي النبوة في عهد كشتاسف بن لهراسف ابن كيخسرو ، ملك الفرس ، وأراد الوصول إليه فلم يتمكّن من ذلك ، وكان كشتاسف جالسا في ايوان فانشقّ سقف الإيوان ونزل زرادشت منه ، والناس الذين كانوا عند الملك ما بين هارب ومغشي عليه ، والملك ما تحرّك عن مكانه وقال له : من أنت؟ فقال زرادشت : إني رسول الله إليكم! فقال الملك :

نحن وإن رأينا هذا العجب ، يعني النزول من السقف ، لكن لا نقتصر على ذلك بل عندنا علماء وحكماء يناظرونك ، فإن شهدوا لك الحقّ اتبعناك! فرضي زرادشت به وأمر الملك العلماء والحكماء في ذلك الزمان أن يسمعوا كلامه ويعرّفوا الملك. فسمعوا كلامه وقالوا للملك : سمعنا كلامه وانّه مستقيم ولم يبق إلّا شيء واحد ، وهو طلب معجزة على نبوته ، فقالوا : اخترنا أن نطلي بدنه بما أردنا من الأدوية ونأخذ شيئا من النحاس المذاب ونشدّ وثاقه ونصبّ ذلك القطر عليه ، فإن تلف فقد كفينا أمره ، وإن سلم من ذلك فيجب علينا متابعته. فرضي زرادشت بذلك ، واختار الملك هذا الرأي ، فعرّوه وشدّوا وثاقه ، وصبّوا عليه قطرا فصار القطر كرات وتشبّثت بكلّ شعرة كرة ، وما ضرّ به شيء ، ومع المجوس من تلك الكرات يتبرّكون بها. فعند ذلك قالوا : لم يبق إلّا إجابة دعوته! فأمر في جميع مملكة كشتاسف ببناء بيوت النار ، وجعل النار قبلة لا إلها ، وبقيت تلك الملّة إلى مبعث رسول الله ، صلّى الله عليه وسلّم ، والآن يقولون بأرض سجستان منها بقيّة.
صيمرة
كورة بها عدّة قرى من أعمال البصرة على فم نهر معقل. أهلها موصوفون بقلّة العقل حتى جاءهم رجل يقال له ابن شاس في حدود سنة خمسين وأربعمائة ، وادّعى أنّه إله فعبدوه!
ينسب إليها أبو العنبس ، وهو محمد بن إسحق ، كان شاعرا أديبا ظريفا ذا تصانيف في الهزل والنزهات ، وقد حظي بذلك عند المتوكّل. حكي أنّه مات له حمار فحزن عليه ورثاه بمرثية وقال : رأيته في النوم ، قلت : يا حماري! أما أحسنت علفك وماءك؟ فقال : ما متّ إلّا في عشق أتان رأيتها في الموضع الفلاني ومنعتني عنها!
وحكي أن البحتري دخل على المتوكّل وأنشد قصيدته في مدحه وقال في مطلعها :
عن أيّ ثغر تبتسم
 

وبأيّ طرف تحتكم؟
 


فقال أبو العنبس :
عن أيّ سلح تلتقم
 

وبأيّ كفّ تلتطم
 
فقال :
حسن يضنّ بحسنه
 

والحسن أشبه بالكرم
 
فقال أبو العنبس :
نهم يفوه بهجوه
 

والصّفع أليق بالنّهم
 
فقال البحتري : انتقلت إلى مدح الخليفة وتركت النسيب لعلّه يسكت فقلت :
قل للخليفة أيّها
 

المتوكّل بن المعتصم
 
فقال أبو العنبس :
قل للمماليك الضّخام
 

وذي النّشاط من الخدم!
 
قال البحتري : فالتفتّ يمينا وشمالا حتى أرى هل ينكر عليه أحد ، فما رأيت إلّا متبسما ، فعلمت إن أنشدت زيادة يأتي بزيادة شتم وهتك ، فسكتّ وخرجت ، فلمّا رآه أبو العنبس قال :
وليت عنّا مدبرا
 

فعلمت أنّك منهزم!
 
فضحك الخليفة والحاضرون وأمر لأبي العنبس بألف دينار ، فقال الفتح بن خاقان : يا أمير المؤمنين والبحتري أنشد وشوتم وصفع يرجع بخفّي حنين؟ فأمر له أيضا بألف دينار.
ومن شعر أبي العنبس :
كم مريض قد عاش من
 

بعد موت الطّبيب والعوّاد
 
قد يصاد القطا فينجو سليما ويحلّ القضاء بالصّيّاد!

طالقان
كورة ذات قرى بقهستان بين قزوين وجيلان في جبال الديلم. في جبالهم الزيتون والرمّان ، يجلب إلى قزوين منها الزيتون وحبّ الرمّان الكثير.
ينسب إليها أبو الخير أحمد بن إسماعيل الملقّب برضى الدين. كان عالما فاضلا ورعا صاحب كرامات. حكي انّه كان في بدء أمره يتفقّه ، فأستاذه يلقّنه الدرس ويكرّر عليه مرارا حتى يحفظه ، فما حفظ حتى ضجر الأستاذ وتركه لبلادته ، فانكسر هو من ذلك ونام الأستاذ ، فرأى رسول الله ، صلّى الله عليه وسلّم ، يقول له : لم آذيت أحمد؟ قال : فانتبهت ، وقلت : تعال يا رضى الدين حتى ألقّنك! فقال : بشفاعة النبيّ تلقّنني! ففتح الله تعالى عليه باب الذكاء حتى صار أوحد زمانه علما وورعا ، ودرس بالمدرسة النظاميّة ببغداد مدّة ، وأراد الرجوع إلى قزوين فما مكنّوه ، فاستأذن للحجّ وعاد إلى قزوين بطريق الشام. وكان له بقزوين قبول ما كان لأحد قبله ولا بعده. يوم وعظه يأتي الناس بالضوء حتى يحصّلوا المكان ، ويشتري الغني المكان من الفقير الذي جاء قبله ، وما سمعوا منه يروونه عنه كما كانت الصحابة تروي عن رسول الله ، صلّى الله عليه وسلّم ، وحكي أن الشيخ كثيرا ما كان يتعرّض للشيعة ، وكان على باب داره شجرة عظيمة ملتفّة الأغصان ، فإذا في بعض الأيّام رأوا رجلا على ذلك الشجر ، فإذا هو من محلّة الشيعة ، قالوا : ان هذا جاء لتعرّض الشيخ! فهرب الرجل وقال الشيخ : لست أقيم في قزوين بعد هذا!
وخرج من المدينة فخرج بخروجه كلّ أهل المدينة والملك أيضا. فقال : لست أعود إلّا بشرط أن تأخذ مكواة عليها اسم أبي بكر وعمر ، وتكوي بها جباه جمع من أعيان الشيعة الذين أعين عليهم. فقبل منه ذلك وفعل ، فكان أولئك يأتون والعمائم إلى أعينهم حتى لا يرى الناس الكيّ.
وحكى الشيخ عزّ الدين محمّد بن عبد الرحمن الوارني ، وكان من المشايخ

الكبار بقزوين ، أن الشيخ عقد المجلس يوم الجمعة أوّل النهار الثاني عشر من المحرم سنة تسعين وخمسمائة وذكر تفسير قوله تعالى : واتّقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ؛ وان النبيّ ، صلّى الله عليه وسلّم ، ما عاش بعد ذلك إلّا سبعة أيّام ، وكان ذلك تعريضا ينعى نفسه ، فرجع إلى بيته محموما وبقي سبعة أيّام ورفع نعشه في اليوم الثامن. ولمّا بلغوا به الوادي قرب تربته أنار الله تعالى ، من فضله عليه ورحمته له ، آيات بيّنات وأمارات واضحات أنوارا متلألئة وأضواء متضاعفة وألوانا غريبة في السماء ، ولقد عددت النور الساطع والوميض المتلألىء في سبعة مواضع من الهواء. وعند ذلك صار الخلق حيارى مبهوتين ، ودمعت العيون ووجلت القلوب ، وضجت الأصوات والخلق بين ساجد وممرغ في التراب خده لا يستطيع المتحرّك سكونا ولا الساكن حراكا ، إلى أن وضع في لحده ، فعادت السماء إلى حالها وعاد الهواء لهيئته ، وما ذلك بعجيب من لطف الله تعالى بأرباب العلوم وأصحاب الديانات ، عليه رحمة الله ورضوانه.
الطاهريّة
قرية من قرى بغداد. بها مستنقع يجتمع فيه في كلّ سنة ماء كثير عند زيادة دجلة ، فيظهر فيه السمك المعروف بالبني ، فيضمنه السلطان بمال وافر.
ولسمكه فضل على سائر السمك لطيب لحمه ، وانّه غلّة من حاصل هذه القرية مع سائر غلّاتها ، والله الموفق.
طبرستان
بلاد معروفة ، والعجم يقولون مازندران ، وهي بين الري وقومس وبحر الخزر.
أرضها كثيرة الأشجار والمياه والأنهار إلّا أن هواءها وخم جدّا. حكي أن بعض الأكاسرة اجتمع في حبسه جناة كثيرون ، فقال وزيره : غرّبهم إلى بعض البلاد ليعمّروها ، فإن عمروها كان العمران لك ، وان تلفوا برئت من دمهم!

واختار أرض طبرستان ، وهي يومئذ جبال وأشجار ، فأرادوا قطع الأشجار فطلبوا فؤوسا والفأس بالعجميّة تبر ، فكثرت بها الفؤوس فقالوا : طبرستان ، وطبر معرب تبر. وقالوا : كانت أيمانهم مغلولة فكانوا يعملون بشمالهم ، فلهذا ترى فيها أكثرهم عسرا. ونفوا الفواجر أيضا إليها فتزوّجوا بهنّ ، فلهذا قلّة الغيرة بينهم. وأكثرهم يتعانون تربية دود القزّ فيرتفع منها الابريسم الكثير ويحمل إلى سائر البلاد.
وبها الخشب الخلنج ، يتّخذ منه الظروف والآلات والأطباق والقصاع ثمّ يحمل إلى الري ، وصناع بلد الري يجعلونه في الخرط مرّة أخرى حتى يبقى لطيفا ويزوّقونه ، ومن الري يحمل إلى سائر البلاد ، ومن هذا الخشب تتّخذ النشاشيب الجيّدة. وبها المآزر والمناديل الرفيعة الطبرية تحمل منها إلى سائر البلاد ، وكذلك الثياب الابريسمية والأكسية والصوف.
وبها شجر إذا ألقيت شيئا من خشبها في الماء يموت ما فيه من السمك وتطفو.
وبها جبل طارق ؛ قال أبو الريحان الخوارزمي : بطبرستان جبل فيه مغارة فيها دكّة تعرف بدكّان سليمان بن داود ، عليه السلام ، إذا لطخت بشيء من الأقذار انفتحت السماء ومطرت حتى تزيل الأقذار منها ؛ وهذا في الآثار الباقية من تصانيف أبي الريحان الخوارزمي. وقال صاحب تحفة الغرائب : بها حشيش يسمّى جوز ماثل من قطعه ضاحكا وأكله غلب عليه الضحك ، ومن قطعه باكيا وأكله في تلك الحالة يغلب عليه البكاء ، ومن قطعه راقصا وأكله كذلك على كلّ حال قطعه وأكله تعلب عليه تلك الحالة.
حكى أبو الريحان الخوارزمي أن أهل طبرستان أجدبوا في أيّام الحسن ابن زيد العلوي ، فخرجوا للاستسقاء فما فرغوا من دعائهم حتى وقع الحريق في أطراف البلد ، وبيوتهم من الخشب اليابس ، فقال أبو عمر في ذلك :
خرجوا يسألون صوب غمام
 

فأجيبوا بصيّب من حريق!
 
جاءهم ضدّ ما تمنّوه إذ
 

جاءت قلوب محشوّة بالفسوق!
 


وحكى الشيخ الصالح محمّد الهمداني قال : رأيت بطبرستان أمرا عجيبا من الأمور ، وهو : شاهدت بطبرستان دودة إذا وطئها من كان حامل ماء صار الماء مرّا ، وأعجب من هذا انّه لو كان خلف الواطىء حمال الماء صار كلّ المياه مرّا ، ولو كانوا مائة ، فترى نساءهم يحملن الماء من النهر في الجرار وقدّامهن واحدة معها مكنسة تكنس الطريق ، والنساء الحاملات للماء يمشين على خطّ واحد كالإبل المقطرة.
وحكى علي بن رزين الطبري ، وكان حكيما فاضلا ، قال : عندنا طائر يسمّونه ككو ، وهو على حجم الفاختة وذنبه ذنب الببغاء ، يظهر أيّام الربيع ، فإذا ظهر نبعه صنف من العصافير موشّاة الريش يخدمه طول نهاره ، يأتي له بالغداء فيزقّه ، فإذا كان آخر النهار وثب على ذلك العصفور وأكله ، وإذا أصبح صاح فجاء آخر فإذا أمسى أكله ، فلا يزال كذلك مدّة أيّام الربيع ، فإذا زال الربيع فقد ذلك النوع واتباعه إلى الربيع القابل.
وينسب إليها أبو جعفر محمّد بن جرير الطبري ، صاحب التفسير والتاريخ الطبري والمصنّفات الكثيرة ، وكان كثيرا ما ينشد :
أأقتبس الضّياء من الضّراب
 

وألتمس الشّراب من الشراب؟
 
أريد من الزّمان النّذل بذلا
 

وأريا من جنى سلع وصاب!
 
أأرجو أن ألاقي لاشتياقي
 

خيار النّاس في زمن الكلاب؟
 
وينسب إليها أبو الحسن المعروف بالكيا الهراسي. كان عالما فاضلا تالي أبي حامد الغزّالي ، إلّا أن الغزالي أثقب منه ذهنا وأسرع بيانا وأصوب خاطرا.
كان مدرسا بالمدرسة النظاميّة ببغداد ، دخل ديوان الخليفة والقاضي أبو الحسن اللّمغاني كان حاضرا ما قام له ، فشكا إلى الخليفة الناصر لدين الله ، فقال الخليفة : إذا دخل القاضي أنت أيضا لا تقم له! ففعل ذلك ونظم هذين البيتين :


حجاب وحجّاب وفرط حماقة
 

ومدّ يد نحو العلى بالتّكلّف
 
فلو كان هذا من وراء تكلّف
 

لهان ولكن من وراء التّخلّف
 
فشكا القاضي إلى الخليفة ، فأمر الكيا أن يمشي إليه ويعتذر ، فقال الكيا : والله لأمشينّ على وجه يودّ لو كنت لم أمش! فلمّا وصل إلى باب دار القاضي أخبر القاضي بأن الكيا جاء إليه ، فقام واستقبله وواجهه بالكلية. قال الكيا : حفظ الله الخليفة فإنّه تارة يشرّفنا وتارة يشرف بنا! فانكسر ابن اللمغاني انكسارا شديدا. فلمّا مات الكيا وقف ابن اللمغاني عند دفنه وقال :
فما تغني النّوادب والبواكي
 

وقد أصبحت مثل حديث أمس!
 
ومن عجائب ما حكي أن بعض السلاطين غضب على صاحب طبرستان ، فبذل الطبري جهده في إزالة ذلك ، فما أمكنه. فبعث السلطان إليه جيشا كثيفا ، فعلم الطبري أن الجيش لا ينزلون إلّا بغيضة معيّنة تحت جبل ، فأمر بقطع أشجار تلك الغيضة وتركها كما كانت قائمة ، وستر موضع القطع بالتراب. فلمّا وصل الجيش ونزلوا بها كمن الطبري هو وأصحابه خلف ذلك الجبل ، وشدّ الجيش دوابهم في أشجار تلك الغيضة وكانت كلّها مقطوعة ، فخرج عليهم الطبري بأصحابه وصاح بهم ، فنفرت الدواب وتساقطت الأشجار لأن الدواب جرّتها فولّى الجند هاربين فزعين لا يلوي أحد إلى أحد ، وتبعهم الطبري بالقتل والأسر ، فنجا أقلّهم وتلف أكثرهم. فلمّا رجعوا إلى السلطان سألهم عن شأنهم فقالوا : نزلنا بالموضع الفلاني ، أتانا في جنح الليل جند من الشياطين تضربنا بالأشجار الطويلة! فلم يجسر أحد من المتقوّمين بعد ذلك على المشي إلى طبرستان!
طبس
مدينة بين أصفهان ونيسابور مشهورة. ينسب إليها فخر الأئمّة أبو الفضل محمّد بن أحمد الطّبسي ، صاحب كتاب الشامل في تسخير الجنّ. وهو كتاب

كبير يذكر فيه كيفيّة تسخير الجنّ ، ولكلّ واحد من رؤسائهم طريق من الطرق يذكر في ذلك الكتاب ، وحاصله أنّه يذكر عزائم وشرائطها ويقول :من أتى بها على هذا الوجه سلّط الله تعالى عليهم نارا تحرقهم ، ولا يندفع عنهم إلّا بالإجابة. وذكروا أن الجنّ كانوا مسخرين لفخر الأئمّة ، وكان هو معاصرا للإمام الغزالي ، قال له : أريد أن تعرض الجنّ عليّ! فأجابه إلى ذلك ؛ قال الغزالي : رأيتهم مثل الظلّ على الحائط. فقلت له : إني أريد أن أحادثهم وأسمع كلامهم. فقال : أنت لا تقدر ترى منهم أكثر من ذلك.
وينسب إليها شمس الطبسي الشاعر. كان شابّا حسن الصورة حلو الكلام جيّد الشعر ، من تلامذة الشيخ رضى الدين النيسابوري ، وكان معاصر الخاقاني فرأى شعر الخاقاني وسلك ذلك المسلك ، إلّا أن شعر الشمس كان ألطف وأعذب فقال له رضى الدين : داوم على هذا الفنّ فإنّه يجيء منك وترى منه الخير.
وله أشعار في غاية الحسن وأسلوب هو منفرد به. وكان قاضي مدينة بخارى صدر الشريعة شاعرا مفلقا عديم النظير ، نظم قصيدة حسنة قافيتها ضيّقة بالعجمية وهذا مطلعها :
بر خير كه شمعست وشرابست ومن تو
 

او از خروسان سحر خاست ز هر سو
 
بر خير كه برخاست بياله بيكي باي
 

بنشين كه نشستست صراحي بدو زانو
 
بر خير اران بيس كه معشوقه شب را
 

باروز بكيرند وببرند دو كيسو
 
واين قصيده در بخارى مشهور كست همه معترف شدند بخوى آن شمس طبس مثل اين قصيده بكفت وهذا مطلعها :
از روى تو جون كرد صبا طره بيكسو
 

فرياد براورد شب غاليه كيسو
 
از زلف سياه تو مكر شد كرهي باز
 

كر مشك براورد صبا تعبيه هر سو
 
اخر دل رنجور مرا جند براري
 

زنجير كشان تا بسر طاق دو ابرو
 



كفتى كه بزركار تو روزي سره كردد
 

ارى همه اوميد من ابنست ولي كو
 
فلمّا عرف صدر الشريعة بهذه القصيدة نادى : من قائلها؟ وما كان يقدر أن يقول شيئا لأنّها كانت في مدح وزير بخارى. وسمعت انّه كان شابّا مثل القمر. مات فجأة وديوانه صغير لأنّه ما وجد العمر.
طرابلس
مدينة على شاطىء بحر الروم ، عامرة كثيرة الخيرات والثمرات ، لها سور منحوت من الصخر ، وبساتين جليلة ورباطات كثيرة يأوي إليها الصالحون.
بها مسجد الشعاب ، وهو مسجد مشهور مقصود ، يأتيه الناس لبركته واحترامه.
وبها بئر الكنود ، وهي بئر زعموا أن من شرب من مائها يتحمّق ، فإذا أتى رجل من أهل طرابلس بما يلام عليه يقولون له : لا نعيبك ، فإنّك شربت من بئر الكنود!
طرق
مدينة بقرب أصفهان. لأهلها يد باسطة في الآلات المستظرفة من العاج والآبنوس ، يحمل منها إلى سائر البلاد كلّ آلة ظريفة يعجز عن مثلها صناع غيرها من البلاد.
ينسب إليها تاج الطرقي. كان أديبا شاعرا ظريفا. له حكايات عجيبة وأشعار فصيحة مثل شعر عرب العرباء ، وقد عرض على الخليفة الناصر لدين الله هذان البيتان من كلامه :
إذا ما رآني العاذلون وغرّدت
 

حمائم دوح أيقظتها النّسائم
 
يقولون : مجنون جفته سلاسل
 

وممسوس حيّ فارقته التّمائم
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مشاركة مميزة

بناء شخصية  الأطفال   ...