الخميس، 8 مارس 2018

إسم هذا الكتاب : طلوع سعد السعود في أخبار وهران (الجزء السابع من الكتابة )
ولم يمنّ الله تعالى بفتحها على يديه بل دخّر فضل ذلك لمن هو محبوب لديه. وكانت وفاته سنة سبعين ومائة وألف (1). وكانءاغته الشجاع الجواد ، الكنز المراد ، عقد سمط الجواهر الشريف الكرطي التلاوي ، وخليفته كافل الأرامل الشهم البارع إسماعيل بن البشير البحثاوي.
الباي حسن
ثم حسن باي تولى سنة سبعين ومائة وألف (1) ثم هرب من ملكه لإسطنبول لما أهانه الباشا بالجزائر وخليفته البحثاوي المسطور.
الباي إبراهيم الملياني
ثم أبو إسحاق إبراهيم باي الملياني تولى عام السبعين ومائة وألف (1) وكان محبا للعلماء بمحبته للعلم وراغبا في الصالحين لنيل الفضل والكرم. وهو الذي بنا (كذا) برج العسكر بالمعسكر ، وأمر بكتب اسمه وتاريخه عليه فكتب بما نصّه : بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وأله وصحبه وسلم ، أما بعد أمر بتشييد هذا الفندق المبارك الظريف الجامع لعسكر الجزائر المنتصر سيدنا أمير المؤمنين المجاهد في سبيل رب العالمين ، ناصر الدنيا والدين لرب العالمين ، مولانا إبراهيم باي الإيالة الغربية وتلمسان خلّد الله ملكه وأعزّه ونصره آمين وكان الفراغ منه أول شهر الله العظيم رمضان عام ست وسبعين ومائة وألف (2) عرفنا الله خيره وكفانا ضيره وشره آمين يا رب العالمين وصانع هذا التاريخ محمد بن الحسين بن صرماشق. وتوفي سنة خمس وثمانين ومائة وألف (3) بعد ما ملك أربعة عشر سنة ودفن بالمعسكر بالقبة التي بناها الباي الحاج عثمان للشيخ عبد القادر الجيلاني الملاصقة للجامع الأعضم كما مرّ.
__________________
(1) الموافق 1756 ـ 1757 م.
(1) الموافق 1756 ـ 1757 م.
(1) الموافق 1756 ـ 1757 م.
(2) الموافق 16 مارس 1763 م.
(3) الموافق 1771 ـ 1772 م.


وكانءاغته الفارس الأعظم والطود الشامخ الأفخم ، والجواد الأكرم والشجاع الأعزم. والبحر الطامي الألطم ، الذي لا يدانيه شجاع ولا جواد له يساوي ، السيد إسماعيل بن البشير البحثاوي ، الذي تسمت به مدينة العرقوب بالمعسكر ، (ص 226) لكونه أول من بنا (كذا) بها في المشتهر /. وهذاءاغة مدحه العالم العلامة الدراكة الفهّامة كثير المعاني ومشارك الفنون ، قاضي المعسكر السيد محمد ولد مولاي علي الشريف بن سحنون بأبيات من الرجز فقال :
تكاثر بالسّيل السلسبيل
 

لك وكل الخير يا إسماعيل
 
لقد نلت الحسنى مع الزيادة
 

لما فيك للناس من إفاده
 
يا من وقاك الله من مساوي
 

وأرقاك للعلا يا بحثاوي
 
يا من ترصّعت بكل خير
 

يا من تجنّبت لكل ضير
 
ياءاغ يا بنءاغ يا بن شيخ
 

يا رايس الوقت بكل فيخ
 
تغافلت عنّا في هذا الوقت
 

فاجبر لكسرى نجوت من مقت
 
قد قيل لي أنّ أمير المؤمنين
 

إبراهيم باي يريد يا أمين
 
توليت غيري وأنت المفتاح
 

والاتكال عليك يا مصباح
 
وكيف قد أخشى وأنت عندي
 

يا ملاذي وعدتي ورشدي
 
فلا تدع تمنيت الأمير
 

تكمل يا عمدتنا الشهير
 
ثم أن إسماعيل المذكور لما تولىءاغة جعل أخاه الطود العظيم ، الكنز المطلسم الفخيم ، الفارس الأمجد ، السيد عدة بن البشير بن نجد ، خليفة عليه ، وفوّض له الأمر في سائر الأمور التي تلقى عليه وفي عدة المزبور ، قال العلامة السيد عبد الحليم المستغانمي هذه الأبيات التي كالدّر المنشور :
لك العز قد تم بأسر يا عده
 

فأنت بإذن الله تخلص من شدّه
 
وأنت الذي بك الحوائج قد تقضى
 

ويحصل لنا كل فوز بلا شدّه
 
ونبلغ للأماني طرا بأسرها
 

فليس لك شبه في فعلك مذ عدّة
 
وكيف يخيب من تكون له حما
 

وأنت المخزومي من جدّك ومن جدّه
 
وجعل أخاه الموفق بن البشير قايدا على الدواير وأخاه يوسف قايدا على العبيد وهم الزمالة ونظر بعين المودة في أبي علام بن الحبوشي ودموش ولد


الشحط وصيّر كلّا منهما رئيسا (كذا) على قبيلة ولما توفي أخوه الموفق ترك ولده قادي في حجره فزوجه بابنته هكذا قيل والله أعلم.
الباي الحاج خليل
ثم / الحاج خليل باي تولى سنة خمس وثمانين ومائة وألف (1). وكان (ص 227) مبغضا للعلماء والأولياء وغيرهم من أهل النفع. وتوفي بتلمسان سنة اثنين وتسعين ومائة وألف (2) فدفن بقبة سيدي محمد السنوسي جيرة ضريحه. وسبب موته دعاء الشيوخ الثلاثة عليه بالهلاك وهم : سيدي المداني بن عطاء الله العمراني الغريسي شاعر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه والأولياء رضي‌الله‌عنهم ، وسيدي الحاج الموفق الكبير بن سعيد الشقراني ثم البوشيخي ، وسيدي أبو ترفاس محمد ابن محمد الساحلي شيخ الطلبة بالساحل. فالشيخ المدني ورفيقه واعدهما خليل بالقتل إذا رجع من سفره فاشتغل الأول بالاستصراخ بشيخ الشيوخ سيدي عبد القادر الجيلاني في عروبيته الملحونية يقول في بعض أبياتها :
الباي خليل لا ترده من ذي التغرابا يا الجيلاني بابا حلف فيّ وقال لي من السّور ناليك.
واشتغل الثاني بالعبادة بأن تطهر ليلة طهارة كبرى وانفرد وحده وشرع في الصلاة بالقرآن العزيز وهو قائم على رجل واحدة إلى أن ختمه في ركعة واحدة ولما نام كل منهما أتا الهاتف لكل منهما وبشره بهلاك الباي في سفره وأنه لا يرجع لأهله. ولما استيقظ كل منهما بعث رسولا لصاحبه يبشره بهلاك الباي فالتقى الرسولان برأس الماء وأخبر كل صاحبه فرجع الرسولان من هناك بعد التحويط على محل الاجتماع. وأما الشيخ أبو ترفاس فإنه غزاه الباي خليل بمدشرة بالساحل وأخذ قيطنته وفرق طلبته وهمّ بقتله لو لا أن الله عصمه منه فقال له أبو ترفاس نحن مساكين لا معرفة لنا بالملوك ولا دخول لنا في شئونهم
__________________
(1) الموافق 1771 ـ 1772 م.
(2) الموافق 1778 م.


وفضحتنا علانية بلا سبب فضحك الله وعجّل بهلاكك لتستريح منك البلاد والعباد فرجع الباي ولما وصل لحمام أبي غرارة بأرض دوى يحيى ابتلاه الله بعلّة يقال لها الشهدة وهي حية عظيمة أصابته بين كتفيه وتعاظمت جدا وتخرقت كالشهدة وركبها الدود فحملوه لتلمسان في أرذل حالة ولما وصلها مات بالبيت التي بها دون علم أحد ، ولما دخلوا عليه من الغد ألفوه ميتا. وتوفي أبو ترفاس بعده بقليل في فصل الشتاء ليلة الجمعة الحادي والعشرين من ذي الحجة الحرام (ص 228) سنة اثنين وتسعين ومائة وألف (1) /. وفيها ضحوة يوم الخميس عاشر رمضان (2) توفي القطب العلامة الحافظ الشيخ عبد القادر المشرفي ورثاه تلميذه الحافظ أبو راس بهذه الأبيات الرائية (كذا) من الطويل :
لقد كان للإسلام كهفا وملجأ
 

تراه في أقل الشئون ببادر
 
له الباع في كل العلوم بأسرها
 

سريع الجواب عنها ليس بضاير
 
فيا لو رأيته بدرسه جالسا
 

وحوله حلقة الأسود الهواصر
 
كأنّ قمر الأفق في غيهب الدجا
 

من بين كواكب النجوم الزواهر
 
فيتلوا فرايد عليهم نفيسة
 

بحسن بيان واختتام عواطر
 
فتلقاها أنوار القلوب بديهة
 

كنقش فصوص للخواتم بواهر
 
يذلّل صعاب العلوم لهم كما
 

يقرّب قاصيات عنهم نوافر
 
له خلق كمثل أحنف الذي
 

غرائبه مسطورة في الدفاتر
 
تعود بسط الكف في بحور النّدا
 

لقد فاق هرما ومعنى وعامر
 
أيا ثرى الكرط كيف واريت سيّدا
 

مآثره مثل البحار الزواخر
 
لقد حلّ فيك العلم والحلم والتّقى
 

فحسبك رهنا من كريم العشائر
 
همام ثوى ضحى الخميس لعاشر
 

من شهر رمضان الهدى والمغافر
 
من سنة اثنين وتسعين قيّدوا
 

من بعد المائة والألف أهل البصائر
 
وهي طويلة. وفي تسعين ومائة وألف (3) في وقت الباي خليل حلّ بالناس قحط
__________________
(1) الموافق 10 جانفي 1779 م.
(2) الموافق 2 أكتوبر 1778 م.
(3) الموافق 1776 ـ 1777 م.


عظيم ودام إلى نصف إحدى وتسعين فزال بإذن الله تعالى. وإلى هذا القحط أشار ولي الله سيدي الأكحل الخلوفي المعروف عند الناس بسيدي الأخضر ابن خلوف في عروبيته الملحونية التي صيّرها تاريخا بطريق الكشف بقوله : ونصف عام من بعد تذهب الكشرا.
وكانءاغته الهمام الفاضل الجواد الباسل ، المتجنب لسائر رذائل الدعاوي ، السيد إسماعيل بن البشير البحثاوي. وهؤلاء البايات التسع كلهم كانت لهم دار ملكهم المعسكر ، وكلهم كان لهم اعتناء شديد بالجهاد ولم يفز منهم بالفتح الأول إلّا أبو الشلاغم المسراتي.
الباي محمد بن عثمان الكبير
ثم أبو عثمان الفقيه المجاهد السيد محمد بن عثمان ، باي الإيالة الغربية وتلمسان ، الذي قيضه الله / لفتح وهران ، وأرشده إلى مهيع السعادة والغفران ، (ص 229) الممتطي منصة الرضوان ، ومشيد راية الإسلام والإيمان والإحسان ، وباسط مهد العدل والأمان في كلّ زمان ، اتحفه الله برضاه ، وجدد له اللطف وأمضاه ، تولى سنة اثنين وتسعين ومائة وألف (1) ، على الصحيح ، فكان رحمه‌الله من أهل البلاغة واللسان الفصيح ، بعد أن كان خليفة على خليل رقي لمنصب الباي بالعز والتفضيل ، فهو ثاني ملوك العثمانية ، خلافا لما في أنيس الغريب والمسافر من أنه هو أولهم وهي قولة واهية ، وبه رفع ذكرهم ، وانتهى إليه خيرهم ، فلقد دوّخ الأتراك والأعراب ، وهابته الأباعد والأقارب وذلت له الملوك والجبابرة ، وخشيته الفراعنة والأكاسرة ، وأطاعته الرعايا ، وخصت به المزايا ، ووفدت عليه الوفود ودارت به العساكر والجنود فحاصر مدينة وهران ، وضيّق عليها من كل فج نزهة الزمان ، ودام عليها إلى أن فتحها في أوائل المحرم الحرام (2) بلا وصب ، ودخلها صبيحة وقبل ضحى يوم الإثنين الخامس من رجب سنة ست من القرن الثالث
__________________
(1) الموافق 1778 م.
(2) عام 1206 ه‍ ـ الموافق سبتمبر 1791 م.


عشر (1) دون ثلب ، كما مرّ ذلك مفصّلا ، مختصرا لا مطولا. وفي وقته حصلت العافية قليلة الوجود ، وتواخت (كذا) القبائل في بعضها واصطلحت على الراحة وترك الفساد والعنود (كذا) حسبما أشار إلى ذلك الشيخ الأكحل في عروبيته بطريق الكشف بقوله :
تأت العافيا في أزمان ميم وحا
 

هجّ وزيد حرفين قول ميم ودال
 
تضحا القبائل أخو جميع مصطلحا
 

لخ (كذا)
 
وكان رجلا جسيما بالتجدير ، أسمر اللون لا بالطويل ولا بالقصير ، محبا للعلماء والصلحاء ، والنبلاء ، والأدباء والشجعان والفضلا ، قريب الغضب سريع الرضا ، شديد الحزم والأوامر والإمضا ، كثير الغزو على أهل الصحراء ، دائم الارتحال والإسرا ، ففتح بني الأغواط ، والشلالتين ، وعين ماض ، ومزابا ، وأبا الضروس ، ونزل شرّاعة وهمّ بفتح بني يزناسن وأبي عروس ، وبلغ مبلغا لم يبلغه أحد من ملوك الأتراك ، ووصل المواضع التي صعبت على غيره وسهل عليه فيها (ص 230) الإدراك. وأعظم فتوحاته فتح وهران / التي صيّرها الله على يده للمسلمين دار إيمان وأمان. وإلى ما تحت سلطاته أشار الحافظ أبو راس في سينيته بقوله :
فملك آل منديل تحت سلطانه
 

قد كان مدّ من واجر إلى تنس
 
كذلك ملك تجين في إيالته
 

كذا الجدار القديم المتقن الأسس
 
ملك لآل يغمور فيه نضرتهم
 

كذاك ملك ابن يعلا اليفريني الرئيس
 
لشعنب ومصاب مدت طاعته
 

على مسافات شتّى من أبي الضّرس
 
وقد مرّ هذا في الكلام على فتح وهران. وكان ، رحمه‌الله ، والده عثمان الكردي حاكما بمليانة ثم صار بايا بتيطرى ، فهو أول ملوك العصمانية ، ولد ولدان ذكران أحدهما الباي محمد الكبير هذا وأمه أم ولد اسمها زايدة أهداها له ملك المغرب لمحبة بينهما ، والآخر الباي محمد الصغير ويقال له الرقيق كما يأتي وأمه حرّة اسمها خديجة بنت السيد محمد بن عيسى اللمدانية من مرابطين (كذا) المدية.
__________________
(1) الموافق 28 فيفري 1792 م.


ثم أن الباي الذي نحن بصدد الكلام عليه لما فتح وهران وارتحل إليها بالسكنا (كذا) وصيرها دار ملكه الأسنا قصدته الشعراء من كل باب وتزاحمت في الدخول عليه ومعهم العلماء ما بين إيجاز وإطناب ، فمن ذلك قصيدة العلامة الجامع ، الدراكة المانع النّاثر الناظم اللّافظ ، الشيخ أبي راس الحافظ :
خليلي قد طاب الشراب المورّد
 

لمّا أن صار الأمير بالثغر يقصد
 
وأجفت رحال الوافدين أم عسكر
 

وقد كان مأوى للوفود ومقصد
 
تجاذبته وهران لما افتتحها
 

وقد قالت جاءني الملك محمّد
 
فهات أعقارا في قميص زجاجة
 

كياقوتة في درّة تتوقّد
 
يصبّ عليه الماء مسبك فضة
 

له حلق بيض تحلّ وتعقد
 
جلوسا على ذرى الحصون فما ترى
 

بوهران ناقوسا ولا الوثن يعبد
 
فهلّا أبصرت طربها بأذاننا
 

وقرائتنا أم كان طرفك أرمد
 
/ ألم ترها تهتز شرقا إلى النّدا
 

إذا قال في الخميس المؤذن أشهد
 
إذا قطعت بأندلس يد العدا
 

يدا بقيت والحمد لله لي يد
 
وما زال طمع المسلمين في رده
 

لعلمك أن الدهر يدني ويبعد
 
فها هي وهران العداء صفت لنا
 

وفي كل عورة لها لنا مرصد
 
كأن لم تكن بالأمس ترم صواعقها
 

علينا بزمجر عتيلة صلد
 
تقني من النار الجحيم بنفسها
 

فيا عجبا لي كيف يجتمع الضّدّ
 
وكيف تدوم الخيزرات بفكرهم
 

وتدمر ومنها الفريدة روند
 
وقرطبة كانت محط رحالنا
 

شريس الشريسي وشقة ثم لوكد
 
بتذكارهم عمّت وجمّت همومنا
 

إلى أن نفى الأكدار قوم ممجّد
 
بفتحه وهران واسطة عقدهم
 

بها طال ملكهم قديما ممدّد
 
زهت بها مصر ثم نجد وشامنا
 

ويضربهم بها غريض ومعبد
 
وأهل الحجاز قد تسامعوا فعله
 

ولا شك للمصريين يعلو ويصعد
 
فكان بوسط الغرب دخر مضرّة
 

وكم درّة علياء باليم توجد
 
وعم العفات نيل فيض عطائه
 

وذلك من إحسانه ليس يجحد
 
بها علا صيته الملوك بأسرهم
 

فطاب له أصل وفرع وقعدد
 



ومنها قوله فيه أيضا :
فقد سد ثلما كان يخشى اتساعه
 

ورقّع خرقا ما عليه مزيد
 
وأصلح ما قد أفسدته صروفه
 

وأذاب ما أثنى فخاب حسود
 
وقوم معوجا من الثغر فاستوى
 

وبلّغه ما كان منه يريد
 
نفى عنه خبث الشرك والرجز والأذى
 

وكم من رميم عاد وهو جديد
 
وجلا كروبا عمّ في الأفق وقعها
 

وهمّ له وسط الفؤاد ركود
 
وأشرق أنوار الهدى بعد حجبها
 

أنار لها دان وضاء بعيد
 
واطلع في أفق السعادة أنجما
 

لهنّ ترق في العلا وصعود
 
وعمّ وفود العالمين بنيله
 

بذكر له بين الأنام مشيد
 
(ص 232) / مواس لأهل العلم في كل بلدة
 

وإن لم يكن منهم إليه ورود
 
جدير بأن يدعى وحيد زمانه
 

وتفخر أبناء به وجدود
 
فكم رسم مجد قبله كان باليا
 

وكم من واه ضعيف عاد جديد
 
فجمع خصال الكمال منيفة
 

فهو بها عن الملوك فريد
 
ومنها قوله فيه أيضا من البسيط :
سلطان وهران ما خيّب قاصده
 

زهت به وعالت (كذا) أقاليم الأمم
 
شدّ قواعدها بحزمه فعادت
 

مكفولة به لم تيتم ولم تئم
 
يرثها بعده أولاده أبدا
 

كإرث آل شيبة مفتاح الحرم
 
فالدنيا ألبست البها بطلعته
 

رشيدها الثاني جاءت به للعلم
 
عمّ بإحسانه بدوا وحاضرها
 

كل لليث للهضبات يروى والأكم
 
في قبّة من نوى قد شيدت عن حسب
 

وجعفر بن يحيى بها من الخدم
 
وابن أمامة وابن سعد أتابعه
 

وحاتم وأبو دلف مع هرم
 
تعودت كفه بسط الحسام فلو
 

أراد قبضها لم تعطه بل تهم
 
سار مسير زحل في منازله
 

وهبّ كالرّيح في الأراضي والأطم
 
شمس بدت في أعلى الأفق ساطعة
 

أضاءت الخلق من عرب ومن عجم
 
ملوك أقطار الأرض هم كواكبها
 

شعاع أنواره وأراهم كالظلم
 
بشرى فقد أنجاز الإقبال موعده
 

بالكوكب السعد لم يفل ولم يرم
 



ذو المفاخر أعيته مآثره
 

من دون أدناها وقفوا على العدم
 
وبالجملة فإن ما قيل فيه من المدح حال سكناه بالمعسكر وفتحه لوهران وبعد فتحه إياها وسكناها كثير ، يقلّ حصره وتضيق به الدفاتير (كذا). وقصة فتحه لوهران مشهورة ، مقرّرة مسطورة ، ألّف فيها العلماء كالحافظ النقاد ، النور الوقاد ، العلامة الماهر أبي راس محمد بن الناصر والحافظ البارع ، العلامة الجامع ، السيد مصطفى بن عبد الله الدحاوي وغيرهما عدّة تآليف ، وصنف فيها ما بين النثر والنظم جملة تصانيف ، وقد مرّ لنا بها طرف من ذكرها ، حسبما نتجته / القريحة من بنات فكرها. (ص 233)
منشآت الباي محمد بن عثمان بوهران ومعسكر والبرج
ثم أن هذا الباي المراد ، الحاصل نفعه لجمع العباد ، أمر بالهام من الله تعالى في اليوم الحادي والعشرين من فتحه إياها بهدم الأبراج الموالية للبروهي برج مرجاج وبرج رأس العين الكبير والصغير وبرج الويز وبرج فراند وبرج كالوص (كذا) وأشباههم من الأبراج الموالية للبر ومن عادته رحمه‌الله أنه مهمى (كذا) أشار برأي إلّا كان فيه الخير والسداد وغرضه بذلك رفع الضرر عن المسلمين. وحسما لمادة النصارى فإن الباي أبو الشلاغم لما فتحها أولا ترك الأبراج بلا هدم ولما رجع لها النصارى كان أول ضرر حصل للمسلمين من تلك الأبراج فلذلك أمر رحمه‌الله بهدمها. ولما استقل قدمه رحمه‌الله بها جمع لسكناها الناس من كل فج ومكان ، وأمرهم بتعميرها ليتم في الغاية الإيمان ، فبعضهم بالإقطاع وبعضهم بالبيع بلا نزاع ، إلى غير ذلك من الوجوه الصادرة من أمير المؤمنين ، وثمن المبيع عمّر به بيت مال المسلمين. وفي يوم دخوله لها بأهله ومخزنه بغاية نيله ، قدم أمامه العلماء والصلحاء وبيدهم صحيح البخاري تبركا به وتيمنا بفضله ، فحقق الله رجاءه ، ونشر صيته ودمر أعداءه ، وبنا (كذا) بالموضع الذي وقف به فرسه عند الباب للواقف مسجد الصلاة الخمس والجمعة يعرف عند الناس للآن بجامع بالناصف لكونه كان به وكيلا ، وبأموره قائما كفيلا. ثم بنا (كذا) في السنة السابعة والمائتين والألف (1) قبّة البرج الأحمر
__________________
(1) الموافق 1792 ـ 1793 م. ولا أثر اليوم لمسجد بناصف ولو أن البعض يذكر أنه المسجد ـ


فزدات له رونقة لصعودها للسماء مشرقة ، ولما أكمل بناءها كتب على صالة مركز جلوسه بأمامه الأبيات التي أنشدها العالم الجليل ، المتضمن الجميل ، العدل الماجد ، البارع الفارد ، الكاتب الفاخر ، الناظم الناثر ، ذو المعاني والإعراب ، والفنون والآداب ، والكرم والفضائل ، والأخلاق والشمائل الجامع بين الحسب والنسب الأصيل والمعارف والتحصيل ، الشريف الجميل ، الذي هو أنجب من كل من حثّوا في طلب العلم ولحّوا ، السيد مصطفى بن عبد الله بن دحّو (كذا) ، مؤلف فتح وهران وجامع الجواهر الحسان ، وهي من البسيط :
يا غافلا عن أمور زانها ذهب
 

ولونها لجين وتمرها رطب
 
ونورها مضيء وجوها دائم
 

وصوتها منشد بالحسن مرتقب
 
(ص 234) / أقصد إيوان أمير المؤمنين أبي
 

عثمان تلفى الخيرات كلها كوعب
 
به تشارك من نوى لمقصده
 

فهو منافع للورى فما أرهب
 
به اشتباك الزهر في صفحتيه حكى
 

فكيف بالعشائر المقيم صوحب
 
وحكى كيف الأهالي به يتفنون
 

وكيف يسلكون بكلهم مذهب
 
فعند ذا خاطبوني وابتسامي بدا
 

منه جواب عن سنوى يظل المنحب
 
كيف انسباب الأمور اللواتي ارتبطت
 

برضى من يسرّ قدرا وينتصب
 
أهكذا عقال عصري قد التصقوا
 

بالذي نصر القدير علاه رجب
 
أظهر به كيف الذي ترونقه
 

محبة الصديق عند الأهالي ركب
 
تجدهم باختلاف في الدعاء إلى
 

من واحد لواحد بالنّدا رتب
 
إلى كمال العطا من غير مبتخل
 

لأحد ولعطائه قد قرب
 
وبنا (كذا) المدرسة الجليلة العظيمة بخنق النطاح التي بها ضريحه وتعرف للآن بالمدرسة (1). وبنا (كذا) أيضا الجامع الأعظم المعروف بها بجامع الباشا
__________________
ـ الذي بجوار باب الجيارة والذي حوّله الفرنسيون إلى كنيسة وأعيد إلى مسجد بعد استعادة الاستقلال الوطني. وذلك عام 1980 م وأطلق عليه اسم مسجد أبي عبيدة عامر ابن الجراح.
(1) ما تزال هذه المدرسة قائمة وحولت إلى مسجد باسمه ، أما القبر فغير موجود وهناك من قال بأن رفاته نقلت إلى مقبرة مول الدومة بحي رأس العين. وكذلك مسجد الباشا ما يزال قائما.


للآن وهو حسن باشا وكل ما صرف عليه هذا الأمير فمن عند الباشا. يحكى أن الباشا حسن لما بشّر بفتح وهران سرّ سرورا كثيرا ولما رأته زوجته فاطمة وخالتها حلّ به الطرب العظيم قالتا له كان اللائق بك لإتمام سرورك أن تبني بها جامعا عظيما يبقى ذكرك به مخلدا في الألسنة فعند ذلك أمر الباي ببنائه وبعث له بصندوقين مملوين (كذا) مالا واحدا بعد واحد ليصرف ذلك على البناء صحبة أمين البنائين محمد الشرشالي بن بيرت. ولما شرع في بنائه حفر أساسه في بستان تحت البرج الأحمر ، فألفى بالأساس قلّة معمرة ذهبا فصرفها في البناء أيضا وجمع لمنارته حجرا ضخما أتى به السخارة من برج الصبايحية في أربعة أيام متوالية وكلما صرفه الباي على الجامع مفصلا ومجملا فهو مذكور في دفاتره وضربنا عنه صفحا خشية السئامة (كذا) وابتدا (كذا) بنائه في السابع من الثالث عشر بعد فراغه من القلة وأتمّ بنائه في الثامن أو التاسع منه. وتاريخ ذلك مكتوب بالحجارة التي بها جملة الأشياء المحبّسة. وبنا (كذا) رحمه‌الله الجامع الأعظم قليل الوجود بالعين البيضا (كذا) من بلد المعسكر وأحاط به / المدرسة. وتاريخ (ص 235) بنائه بمدرسته مكتوب بجانب محرابه ونسيته لطول العهد. كما بنا (كذا) جامع الكرط ، والجامع الأعظم بمدينة البرج ، إلى غير ذلك من شعائر الإسلام والتي عملها. وكتب على بعض حوائط البرج الأحمر تاريخ فتحه لوهران ومن فتحها وأي سلطان وباشا كان الفتح في وقته مع تاريخ دخوله لها ونصّه : ـ الحمد لله وحده فتحت وهران وأعادها الله للمسلمين وخرج الكفار منها أذلة صاغرين ، في سعادة المعظم السلطان الأفخم والخاقان الأفخم ، الخائف من مولاه الطائع الأواه ، السيد سليم نصره الله ، ودولة المعظم الأرفع والهمام الأنفع ، حسن باشا أيده الله على يد محي الدين كثير الغزو والجهاد ، وقامع أهل البغي ، والفساد ، السيد محمد باي بن عثمان باي وفقه الله ، في أوائل محرم الحرام سنة ست ومائتين وألف ، لتمام المرام ، ودخلها بتاريخ يوم الإثنين الرابع من رجب الأشرف سنة ست ومائتين وألف. ه ـ لكن في كثير النقل أنه دخلها في خامس رجب وربك أعلم بالصواب ، وإليه المرجع والمئاب. وكان محبا للطلبة ولذلك بنا (كذا) لهم المدرستين الأولى بالمعسكر والثانية بوهران.
يحكى أنه لما رفعت له الشكاية من أهل وهران بالطلبة وتكررت عليه أمر


بإخراجهم من وهران لينظر في ذلك فخرج الطلبة منها ، وانصرفوا بكلهم عنها ، وهو ينظر فيهم من محلّه وقلبه متحير في الأمر بكلّه ، فلم ير من لحقهم ورء (كذا) النساء درجن على الأسطاح وأعينهم شاخصات نحوهم أسفا عليهم وفي غم من أهل الصلاح ، فجاءهءاغته الأسد الضرغام ، البطل الهمام الشهم الكامل ، الجواد العاقل ، الكمى الباسل ، فارس القتال ، وصنديد النزال مبدد الأعداء ، وفاصل الدعاوي ، ءاغة السيد قدور الكبير بن إسماعيل البحثاوي وقال له يا سيدي لا يليق بك ولا بنا طرد الطلبة الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي ، ويتلون كتابه العزيز بالإتلاء الحضي وإنما اللائق أن من فعل ذنبا يستحق به العقاب ، عقب ومن لا فلا بلا ارتياب. والذين اشتكوا لك بهم بأنهم أهل افتيات ، عليهم بحفظ أنفسهم وأهلهم مما ادعوه عليهم بغير إثبات ، فقبل منه هذا الكلام ، وفرح به كثيرا بالانتظام ، وأمر بردهم لمحلهم فرجعوا ، بعد أن (ص 236) خرجوا منه وفزعوا ، ولما استقروا بمواضعهم ، واشتغلوا بمصانعهم ، ذهب / لهم على فرسه بشواشه ، متبخترا في سيره ونواشه ، وحين وصلهم لمحلهم ، دفع لهم مالا كثيرا زيارة بقصد التبرك بهم ، وقال لهم أيها الطلبة اشتغلوا بالقراءة وكفوا أنفسكم عن الإذاية فما في المدينة من يحبكم إلا ثلاثة في المحبة سواء ، وهم : أنا وءاغة قدور بن إسماعيل البحثاوي والنساء. وفيءاغة المذكور ، الفارس المشهور ، قال الحافظ العلامة ، القدوة الفهامة إمام المحققين وحافظ الوقت على الإطلاق بالتبيين الشيخ محمد أبو راس الناصري هذه الأبيات :
ألا إنّ أوصاف الكمال تجمعت
 

بأسرها في شهم جليل تبرّعت
 
أموره وهو قدور الذي قد فاق
 

غيره ورتبه إلى السما قد علت
 
سليل إسماعيل سليل بشيرها
 

يلقّب ببحث تلقيبا له دنت
 
جميع قواصيها وحاز كمالها
 

كما لسطوته الرقاب قد أخضعت
 
ونال علوا لا يناله غيره
 

فما للبحثاوي من شبه يرى ـ روت
 
فإنه حاتم وأخنق قيسها
 

هرم ومأمون رشيد بلا عنت
 
فاق ابن مكدّم في كل أموره
 

ولو كان حاضرا سلّم له ثبت
 
وكيف وأنه من نسل صعصعة
 

وهو من المخزومي أصلا له ثبت
 
وكانت رئاسة المخزن بين آغا هذا ومحمد الزحاف ولد الشريف الكرطي


التلاوي نوبة ابتدئت (كذا) من هاذين. توفي الباي رحمه‌الله ببلاد صبيح حال إقباله من الجزائر على الصحيح سنة ثلاثة عشر ومائتين وألف (1) بعد ما ملك عشرين سنة. وما في در الأعيان وأنيس الغريب والمسافر من أنه بقي ثمانية عشر سنة سهو لما قد علمت أنه تولى سنة اثنين وتسعين ومائة وألف وتوفي سنة ثلاثة عشر ومائتين وألف وبينهما عشرون سنة صحيحة. وبالجملة أنه كان خليفة علي خليل سبعة أعوام وبايا مستقلا عشرين سنة فذلك سبعة وعشرون سنة خدمة للدولة العثمانية المنصورة. ولما طار خبر موته لأهل الجزائر بعثوا لابنه عثمان خليفته وهو أكبر أولاده بالمملكة فركب فورا وحث السير إليهم حثيثا بعد ما بعث أباه لوهران وأوصى على دفنه بالمدرسة التي بالموضع المسمى بخنق النطاح من وهران وحين وصل الجزائر ولّي بايا مكان أبيه تلك السنة. وكان للباي محمد ألقاب وكنى ، فالألقاب : يقال له الكبير والمجاهد / والأكحل (ص 237) والمنصور. والكنا : يقال له أبو عثمان وأبو علي وأبو محمد وأبو أحمد وأبو الفتوحات وأبو النصر وأبو المواهب وأبو الربيع وأبو الفتح إلى غير ذلك. قال الشيخ حسن خوجة في درّ الأعيان ، والشيخ مسلم في أنيس الغريب والمسافر. وحدث بأول مملكته بالمعسكر مسغبة عظيمة هلك بها أناس كثيرة إلى أن أكلوا فيها الميتة والدم والخنزير ولحم الآدمي والعياذ بالله من ذلك.
قلت وهو مخالف لما مر من أن ذلك حدث في أيام خليل وهو الصواب ثم حدث بأيامه الطاعون العظيم الذي لم يحدث في هذا الأقليم قبله قط إلى أن مات به جلّ الناس بدوا وحضرا وآل فيه الأمر إلى أن انتقل أهل الحضر والباي بأهله ومخزنه إلى البدو في خيام الشعر ظاعنين ظعن الأعراب البادية زمانا طويلا وقد جعل الباي خيمة حمراء من الوبر وسكن بها ببلاد أولاد سليمان أحد بطون بني عامر وأدار بها الزمالة ثم أدار بهم الدوائر فسمي بذلك الزمالة والدوائر لكونها زمالة الباي ودوائره وسمي العام بعام الخيمة الحمرا. ثم حدثت الزلزلة العظيمة التي لم تحدث قبل ذلك واشتدت بوهران أكثر من غيرها إلى أن سقط بها الدور والأبراج على أمم من النصارى فأهلكوا بذلك ودام ذلك إلى أن اتخذ النصارى
__________________
(1) الموافق 1798 ـ 1799 م.


بيوتا من اللوح لسكناهم. قيل وتلك الززلة هي سبب فتحها كما مرّ. وهذا الباي المنصور هو الذي جعل على المخزن رايسين (كذا) أحدهما كبيرا وهو آغا الدوائر والآخرة صغيرا وهو قائد الزمالة وإلّا فكانوا قبله تحت رايس (كذا) واحد وهو القائدءاغة وكان من الدواير لا غير كما مر. وأول من تولى ذلك من الزمالة مصطفى بن قرادة فإذا تولى قدور بن إسماعيل الكبير فإنه يتولى مصطفى بن قرادة وإذا تولى محمد الزحاف ولد الشريف الكرطي التلاوي فإنه يتولى قدور بن علي وهلمّ جرّا.
الباي عثمان بن محمد
ثم ابنه عثمان بن محمد بن عثمان وهو ثالث بايات وهران ، وأبوه ثانيهم ، وأبو الشلاغم المسراي أولهم. كما مرّ. تولى سنة ثلاثة عشر ومائتين وألف (1) بعد موت أبيه بأيام قلائل وبقي في الملك ثلاثة أعوام غير شيء. ولما تولى نقل الحكومة من البرج الأحمر إلى القصبة التي بأعلا البلانصة من ناحية مرجاجو واشتغل ببناء المعالم المرونقة ، والغرف المعددة المزوّقة ، والقصور المشيدة ، (ص 238) والأساطين الكثيرة المعددة ، وغرس / الأشجار ذات الفواكه والروائح الطيبة المختلفة ، وجرى المياه في القوارير الموتلفة وأعرض عن المملكة باللّبّ وأقبل بكله على اللهو والطرب ، فانهمك فيه انهماك بعض ملوك العرب ، فصار مجلسه لا يخلوا (كذا) من الأدباء الظرفاء ، والسادات الأعيان والشرفاء ولم يلتفت لما كلفه الله به من أمور الرعية ، بل جعل ذلك نسيا منسيا بالكلية. وكان من جملة ندمائه حقا ، وأظرفهم خلقا وخلقا ، الفقيه اللبيب ، الكعب الأريب ، الآخذ من كل علم وافر نصيب الحائز للآداب بالكمال المرعي ، السيد محمد بن الجيلاني الخروبي ـ القلعي ، الذي قال فيه الفقيه الحاذق ، البارع السابق ، الخرير الماهر السيد مسلم بن عبد القادر ، هاتين البيتين بمدحه فيهما بدون مين :
ونديم لأبي محمد عثمان
 

مصدّر في كل شيء فقيه
 
__________________
(1) الموافق 1799 م.



عفيف ذو نجابة مهاب
 

ظريف ذو رياسة وجيه
 
وقد تقدمتا. واتخذ مجلسا للخلوة بأحكام ، فصار لا يخرج منه للحكم إلّا بعد مرور أيام ، وصرف أمر رعيته إلى من شاء من أرباب دولته ، فانتفعوا نفعا كثيرا ، ونالوا من الرعية مالا غزيرا ، وهو لا يلتفت إليهم في الذّكر والسّهو ، لما شغف به من أمر اللعب واللهو ، حتى أنه جاءه يوما بعض قواده للمحاسبة على ما بيديه ، فأطرده وقال له أن المحاسب هو الله ولا يكون الحساب إلا بين يديه ، ارجع إلى سبيلك وأمرك ، فإني لست بملتفت لما بيدك أو بيد غيرك ودام على ذلك إلى أن أداه حاله للعزل ، ورجع أمره من السّمن إلى الهزل. وذلك أنه بعث مع بعض التجار لتونس مالا ليشتري له بعض الجواري المغنيات ، ذات الجمال والغناء الفائقات فأتاه بجاريتين مغنيتين بارعتي الجمال والغناء متصدرتين فيه لإنالة المنا ، تذهبان عن القلب ما به من النصب والعنا ، فتسلّا بهما ليالي وأياما ولغيرهما تحاشا ، إلى أن بلغ خبره للجزائر إلى الباشا ، فغضب منه غضبا شديدا ، ونهب ماله وسمّر داره وكبّله قيدا حديدا ، ونقله إلى البليدة ، على غير الحالة المرضية فنزلها بأهله وولده وحشمه نزلته الكلية.
ثورة أحمد بن الأحرش الدرقاوي
وبقي بها إلى أن تولى بايا بقسنطينة / وحاله لم يتشوش إلى أن قام عليه (ص 239) ثائرا رجل من درقاوة يقال له السيد أحمد بن الأحرش ، فتى مغربي مالكي مذهبا ، درقاوي طريقة ، درعي نسبا ، جاء لتلك القبائل وادعى أنه الإمام المهدي المنتظر ، وكان صاحب شعوذة وخنقطرة وحيل وخبر ، يبدل بها الأشياء للشيء الذي يريد فورا ، كاستحالة البعر زبيبا وتقطير السيف دما والحجارة درهما والروث تمرا ، فرأت الناس منه العجائب ، وأظهر لهم الأمور الغرائب ، التي هي قلب العين ، لا حقيقة لها دون مين فنصروه وعقدوا له البيعة حزبا حزبا ، وجندوا معه وأمره كله كذبا ، واتبعوه في المصادر ، وامتثلوا له في النواهي والأوامر ، فحرك بهم على قسنطينة وحاصروها يوما كاملا ، وكان الباي عثمان خارجا عنها لبعض شئونه (كذا) فلما سمع أتاه عاجلا ، فألفاه هزم وأصيب بالرصاص في فخذه فتكسرت ، لكن حاله لا زال مجتمعا غير متشتت ، فبات بداره ومن الغد


خرج لطلبه وهو بواد يقال له وادي الزهور فلحقه هناك وأثخن فيهم بالقتل والسبي والأسر والحرق أمّنه من شوكتهم الغرور ، إلى أن توغل في بلادهم وقد ترك وراءه معقلا صعبا ومضيقا وعرا وكان أمره منشورا. ففرّ القبائل للمعقل وأجروا فيه الماء وداروا بعسكره من كل جانب دحورا. واشتدّ القتال وحمي الوطيس وكبر النهار ، فهزم الباي هزيمة شنيعة وولّى الأدبار ، فوجد المعقل على غير ما تركه فحلّ به المكر بالقتل والأسر والكسر والسبي إلى أن كبّ به فرسه في الطين ثم فرّ عنه وتركه ، فأخذ الباي وقتل هنالك وفرح ابن الأحرش بذلك ، ولم ينج من جيش الباي إلا القليل ، وقد أدارت (كذا) بهم القبائل إدارة عظيمة صار العزيز بها كأنه الذليل. قال صاحب در الأعيان ، وكذا صاحب أنيس الغريب والمسافر ، وحدث في أيامه الطاعون الذي كان قد وقع وذهب فمات به جلّ الناس وكثير من العلماء ، منهم بالراشدية العلامة الإمام ، والفهامة الهمام ، ذكي الفهم والأحوال ذكاءة المسك والعنبر والقرنفل وزهر القرفة السيد عبد القادر بن السنوسي بن دحّ ابن زرقة ، ومنهم صنوه الفقيه ذو الفهم الراشمي ، الخرير السيد الهاشمي ، ومنهم ابن عمهما الفقيه الأديب الألمعي الذكي الأنجب الشبيه بالأوزعي مؤلف فتح وهران السيد مصطفى بن عبد الله وغيرهم من الأعيان. وظهر الجراد الكثير كثيرا (ص 240) جسيما / فأفسد الزرع والثمار فسادا عظيما. وكانءاغته بالدوائر الشجاع الطاوي ، السيد عثمان بن إسماعيل بن البشير البحثاوي. وبالزمالة قائده قدور بن علي الثابت في الجزء (كذا) والكلي. ثم صار على الدوائرءاغة بن عودة بن خده أحد أجواد غريس من ذرية الممدود وتوليته على المخزن من وضع الشيء في غير محله وتطوّر الشخص على غير شكله. وسبب توليته إنه كان شاوشا علىءاغة قدور بن إسماعيل ثم تزوّجءاغة بابنته ميرة فصيّره خليفة عليه ولما مات قدور وتولى أخوه عثمان أبقاه معه خليفة إلى أن مات عثمان تولىءاغة بموضعه وبقيءاغة إلى أن مات بغارته انقاد في وقت مصطفى باي في توليته الأولى.
الباي مصطفى العجمي وثورة درقاوة
ثم الحاج مصطفى بن عبد الله العجمي وهو رابع بايات وهران التي منها


سبعة سرد ، وواحد فرد ، تولى سنة خمسة عشر ومائتين وألف (1) ، وكان رجلا عاقلا لكنه جبانا أدته جبانته للشقاوة حتى هاجت في أيامه هيجانا عظيما عامة درقاوة. وقد أشار عليه بعض الأولياء بقوله (كذا) سيأتي مصطفى عصي ، هو فوق الكرسي والناس تعصي. وفي السنة الثانية من ولايته وهي سنة ستة عشر ومائتين وألف (2) غزى (كذا) أهل انقاد غزوته الذميمة فهزموه الهزيمة العظيمة ، مات فيها جملة من رؤساء مخزنه الأعيان منهمءاغته بن عودة بن خدة وللجنان ذهبوا ، واشتدت الهزيمة حتى أسّروا وسلبوا ، وهي أول واقعة وقعت بهذا الوجه في المخزن ، فدخله بها الرعب والوهن بعد أن كان في أحواله بالقلب هو المطمئن ، وكثر طمع الرعية في شبه ذلك وقد مسّ المخزن بعض الجبن والكسل من ذلك ، لا سيما إذا كان الأمير جبانا خوالا ، فلم يزدهم ذلك إلا جبنا وكسالا (كذا) لأن الرعية تابعة للراعي في الصلاح والفساد وأحوال المراعي ، والجيش إذا كان رايسه (كذا) أسدا فهو بذلك جدير ، وإن كان بعكس ذلك فهو بحسب الأمير ، قال الشاعر :
المرء في ميزانه أتباعه
 

فاقدر إذا قدر النبيّ محمّد
 
أسباب ثورة درقاوة
وسبب قيام درقاوة ، أهل الحالة الدالة على ذمّ وشقاوة ، أنهم عامة ينتحلون العبادات ، ويتلبسون على الناس ببعض الخيالات. ـ يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفّف وهم في أحوالهم في غاية التلطف لإنالة مالهم به التوصّف ، يجتمعون في الأسواق والطرق والفنادق ومراح الدواوير والمقابر والمواسم والزوايا حلقا حلقا ويذكرون لا إله إلا الله جهرا مناوبة / ثم يذكرون الاسم المفرد بالأصوات (ص 241) المتجاوبة ، ثم يقومون للشطح والرقص بعد الأكل الكثير ، إلى أن يغمرهم العرق والتشرير ، ويركبون على القصب والكلخ وما هو كالعهن المنفوش ، ويعلقون القرون وقلائد الببوش ، ويتسابقون على تلك الحالة ، ويعتقدون أنهم على أكمل
__________________
(1) الموافق 1800 ـ 1801 م.
(2) الموافق 1801 ـ 1802 م.


الحالة ، ويلبسون الثياب المرقعة ، ويرومون المسائل الموقعة ، وربما أخذوا جديد الثياب! فيقطعونها ثم يرقعونها بالاستعاب ، ويظهرون الزهد في الدنيا إظهارا كليا ، ويجلبون الناس للأخذ عنهم والدخول في طريقتهم تحليا ، ويذمون الدنيا وتابعها ، ويعظمون طريقتهم وجامعها ، ويطالعون كتب التصوّف فيأخذون منها الألفاظ الدالة على ذمّ الدنيا ومدح الآخرة. وفي الحقيقة أنهم ليسوا من أبناء الدنيا ولا من أبناء الآخرة. وإن هم إلّا كالأنعام بل هم أظل سبيلا ، وأقدم حالة وأكذب مقيلا ، ويكرهون الأولياء والعلماء ويقدحون في أمواتهم سيما شيخ المشايخ الشيخ عبد القادر الجيلاني ذا السر الباهر ، وينفون عنه التصوّف بالكلية وينسبونه لأنفسهم بالإخفاء والظاهر ، وينتسبون إلى رجل مغربي من بني زروال بوادي أبي بريح من فرقة يقال لها درقاوة ، يقال له الشيخ مولاي محمد العربي بن أحمد وينسبون له السرّ والنقاوة. أخذ عنه جملة من أشياخهم وأصولهم وأفراخهم ، منهم السيد عبد القادر بن الشريف القائم بالغوغاء والعامة على أهل الملك والتصريف ، وهو من أولاد سيدي أبي اليل (كذا) المرابطين بقبيل الكسانة النقد ، حي من أحياء العرب البادية المتوطن بواد العبد. وكان هذا القائم في أول حاله عالما متفننا في (ص 242) سائر العلوم ، محققا لها بقيودها والمنطوق والمفهوم / ورعا زاهدا ، متعبدا راكعا ساجدا ، صائما قائما ، حنينا راحما ، أستاذا يقري (كذا) القرآن ويعزّ أهله ويزيل بتعلمه لكل جاهل جهله ، والناس يشيرون إليه بالصلاح. والنّسك والنجاح ، فذهب للمغرب وأخذ عن مولاي العربي تلميذ مولاي علي الجمل. فقدمه على إعطاء الذكر لمن بهذا المحل ، ثم رجع من المغرب وترك ما كان عليه من التعليم ، واشتغل في زعمه بالتربية والتكليم ، ولم يدر أنها انقطعت في القرن التاسع باتفاق من الأئمة وليس في هذا مدافع ، ولبس الخرقة المرقعة وعلّق الببوش وركب الكلخ وعلّق القرون المرقّعة ، وابتدع أمورا يمجّها الطبع ، وينكرها الشرع ، واقتدى به في ذلك الجلّ من الناس ، وأخذ عنه كل من هو في عقله في غاية الإخساس ، خصوصا أهل الصحراء فأذعنوا له إلى أن قهرهم قهرا ، وزاغت به نفسه الأمارة بالسوء وباع آخرته بدنياه ، ثم أصبح بلا بهما معايا ويلاه ، وصارت عامة درقاوة تجتمع إليه ، فيخرج بهم إلى الصحراء فيجتمعون عليه ، وتتلقاه الأعراب بالفرح والسرور ، حتى أخذت عنه جميعها الورد وهو في


سرور ، وصارت كل شيعة تهدي إليه الهدايا ، ويأتون إليه من كل فج بالعطايا ، ويشتكون إليه ضرر المخزن وما هم فيه من أداء المغارم ، ولم يعلموا أنهم سيرجعوا إلى انتهاك المحارم ، فكان يعدهم بالفرج القريب المشكور ، ويجمع تلك الزيارة والهدايا فيذهب بها إلى شيخه المذكور ويدفعها إليه ويقص عليه ما هم فيه خدّامه من إهانة المخزن إليهم ، فيقول له انصرهم والله ينصرك عليهم ، فحصل له بشيخه الطمع الكثير مع ما نظره من اجتماع الغوغاء عليه بالأمير العسير ، وهم الأحرار وغيرهم من أهل العناد ، الذين يشبّهون بصغار الجراد في الفساد ، فدعا أهل الصحراء كالأحرار وغيرهم لمبايعته فأجابوه فورا لذلك ولكل ما يشتهي وأقام بالأحرار / يأمر وينهي. وفي هؤلاء درقاوة وقع السؤال والجواب (ص 243) من العلماء أولي الألباب ونصّه :
أيا أهل تطوان فما الحكم عندكم
 

في أصحاب درقاو إلى الجمل ينسب
 
بنصّ يزيل المشكلات بأسرها
 

أيتبع مطلقا أم التّرك أصوب
 
ومن أين ذاك الأخذ بالسند الجلب
 

كما قرّروا للشاذلي الجاه يحسب
 
إذ ذّا المحدثات شاع في الناس حكمها
 

يا ذا الأمن بالأوطان بلدنا مغرب
 
وما أحدثوا من جلد ذيب ونحوه
 

في لبسهم والحبل والعود يركب
 
إذا نصبوا للاقتداء فهل لنا
 

ثواب صلاتنا أم الأمر أصعب
 
وهل غيبة تجري وينصق عادل
 

جوابكم نبغي من الحوض نشرب
 
جوابه
عليك سلام الله يا سائليّ فخذ
 

نقولا من المعيار بالسوط يضرب
 
وابن هلال شدّد جدا محررا
 

ومن يتّبع ذا الأمر إبليس يصحب
 
ومن يعتقد الرقص والشطح باليد
 

عبادة ربّه فزنديق يحسب
 
وقد خالفوا سبل الرسول محمّد
 

ومن خالف سنّ النبيّ يعذّب
 
إمامتهم مع الشهادة باطلة
 

لبدعتهم حقّا وصدقا مركّب
 
فلا غيبة تجري في سبعة طبّقوا
 

في مثلهم الأخيار للعلم ينسب
 
فهذا هو المشهور عند جميعهم
 

فجنّب طريق اللهو للحقّ تقرب
 
وأيقن بأن الله أنزل حكمه
 

في تنزيله القرآن شرعا مهذّب
 



معركة فرطاسة ونتائجها
قال فبينما الناس على غفلة إذا بابن الشريف أصبح قائما بأقوالهم ، معلنا (ص 244) بجهاد / الترك والمخزت محللا لدمائهم وأموالهم فاجتمعت عليه الغوغاء من كل جانب ومكان للحرك ، وهبط مع وادي مينا قاصدا نحو المخزن وأذن لأتباعه في النهب لأموال أتباع الترك. وكان الباي في بعض حركاته راجعا بعد فراغه منها إلى وهران. ولما سمع بالدرقاوي جمع له الجيوش وخرج للقائه فبلغه الخبر المحقق وهو نازل بالموضع المعروف بالبطحاء الآن ، بأن ابن الشريف بمينا بقرب تاقدمت بجيشه حائطا ، فصار الباي صاعدا نحوه ، وابن الشريف له هابطا ، إلى أن تلقيا بفرطاسة في غاية الحزم والشدة ، وكان ذلك المحل ما بين مينا وواد العبد ، فاشتدّ القتال بينهما على الماء وصارت نار الحرب بينهما دائرة بالحتوف ، وتزاحفت لبعضها بعضا الصفوف وتراكم الأمر وحام الوطيس المعروف ، فانهزم الباي وقام مخزنه على ساق واحد وركب العدّو بظهره في تزايد ، وصار يقتل ويسبي ويأسر إلى قرب أم العساكر ، وبقيت محلة الباي بما فيها بيد الدرقاوي المتجاسر ، فأمسى الباي بمخزنة في نكد ، وأصبح الدرقاوي بأتباعه في رغد ، فسبحان المعز المذل الإله بوحدانية المنفرد ، ودخل الباي للمعسكر على غير الحالة المعهودة ، وعساكره خلفه مطرودة ، ومات من مخزنه خلق كثير ، وعدد حصره عسير ، من جملتهم كاتبا الباي وهما : العلامة السيد الحاج أحمد ابن هطال التلمساني الراوي ، والعلامة الأديب أبو عبد الله السيد محمد الغزلاوي إلى غير ذلك من الأعيان ، الذين انتقلوا إلى جنّة الرضوان. وفيها قال السيد حسن خوجة في در الأعيان هذه الأبيات :
فرطاسة يومها ترى الجنود به
 

ما بين قتلى وأسرى غير ناجينا
 
فالباي جاء بجيش لا نفاذ له
 

به يريد لقاء العدو باغينا
 
فلم يحقّق له سعي ولا أمل
 

بل جاء جنده صفر الكف باكينا
 
(ص 245) / فاليوم لابن الشريف عزّ فيه على
 

باي الأعاجم لولا الدين لا دينا
 
وقال السيد مسلم الحميري :
فيوم فرطاسة يوم كبير
 

ذلّ فيه العزيز عزّ الحقير
 




لقد هيّا مصطفى جيشا كبيرا
 

تركا ومخزنا الملك الجدير
 
فلم تك ساعة إلّا وانهزموا
 

من جيش قليل هيّأه الفقير
 
قال : ثم خرج من المعسكر عشية يومه وقيل عشية اليوم الثاني ، وكان يوم الأحد ثالث أو ثامن من ربيع الأول بالبياني ، سنة تسعة عشر ومائتين وألف (1) ، من هجرة من حاز الكمال والشرف والوصف. ورجع لوهران فدخلها في فلّه ، وهو في وجل ببعضه وكله ، فاجتمع عليه أعيان مخزنه وسهّلوا عليه الأمر وهوّنوا عليه المصيبة ، وأزالوا عنه ما بنفسه من الوجل والريبة وقالوا له لا تجزع من الدرقاوي وأعرابه ، وجيوشه وأصحابه فنحن سيوفك الماضية. ورماحك النافذة القاضية ، وشجعانك الداهية وفرسانك الضارية الدامية ، والأمر كذلك وفوق ذلك ، ولا يكون إلّا ما تراه من الدفع عنك بأنفسنا وأكثر من ذلك ، فإن كان الأمر من الله فلا يليق إلا التسليم ، والرضى؟ بما قدره وقضاه الحكيم العليم وإن كان غير ذلك فلا ترى إن شاء الله إلا ما يسرّنا ويسرّك بغير خلف ، ألم تعلم أننا فحول هذه الأوطان وأبطالها موروث ذلك عندنا خلفا عن سلف ، ومن يناقمنا يحلّ به الويل ، ويصده النكل والخبل. وقد صدق فينا قول الشاعر الماهر ، الذي قوله ذائع عند البادي والحاضر :
إذا قالت قريش في أمر شيئا
 

فذاك القول مصداق المرام
 
/ فصدقوها في المقال حقا
 

ولا يكن تكذيب في الكلام
 
(ص 246) وقول الآخر :
إذا قالت حذام فصدقوها
 

فإنّ القول ما قالت حذام
 
وقول آخر :
وننكر إن شئنا على الناس قولهم
 

ولا ينكرون القول حين نقول
 
وقد نصبنا أنفسنا للموت والتزمناها ، بحيث من لم يمت منّا بالسيف مات بغيره فيتمناها فصدق فينا قول الشاعر :
ومن لم يمت بالسيف مات بغيره
 

تعدّدت الأسباب والدّاء واحد
 
__________________
(1) الموافق 12 أو 17 جوان 1804 م.


ولا خير في خلف إذا لم يتبع السلف ، ولا في الرجل إذا لم يتبع أباه ولخصاله يقتف ، والورقة من الشجرة ، والنار من الزناد والحجارة. وقال فعند ذلك اتفق رأيهم على تحصين البلاد بكل الأدوار ، وإقامة آلة الحرب وما يئول (كذا) إليه الحصار ، وأتقنوا أمرهم غاية ، واستعدوا للعدو بدءا ونهاية. ولما استولى الدرقاوي على المحلة وعزّ جانبه في كل قرية وحلّة ، واتصف بالمزية ، كتب بالبشائر والتهاني لجميع الرعية ، قائلا لهم بقوله الذي بان لهم فيه النصيحة والمعونة ، أننا نزعنا عنكم ما كنتم فيه من الحقر والذلة والمسكنة ، وأداء المغارم والجزية الثقيلة ، والمؤن الكثيرة الجليلة ، الذي جميع ذلك هو حرام ، على من انتظم بالدخول في سلك الإسلام ، وقد قطعنا دابر الترك الظلام ، وأتباعهم الشّرار اللئام. فالواجب عليكم مبايعتنا والإذعان لنا وطاعتنا ، فوافقه على ذلك (ص 247) جمّ غفير ، وعدد كثير / فاجتمع عند ضحى يوم الجمعة ، ثالث عشر ربيع الأول تلك السنة (1) ذات القصعة ، ما لا يحصى عده ، ولا يستطاع دفعه ورده ، من رعايا الباي ، من ذوي العقول الفاسدة الرأي ، فمرّ بغريس الشرقي والألوية على رأسه في غاية الخفقى ، إذا به سمع امرأة تنادي على أخرى تركية ، وكان ذلك اسمها في المحكية ، فأنف من ذلك وأبدل اسمها فورا بعربية ، وقال ما عدونا إلّا الترك بأتباعهم وحشومهم وأشياعهم. ثم دخل المعسكر فأطاعوه ، ما بين طوع وإكراه بايعوه وما داعوه فصيرها دار ملكه وسكناه ، وجمع بها أهله وأولاده وجعلها مثواه. وقد ألفى بها وقتئذ الفارس القائد أبا محمد بالحضري بن إسماعيل البحثاوي نسبا ، الدايري (كذا) مرتبا ، قد كان الباي بعثه لها لبعض شئونه ، وقضاء مطالبه ومؤنه ، فتقبّض عليه كغيره من القواد وسجنه ، وكبّله ومهنه. وهزم جيشه خليفة الباي مصطفى ببلاد مجاهر في ربيع الثاني من تلك السنة (1) هزيمة شنيعة ، وقتلوا العسكر ونهبوا المحلة ذريعة. ثم خرج من المعسكر بجيوش كالجرذ أن تملأ الخراب والعمران ، قاصدا بها فتح وهران. ولما حلّ بسيق بأرض الغرابة ، فرّ منه أهلها بعضهم للجبال وبعضهم للغيب والأماكن المتوعرة الشعابة ، ومن دخل منهم لغابة الجيرة التي هي طريقه أوقع بهم عظيما ما بين القتل والأسر
__________________
(1) 1219 ه‍ الموافق 22 جوان 1804 م.
(1) 1219 ه‍ الموافق 22 جوان 1804 م.


والسبي وحلّ بهم تطريقه ، حتى عرف بالموضع الذي وقع به ذلك للآن بشعبة النواح ، لكثرة نوح الناس بالبكاء على أنفسهم وأهلهم وما بهم من الفراح. وكان الولي أبا عمامة الغربي تلميذ أبي دية قبل الواقعة يقول وهو في خلوته : مزينكم يا حواض السماء لو كان فيكم الماء لأن كل من فرّ لأحواض السماء وهو الجبل المطل على طلقة العلوج وسيق نجا ، وكل من / ذهب لغيره حلّ به ما يرتجا (ص 248) (كذا) ، وصارت جنوده المفسدة الذميمة الوافرة العدد الجسيمة ، ما تمرّ بموضع إلا تركته وحشا ، مهانا ووجهه وخشا ، وكان قدومه لوهران في الصيف في أبّان الحصاد ، فسارت إليه وأطاعته جميع العباد لا عربي ولا مخزني ، ولا شريف القدر ولا دني ، خشية منه على زرعهم ومالهم وضرعهم ، لكون الجنود مضنة الفساد ، والضلال والنكاد ، لا سيما عادة الجنود السلطانية المتوّجة بالتّيجان الشيطانية ، فلم ينفع ذلك من دخل في طاعته ، ولا من أتاه للخلاص ببضاعته ، بل سلّط من شدة ظلمه أتباعه ، على من انتسب للمخزن فأكثر إيقاعه ، فأخذوا ماله ونهبوه وسبوا أولاده ، وتركوا حيارى زوجه وأفراده ، فحرقوا ونهبوا وقتلوا وأسروا وسبوا ، وصار المستغيث بهم كالمستغيث في الرمضاء بالنار ، أو السفيه في القفار. فكانوا أهلا بقول الشاعر ، الحاذق الماهر :
فالمستغيث بالسفيه عند كربته
 

كالمستغيث في الرمضاء بالنار
 
ولم ينج من وقائعهم الرذيلة إلّا من نجاه الله منهم أو لجأ إلى بعض المواضيع الممتنعة عنهم. قال : ثم ارتحل ونزل ضواحي وهران بقربها في المشتهر ، وصبحها بجنوده كأنها الجراد المنتشر ، طامعا في دخولها وأخذ ذخائرها ، وتزوج نساء أكابرها ، كطمع جنوده بذلك لضعف أهلها في زعمه عن دفع ذلك ، مستحلّين ذلك لضعف مذاهب الأعراب ذات الفعل القبيح الخائضة مع كل ريح ، وما ذلك إلا لضعف عقولهم وقساوة قلوبهم ، وشدة جهلهم وكثرة لعوبهم وزلّة أقدامهم ورؤوسهم ، واتباعهم هواهم وما سوّلته لهم أنفسهم في قيامهم وجلوسهم ، وشدة حسن ظنهم بأميرهم ، ولا فرق بين كبيرهم وصغيرهم جازمين أن كلمته لا تردّ ، وأن دعاءه مستجاب في كل واحد ، فاستعدّ / للقائه (ص 249) أهل البلد ، وتهيّوا (كذا) لقتاله بكل مرصد وخرجوا لمبارزته ومكافحته ومنابزته ، ومحاربته وقتاله ، ومناطحته ونزاله ، فقاتلوا شديدا مددا وهم مع ذلك أقل منه


عددا وعددا ، فكان من أمرهم الظهور عليه بحشوده ، وحصل النصر لهم فهزموه مع كثرة جنوده ومكر الله بالقوم الظالمين الفاجرين ، قال تعالى (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ)(1) ، واشتد المخزن في القتال مع قلّته ، وانهزم العدو من حينه مع كثرته وجلّته ، وصار ذلك اليوم هو باكورة سعدهم ونجحهم وعلامة ظفرهم بالعدو وربحهم وظهور قوتهم وبأسهم ، ومسرة بشارتهم وأنسهم ، فما من يوم بعده حاربوه إلا كان لهم فيه النصر والظفر ، والمهابة والنصرة تجري على القضاء والقدر ، ولا زالت بينهم وبينه الحروب الشديدة ، والمكايد المديدة العديدة ، وانسدّت السّبل البريّة بين وهران والجزائر أياما.
فبينما الناس كذلك وإذا بالسفن في البحر تخفق فيها أعلاما مشحونة بعساكر الأتراك الشداد ، تحت حكم باي آخر وهو محمد بن محمد بن عثمان على حسب المراد. وكانءاغته البطل الشجاع الفارس الباسل المطاع ، كافل الأراميل (كذا) ، البحثاوي عثمان بن إسماعيل ، ثم كثير الشدة ، بن عودة بن خدة ، ثم الطّود الشّامخ ، الإكليل الباذح البحثاوي علي ولد عدة ، المزيل لكل غمرة وشدة ، ثم الفارس الجواد الباسل ، الخرير الكامل الواصل ، الضرغام الجميل ، البحثاوي قدور الصغير بن إسماعيل. ومن الزمالة مدير الأمور الوهراني السيد محمد ولد قدور.
الباي محمد بن عثمان المقلش وحروبه مع الدرقاوي
ثم محمد بن محمد بن عثمان ، الملقب بالمقلش وهو خامس بايات وهران ، الذين نار بهم الوقت وطاب الزمان ، كان انتقل مع أخيه عثمان إلى مدينة البليدة كما سبق البيان ، وأقام بها إلى أن قام ابن الشريف الدرقاوي على (ص 250) مصطفى بن عبد الله المارّ وحاصره بوهران / ولما رءا (كذا) أهل الجزائر عجزه عن دفاع العدو وخانه ، عزلوه وخليفته حسن وولّوه في مكانه لرياسته وشجاعته بالميامنية ، وسعادة الوطن بولاية العثمانية. تولى سنة عشرين ومائتين وألف (2) وهو
__________________
(1) الآية رقم 249 من سورة البقرة.
(2) الموافق 1805 م.


ابن ثمانية عشر سنة على ما قد قيل ، وقيل غير ذلك من الأقاويل وبقي في الملك ثلاثة أعوام غير كسر بالبيان. ولما أمره الباشا بالإتيان مع البرّ قال له أن ما بين الجزائر ووهران لا يسلكه حتى الذّبان ، وكيف تأمرني بالذهاب معه أيها الباشا ، فالسالك معه لا شك أن أمره يتلاشا (كذا) فأرسله في السفن في البحر ، وهو في غاية الحزم والعزم والصبر.
قال : وكان من خبره أنه لما قدم لوهران ، وجد الدرقاوي محاصرا لها من كل جهة ومكان ، والناس في ضيق شديد من طول الحصار ، وانقطاع الأقوات البرية باستلاء العدو على ضواحيها بالاشتهار ، فكان طلوعه على أهل البلد طلوع نجم سعيد ، يراصده رجل حكيم مفيد ، وقدومه عليهم صعدا ، وملاقاتهم إياه فوزا ومجدا ، يشمله قول الشاعر الحكيم الحاذق الماهر :
بشرى فقد أنجز الإقبال ما وعدا
 

وكوكب المجد في أفق السّما صعدا
 
وكان للبلد وقت ذلك خمسة أبواب ألفاها كلها مغلوقة ، لا من يدخلها من أهل الضواحي ولا من يخرج منها من أهل البلد إلا بإذن وخلوقة ، فأمر بفتحها وحاله في عزم وشد ونادى المنادي من قبله أيها الناس من أراد الدخول والخروج فليدخل وليخرج ولا حرج في ذلك على أحد ، فتفسح الناس وانفرج المضيق وأمنت من حينه البراري والطريق ، وصار المسافر لا يحتاج إلى الرفيق ، وهبت رياح النصر وخفقت أعلامه وضاق متسع العدو وأظلمت عليه لياله (كذا) وأيامه ، وسئم مكثه بالمحل الذي هو فيه ومقامه ، وصار الحرب معه عند أهل البلد عيدا ، / وعدوهم بين أيديهم صيدا متعددا وفريدا ، والدّرقاوي يعد جنوده (ص 251) كل يوم بفتح وهران ، وهو مستحوذ عليه الشيطان ، ويمنيهم بالأماني الكاذبة ، ويطمعهم بأقواله الجالبة ، ويعدهم المواعيد العرقوبية ، ويقاولهم بالأقاويل الكذوبية ، إلى أن جاءه شيخه من المغرب وحضر لمقاتلة وشدة الحرب ، مع جيش تلميذه فرءا (كذا) بالعيان ، ما لا يقدر عليه بكلمة البهتان ، وأزعجه قتال المخزن وما فيه من الأعيان ، بعد أن أمرهم بحمل الشواقير والفيسان وأنهم في يومهم يدخلون وهران ، ويصيرونها بالهدم والتخريب مغارات للفيران ، فباء وشرذمته بغضب من الله ، ولحقهم الضرر من المخزن ما لم يلحقهم من أحد


بإذن الله ، إلا أن الجاهل كل الجهل من يريد أن يحدث في الوقت ما لم يحدثه الله ، عالم الغيب والشهادة ومقدر الشقاوة والسعادة ، المعطي المانع ، المعز المذل ، الخافض الرافع. قال ، وكان مع الدرقاوي من أعيان المخزن أبو القاسم ابن ونّان قائد الغرابة مطيعا له راكبا ، فرءاه يوما ورجله ترتعد في الركاب ارتعادا شديدا قد ارتعد لها جميع جسده والمخزن عليه كالبا ، وكان رجلا جسيما غليظ القوائم طويل القامة بالطول الحايم ، متسع الوجه مدوّره شديد البياض كثيف اللحية طويلها سريع الانقاض. فقرب منه وقال له ما هذا الخوف والجزع ، الذي اعتراك حتى حل بك الارتعاد والفزع ، وأنت في هم وحيرة ، وغم وسكرة ، فقال له يا خالي أبا القاسم والله لقد ذهب جميع ما كان عندي من السر الذي جئت وأنا لمن أرذل الناس كالنايم ، فقال له أن شيخك عما قريب يكون عندك ، فتنتصر على غيرك وحدك ، فأجابه بأن الشيء إذا ذهب ليس له رجوع ، ولا يفيد (ص 252) فيه الشيخ ولا غيره / في المسموع ، فأيقن درقاوة من أنفسهم بالعجز والخذلان ، وأيسوا بحمد الله تعالى من فتح وهران. قال في در الأعيان أولئك الطائفة حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون ، وهؤلاء الدافعة هم حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون الناصرون. قال فاتفق رأيهم على الارتحال عنها برجف وخفق ، لحصنها وشدة مخزنها والذهاب عنها لغيرها من مدن الشرق ، فأصبحوا ظاعنين وللعود لوهران ليسوا بطاعنين ، وكان بالغرابة ولي من أولياء الله الكاملين الواصلين الذين للسر حاملين ، يقال له السيد عبد القادر أبي عمامة ، تلميذ الضرير سيدي محمد أبي دية كثير الكرامة ، وكان مأذونا له بالكلام في أمور الكشف كشيخه الجليل ، وكان يسكن في عبادته بغابة مولاي إسماعيل. ولما تحرك الدرقاوي مشرقا ، وأحواله باطلة وقلبه مخفقا ، صار يقول هذا الولي بكلامه المشجع يا سيدي داوود ، غير هذه المرة ولا تعاود ، يا سيدي مبارك ، نوّض الجمل المبارك. ولما وصل الدرقاوي لمزارع سيق قرب سيدي داوود قامت عليه الغرابة مجتمعة للميدان ، ورايسهم (كذا) قايدهم أبو القاسم بن ونان يرومون منه أخذ الثار بما فعله بهم من قتل الرجال والنساء والصبيان فتعرضوا له بالضرب والنهب ، والقتل والسبي والعطب فنالوا منه بعض الإنالة وابتدا (كذا) في النقص بتلك الحالة. ثم لما وصل لسيدي مبارك قرب وادي هبرة ، لقيته فرسان البرجية


مع ما انضم إليهم من بني شقران وصيروه غبرة ، وقد تعرضوا له وهو سائر ، وتكلم المدفع الرّباني فيه من سيدي مبارك في الدرقاوي الثائر ، سمعه الغائب وشاهده الحاضر ، فبصر الله البرجية على درقاوة ، وهزموهم هزيمة شنيعة وأبدلوا سعادتهم بالشقاوة وأخذوا بظهورهم وأدبارهم / ووضعوا البارود والسيف في (ص 253) خيارهم وأشرارهم فكان يوما عظيما على درقاوة ، وغنم وقتل فيه من قتل وأسر من أسر وسبي من سبي وجرح ، وحلت بهم الشقاوة وغنم منهم الحاضرون لهم من البرجية وبني شقران ، غنائم كثيرة ليس لها حصران ، لم يفتقر بعضهم بعدها قط ولا يرى الخسران ، فلله درّ فرسان البرجية ومن انضم إليهم ، حيث قاتلوهم وهزموهم وغنموهم وسلطوا عليهم ، لقد أشفوا العليل ، وأبردوا الغليل ، ولم يقنعوا منهم بأخذ القليل ، بل تركوهم حصيدا لكل لاقط من الكثير والقليل. قال وفرّ الدرقاوي مفلولا فلة جليلة في شرذمة قليلة ، قاصدا لأهله وخاصته بالمعسكر فمنعه أهلها من الدخول ، وتقبّضوا بأهله وأولاده وسائر الذين بها من درقاوة ، ومكنوهم من القائد السيد الحاج بالحضري بن إسماعيل البحثاوي فجعلهم فورا في الكبول. وذلك أن الدرقاوي كان سجنه كما مرّ مع سائر القواد ، وتركهم في أرذل حالة على رؤوس الأشهاد. ولمّا حلّ بالدرقاوي من البرجية ما حل بسيدي مبارك ، أخرج المعسكريون الحاج بالحضري من السجن بمن معه وحكّموه عليهم ومكنوه من أهل الدرقاوي وأولاده وسائر طائفته عند ذلك ، وأعطوه السلاح فصار حكيما أميرا ، بعد أن كان مسجونا أسيرا ، وفتك بدرقاوة ما بين القتل والجرح والسّبي والكبل ، فتكا شديدا ، لا يكون له مثل ، والمرء بما دان يدان ، والأيام متداولة بأحوالها من الخير والشر على كل إنسان. قال تعالى : (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ). وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يوم لك ويوم عليك». وقالت العرب : يوم سمين ويوم هزيل. وقال الشاعر من بحر الطويل :
/ ثمانية تجري على المرء كلّها
 

وكل امرء لا بدّ يلقى الثمانية
 
(ص 254) سرور وحزن واجتماع وفرقة
 

ويسر وعسر ثم سقم وعافية
 
ثم أن الدرقاوي لما منع من الدخول للمعسكر فات على وجهه مع جموع الأحرار وسلّم في أهله وأولاده وأصحابه وفرّ. قال ولما أتى الخبر للباي بتشتيت درقاوة قام من ساعته ، وجمع أرباب دولته وأمرهم بالخروج لطلب الدرقاوي ،


وفتح ما يتيسّر له من البلاد بالفتح الحاوي فقال له من معه من الوزراء والسادات والكبراء ، أمهل بالخروج المعلوم ، واكتب لأهل الضواحي من المخزن بالقدوم ، ولا تعاقب أحدا بما فعل ولا تكن منك له لائمة لأنهم لم يروا ذلك فارطا فظنوا عند الرؤية أن لا تقوم لنا قائمة ، فأساء الله ظنّهم ، وخالفهم الدرقاوي بما منّهم فقال لهم رأيكم هو عين الصواب ، وهو الذي يقع به الكتاب وأمر كتابه بمكاتبة ما أشار به أعيان المخزن ، وقلبه مسرور ليس بمتحزن ، ثم بعث للمعسكريين رسله ليأتوه بنساء الدرقاوي وأهله وذخائره ، فبمجرد الوصول بعثوهم له صحبة القائد الحاج بالحضري وأعيانهم ببشائره ، فقدموا بهم على الباي بوهران بإظهار السرائر ، فأركبهم في الفلك وبعثهم إلى الجزائر وطارت إلى كل مكان صحف البشائر.
ظهور الدرقاوي من جديد
ثم خرج نحو المعسكر فنزل بلد البرجية ومعه أخوه أحمد المغيار ، وأقام بها أياما ينتظر من كل جهة ورود الأخبار ، فبينما هو كذلك إذ جاءه الخبر الطائر ، بأنّ الدرقاوي جمع جيشا جليلا من الصحرا (كذا) بموافقة مجاهر وبني عامر ، وأن مجاهرا عزموا على الغارة عليك وصمموا بالمجيء إليك ، فتحيّر وضاق به (ص 255) المتسع / واشتد به القلق والجزع ، والاضطراب والفزع ، وخشي أن الخرق على الراقع يتسع ، ونادى لنديمه الأديب ورفيقه الحبيب ، ومؤنسه وصاحب سره ، المطلع في جميع الأحوال على سعده ونحسه وخيره وشره ، شبيه الحكيم اليوناني ، اللبيب الخروبي القلعي السيد محمد بن الجيلاني فلمّا أن حضر مجلسه أخبره بما سمعه واقتبسه ، فقال له أيها الأمير المالك ، اجمع أعيان مخزنك واستشرهم في ذلك ، لأن الرأي هم أهله ، والحرب هم صدره وأصله ، فأحضرهم وأخبرهم بالخبر وكرّر لهم ذلك وحرّر ، فاختلف أمرهم في الرأي بالجواب ، فبعضهم قال بالرجوع لوهران وغلق الأبواب وأهل الجزائر يدفعون عن أوطانهم لعدم الطاقة عن دفع العدو وأقرانهم ، وبعضهم قال غير ذلك ، إلى أن سمع الباي رأي الجميع بما هنالك. وكان الفارس الهمام ، والأسد الضرغام والبطل الشجاع ، والصنديد المطاع ، الذي للغيظ كظّام ، النّافع لمن انضم إليه


من الأنام كافل اليتامى والرامل ، وقامع الشجعان البواسل من أسعده الله وأسعد به البلاد ، وأقامه لنفود مصالح العباد ، القائد الأنجد ، الفاضل الأمجد ، الجواد الأسعد ، المخزومي الأوكد سمط عقدة أبو مدين السيد قدور الصغير بن إسماعيل البحثاويءاغة ، مكّن الله من الجنّة إن شاء الله وصله وبلاغه ، حاضرا ساكتا ، وعارفا بالرأي وصامتا ، فلما رءا (كذا) الاختلاف وعدم ما يحصل به الإتلاف قال له يا سيدي الذي أشير به عليك لا بدّ لنا من لقاء العدو لا محالة ولا تضرنا كثرته فإنهم حثالة الحثالة ، بمنزلة الضباب أو النخالة ، فلا يهوّلنك هذا الأمر ، ولا تكن منه في قلق وعسر ، فما خرجنا إلّا لنلقوا مالا / نحبّه ، وعدونا إن شاء الله على أم (ص 256) رأسه نكبّه ، والصبر مفتاح الفرج ، ومزيل للجزع والهرج ولا يدرك المجد إلا بالصبر ولا يحصل الظفر بالعدو إلّا بعد أكل الصّبر ، لقول الشاعر ، المفيد بالوعظ الماهر :
لا تحسب المجد تمرا أنتءاكله
 

لن تبلغ المجد حتى تلعق الصّبرا
 
والحكماء يقولون فاز بالّلذات الجسور ، وبالصبر يتميز الأمر من المأمور ، ومن يريد العسل ، يصبر لجني النحل ، ومن طلب المعالي سهر الليالي. وأنت أيها الملك إنما بعثك أهل الجزائر لتفتح لهم الوطن ، فلا تخيّب لهم فيك الظن وتمهّد لهم البلاد ، وتدوخ لهم الأبطال الشداد ، فلا تخيّب لهم رأيا أصابوه فيك ، ولا تكسّر لهم قلبا يسرّ حين يوافيك فإنهم على غيرك اختاروك ، وأنت أولى بذلك لمّا اختاروك ، وإياك أن تكون كمن في أول غزاته (كذا) انكسرت قناته وانفصمت أوثق عراته ، حتى تكالبت عليه العدا ، وطمعت في أكله الرخام والحدا ، وأنّ هؤلاء الأعراب لا يخفى علينا حالهم وما لديهم كما لا يخفى حالنا عليهم ، فلا رجوع لنا عن تدويخهم إلّا إذا متنا عنءاخرنا ، ويكون النصر لنا عليهم بانتصارءامرنا (كذا) وقد جمع الله شملنا بعد ما فرّقه الدرقاوي ، فصار المخزن كحاله المضاوي. والرأي المتين الرجيح (كذا) أن تبعث من أعيان المخزن من يكشف لنا عن حال بني عامر وما هم عليه ويأتوك بالخبر الصحيح ، كما تبعث لكبراء الحشم والبرجية الجبلية بغير تراوي. يجتمعون بكلهم ويلقون الدرقاوي ، ونحن نكونوا (كذا) في مقابلة مجاهر بقوة وشدة ووحدة ، ونحاربوا (كذا) بحول الله وقوته لكل واحد وحده ، ويكون النصر لنا لا علينا بانتقاد ، لأننا


(ص 257) نريدوا (كذا) الصلاح وهم يريدون / الفساد ، فهم فرقة باغية زاحفة في هذا الأمر ، فوقع الاتفاق على هذا الأمر. قال فظهر أمر بني عامر كذبا ، واجتمع الحشم والبرجية كما أمرهم فورا وقربا ، ولقوا الدرقاوي فهزموه بعد الحروب الكثيرة الصحاحي ، واطردوه عن سائر تلك النواحي ، وقدم مجاهر إلى بلد البرجية فأثخنوا فيها بالنهبية واشتغلوا بحوص الحب ونقله من المطامير ، وهم في حالهم بغير ناه ولا أوامير (كذا). ولما سمع الباي بما لديهم أمر مخزنه بالركوب إليهم ، فامتثلوا أمره وشنّوا الغارة عليهم ، فلم يك (كذا) إلّا قليل في قتلهم ، وإذا بالمخزن قطع نحو التسعين رأسا منهم وفرّ الباقون لمحلهم.
ثم رحل الباي في صبيحة الغد ، ونزل بطرف البرجية بينهم وبين مجاهر في الحدّ ، ثم رحل من الغد بقصد بلد مجاهر فلقوه بالضريوية وحاربوه ساعة ، فهزمهم بعد ما مات من الفريقين كثير ونجوا سراعة ، ونزل بماسرة ، وأقام بها أياما ، يدبر أمورهم جلوسا وقياما ، فبينما هو في تلك الحالة ، إذا بمجاهر اجتمعوا وجاؤه رجّالة وخيّالة ، وغاروا على محلته وقت الصباح غفلة ودارت جنودهم بالمحلة وجالت جولة فخرج المخزن إليهم خروج اليقين ، وتزاحفت الصفوف لبعضها بعضا واشتدّ الطنين ، فلم يكن غير ساعة إلا ومجاهر ولوا الأدبار بحالة المنهزمين ، ومات من الفريقين خلق كثير ، وعدد حصره عسير ، وكان من جملة من مات من المخزن القائد المشهور ، الفارس الذي عند الناس مذكور ، الصنديد المكين ، الزمالي السيد عدة بن محي الدين. ثم ارتحل الباي صبيحة غدا ونزل ببلاد مجاهر ، أهل الضلالة والمناكر ، وزاد في الغد لوادي مينا وبه نزل (ص 258) وراغ ، فأتته به جموع مخزن الشرق بالمسيرة ومن الرعايا / جماعة بني أوراغ ، ثم ارتحل وصعد مع وادي مينا إلى أن نزل بالواد المالح وأقام بها أياما وقلبه مطمئن فارح. فبينما هو هنالك بين اليقظة والنعاس ، إذا بالدرقاوي بجمعه قصد المحلة على غفلة من الناس ، فنادى المنادي بأفصح الخطاب ، عليكم بالركاب إلى كاب ، ففزع الناس لذلك وحكى كل لصاحبه بما هنالك وركبوا خيولهم وخرجوا من المحلة ينظرون غيولهم وخرجت عساكر الأتراك كأنها الليوث العوابس ، فهم أسود بني آدم بزماننا ، وجالت الفوارس ، وحصل الحرب خارج المحلة ، وكثر العياط بين الناس بغير القلّة وتزاحفت لبعضها بعضا الصفوف ،


والعدوّ في العدد ألوف الألوف. قال فلم يكن غير ساعة وإذا بالدرقاوي بجيوشه قائم شارد ، وللنجات (كذا) سائل ونائد وأظلم الجو الغبار ، وتكادر الأمر وكبر النهار ، وغضبت فرسان المخزن وصارت حائمة كأنها الطيور ، تخوض بين أسراب الزرزور ، فلا ترى في جيش الدرقاوي إلّا القتيل والمأسور ، والمسلوب من الباس ، والمقطوع الأعضاء والراس ، وزادوا في الحملة إلى قرب قرية الولي الكبير الغوث القطب الشهير ، ذي المناقب المعدودة ، سيدي محمد بن عودة ، فرجع المخزن بعد ذلك عنهم ، وقلوبهم شائقة إلى الظفر بهم والغنيمة منهم. ثم رحل الباي في صبيحة غد متوجها للقرية المذكورة ذات المسالك في طلب الدرقاوي ونزل بموضع هناك ، ثم زحف للقرية بجنود لا قبل لهم في حالة القتال ، وكان بالقرية أمم لا تحصى فلم تغن شيئا حالة النّزال ، ودخلتها العساكر وجالوا فيها وجاسوا ما لها من الحلال ، وأخذوا في السبي والقتل وأخذ الأموال. قال / صاحب در الأعيان وإني رأيت امرأة مقطوعا رأسها كسائر الرجال ، ولم ينج (ص 259) إلّا من فرّ ولجأ لضريح سيدي محمد المشار إليه بالإجلال ، لكون الباي أوصى باحترامه وعدم التعرض لمن لجأ إليه بحال من الأحوال. ثم ركزت الأتراك سناجقها لدى الضريح ، وشرعت في القتل والنهب والسبي والجريح ، إلى أن فرغت من ذلك في المأثور ، فرجعت لزيارة الولي المذكور ، قال ولقد أخبرني من أثق به أنهم قدّموا قبل الزيارة صدقة تنيّف على المائتي ريال دراهم ، وبعد ذلك على الزيارة حصل التداهم ، قال وأما المخزن فإنهم لقوا جموع درقاوة خارجا من القرية وهم في عددهم ألفية ، فقاتلوهم قتالا شديدا إلى أن جرح الأكثر من الكبراء والرؤساء في القول الأشهر ، وكان النصر لهم على درقاوة كوقوع الدائرة عليهم ، فهزموهم عظيما واطرحهم من تلك الناحية من غير ملتفت إليهم. ولما افترق الحرب أمر الباي بجمع الرؤوس فجمعت ، وبين يديه وضعت. قال في در الأعيان ولقد رأيت الجندي يأتي بالثلاثة والأربعة رؤوس بالعيانة فيضعها بين يدي الباي كما يضع البصل بالإهانة. ومنهم من يأتي بالواحد والاثنين ، كل على حسب ما رزق من القطع بدون مين ، ولما جمعت الرؤوس بعثها الباي لمدينة المعسكر مع بشائر الظفر والنصر.


ظهور الدرقاوي مرة أخرى
ثم ارتحل في أثر ذلك وألوية النصر تلوح عليه التزاما ، قاصدا المعسكر إلى أن دخلها ومكث بها أياما. ثم أتاه الخبر المتفانن ، بأن خليفة الدرقاوي بجموعه نزل بلد بني مريانن ، فذهب لطلبه وحصل بينه وبينه القتال الذريع ، (ص 260) والحرب المترادف الشّنيع ، فكان / ذلك اليوم من مشاهير الأيام ، سعد فيه الشجاع وخسر اللئام (كذا) قد أتي فيه للباي المنصور ، بسلاح ولباس وفرس الخليفة المذكور ، وانجرح فيه من أعيان المخزن وكبرائه وأهل مشورة الملك ووزرائه ، قطب رحاه ، وشمس ضحاه ، وأساس مبناه ، وإتمام معناه وأكمل جوائزه ، وأشد ركائزه ، الفارس الباسل ، الصنديد الفاضل ، الشجاع الرايق الكامل في الخصال الفايق ، ءاغته وكثير جولته ، وقائده ، وسيف دولته ، العري من جميع المساويءاغة السيد قدور الصغير بن إسماعيل البحثاوي ، فلم يزده جرحه إلّا تقدّما ، ولعدوّه إلّا تعبّسا ولصديقه إلّا تبسّما ، فلقد صال على العدو كالكاسد وفعله كالرايح ، ومدحه صاحب درّ الأعيان ، وصاحب أنيس الغريب والمسافر بأبيات. فما قاله صاحب درّ الأعيان ذهب عن حفظي. وما في الأنيس خذه ، بإثبات :
جزى الله جلّ الناصر بالبواتر
 

قدور بن إسماعيل رايس الدواير
 
لحزب الأتراك في جميع المعارك
 

فإنّه ليث الحرب ليس بغادر
 
تراه إذا حام الوطيس مقدّما
 

لقتل العدوّ الوارد ثم الصادر
 
ولا يولّي الأدبار ولو تراكمت
 

عليه العدا ولا يخاف من ضاير
 
كمي شجاع شهم الحرب يوم الوغا
 

وكم له من حزم على العدا ظاهر
 
وكم له من كرّ وليس له فرّ
 

وكم له من طعن وقطع الحناجر
 
وكم له من وصل على العدا دايم
 

وكم له من فخر على كل فاخر
 
وكم له من دفع لكل مزاجف
 

يردّه أعقابا مولى للأدابر
 
(ص 261) / وفي بني مزيانن زادت شجاعته
 

فكرّ على الأعدا بغيظ مواتر
 
وزاد اندفاعا لمّا رأى رأس العدا
 

خليفة ابن الشريف بالقرب حاير
 
يحاول قبضه وهو في شهامة
 

فحلت به الجراح ذا العزّ الباهر
 
فلم يلتفت لها وزاد في حمله
 

إلى أن نجا العدو بين الحوافر
 



وخلّ فرسه سلاحه لبسه
 

فأتى به الليث لباي الأكابر
 
ودمه مهطل وهو غير جازع
 

فغمّ له الباي وصار كالحاير
 
فقال له الفهد على رؤس الملا
 

إنني لفي خير من كلّ المضائر
 
فسرّ به الباي وعزّ جنابه
 

وأدناه منزلا في كل الأوامر
 
فلا غرو أنّ الله زاده رفعة
 

وخيرا وإحسانا وكل البشائر
 
فلا تلد الليوث إلّا الضراغم
 

ولا تلد الفهود سوى القساور
 
ولا تأتي الصقور إلّا بمثلها
 

ولا تلد البزات سوى الأصاعر
 
فبيت هذا الليث الزعيم بقوة
 

فإنّها أعلا من بيوت الأكابر
 
قال ، ثم إنّ الباي رحل من مكانه للعمائر ، ونزل بلد أولاد سليمان أحد بطون بني عامر. ورحل من الغد ونزل بالمبطوح ربضا ، ثم ارتحل ونزل بثنية مأخوخ بلد أولاد علي أحد بطون بني عامر أيضا. وقد اجتمع بنو عامر بجمعهم الغاوي ، وجيشوا ببلد أولاد الزاير مع الدرقاوي ، يرومون لقاء الباي ، وما ذاك إلّا من تلف الرأي ، والباي في قلبه شيء كبير وغم عسير ، مما هم فيه القرغلان ، المستقرون بتلمسان ، حيث ضاق عليهم الحال ، حتى عدموا القوت والمال ، وطاش لهم اللّبّ والبال ، بمنازلة العدو عليهم ولا يفارقهم بالغدوّ والآصال ، ورسلهم تتعاقب على الباي بأنهم في النكال ، ونزل بهم السخط والوبال ولا لهم طاقة لما هم فيه على القتال ، وافترق التلمسانيون على فرقتين : قرغلية ، وحضر ، بغير مين ، وشعلت بينهما نار الحرب في البلد ، وطالت واتصلت على الوالد والولد ، وهم في أشدّ عذاب ونكول ، ولسان حالهم ينشد ويقول ، ما هو في الأنيس منقول ، أبياتا من المتقارب دالة على الإضاعة والتعاطب :
/ إن لم تدركونا عزما عاجلا
 

فاقطعوا لا ريب منّا الإياس
 
(ص 262) فالزّاد جميعه قد انقضا
 

ومات كثير من جملة النّاس
 
والحرب تدور في كل يوم
 

والجوع قد ضرّ بأكثر الناس
 
فلا صديق ومعين لنا
 

سوى الله جلّ علا ربّ الناس
 
ولا تحويل وفرار لنا
 

يقينا عن جانبكم يا أناس
 
ألا فادركونا فورا عاجلا
 

من قبل دخولنا إلى الأرماس
 
فالحرب علينا وليس لنا
 

ونحن بها في أشدّ نقاس
 



والجوع جرى علينا وطغا
 

وجاز بنا حدّا فوق القياس
 
وما هو في درّ الأعيان مذكور ، ومحرر ومشهور :
ألّا فادركونا وإلّا فلم
 

تجدوا منّا بحياة فتى
 
فقوتنا قد نفدت ضررا
 

خزاينه مذ عدوّ أتى
 
وحرب عظيم يرى أبدا
 

إلى أين تبدو لنا أو متى
 
قال ولما بلغه خبر بني عامر والدرقاوي ، وأنه يقول لهم أنه هو طبيبهم من علة الترك ولها مداوي ، أقام بموضعه أياما إلى أن جمع آلات حربه وسادات حزبه ، واعتمد على طعنه للعدو وضربه ، بباروده ومدافعه الشعالة ، فرحل نحوهم ونزل تاسّالة ، ثم رحل من الغد وفرسه ثائر ، يريد واد الحد ببلد أولاد الزائر ، وعيونه ذاهبة وراجعة بأخبار الدرقاوي الزعلوك ، كما هو شأن أولي الحزم والعزم من الملوك ، إلى أن تحقق بأن بالوادي المذكور الأعراب ، يريدون لقاءه ، بزياداتهم أمامهم للانتخاب ، وهي هوادج توضع على بوازل الجمال ، وبداخلها نساء يولولن بين صفوف الحرب حال القتال ، تزعم العرب أن ذلك يشجع الجبان ، ويزيد في زعامة الشجعان ، وذلك دأب العرب مع بعضها بعضا لا مع المخزن في القتال أيضا ، لأن عادة المخزن المعهودة ، والقاعدة المحررة الموجودة أنّ الزعامة والشجاعة لا تبطل على الرجال مدة الزمان ، وأنه بمجرد (ص 263) درايته للعدوّ ويصدمه كائنا ما كان ، فوقف الباي بعد / الخبر ساعة يحرض عساكره ومخزنه ، ويثني عليهم ويشكرهم وما همه ذلك ولا أوهنه ، ويقول لهم لم يبق لنا إلّا هذا اليوم الكبير الذي نحن متقدمون له ، فعليكم بالصبر والثبات ولا يصيب الإنسان إلا ما كتب له. قال ثم زحف للعدو أيضا وانضمت الناس لبعضها بعضا ، وانحاز كل حزب لحزبه ، وتزايدت جيوشه لقتل من بعد عنه ومن بقربه ، وأشرف المخزن على العدو من ثنية هناك ، فألفى مقدمة بني عامر راجلة معسكرة مشبهة بعساكر الأتراك ، بمثابة من شبه البطة بالطير ، وساقطة اللبن بذات الضير ، ولما تراء الجمعان وانتهت الأمال ، وبعدت الحيرة وقربت الموت وحضرت الأجال ، أنشد المنشد بلسان الحال ، هذه الأبيات ، وقالها على التوال :
أيا عسكر الأعراب غركم جمعكم
 

فسوف تروا ماذا بكم قد يصير
 




فالموت ها هي أتت إليكم بالعجل
 

من قوم عادت منها الروس تطير
 
فتبّا لكم أنتم وذل عليكم
 

برأي خسيس خاب رأي عسير
 
وهذا يوم الفراق حان مجيئه (كذا)
 

والبين غرابه نادى أنت كبير
 
ولكن أمر الله ليس له ردّ
 

وحين القضا يأتي فيعمي البصير
 
هذا قول صاحب الأنيس ، وقال صاحب در الأعيان بالتأسيس :
أيا عسكر الأعراب تب جميعكم
 

وسوف تروا ماذا بكم سيصير
 
فلا تعجلوا للموت ها هي دونكم
 

غدات اللقا منها الرؤس تطير
 
فتبّ أمرؤ أغرّ افتراؤه جمعكم
 

وبيس فصوب الرأي منه عسير
 
فيوم الفراق الآن حان مجيئه
 

ونادى غراب البين يوم كبير
 
ولكن أمر الله لا مردّ له
 

فيعمى المرء فيه وهو بصير
 
قال ولما تلاقى المخزن والأعراب صال عليهم صولة جامدة ، ومال عليهم ميلة واحدة وحمل عليهم حملة قوية ، وزاد عليهم فيها بقوّته الكلية ، وصار شعاره الموت الموت ، أدركوهم أدركوهم قبل الفوت ، فأول المخزن نال بعض الضرب وآخره لم يجد محلا للضرب ، وترادفت على الأعراب الأمكار ، وأظلم / الجو (ص 264) بالغبار ، وحل بهم العمى وكبر النهار ، ودخلوا في شبكة الهلاك ، ولم يجدوا سبيلا إلى السلاك ، فما لبثوا غير ساعة من النهار ، إلا وعسكرهم فرّ وولّى الأدبار ، وأخذ عسكر الباي ظهورهم بالقتل والنهب والأسر والغصب ، ولم ينج منهم إلّا من نجاه الله ، وأطال له العمر وعافاه ، وغرّتهم المواعد العرقوبية ، فتشتتوا (كذا) على ولهاصة وغيرها ، وفرّ الدرقاوي في شرذمة قليلة لليعقوبية ، ولم يطق على حمل خيمته منه إلّا الشجاع ، ومع ذلك قلبه واجل مفزاع ، ونزل الباي في الوادي المذكور ولاح عليه الفرح والسرور بتشتيت تلك الأمم ، وشدة ثبات مخزنه الأفخم ، وجمعت لديه الرؤس المقطوعة في ذلك اليوم من درقاوة وبني عامر فكانت ستمائة وبعثها كلها للجزائر. قال ويحكي من حضر لذلك أن الجندي الواحد يتقبّض على الخمسة والستة رجال ، ويأمرهم بقتل بعضهم بعضا إلى الآخر منهم فيقتله ويأتي برؤوسهم للباي المفضال وربما قال الجندي لأسيره اصبر للموت أو ما مت قط وأحوالهم كثيرة.


وقصة ذلك اليوم مشهورة كبيرة ، نسئل (كذا) الله السلامة والعافية المطاعة ، والانقياد بالأتباع إلى ما اتفق عليه أمر الجماعة.
ثم ارتحل الباي في صبيحة الغد متوجها لتلمسان ، وهو في فرح وسرور بمخزنه وبه صار في أمن وأمان ، وجدّ السير إلى أن نزل بساحتها المتغلية ، فأتاه قائدها مع كبراء القرغلية ، وقصوا عليه مكابدة الأهوال ، وإساءة الحال ، وغلب الرجال ، وسطوة الأغوال ، والكل على باله ، ومطرق بمسمعه وحاله ، فأجابهم بكلام السياسة وخاطبهم بخطاب الرياسة ، قائلا لا يضركم الأمر العسير ، فإن الله تعالى قال في كتابه العزيز ، وهو على جمعهم إذا يشاء قدير ، وأن الله تعالى هو الفاعل المختار ، وكل شيء يجري على العبد فهو مقدّر عليه في سابق علم الله ويبرز بالمقدار ، وهذا أمر مقدّر لا محيد عنه من عاص أو مطيع ؛ وسيفرج الله تعالى بمنّه على الجميع ، وأنشد لسان حاله ، أبيات الشعراء التي تغنيهم عن مقاله :
إذا كان عون الله للمرء خادما
 

تهيّأ له من كل صعب مراده
 
وإن لم يكن عون من الله للفتى
 

فأكثر ما يجني عليه اجتهاده
 
(ص 265) / وقول الآخر :
إذا لم يعنك الله فيما تريده
 

فليس لمخلوق عليه سبيل
 
وإن هو لم يرشدك في كل مسلك
 

ضللت ولو أنّ السماك دليل
 
وقول الآخر :
إذا أعانتك الأيام فارقد لها
 

واشعل إذا شئت في الماء نارا
 
وإذا خانتك الأيام فلا تتعب
 

فتعبك في الدنيا إلّا خسارا
 
وقول الآخر :
إذا أعطيت السعادة لم تبل
 

ولو نظرت شزرا إليك القبائل
 
لقتك على أكتاف أبطالها القنا
 

وهابتك في أغمادهن المناصل
 
وإن شدت الأعداء نحوك أسهما
 

نص على أعقابهن المحافل
 
ثم أنه أعطى الأمان لكبراء الحضر ، وأرسل إليهم ليأتوه ولا يخشوا من


الضرر ، فأتاه جماعة الحضرية ، وأصلح بينهم وبين القرغلية ، وألّف بينهما تأليف المودّة الدائمة ، والصحبة والمحبة اللازمة وأوصاهما أن يكونا إخوانا ، وعلى الطاعة والدين أعوانا ، ودخل البلد وأقام بها أياما ، والناس في فرح وبطاعته قياما.
ثم ارتحل راجعا إلى وهران ، ومعه صهره قائد تلمسان ، وهو أبو الحسن علي قارة باغلي متنقلا بأهله انتقال من لا يولي ، وصار يجدّ السير وأعلام النصر تخفق على رأسه وتحيات البشرى توضع على رأسه رائما محل أنسه ، إلى أن دخل وهران مبرورا ، وسالما مأجورا وفارحا مسرورا ، ولسان حاله ينشد شعرا مأثورا :
فتح الفتوح وءاب أوبة ظافر
 

بالله كان رحيله وإيابه
 
يلقي العداة ولا يملّ لقاءها
 

فكأنما أهواؤه أحبّاؤه
 
قال فدخل وهران وأقام بها نحو الشهر إلى أن استراح ، واطمينت (كذا) نفسه وضحك ولعب وارتاح ، ثم صار مهمى (كذا) سمع بالدرقاوي بجموعه ، إلّا قصده وفضّ جمعه وصيره في قموعه ، وشتت شمله وأجلاه ، ومن المحل أطرده وأخلاه فأذلّ الأعراب ودوخهم ومقتهم ووبّخهم ، وأخلا بعض البلدان حتى من المسافر / وأجلا (كذا) عنها أهلها كبني عامر فإنهم ذهبوا وتركوا بلادهم خاوية (ص 266) قفرا ، وزهرهم غبرا ، وللطيور وكرا ، لا يلقي فيها سالكها أنسا ولا أنيسا ولا يجد بها حسا ولا حسيسا ، إلّا البوم والذئاب ، تعوي فيها ليلا ونهارا. وهي خراب. وأكثر ما يلبي بها في كل حين نعق الغراب ، وغراب البين ينادي في كل حين بكثرة الذهاب ، وافترقوا على أماكن المغرب ، ما بين فاس وغيره من المبعد والمقرّب. ولم يرجعوا إلّا في تولية أبي كابوس محمد بن عثمان. وبه حصلت لهم الراحة والأمان. ولما استراح الباي وقلبه قد اطمأن ، وفاز بالسعادة فلم يكن من أهل الوهن والجبن ، جمع جيشا عظيما وجندا عرمرما جسيما ، وبادر به لغزو مجاهر ، لأنهم في السابق أخذوا محلة الخليفة حسن وقتلوا رؤساءها وأعيانها المشاهر. فضلا عن غيرهم من الجيش والأتراك ، الذين يكون بهم الدفع ويقع الإدراك ، وهي واقعة مشهورة ، وقصة كبيرة مذكورة ، محررة في كتاب درء


الشقاوة ، في حروب الترك مع درقاوة ، لأديب عصره وفريد وقته ودره ، الشبيه في أدبه بالبارع أبي نواس ، المؤلف العلامة الحافظ محمد أبي راس ، فلا نأتي بها لطولها وشهرتها وتحقيقها في رسوم جفرتها ، ومن أرادها فعليه بالكتاب المذكور ، للحافظ القدوة المزبور. فخرج لهم من وهران بالأمم الكثيرة ، والجيوش العديدة الغزيرة وقد بلغ لهم الخبر ، بأن الباي غازيا عليهم ليقطع الدابر والأثر ، فبعثوا للدرقاوي على المدد بأنواع الشدائد ، فبعث لهم خليفته الفارس بن المجاهد ، وكان بطلا شجاعا شديد الرأي والقساوة ، قلّ مثله في طائفة درقاوة لكونه تربى في المخزن وأخذ ببعض قوته ، وصبره وشجاعته ، وشدته ، وزاد الباي في سيره إلى أن دخل بلدهم الذي هم فيه ، وقد انحاز مجاهر بأسرهم لواد الرمال واجتمعوا فيه ، فطلبهم الباقي فيه وحملت عساكره عليهم حملة واحدة ففرّوا منها ولقيهم البحر وأثخن فيهم المخزن بالقتل إلى أن رجعت دماؤهم سائلة بعد أن كانت جامدة ، واشتد بهم القتل من ورائهم وأثخن فيهم إثخانا شديدا لا طاقة لأحد على إحصائه ، (ص 267) ودام عليهم إلى أن وصل دم قتلاهم للبحر فعلا عليه / واختلط بمائه ، وأفناهم إفناء عظيما أذعنوا به للطاعة ولا ملجأ لهم من أمامهم ، فكان هذا اليوم من أنحس الأيام عليهم ومن شرور أيامهم ، فأفناهم ورجع سالما ومسرورا بجنوده سرورا دائما ، ولمال عدوّه غانما.
ظهور بالحرش مع الدرقاوي في غريس
ثم استقر بوهران أياما قلائل ، وقد جمع الله له الأحوال والشمائل وجمع جيشا عظيما وخرج به لتدويخ المشرق فأتته الناس طائعة مذعنين له ولأوامره ونواهيه سامعة ، ولا زال سائرا إلى أن نزل بأبي خرشفة أسفل مليانة فأتاه هنالك الطائع والداوي ، فبينما هو كذلك إذا بالخبر بلغه بقدوم الدرقاوي ، وأنه حلّ من غريس بأرض عين السدرة ، ومعه درقاوة بنجوعها ونسائها وأولادها وجميع مالها ظاعنة معه بالقوة والقدرة ، وقد جالوا غريسا وجاسوا خلاله فأفسدوا زرعه واحتطبوا جنّته وبساتنه ، وغيروا مرونقه ومواطنه وهم كالجراد المنتشر ، ولم يبق لهم إلا القليل لدخول المعسكر ، وجاءه أهل غريس بذلك الخبر ، وترددوا عليه المرّة بعد المرة بعد الأخرى على ما للراوي ، محرضين له على القدوم إليهم


ليخلصهم بجيشه المنصور من الظالم الدرقاوي فركب عند ذلك عجلا وسار حثيثا ، وسأل من مولاه جل جلاله أن يكون له ناصرا ومغيثا ، إلى أن وصل لذلك الموضع الذي به الدرقاوي على التحقيق. وكان السيد أحمد بن الأحرش قدم في ذلك اليوم من المشرق على درقاوة فحصل لهم به الفرح والسرور وعلموا أنه هو المعين الرفيق. فقسّم الباي جيشه ثلاثا بلا مين ، وجعله قلبا وجناحين ، فالجناح الأيمن جعل فيه باختراعه أعيان الزمالة وأتباعهم والحشم بأحكام الأوامر ، وأمرهم أن يكونوا في مقابلة جيش بني عامر ، والجناح الأيسر جعل فيه الخليفة بجيشه والبرجية الدارئين (كذا) للمساوي وأمرهم أن يكونوا في مقابلة الدرقاوي ، والقلب استقر فيه هو وأعيان الدوائر وأتباعهم وعساكر الأتراك وأصحاب المدافع ، فكانوا في مقابلة عامة العامة من غير منازع ، ولما تراء الجمعان وجاء الوطيس تزاحفت لبعضها بعضا الصفوف وكان الدرقاوي في ألوف الألوف ، فاشتد القتال وحام الوطيس ، وفقد المألوف والأنيس ، وكثر الصياح / (ص 268) والحسّ والحسيس ، وأظلم الجو بالغبار ، وعظمت فيه المصيبة وكبر النهار. فبينما الناس في تلك الشدائد ، وإذا بالجناح الأيسر قام على ساق واحد ، وصبر رجال البرجية صبر الكرام ، واشتدّ ضربهم بالبنادق والحسام ، وتذكروا صبر أسلافهم وما كانوا عليه من ضرب الحسام ، وقالوا : في مثل هذا اليوم تظهر الشجاع من اللئام (كذا) ، إلى أن ذاق أربعة من كبرائهم كأس الحمام ، أحدهم الصنديد مصطفى بن المخفي ، والد الشجاعءاغة قدور بالمخفي ، والثلاثة أبناء عمه الأماجد ، وداموا على ذلك إلى أن قام درقاوة على ساق واحد ، فانهزموا هزيمة كبيرة ، تقشعوا فيها تقشع الغمام إذا طلعت فيه شمس منيرة ، وركب المخزن عند ذلك ظهورهم وغنمهم ونال دخورهم ، ولا زال يقتل ويأسّر (كذا) ويسبي إلى وقت الظهر ودرقاوة قلّوا ، بعد ما كلت الناس من قتلهم وملوا ، فبقيت نجوعهم على حالها بيد المخزن فأخذ أموالهم وسبا (كذا) نساءهم وأولادهم وقتل رجالهم ، فاضمحلوا من ذلك اليوم وفشل ريحهم ، وتلاشوا وبطل ريحهم وخاب سعيهم ونجيحهم. قال ولولا فرسان البرجية ورجالهم الكرام في تلك الواقعة لكانت الدائرة على المخزن بالجمع والتمام ، ولمّا رءا (كذا) الدوائر (كذا) صبر البرجية وموت كبرائهم ، وقد ذهبت الناس فارّة إلى ورائهم ، تقدموا


للقتال وقالوا للباي لا يحلّ لنا البقاء من ورائهم ، إذ لا طاقة لنا بعد موت الإخوان ، ولا صبر لنا على مفارقة الأقران ، وقاتلوا شديدا ، وطعنوا العدو طعنا عتيدا ، فسبحان من يجعل الخذلان في العدد الكثير العرمرام والنصر بالأقل فهو المالك العلّام. فرجع الباي بجيشه منصورا ، وأعلامه تخفق عزا وسرورا ، ودخل لوهران وجمعه موقر محترم ، وأيامه مقبلة وشمله منتظم ، ومكث بها أياما يسيرة ، في راحة ونعمة كثيرة.
عودة الدرقاوي للظهور
ثم سمع بالدرقاوي قد جيّش جيوشا قوية ، وأنه نازل بجديوية فجمع عساكره المنصورة ، وجيوشه المؤيدة المبرورة وخرج له من إيوانه بالبحور الزواخر ، وبالرجال السادات الكرام الزواجر ، الذين يقدمون الموت ويؤخرون (ص 269) الحياة ، وعند الشدة والضيق / يحصل بهم الفرج والاتساع وتكون النجاة وأسرع لقتاله ، طالبا لمحاربته ونزاله إلى أن وصل للموضع المسمى بأجديوية ، وقاتله وحاصره إلى أن أتى المخزن على عامة درقاوة في الأقاويل المروية وقد أفنى مخزنه عامة درقاوة ، وصيرهم للضّلالة والشّقاوة ، وخمدت شوكة باقيهم وفاز بالغنيمة لاقيهم قتل في ذلك اليوم نحو ألف درقاوي ، وبقيت المحلة بما فيها في يد الباي ومخزنه وغنم مال أهل المساوي ورجع لوهران فارحا بالغنيمة العظيمة ، وقتله للعدو المقتلة الجسيمة فاستقرّ بها واستراح ، وحصل له الانطراب والانشراح ، وبقي على ذلك أياما عديدة ، وليالي مديدة في سرور ونخو ، ولعب ولهو ، فبينما هو في إيوانه مع أرباب دولته جالس ، ومستيقظ لأموره وليس عنها غافل ولا ناعس ، إذ جاءه الخبر بأن الدرقاوي بتافنة في جيش جديد ، كأنه البحر المديد والجراد المنتشر ، مغطيا السهل والوعر ، وهو الرجل المنفش المسمى بأحمد بن الأحرش ، ومعه أمة من الطلبة ، سالكين معه اقتحام العقبة ، لما شاهدوا عنده علوم الخنقطرة ، والشعوذة المنفطرة ، ظنا منهم أن ذلك من الأسرار الإلهية ، ولم يعلموا أنها من الأمور السحرية الواهية ، فخرج له فورا بعساكره ومخزنه المبرور ، الفائزين بالسعي المشكور ، وأسرع في سيره وأردف المراحل ، سائلا من مولاه الإعانة في المقاصد والسوائل ، إلى أن بلغه بوادي تافنة ، وأطلق


عليه سرعة بجنوده الظاهدة والكامنة وأثخن فيه بالقتل ، والنهب والأسر والنكل ، إلى أن مات من الطلبة أمة ، وذهب الدرقاوي مفلولا في أشدّ غمّة ، مذمورا مدحوضا ، مدحورا مفضوضا ، وقد أتى المخزن على جلّ محلته الجسيمة ، فغنمها ورجع الباي لوهران فارحا مسرورا بتلك الغنيمة فجلس بها أياما للراحة طالبا من مولاه امتداد المساحة. قال فبينما هو جالس بإيوانه في المنادمة مع أرباب دولته أهل الفخر والاستقامة ، والأخذ من العدو الثأر والجلب للسلامة ، إذ بادره الخبر بأن الدرقاوي بجيوشه نازلا بالتّوتة من واد العبد ، فخرج / له عجلا (ص 270) في جيشه بالأزواج والفرد ، واجتمع به في تلك الناحية ، وقاتله قتالا شديدا في تلك الضاحية إلى أن بدّد شمله ومزّقه ، ودمّره تدميرا شديدا وفرّقه ، وقتل منه أمة كثيرة ، وغنم له أموالا عظيمة في عدّها عسيرة.
نهاية الباي المقلش المحزنة
ولهذا الباي مع درقاوة أيام أخرى غير مشهورة ، وهي مبسوطة في الكتب وعلى الألسنة مذكورة ، أعرضنا عن ذكرها صفحا ، وطوينا لها كشحا. قال ولما دوّخ المغرب الأوسط بأسره ومهّده وأمّن سبله وضواحيه وسدّده ، ونشر فيه العدل والعافية وأيّده ، وقطع منه العدو وبدّده ، عزله أهل الجزائر بالقوة والشد ، وأمروا بقتله بوهران فقتل شرّ قتلة بعد أن ذاق أنواعا من العذاب خارجة عن الحد ، حتى كانوا يحمون سبائك الحديد ، ويضعونها على رأسه وهو في العذاب الشديد. وسببه أنه سرّح المحلة للجزائر كما هي العادة القديمة فيما حكي من الخبر ، ولما عدم الدواب أمر بحمل الأثقال على البقر ، فبلغ خبره الباشا فأنف من فعله وأمر فورا بعزله وقتله ، مع ما تقدم له من شكاية المخزن ومرة أحمد التركي بالفعل القبيح ، الذي لا ينبغي أن يذكر ولا يكون به التلويح فضلا عن التصريح. وكانت أيامه كلها حوادث ، ولا حادثه أشد من الغلاء المفرط بوقته وفناء الناس وكثرة الفساد والعوابث. والأمر لله الواحد القهار العليم ، بالظواهر والأسرار. وكانءاغته بالدوائر الفارس النبيل الخارج عن القال والقيل ، السيد قدور بن إسماعيل ، الصنديد البحثاوي ، والحاج قدور بن الشريف الكرطي التلاوي ، وبالزمالة السيد محمد الوهراني الحنين وعدة ولد محي الدين.


الباي مصطفى العجمي وحروبه
مع الدرقاوي
ثم مصطفى بن عبد الله العجمي تولى مرة ثانية ، بعد المرة الأولى الماضية ، في آخر السنة الثانية والعشرين والمائتين والألف (1) ، من هجرة من له العز والفخر والشرف وكمال الوصف ، وبقي في الملك تسعة أشهر. وارتقى خزناجيا بالجزائر. وجاء بموضعه الباي الفائز بالمزائر. ولما تولى قام وعليه ابن الشريف الدرقاوي ، فقال يا عجبا منه كيف سلّط عليّ بالثوران الداوي ، مهمى تولّيت إلّا عليّ يقوم ، قد عرف اسمي واعتقد أني جبان وأني لعكروم ، فو الله لأذوقنّه (كذا) كأس الرّدا ولأجعلن شمله مبدّدا ، وقد قام عليه الدرقاوي في (ص 271) التولية الثانية / مرتين ، وكر عليه للمقاتلة كرتين. ولما سمع بالدرقاوي أنه قد جيّش الجيوش ، وهو بالثعالبة من بلاد فليتة ، قال سأخرج له ورأيه الفشوش ، فعند ذلك خرج في جيشه العزيز ، الذي هو كاللجين والعسجد الأبريز ، وتلاقى معه بالثعالب ، فكان الدرقاوي مغلوبا والباي هو الغالب وقدمه عالية بالمغالب ، فهزمه هزيمة شنيعة ، وعادت جيوشه للباي من وقتها مطيعة ، ورجع لوهران في عزّ وسرور ، بغنيمة وحبور ، فاستراح بها وأقام ، فبينما هو بها إذ جاءه الخبر في بعض الأيام ، أن الدرقاوي بجيوشه في مدغوسة من بلد خلافة ، فخرج له فورا بجيوشه من غير جزع ولا مخافة ، وجدّ السير نحوه وكاده كيدا وترك المسير نحوه رويدا رويدا ، إلى أن وصل للمحل المذكور ، وحمل عليه حملة منكرة بجيشه المنصور ، فلم يك (كذا) غير ساعة إلا والدرقاوي مهزوما ومخذولا مفلولا مذموما ، وقتل المخزن من أتباعه كثيرا وأفنا (كذا) منهم جما (كذا) غفيرا ، وغنم الأموال العظيمة فرجع الباي لوهران مسرورا بتلك الغنيمة ، فمكث بها أياما كثيرة ، وانقطع عنه خبر الدرقاوي مدة شهيرة.
ثم سمع بأن مجاهرا قد سعوا في الفساد ، وحملوا أنفسهم على اتباع الدرقاوي وراموا العناد ، فخرج لهم بجيشه الأفخم حاركا ، وللمقام بوهران من ساعته تاركا ، ونزل بوادي الخير أحد أودية شلف ، فبينما هو به إذ جاء الخبر بأن
__________________
(1) الموافق فيفري 1808 م.


الباشا ولّاه خزناجيا بالجزائر ففرح بعد ما تأسف وبمجرد وصول الخبر له ذهب للجزائر ، وترك من حينه وهران بمخزنها المنصور للباي الآخر. وهو الذي بنا (كذا) للعالم العلامة القدوة الدرّاكة الفهّامة ، شيخ الراشدية وغيرها على الإطلاق ومجدد القرن الثالث عشر بالاتفاق ، من هو بعين العناية ملحوظ ومخلص من الضرائر ، والحاصر ، الحافظ محمد أبو راس بن الناصر ، المصريّة ذات العلو الأرفع ، وبيت الكتب والمذاهب الأربع ، فقال فيه الحافظ المذكور في رحلته التي اسمها : «فتح الإلاه (كذا) ومنّته ، في التحدّث بفضل ربي ونعمته» ، وهذه المصرية بناها لنا الملك الأضفى ، والخليل الأوفى ، والمحب الأصفى ، السيد الباي مصطفى ، برّد الله ضريحه ، وأسكنه من الجنان فسيحه ، وأني بعثت إلى ضريحه بالمديّة مع بعض تلامذتنا بما نصه : عليك أتم السلام ، أيها المولى الهمام ، الذي عرف فضله الإسلام / وخفقت بنصر عزّه الأعلام ، وتنافت في (ص 272) إنفاذ أمره السيوف والأقلام ، قسّمت زمانك ما بين حكم فصل ، وإمضاء نصل ، وإحراز خصل وعبادة قامت من اليقين على أصل ، السلام عليك يا مقرر الصدقات الجارية ، وكاسي الظهور العارية ، وقادح زناد العزائم الوارية ، ومكتب الكتائب والسّرايا السارية ، السلام عليك يا حجّة الصّبر والتسليم ، والقلب السليم ، وسامع الحديث والذكر الحكيم ، كرم الله تربتك وقدّسها وطيّب روحك وأنسها ، فلقد كنت للمستجير مجيرا ، وللمظلوم وليا ونصيرا ، ولقد كنت في المواكب بدرا ، وللمواهب بحرا ، وعلى البلاد والعباد ظلا ظليلا وسترا ، بنا (كذا) الله لك بيتا في الجنّة كما بنيت لنا بيت الكتب بلا أذى ولا منّة ، نفّعك الله بصدق اليقين ، وأعلا درجتك في علّيين وحشرك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. ه. وكانءاغته حبيبه بالغاية ، وصديقه في البداية والأثناء والنهاية ، واسع العطا ومفصل الدعاوي السيد قدور الصغير ابن إسماعيل البحثاوي. ومن الزمالة السيد محمد الوهراني ولد قدور ، الفقيه الباس المشكور. وكان لهذا الباي ولدان بزماننا من أعيان الناس أحدهما كان كاتبا لدى نوّاب الدولة ، وهو السيد محمد ، والآخر السيد مصطفى الصادق في القولة.


الباي محمد بن عثمان الرقيق والمسلوخ أبو كابوس
وحروبه مع الدرقاوي
ثم الباي محمد بن عثمان الشديد في الأمر العابوس الملقّب بالرقيق ، والمسلوخ ، والمشتمل ، والمكنّى بأبي كابوس ، أما لقبه بالرقيق فلأنه كان رقيق الجسم ، وأما لقبه بالمسلوخ فإنه لقب به بعد موته الحسم ، لكونءاغة الجزائر عمر سلخ رأسه وهو حي وأحشاه قطنا كما يأتي في صحيح الروايات ، وأما لقبه بالمشتمل فلأنه متشبها بالعرب في الاشتمال بالكساء كالمخزن ولا يلبس لباس الأتراك في غالب أحواله كغيره من البايات ، وأما كنيته بأبي كابوس فلأنه كان يحمل الكابوس وهو البشطول ولا يفارقه أصلا سفرا وحضرا ، واشتهر بذلك لما قتل به السايح بن حضرا. وكان يقال له الباي محمد الصغير فرقا بينه وبين أخيه الباي محمد المجاهد فاتح وهران ، فإنه كان يقال له الباي محمد الكبير ، تولى في آخر السنة الثانية والعشرين والمائتين والألف (1) ، وبقي في الملك خمسة أعوام غير شيء بغير الخلق. ولما تولى اشتغل بقطع الدرقاوي وفصم محالمه ، (ص 273) وقطع آثاره ومعالمه. وبغاته ومظالمه / مدّة أيامه ، وطلوع نجمه وأعلامه ، حتى أنّ من حسد أحدا ووشى به عنده وادعى عليه محبة الدرقاوي جورا ينتقم منه فورا ، وإذا ظفر بدرقاوي انتقم منه مبادرة ، بأي نوع شاء من أنواع الانتقام ولا يراعي مشاورة ، ولا يقبل فيه شفاعة شفيع ، واخترع قتلا لم يصدر من البايات قبله وهو فعل شنيع ونوّع عذاب من يظفر به إلى أنواع ، فمنهم من يأمر بدقّ أعضائه حيا بالمعاول في السوق إلى أن يموت بانفضاع ، ومنهم من يقلع عينيه ويتركه أعمى ، ومنهم من يأمر بقطع أعضائه إلى أن يموت أو يجهز عليه وهو أظمى ، ومنهم من يأمر بذبحه ، ومنهم من يقطع رأسه بعد فضحه ، ومنهم من يقتله خنقا ، ومنهم من يبقره ومنهم من يقتله شنقا ، إلى غير ذلك من الأنواع المختلفة المعاطب المؤتلفة وقد نجا الدرقاوي بنفسه ، وفشل ريحه. وتراكمت عليه الهموم والغموم وضاق به فسيحه ، وافترقت عليه أتباعه وتبرأت من عمله ، ولم يبق من ينضمّ إليه لما نالهم من العطب لأجله ، فإذا جاء عند أحد فرّ منه ولم يصل
__________________
(1) الموافق فيفري 1808 م.


لمصحبه! وخاصمه وشتمه واستخف بجاهه ومنصبه ما عدا مرة واحدة جاء لليعقوبية واستقرّ فاجتمعوا عليه يرومون وقعه ، فقصده الباي فورا وشتّت شمله وبدّد جمعه ، فانتقل للأحرار فأطردوه ، ثم ذهب لعين ماضي ، وعنهم أبعدوه ثم قصد لبني الأغواط فأبعدوه لمّا علموا مقصده عندهم ، ثم انتقل لبني يزناسن وهو في مذلة ومسكنة فأقروه عندهم ، وترك ما سوّلت له نفسه ، ودام ذلّه وبخسه ، ولم يتحرك لشيء لعدم طاقته ، وفقد مساعده وشدة فاقته. وصار لفظ الدرقاوي يقال لكل عاص مخالف ، فتبرأت الناس من ذلك ولم يبق بينهم إلا اللفظ متعارف. يحكى أن قوما من درقاوة كانوا بالقلعة يأكلون في الطعام الممتزج بالزبيب ، فظفر بهم قائد القلعة فقتلهم على تلك الحالة فألفيت أمريتهم مملوءة بالطعام والزبيب ، وأن رجلا أوتي به إلى قائد المعسكر على أنه درقاوي ، فقال للقائد وحق سيدي دح بن زرفة منذ عقلت لم أقل لا إله إلا الله على ما قال الراوي ، وغرضه النجاة / لنفسه خشية حلوله فورا برمسه ، فضحك القائد ومن حضر من (ص 274) قوله وتركه بلا مهلكة وقال له لا تعد لهذه القولة الكفرية فقال له يا سيدي قد جعلها الله لي مسلكة.
ثم غزى هذا الباي في السنة الثانية من توليته الحشم الغرابة بغريس فقتل أجوادهم وكبراءهم وقوادهم ، وفتك بهم كثيرا جسيما ، وأوقع بهم موقعا عظيما ، وسببه أن الحشم بدت من بعض أعيانهم أمور مخالفة للسياسة وقد هرب الفاعل لذلك عند سيدي محي الدين بقصد الاحترام بالصناعة والكياسة ، فبعث له الباي من يأتي به فعصى وساعده الحشم ، واتفقوا على المعاندة التي كانت لهم هي عين السم ، فاستغاظ الباي بذلك ، واعتراه الغضب الشديد من ذلك ، وأمرءاغته رئيس الدوائر وقائده رايس الزمالة بالغزو على سيدي محي الدين ، فقالا له اصبر فإن الله مع الصابرين الحامدين.
ثم إنءاغة السيد قدور الصغير بن إسماعيل انتخب مائة فارس مقاتل من مخزنه الصبار ، وبعثهم رفقة الحاج بن داوود بن المختار ، كما انتخب قائد الزمالة السيد محمد ولد قدور خمسين فارسا مقاتلا بالتبيين وبعثهم في رفقة الحاج المرسلي ولد محي الدّين ، ولما وصل الجميع لقيطنة سيدي محي الدين ، وراموا أخذ الهاربين بالتمكين امتنعت الحشم من تسليمهم للبعوث ، وبدأتهم


بإرسال البنادق التي تصب كالفراش المبثوث فحصل الضرب من الجانبين ، آل فيه الأمر إلى أن قتل الحاج بن داوود وجرح الحاج المرسلي بغيرمين ، وذهب الحشم بالمظلومين لغريس ، وعولوا على القتال الذي حلّ بهم به كل شيء نحيس ، ولما رجعت البعوث لوهران وسمع الباي ما حلّ بقومه ازداد غضبه ومنه استبان ، وجمع جيشه من المخزن والأتراك ، وغزى أجواد غريس بطيّ وإدراك ، وقاتلهم إلى أن أثخن فيهم بالقتل الشديد ، ومكر بهم بالمكر العتيد ، فقتل من أعيانهم أربعة عشر فارسا كل منهم بقتل ذريع راكبا وجالسا ، بحيث قتل عشرة في دفعة واحدة ، واثنين منفردين في القتل بعناية جاهدة ولم يبق من هؤلاء الأربعة عشر إلا اثنان وهما قدور وعدة ولدا أبا نقاب ، فكان منهما من القتال ما لا يحيط به جواب ، ولا زالا في جولان الميدان إلى أن قتلا معا بإرسال العنان ، وقد مات الصحراوي والحاج ، فضلا عن غير الأعيان من الضعيف والوضيع والمحتاج ، (ص 274) ولما قتل كبراءهم نزل عوّاجة ورهّب عليهم ورام صغراءهم / فبعثوا له على عتيد ، وجعل عليهم عقوبة بالمال خطيّة عظيمة ، وأذعنوا للطاعة ، الإذعان الذي ليس قيمة ، وقصتهم مشهورة ، وعلى الألسنة وكلام الفصحاء مذكورة.
حملة الباي على عريب
ثم أنه لما تمهد له الملك غزى بأمر الباشا عريبا (1) فصيّر رايسهم (كذا) ثريبا ، وهم قبيل عظيم بادية ولهم شوكة قوية ، وهم رعيةءاغة الجزائر وطنهم ما بين حمزة والدهوص في الحدّ بين باي قسنطينة وباي المدية. وسبب ذلك أن شيخ عريب خالف برأيهءاغة الجزائر لما أراد الله به أن يتلاشا فبلغ خبره ، ءاغة فأعلم بذلك الباشا فلم ير الباشا من ينتقم منهم ويهتكهم هتكا ، ويصيرهم هباء منثورا ويفتك بهم فتكا ، ويرجّعهم كالأرض إذا دكت دكا دكا ، إلّا باي الغرب لخبرة جنده بالطعن والضرب فإن مخزنه أشداء على العدو في الحروب ، وشدة
__________________
(1) عريب قبيلة ومشهورة مواطنها السفوح الجنوبية لجبال جرجرة حول برج حمزة الذي يدعى اليوم البويرة شرق مدينة الجزائر.
طلوع سعد السعود في أخبار وهران (الجزء الخامس  من الكتابة )
بأسهم عند تلاقي الصفوف فلا يعرفون الحيرة وإنما دأبهم الموت وليس من شيمهم الهروب ، فالقاضي عندهم قريب والعاصي لهم طائع منيب ، والصّعب عندهم سهل وكل واحد منهم ظريف لبيب.
أعراش المخزن الوهراني الخمسة
والمخزن مهمى قيل له في دائرة وهران فهو خمسة أعراش جالية : الدوائر ، والزمالة ، والغرابة ، والبرجية ، والمكاحلية ، فهم نجوع شداد في الحرب ، ولبعضهم بعضا متوالية وكلمتهم تحت كلمة واحد بلا مخالية غير أن النجوع الأربعة هم مخزن الباي ، والخامس وما انضم إليه هم مخزن الخليفة سديد التدبير والرأي. وغير هؤلاء كالحشم وبني شقران وبني عامر ومجاهر ، فهم أعراب رعية نائبة ليس لهم جرأة في الحروب وظفر الظافر ، وإن كان عددهم كثير ، فالمخزن أهل جراءة (كذا) ورأي وتدبير ، فأمره الباشا بالغزو على عريب ، وكان ذلك لا يتعقل لعدم تصرف باي الغرب في غير رعيته بكل وجه بعيد أو قريب ، وبعد مكانهم عنه بالأحوال السوية ، إذا حال بينه وبينهم باي المدية ، فنهض الباي من ساعته وهو في أحوال خرجت عن إرادته وكان ذام حزم وجزم وعزم وكياسة ، ووزراءه ذوي تدبير ورأي وشجاعة وبسالة وسياسة ، فجمعهم وعرفهم بالخبر ، فأشاروا عليه بأنه لا بدّ من فعل هذا الأمر ، لأنها مزية عظيمة أن بلغوا منها مناهم وفرحة شديدة أن وصلوا لمنتهاهم ، فاتفق رأيهم على ذلك وتحققوا بأن الأمر هو ذلك ، وتواصوا / بعدم إفشاء هذا السر بل يجعل ذخرا ، (ص 276) وخرج الباي بجيشه من وهران بجر الأمم فتعمر به أرض وتخلا به أخرا ، إلى أن وصل وادي دردر وما به من خشفة ، أمر برد أثقال المحلة وضعيفها إلى أبي خرشفة ، وركب أول نهاره وسار في الفيافي طول نهاره ، لا يلقي إلا النعام والغزلان وطائر الجو من الحداء والغربان ، وبات يسير سيرا شديدا ، ومخزنه بالظفر طامعا وفارحا بالواقعة إلى أن طلع النهار وعيونه ما بين الذاهبة والراجعة ، إلى أن بلغ لحيهم ونجعهم ، فأرسل عليهم مخزنه بجمعهم ، وأوقع فيهم جيشه أسرا وقتلا ونهبا ، وزادهم طعنا وضربا ولا عرفت عريب من أين أقبلت تلك الجنود الداهية عليهم ولا من هي لاختلاف ملابسها وأشكالها ،


وشجاعة فرسانها وقوة أحوالها ، فأخذوهم أخذة رابية ، وصارت أموالهم لهم غنيمة مجابية ، ثم تحققوا بأنه باي الغرب ، لما رأوا في فرسانه من زيادة الطعن والضرب ، لا تكل لهم السواعد وليس لهم في الحرب إلّا الطعن والضرب للقائم والقاعد ، فكان من جملة ما سباه الباي بحيشه نساء شيخ عريب وأولاده ، وأقام ببلدهم يومه والسرور زاده.
ثم كر راجعا للمدية في طرب وابتسام ، فنزلها بعد مسيره ثلاثة أيام ، وقد تعرضت له في طريقه قبائل الطّمع ، الذي يفضي بصاحبه إلى النجع ، وهو سائر بين جبلين لأناس يقال لهم أولاد إعلان ، وإذا بهم ابتدؤا الجيش بالضرب في السر والإعلان ، فلما سمع الباي ضرب البارود. ورأى جيوشه حشودا بعد الحشود ، لا تفعل شيئا إلّا بأمره ليكون ذلك من فخره ، سأل عن ذلك تبليغا لمرادهم ، فأخبروه بأنهم يريدون منه الزطاطة لمروره ببلادهم وكانت تلك عادة الأعراب ، إذا لم يكونوا تحت القاهر الغلّاب ، فقال عليكم بهم لا عنهم ، وأيتوني بمن ظفرتم به منهم ، فلم يك غير ساعة إلّا والمخزن يجرّ في رؤوسهم ويقتل لمسعودهم ومنحوسهم ، وأتوه بعدة رجال فأمر بقطع أيديهم وقال لهم تلك الأجرة التي سألتمونيها ، فانصرفوا وهو يزيد بمزيدهم. ولما وصل إلى المدية أقام بها أياما للراحة وبعث السّبي والمال للجزائر صاحب الإحسان ، فرفعت مكانته عند الباشا رفعة عظيمة وكرّ راجعا لوهران. قال فلما وصلها مكث بها سائلا من مولاه الإعانة والسلامة والعافية ، وهو في فرح شديد بمخزنه سيما الأعيان السادات (ص 277) الأسود / الضارية ، فصار لا يقدم ناره زناد ، وإنما تأجّجها على الدوام في ازدياد ، بجنده العزيز ، ومخزنه الأبريز. ثم أنه تحرك لأهل يبدر من أهل الساحل ، لقطع ما سمعه من جموع الدرقاوي الذي ببني يزناسن نازل ، فغزى صهره الشيخ أبا ترفاس ، لما سمع بالدرقاوي عنده على غفلة من الناس ، ولما سمع الدرقاوي بنهوض الباي إليه فرّ هاربا متذللا وأخلا الأرض بين يديه وافترقت من حينها جموعه وجاءته عجلة قواطعه وقموعه فزاد الباي للساحل وأخلا منه ما أخلا ، وقتل ما قتل وأجلا ما أجلا ، وخرّب قرية أبي ترفاس واحتطب أجنتها ، وسلط عليها أذاها ومنّتها ، ولما فعل بقرية الشيخ أبي ترفاس أفعال الشرور والإفلاس ، قال له أيها الباي لماذا فعلت بنا هذا ونحن من جملة ضعفاء الناس ، فقال له


لأن صهرك درقاوي يأوي إليك فأنت مثله وأحوالك ببداية ، فقال له إني شيخ طلبة لا غير وعايرتني بالتدرقي ولست من أهله وخرّبت مكاني خرب الله ملكك عن قريب وألبس لك التدرقي عباية. وهذا أبو ترفاس ولد الشيخ أبي ترفاس الذي غزاه الباي خليل ، فأهلكه الله لرجوعه لتلمسان في السبيل ثم كر الباي لأهله راجعا وهو في هلاك غير أبي ترفاس من درقاوة طامعا ولما وصل لوادي تافنة ، حل به البلاء وانحط ، وأصابه الثلج العظيم الذي لم يمطر مثله قط. فمات به كثير الخيل وتعيّب كثير الجند ودخل الباي اضطرارا تلمسان ، وافترقت محلته افتراقا مختلفا هامت به في البلدان ، فمنهم من مات جواده والآخر تمزّق خباؤه ، ومنهم من تلفت سرجه والآخر انكسرت بندقته (كذا) والبعض تورّمت أعضاؤه ، وانهدمت بسببه الديار ، وانكسرت منه الأشجار ، فسبحان الله الواحد الأحد المالك القهار. واشتهرت تلك الواقعة بحركة الثلج ، وعرف عند الناس بقصة عام الدّلج. وبقي الباي بتلمسان إلى أن صفا الحال ، وأمن على نفسه فضلا عن جيشه من الضرر والنكال ، رجع لوهران واستقامت له الأحوال واقتدت به الناس في الأفعال والأقوال.
نهاية الباي بوكابوس المحزنة
قال فبينما هو بإيوانه في فرح وانبساط ، وسرور واغتباط ، وإذا بالباشا بعث له بالحركة لتونس التي كانت عليه منحوسة ، وأصل هلاكه وصارت أموره منكوسة ، فهي سيئته وخطيئته ، وبها كان هلاكه وسخيطته ، وعذابه / وزوال (ص 278) الملك عنه ، وإهانته والانتقام منه. وسبب الحركة أن الجزائريين وقعت بينهم وبين التونسيين مقاتلة ومشاجرة ومواقفة ومحاصرة ، ودامت زمانا طويلا سرا وجهرا ، فتهيأ الجزائريون لهم بالحركة برا وبحرا وبعث الباشا لباي الغرب أن يتهيأ للحركة بالمحلة الجليلة من أنجاد مخزنه ذوي الجلالة لاتصافهم في كل موطن بالشجاعة والحزم والبسالة ومآثرهم في الحروب مشهورة ، وعند الناس في كل مكان مذكورة ليس لها خفاء بالشدة والجلدة ، وكان يضرب بمخزنه المثل في كل بلدة ، فالواحد منهم بمنزلة العشرة فاعلا في الثبات والشدة ، والشجاعة والفراسة والمعرفة والكياسة والأدب والظرافة والفطانة واللطافة والتقدم لإزالة


الجماجم عند الطيش والوحشة ، والثبات للزحف وقمع العدوّ عند الذهول والدهشة. فهم رجال الوفاء والخجل ، وهم السادات الذين لا يعتريهم الطمع والوجل ، بل شأنهم التقدم للنزال بين الصفوف ، والجولان في الحرب بالبنادق والسيوف ، ولهم معرفة بمكايد الحرب ، وتخلقوا بأخلاق الطعن والضرب ، فلا يخشون من قتل يوم ترحف الراجفة ولا يفرون من موت حين تتبعها الرادفة ، فإن ذهل غيرهم فهم ثابتون ، وإن انهزم غيرهم فهم نابتون ، فهم الذين صدق في وصفهم قول الشاعر ، الواصف لقومه ونفسه بالأمر الصائر :
إذا المرء لم يدنس من اللوم عرضه
 

فكل رداء يرتديه جميل
 
وإن هو لم يحمل على النفس ضيمها
 

فليس إلى حسن الثناء سبيل
 
تعايرنا أنّا قليل عديدنا
 

فقلت لها أن الكرام قليل
 
وما قلّ من كانت بقاياه مثلنا
 

قدم تسامى للعلا وكهيل
 
وما ضرّنا أنّا قليل وجارنا
 

عزيز وجار الأكثرين ذليل
 
لنا جبل يحتلّه من يجوره
 

منيع يؤدي الطرف وهو كليل
 
وإنّا القوم لا نرى القتل سبّة
 

إذا ما رامته عامر وسلول
 
وما مات منّا سيد حتف أنفه
 

ولا ضلّ منا حيث كان قتيل
 
تسيل على حدّ الظبات نفوسنا
 

وليس على غير الظبات تسيل
 
علونا على غير الظهور وإنّنا
 

لوقت إلى خبر البطون نزول
 
ونحن كماء المزن ما في نصابنا
 

كهام ولا فينا من يعدّ بخيل
 
وننكر إن شئنا على الناس قولهم
 

ولا ينكرون القول حين نقول
 
إذا مات منا سيد قام سيد
 

يدل بما يهوى الكمال يقول
 
ولا أخمدت نار لنا دون طارق
 

ولا ذمّنا في النازلين نزيل
 
وأيامنا مشهورة في عدوّنا
 

لها غرر معلومة وحجول
 
وأسيافنا في كل شرق ومغرب
 

لها من قراع الدارعين فلول
 
معودة إذا تسلّ نصالها
 

فتغمد حين يستباح قتيل
 
سلي إن جهلت النّاس عنا وعنهم
 

وليس سواء عالم وجهول (1)
 
__________________
(1) هذه القصيدة للشاعر السموأل ، وقد أحدث فيها المؤلف عدة تصحيفات.


خروج الباي من وهران في طريقه إلى تونس وعصيانه
قال فامتثل الباي لذلك وتزود زادا كثيرا ، وجمع من مخزنه جيشا عرمرما غزيرا ، وخرج من وهران يروم تونس وفقا لما أمر به وصاحب الغيب أعلم بما في غيبه ، ولما نزل وادي يلّل ، الذي بان به فساده والخبل ، حدثته نفسه برفض الترك والخروج عن طاعتهم في سرّه وعلاه ، والدخول في سلك سلطان المغرب مولاي سليمان بن عبد الله (1) فأصبح معلنا بقتل الأتراك يا للعجب ، جازما بالدخول في طاعة سلطان الغرب ، فقتل كلّ من كان بقربه من الأتراك ولو أصهاره ، وأمر بني عامر بقتل محلة الترك التي عندهم فقتلوهم خديعة بالتفرقة على الخيام ولم ينج إلّا من نجّاه الله واختاره ، وتمادى على ذلك ولا حصل له في رأيه وهن ، ولما سمع الباشا غضب وعلى جيشه حزن ، ودخل على قارة باغلي صهره خليفة الكرسي بمن معه من الأتراك لمازونة وسكن ، وكر الباي راجعا لوهران ، بمشاورة أعيان مخزنه خديعة منهم له حيث فعل ما لا يليق ، وغرضهم القبض عليه وصيرورته في الكبل الوثيق ، فبينما هم لوهران داخلون ، وإذا بالسفن المشحونة بعسكر الأتراك في البحر وهم بالمرسى نازلون أتوا ليتطلعوا على حقيقة الأمر وما سبب ذلك ، كما جاء عمر آغا في البر بمحلة عظيمة قاصدا لوهران على ذلك ، فدخل الباي محله وقد سمع بذلك ، فجزم بإلقاء النار / في خزنة البارود ، لتصير المدينة عاليها سافلها ولم ينج منحوس ولا (ص 280) مسعود ، وأنه ميت معهم ما فيها المحالة ، فصعب ذلك على المخزن وأهل البلد واشتد بهم القلق والوجالة ، فصعد له المخزن للدخول عليه ومعهم كبراء البلد للقبض عليه ونهيه على فعله ، فلم يدع أحدا يدخل عليه وزاد في قوله وفعله ، فصرخت الناس بالاستغاثة وهرب من يطيق الهروب وأيقنوا بالهلاك بغتة دون الحروب ، فعند ذلك صعد له العلماء وبأيديهم المصاحف وصحيحا البخاري ومسلم ، وناجوه من بعيد وأروه ذلك ووعظوه بليغا فأذن لهم في الدخول وأمنهم وقال من شاء تأخر ومن شاء تقدم ، فدخلوا عليه وصبروه ووعظوه ، وبقضاء الله لزموه وللموت لحّظوه ، فثبت يقينه وزال ما به من الغضب ، وعلم أن ذلك حيلة
__________________
(1) حكم السلطان سليمان عبد الله من سنة 1792 م إلى 1822 م.


من مخزنه فعلوها لنجاة أنفسهم من العطب ، فاطمأن قلبه ورضي بالموت وزال عنه النصب ، وأذن للعلماء في قبضه فأبوا ذلك ، وقالوا له هذا شأن المخزن لا شأننا فهم أولى بذلك ، ثم أذن للمخزن ورؤوساء البلد فدخلوا عليه وكبّلوه وشددوا عليه ووحّلوه ، حتى أن الوجيهءاغة علي ولد عدة قال له لما اجتمع به بخروف قادما لوهران! أيها الباي فعلت الذميم مع مخزنك سابقا وأهلكت نفسك لاحقا فلست من آل عثمان ، وقاله ثانيا لما شرعوا في تكبيله ، وتوثيقه وتنكيله وأخبروا العساكر التي في السفن وأدخلوهم المدينة ، وكتبوا لعمر آغا بذلك ، ليدخل كمن كان في السفينة. وقد أتى عمر معه بالقفطان المعد للملوك وبايات لار ، فألبسه بمازونة لخليفة الكرسي على قارة باغلي باشتهار ، وولّاه من حينه بايا للإيالة الغربية ، بدلا من صهره أبي كابوس ذى الأحوال الحربية ، فظهرت فيه دعوة الشيخ أبي ترفاس المارة في الرواية عايرتني بالتدرقي ألبسه الله لك عباية. ثم قدم عمر وعلي قاصدين بجنودهما وهران ، فدخلاها وألفياه مكبولا في سجنه نادما على فعله الذي حسنته له نفسه وشياطين الإنس والجان ، وهو صابر لما ساقته له المقادير ، فحق فيه ما قاله الشاعر الماهر :
قالت أراك مع الأرذال تصحبهم
 

ومن يصاحبهم في دهره يهن
 
لا يصحب المرء إلّا من يشاكله
 

ما رأيت الظّبا والأسد في قرن
 
(ص 281) / أجبتها مظهرا عذري ومنشدها
 

بيتا به تضرب الأمثال في الزمن
 
يغمى على المرء في أيام محنته
 

حتى يرى حسنا ما ليس بالحسن
 
عمر آغا يقتل الباي بوكابوس وينصب الباي
علي قارة باغلي
ولما رآه عمر آغا تركه على تلك الحالة بالاعتماد ، وخرج معه الباي علي بجيوشهما يجوسان البلاد ، ويتفقدان أحوال الرعية وما عملت وأخّرت وقدّمت ، فوصلا لجبل ترارة وكانت بها دار ابن الأحرش الدرقاوي فأمرا بهدمها فتهدمت وصعدا مع الجبل إلى تاجرة ثم رجعا لتلمسان بعد خلوها وفرار أهلها عنها ، ثم رحلا لناحية الحشم ونزلا بالمعسكر بالخارج منها ، وهناك أمر عمر آغا بقتل


العثمانية فقتلوا عن آخرهم ولم ينج إلّا من فر بنفس وعصمه الله من مكرهم. قال ثم رجعا لوهران ودخلاها وبها قتل عمرءاغة الباي الرقيق بأشر القتل ، ونكل به بأشد النكل ، فسلخ رأسه وهو حيّ وفعل به فعلا شديدا وملّاه بعد السلخ بالقطن وبعثه للجزائر فعلّقوه على عمود طويل وتركوه به زمانا مديدا ، وقتل أولادهم وهم صغار ولم يتق فيهم رب العالمين ، وقتل بعض خدامه وصار بهم ما صار بالبرامكة مع الملوك العباسيين. وقال فيه كل من السيد حسن خوجة والسيد مسلم بن عبد القادر أبياتا ، فأما التي قالها السيد حسن ذهبت عن حفظي ، وأما التي قالها السيد مسلم خذها إثباتا :
ظننت برأيك أنه صلاح
 

كلا والله ذلك الفساد
 
من يستقل بالرأي ليس عاقل
 

لا خير في رأي يعقبه الفساد
 
وفعلك ذا يؤدي إلى النكال
 

وفيه حتف لمن غرّه الرقاد
 
/ غررت بنفسك والآل كلا
 

ما لهم ذنب لا ولا المراد
 
(ص 282) حتى بقوا نساؤهم يهمن
 

في كل وطن وأتلفت الأولاد
 
أبو راس يرثي الباي بوكابوس
قال وطلع في أيامه نجم غير معهود الطلوع قبل ذلك ، من الشمال ذا ذنب طويل شعاعي وأدام أياما ثم أفل ولم ير بعد ذلك. ولما مات هذا الباي قال فيه الحافظ أبو راس ما ذكره في رحلته التي اسمها : فتح الإلاه ومنته ، في التحدث بفضل ربّي ونعمته ، من المدح والثناء الجزيل ، والترحم له بالترحم الجميل ، ما نصّه : ولمّا افتقرت مصريتنا بيت المذاهب الأربع للترفيع وأردت تجديد تبييضها وبعض ترميمها وتقييضها ، ذكرت ذلك للباي الأسعد الأقعد الأمجد ، الأنجد الأوحد ، عزيز النصر ، ونخبة العصر ، وريحانة الدهر السادل على الرعية الأمن والأمان ، الباي السيد محمد بن عثمان ، اتحفه الله بالرضى والرضوان وألحفه مطاريف التكريم والحنان ، فبعث لي مع ساقه مائة ريال بوجهها ، قامت أوفى إقامة بترميمها وتبييضها وذلك قبل أن أحجّ عنه رحمه‌الله فوفّرني أحسن وفارة ، جعل الله ذلك القتل له كفارة ، ولما أوبت من الحج سنة سبع وعشرين ومائتين


وألف (1) أعطاني مائة محبوب جعله الله يوم القيامة مقربا ومحبوبا ، أنّس الله غربته ، وأزكى ذريته وتربته ، وجعل ذلك الحج المبرور في ميزانه وراجح أوزانه ، وتقبل الله دعاءنا في تلك المشاهد ، التي ينتفع بها الغائب والشاهد ، وما أنفقنا من نفقة هنا كبيرة أو صغيرة ، إلّا عوّضه الله عنده ، حسنات كثيرة أثيرة. ولما قبر (ص 283) قمت وذهبت إلى ضريحه وترحمت وبكيت / ، وقلت السلام عليك أيها الإمام ، الثاوي في دار السلام ، كأنك لم تعرض الجنود ، ولم تنتشر على رأسك البنود ، ولم تبسط العدل الممدود ، ولم تعامل بفضلك الركّع السجود ، توسدت الثرى وأطلت الكرى ، وشربت الكأس الذي يشربها الورى ، وأصبحت ضارع الخد ، كليل الجد ، سالكا سنن الأب والجد ، ولم تجد بعد انصرام الملك إلا صالح عملك ، ولا صحبت لقبرك ، إلّا رابح تجرك فنسأل الله أن يؤنس اغترابك ، ويصلح في الآخرة ما في الدنيا أرابك ، أعطاك الله الوسيلة وتمم مقاصدك الجميلة ، ومنحك الزلفى الجزيلة ، ولم أجد مكافآت لك إلّا التقرّب بدعاءي الله برحمتك ، وتعفير الوجنات في تربتك ، والإشادة بعد الممات بمجدك وكرمك ، منحك الله المغفرة الطيبة ، والتحيات الطيبة ، مد الدهر وأباديه ، وتراويحه وتغاديه ، وأسكنك من الجنان بحبوحه ، وأعطاك فيها فسوحه ، آمين يا رب العالمين ، ولا أرضى بواحدة حتى أقول ألف ألف آمين. وكانءاغته الفارس المشهور ، البطل الذي في الموارد والمصادر مذكور أبو مدين قدور الصغير ابن إسماعيل البحثاوي ، أبلغه الله المراد وأنقذه من المساوي ومن الزمالة المرسلي والسيد محمد الوهراني ولد قدور ، السالكين النهج المسرور.
الباي علي قارة باغلي
ثم الباي علي ، المعروف بقارة باغلي ، نسبة إلى بلدة ببلاد الأتراك ، يقال لها باغل بلا اشتراك. كان أتى إلى هذا الوطن بالمقامنة في وقت الباي محمد الكبير بن عثمان ثاني ملوك العثامنة. وكان موصوفا بالعقل والرياسة ، والمعرفة (ص 284) والكياسة فزوّجه الباي محمد الرّقيّق ابنته / وأدناه منه وصيره يتعمل بالأعمال
__________________
(1) الموافق 1812 ـ 1813 م.


المخزنية ، ويتوظف بالرتب السياسية إلى أن ارتقى للمملكة بغير الخلف ، فتولى بايا بالإيالة الغربية في نصف السنة الثامنة والعشرين والماتين (كذا) والألف (1) فهو سابع بايات وهران واستقر بحول الله تعالى على الكرسي في ذلك الإيوان. فألفى بالمخزن تخليطا كثيرا بسبب أمر الباي محمد أبي كابوس الذي كان قبله اتّهم فيه الكثير من الناس بتهمة الناكوس ، ولشدة عقله ورياسته ودينه وما كان منه ، وميثاقه غفر جميع ذلك لمن اتّهم به وعفا عنه ، وتلك التهمة والخلاط اختص به الزمالة ، دون غيرهم من المخزن فكانوا به حثالة الحثالة. وكان لا يقبل الوشاة ولا يصغي للموهن ، فإذا وشى أحد بغيره عنده لا يقبل ولا يسمع منه ما يؤذي به أخاه المؤمن ، وهو قليل الخطية للناس ، فلا يخطي إلّا القليل من الناس ، لا سيما المخزن وأهل البلد وذويه ، عكس ما كان من قبله عليه. وانقطع في أيامه ذكر الدرقاوي حتى صار لا يذكر إلّا على وجه الحكاية كما قال الراوي. قال وحدث في وقته الجراد المنتشر غير المعهود الذي أفسد الزروع والثمار ، وعمّ بالشرق والغرب سائر النواحي والأقطار ، ولم يخل منه مكان ، إلّا مدينة وهران ، وكان من لطف الله تعالى الواقع بهذا الباي جيد السيرة سديد الرأي ، الذي زاد للناس أمنا متسعا وهدّن روعة الوطن ، وسكّن من الأمر ما تحرّك وأحرى ما سكن ، فأسعدت به البلاد. واطمأنت به قلوب العباد ، أنّ عمر آغا لما فعل بأبي كابوس ما مر أخذ في نهب ما في بيت المال من الأموال ، ولما رءا (كذا) إبراهيم خزندار / الكبير ذلك علم أن الباي الآتي لا بد أن يكون من عدم المال ، (ص 285) مع الجيش وغيره في ضرر ونكال ، بادر إلى الخزنة وأخذ منها غفلة جملة من المال ، وصعد به إلى أعلا (كذا) سطح المحكمة وجعله هنالك ، ولم يطلع على فعله إلّا الخالق المالك ، وحين تولّى الباي علي واستقر بالإيوان نظر لبيت المال فوجدها خاوية على العروش ، فتحيّر من ذلك وتألّم كثيرا وقال كيف أفعل مع هؤلاء الجيوش فدخل عليه إبراهيم خزندار فوجده مع نفسه في هم وحزن ، وتأسف صاعد وهابط ومحن ، فقال له يا سيدنا ما طرقك حتى صرت في هذا التأسف ، والضرر الشديد والتقشف ، وأنت البايلار باي وأنت الذي تزيل عن
__________________
(1) الموافق 1813 م.


عيرك بفضل الله الأغيار ، فقال يا إبراهيم وكيف لا أتأسف وبيت المال خاوية فما أصنع مع هؤلاء ، الجيوش الضاوية فإن عمر ذهب فارحا أمينا بأخذه المال لنفسه وتركني أسيرا مع الجيش حزينا ، فقال له إبراهيم يا سيدنا لا تجزع ، ولا تتأسف ولا تفزع فأنفسنا لك وقاية ، ومالنا لك حماية ، ومخزنك كثير الجود والشجاعة ، والزعامة والبراعة لا يدعوك تتألم بسبب ذهاب المال ، فلا ريب أنهم يجمعون لك فورا ما يكون به التطريب للبال ، وأني قد دخرت لك شيئا من الذخائر والأموال ، لتستعين بها على ما أنت فيه من الأحوال فقال له أحضرها وبادر ، فأحضر ما كان تحت يديه من الذخائر ، ففرح الباي وظهر عليه السرور واستبشر ولاح على جبينه النور ، ولما سمع المخزن أتوه. بما فيه الكفاية وفوق الكفاية وقالوا له طب نفسا فأنفسنا ومالنا لك هي الوقاية ، فشكر فعلهم الجميل ، وأثنا (كذا) عليهم (ص 286) الثناء الجزيل. / ، قال وفي ثامن جمادى الثانية سنة توليته (1) غزى ترارة ومعه عمر آغا كما مرّ فقتل منهم أربعة وثلاثين رجلا من الشجعان ، وسبا (كذا) تسعين امرأة بالبيان.
ثم غزى بني مناد لما ظهر منهم الفساد ، فأوقع بهم إيقاعا عظيما ، وهتكهم هتكا جسيما ، أفنا (كذا) منهم عددا من الأبطال وسبا (كذا) الأموال والنساء والصبيان وأسّر الرجال. ومات بتلك الواقعة من أعيان مخزنه القائد الأنجد ، الفاضل الأمجد الشهم الشجاع الجواد المطاع ، الصنديد الباسل ، الحليم الكامل ، من هو لليتامى والآرامل كافل. ذو اليد الواسعة والمآثر الساطعة ، رئيس الدوائر ، محي الدين بالنواهي والأوامر ، صاحب المحاسن والمعارف ، وجائز المعالي والعوارف جالب الإحسان ، ودافع المساوي مفتخر النسب المخزومي البحثاوي ، السيد قدور الصغير بن إسماعيل آغا ، واصل الله روحه إلى الجنة وأحكم بلاغه ، كما مات الطالب الأديب الحاذق اللبيب ، كامل الإحسان والأجور ، قائد الزمالة السيد محمد الوهراني ولد قدور رحمهما‌الله بمنّه وفضله وكرمه آمين وجعل في الفردوس آخر دعواهما أن الحمد لله رب العالمين. وهما ركائز المخزن في الأمور النفّاعة ، وعمدته رأيا وشجاعة. وقد قال السيد مسلم
__________________
(1) 1228 ه‍ الموافق 8 جوان 1813 م.


خوجة فيءاغة السيد قدور الصغير بن إسماعيل مرثية يخر لها القائم على ركبتيه جاثية ، وهي :
حلي السياسة وطلي الرياسة
 

قد اجتمعا وفيك غيرهما تتل
 
كريم عفيف توفي فيما تقوله
 

ومهمى يضيق الأمر أنت له أهل
 
وما من كريهة ألّا أنت مفتاحها
 

وءالك جملة فحول وأبطل
 
وثلم من سور مشيّد موضع
 

وأسقطت ثلمة لم يوجد لها مثيل
 
/ لموتك قد بكا جميع الأحبّة
 

وقد عزّ صبرهم زمانا ولم يسل
 
(ص 287) لأن على يديك فتح الحوائج
 

ومن قطر ماء المزن جودك أهطل
 
يسعد من يلجأ لبابك يلجأ
 

وإن كان راديا تهذّيه يكمل
 
وقال أيضا :
فحزني على المبلغ للمراد
 

حليم منيب وتبر وقّاد
 
مزيل الكروب منيل المطلوب
 

ومفجي الهموم ومجلي النّكاد
 
ومعطي العطايا جزيل الندا
 

ومهدي الهدايا ومن هو الزّاد
 
وذي النجدة العظمى حال الحروب
 

ناصر المظلوم وطويل النّجاد
 
سريع الغضب قريب الرّضا
 

مغيث الملهوف كثير الرماد
 
شجاع الهيجاء وضرغامها
 

حسين التدابير نعم النقّاد
 
قدور بن إسماعيل بن البشير
 

فإنه صار ضجيع اللّحاد
 
فأبكا الأرامل واليتامى
 

وأبكا الصلحا وأبكا الزهاد
 
وأبكى الشرفاء والعلماء
 

وأبكا القرّاء وأهل الرشاد
 
وأبكا العساكر نعم الشّجاع
 

وأبكا الشّجاع وأهل المعاد
 
وأبكا الجيوش وأبكا الأمير
 

وأبكا الوزرا وأبكا القيّاد
 
وأبكا السادات الكرام الرضا
 

وأبكا الطّلحا وكلّ العباد
 
وأبكى النساء وأبكا الرجال
 

وأبكى العبيد والصبيان زاد
 
فحق عليه البكا دائما
 

بشقّ الجيوب ولطم الخداد
 
/ وخدش الوجوه وصوت عويل
 

وندب طويل بغير نفاد
 
(ص 288) قد أبكى العيون هذا الباسل
 

برجف القلوب وحرف الكباد
 



فمن للأرامل من بعده
 

ومن للياتامى في جمع الأعياد
 
ومن للشعرا إذا وفدوا
 

ومن للمدين مرتاح القصّاد
 
فإنّ النّدا عليه باكيا
 

كذا الحرب قد بكا حال الطّراد
 
فمخزن وهران منه انغدر
 

ووهران باكية بالثّماد
 
تقول بصوتها حال البكا
 

عليك حزني قد دام يا جواد
 
فبك احترامي وبك التوفير
 

ومنك افتصاحي ومنك السّهاد
 
فويل وويل وويل شديد
 

وويل وويل لبني منّاد
 
هم الذين غيّبوك عنّي
 

وصرت رهين تراب اللحاد
 
قد أبرد الله لك الضريحا
 

وأسكنك في فسيح الخلاد
 
ولا راحم الله قاتلك
 

مأويه جهنّم بيس المهاد
 
وقال أيضا :
يحق لنا البكا على أسد الوغا
 

وناصر مظلوم وقامع من طغا
 
وقاهر جبّار عنيد ومارد
 

وجامع أشتات ومفن لمن بغا
 
ودامغ أعداء طالت لهم أيد
 

وباذل أموال ومعط لمن صغا
 
وحائز أوصاف الكمال بأسرها
 

مهذّب أخلاق ومصغ لمن لغا
 
ومعطي العطايا دون منّ ولا أذى
 

كافل أرامل أيتام بما ابتغا
 
(ص 289) / ولكل عالم وصالح طالب
 

محبّ له في الله حبّه ما التغا
 
وذلك سيّد الدّوائر قدور
 

نجل إسماعيل البحثاوي منصبه آغا
 
فلا رحم الرحمان آل مناديها
 

لمّا قتلوا المرحوم نال لما ابتغا
 
بشرى لك بالجنان يا قدور الرضا
 

بشرى لك بالغفران والخير أبلاغا
 
وراجع ما مرّ من واقعة بني مريانن التي هي من أيام المقلش تستفد ما للخوجة فيه من الأبيات الدالة على مدحه بالجمع والثبات. حدثني المسنّ الطّاعن في السّن أبو العباس الحاج أحمد بن عتّ الغربي وكان أصله من عكرمة قال حدثني والدي عبد الرحمان بن عتّ عن خصالءاغة السيد قدور بن إسماعيل المذكور ، إنه قال أني كنت من البيوت الكبار بعكرمة الشراقة ولنّا قايد يقال له المجاجي ليس من أهل السعي المشكور ، وكان منافسا لي فوشا (كذا) بي كثيرا عند


خليفة الشرق بأفعالنا وأقوالنا ، فلم يفده ذلك لاطلاع آغا والخليفة على أحوالنا ، ثم وشي بي عند الباي علي مرارا عديدة فأثّر وشيه في وخطني الباي خطايا عديدة ، ثم أن الباي كان بمحلته بالنواحي الشرقية ، ومعه حليفته صاحب الأخلاق المرضية ولما رجع للمعسكر قال قائدنا المجاجي وأنا على فرسي وكان من عتاق الخيل ، يا سيدنا أنت لست بباي وأنا لست بقائد وإنما الباي والقائد هذا الرجل الذي تراه على الفرس الأدهم كاليل (كذا) فأمر الباي فورا بقتلي ، لاكنه (كذا) لم يتم أجلي ، فأحيل بيني وبين فرسي وأخرجوني للقتل فتكلم الخليفة وآغا الشرق على خلاصي فلم يفد ذلك بالرتل ، فسمع آغا السيد قدور ابن إسماعيل ذلك ، وعاين ما هنالك ، فتقدم وقال للباي لا يقتل لأنه مظلوم والمجاجي قائده مسلط عليه / في الأمر المعلوم ، وأن قتلته بسبب هذا القائد (ص 290) البوطال بقيت الجهة الشرقية فارغة من الرجال ، فترك الباي قتلي وحملني مسجونا على بغلة لوهران ، وقد أخذ فرسي بالإعلان ، ولما وصل لوهران أدخلني السجن ثلاثة أشهر متتابعة ، ومهمى يسل المساجين أخبره بأحوالي قولة قاطعة ، إلى أن قلت له يا سيدي خلصني من السجن أو اقتلني ولا تدعني في السجن الدائم ، فقال له آغا السيد قدور المطلوب من سيادة الباي أن تسرح هذا الرجل من حينه لأنك أطلت سجنه بسبب قول قائده الظالم. قال فسرحني الباي من وقتي ، وجيت (كذا) لأهلي في الفرح والسرور ، ولما وصلت خيمتي جاءني القائد المذكور وقال لي أنّ الباي خطّك بمائة سلطاني لا ريال ، وخلاصها على يدي فلا بد من دفعها فورا في الحال ، فقلت للقائد أن الباي لم يخطني بشيء من المال ، وإن كان كما قلت فأين بطاقته حورا فقال لي لا تزد في الكلام أدّ ما أمرتك به فورا ، وإلّا يحلّ بك الانتقام ، وتعود لسجنك على الدوام فقلت له يفتح الله وسيحصل بعد العسر اليسر ، ثم أني بعثت لصهري المختار العكرمي على فرسه بسرجه فبعثه لي وركبت مع رفقائي ليلا وسرت إلى أن دخلت وهران مع الفجر ، ولما نبيت الحكومة تقدمت للشكاية بالقصد فناديت جهرا يا سلطان الحق السيد إذا حرر عبده ومكّنه من التحرير هل يتعرض له أحد ، فقال لي أعد ما قلت فكرّرت قولي ثانيا وثالثا ، فقال لي ما معنى كلامك فلا تكن ناكثا ، فقلت له يا سيدي إني خديمك الفلاني الذي عزلت عني فرسي بالمعسكر بسبب كلام القائد


المجاجي ، وأمرت بقتلي بلا نتاجي فخلصني الله منه على يدءاغة سيدنا قدور ابن إسماعيل ، وسجنتني ثلاثة أشهر متوالية وخلصني الله منه على يد سيدنا آغا (ص 291) المذكور الجميل ، وإني لما ذهبت / لأهلي جاءني القائد المذكور ، وقال لي أن الباي خطك بمائة سلطاني وخلاصها على يدي بالمحضور وأني تركته بخيمتي نازلا ، وجيتك ليلا نازلا وقد أخذت فرسي وهذا طلبته على صهري ، أطال الله حياتك وخلّد ملكك فانظر في أمري ، فاستغاظ الباي كثيرا ، وقال للخوجة انظر خطيته في الدفتر جهيرا ، فال الخوجة أني لم أكتب شيئا ولا هو سجلا ، وقال قائد الطابع أني لم أمكنه من الطابع على هذا الأمر أصلا ، فتقدمءاغة السيد قدور ابن إسماعيل ، وقال للباي قد اتضح ظلم القائد وجوره على الرعية بالجملة والتفصيل ، وهذا القائد لا يليق للتولية وإنما شأنه العزل وبالمائة سلطاني تكون له الخطية ، لينتهي هو وغيره عن ظلم الرعية ، فأمر الباي بعزله للقصاص ، وخطه بالمائة المذكورة وعيّن له من مكاحليته الخلّاص ، ثم قال ليءاغة المذكور ، يا هذا الرجل مثلك لا يليق له السكن بمخزن الباي المنصور ، فقال الباي نعم قولك يا آغا هو المسطور ، فرحلت من حيني وجيت (كذا) للحامول فسكنته بأهلي ، بالزمالة وصرت وكيلا على السيد محمد بن الحفاف كثير المجالة ، ثم انتقلت وسكنت بأهل الخوجة الغرابة ، ثم سكنت بدوار أهل العيد فها أنا فيهم من غير استرابة.
قال ولده الحاج أحمد ولا زال بأهل العيد إلى أن مات في أيام الأمير السيد الحاج عبد القادر بن محي الدين بالبيان ، ودفن بمقبرة سيدي عبد القادر ابن زيان ، ولا زلنا نحن أولاده بأهل العيد للآن. وأنه كان كثير الدعاء والترحّم علىءاغة المذكور ، وكان يوصينا الإيصاء التام بالتعرف بذريته وقرابته لنيل الأمور ، ثم قال الحاج المذكور قال لي والدي المزبور ، وهذا الفعل كله فعله معنا آغا المار له لا لغيره ، فو الله لم يأخذ منّي شيئا بل كل ذلك من فضله (ص 292) وخيره ، وبعد أمد اجتمعت / به وأردت مكافأته فقال لي يا هذا العاقل لا تعد لمثل هذا القول فإنه ضير ، وأنا ما فعلت ذلك معك إلّا ابتغاء لوجه الله ونصرة للمظلوم لا غير ، فقلت له زادك الله الفضل والمنة ، وعوضك على فعلك قصورا في الجنّة. ولما مات ببني مناد أعطاهم الله الشرور والكساد ، كنت أول من تقدم


لحمله ، ولم أزل ملازما لنعشه في نقله ، إلى أن أوصلناه لوهران ، فرحمه‌الله الرحيم الرحمان وأثابه على فعله ثوابا عظيما ، وأعطاه أجرا جسيما. وإنما أتيت بهذه الحكاية دليلا على أنءاغة المخزن له التصرف في جميع الرعاية.
ثم أنّ الباي عليا خرج في أيامه ابن الشريف الدرقاوي من بني يزناسن ونزل بالأحرار ، وراودهم على القيام على الباي في الاشتهار ، فأنكرهم جلّهم ، ولبّاه قلّهم ، فسمع به الباي المذكور ، فامتلأ بالغيظ وطارت عنه الشرور وخرج حاركا إليه بأحوال مستقيمة ، فألفى محلة الطريق وهي محلّة الغرب بمينا فأخذها وصعد بها مع الوادي ومعه عساكر عظيمة ، وأمر جميع نواحي القبلة بالظعون معه والتقدم أمامه. بأهاليهم وأموالهم وهو في أثرهم مخفّقة عليه أعلامه. فامتثلوا أمره وأجابوا دعوته وحوره ، وذهبوا معه إلى أن نزلوا ببلاد الأحرار. فأفسد زرعهم وشتّت لهم الأقوار ، ولم ينازعه أحد ، ولم يكن له في ذلك حد ، وأنحلّ عقد الدرقاوي وانتثر وافترقت أتباعه ، وتركه من حينه منفردا وحيدا ذهبت عنه أشياعه وجاءت شيوخ الأحرار بأجمعها لدى الباي تلتمس منه الرضى ، فأكرم نزولهم وأعظم مثواهم وزال عنه الغضب وجاءه الرضى وذهب الدرقاوي إلى فقيق وأقام به أياما وقد ضاق به فسيحه / ثم رجع لبني يزناسن وهو محله الأول فخمدت ناره (ص 293) وسكن ريحه.
ثم رجع الباي لوهران مسرورا في غاية المفاخر ، وذهبت محلة الطريق لموضعها ولما وصلت للجزائر ، قاموا على عمر باشا فقتلوه بالحمام ، باتفاق الأعيان ، وقالوا أنه لم تسعد عليه وبه الأيام والبلدان ، ولم يكن بوقته راحة ولا أمان. وقد مات بأيامه الرايس حميدو (1) المجاهد في سبيل الرحمان وغلت الأسعار بوقته وظهر الطاعون ، وقام النصارى الإنجليز عليهم بالجزائر ومنع الماعون. وذلك أن الإنقليز جاؤ للجزائر ودخلوا مرسيها بسفنهم على وجه الخديعة من تعرية رؤوسهم مثل المبايعة بغاية الصنيعة ، وبأيديهم
__________________
(1) قتل الرايس حميدو عام 1815 قرب رأس كاطا جنوب شرق إسبانيا على أيدي بحّارة أمريكيين هاجموا مركبه.


سجل عظيم يرقاني ، زعموا أنهم أتوا به من عند السلطان الأعظم صاحب الباب العالي أمير المؤمنين محمود الخاقان ولما جازوا رماية مدافع المسلمين ، ابتدروا بإرسال صواعقهم إلى أن حرقوا سفن المسلمين ، وكان ذلك وقت العصر واستمرّوا على ذلك الحال بغاية التمكين ، كأنّ مدافعهم في الإرسال واحد إلى تمام عشر سوايع (1) بعدّ الحاسبين الموقتين ، فأبطلوا الضرب وملوا لما لحقهم من المجاهدين. قال ثم اصطلحوا مع أهل الجزائر بإعلان ، على المنّ بأسارى النصارى الذين بالجزائر ووهران ، فأسلموهم كلهم باعتبار المقاصد ، حتى أنه لم يبق بعمالة الجزائر نصراني واحد. قال الذي تواترت به الأخبار تواتر المصدع ، أنهم أرسلوا على الجزائر أربعين ألف مدفع. ولما قتلوه أقاموا مكانه عليا باشا إقامة الأكابر ، وأجلسوه على كرسي مملكة الجزائر ولما استغل له (ص 294) ذلك / واستقر بالملك قدمه ، غيّر الصرف تغييرا كان به عدمه. فالريال دور (كذا) كان فيه خمسة عشر وقيّة ، حطه إلى اثنا عشر وقية ، فقد انقص خمسه ، وأضاع من حينه فلسه ، والريال الجزائري كان فيه ثمانية أواق ، فحطّه إلى ستة أواق ، فأنقص منه ربعه ، وغيّر من ساعته جمعه ، وأحدث أمرا لم تحدثه قبله ملوك الجزائر في الأوامر. فولّى خليفة الشرق من الجزائر ، كما ولّى قائد تلمسان وكان قبله لا يولى من الجزائر إلّا الباي بالبرهان.
نهاية الباي علي قارة باغلي
ثم عزل الباي عليا من منصبه ، وأزاله عن مقامه ومرتبه ، وسبب العزل له والقتل ، كما هو مقرر في النقل ، أن هذا الباشا المذكور في البيان ، لمّا تولى الملك نفى بعض الأتراك من أصحاب عمر باشا لوهران وبعث في أثرهم للباي علي بقتلهم قتلة شرّة ، ولما أحسّوا بذلك فروا لمحلة الشتاء التي بهبرة ، فبلغ خبرهم للباشا فغاب لبّه وطاش واستغاظ شديدا على الباي ، واتهمه بأنه هو الذي صدر منه لهم ذلك الرأي ، وبقي في غيظه وغضبه على الباي بلا ناكث ، إلى أن ذهب الباي مدنشا للجزائر كما هي العادة عندهم في الدنوش بأنه يكون على
__________________
(1) يقصد ساعات. والحديث عن غارة اللورد ايكسموث عام 1816 م.


رأس العام الثالث. ولما وصل للمشرع وهو موضع بأبي خرشفة بأسفل مليانة ، أرسل الباشا إليه من دويه من عزله قبل الدخول ثم قتله عيانة ، ودفن في محل القتل بعد تكفينه في الحصير نكاية له والملك والبقاء والدوام لله تعالى سبحانه السميع البصير.
وولّى من حينه حسنا بايا لكثرة جفائه ، وأمر بطبع داره وسجن أولاده وتثقيف نسائه. وتلك عادة الأتراك في الأصل ، فإنهم يقولون يوم للطبل ويوم للحبل ، وذهب حسن مدنشا بجميع ما دنش به الباي عليّ من الأموال الكثيرة ، والذخائر النفيسة الغزيرة ، والخيول المسوّمة ، والأمتعة / المثمنة المقومة ، وزاد متماديا إلى أن دخل الجزائر ، فتلقته الناس بالمبايعة والبشائر ، فقضى بها أربه ، وأكمل مطلبه وخرج منها قاصدا وهران ، وأعلام النصر على رأسه كأنها شقايق النعمان ، والجنود به دائرة ، والجيوش خلفه سائرة ، تقف بوقوفه وتذهب بذهابه ، وتمتثل لأمره ونهيه ، وتخشى شدة عقابه ، ولا زال سائرا إلى أن دخل مدينة وهران ، وقال الحمد والثناء لله سبحانه الملك الديان الغافر الرحيم الرحمان.
قال وكانت واقعة الإنقليز بالجزائر وخروج ابن الشريف الدرقاوي وقضية الباي علي في سنة واحدة ، ليس بينهما طول ولا تفريق في حصول الفائدة. وكانءاغته من الدوائر عليّ ولد عدة ، وقدور بن إسماعيل ، والحاج قدور بالشريف ، ومن الزمالة السيد محمد ولد قدور الوهراني ، والحاج المرسلي ابن مخلوف ، وعدة بن قدور بالتعريف.
الباي حسن بن موسى الباهي
ثم الباي حسن بن موسى المعروف بأهج حسن ، وهو ثامن بايات وهران وآخرهم في القول الأحسن ، تولى في منتصف ذي الحجة الحرام بغير الخلف ، سنة اثنين وثلاثين ومائتين والألف (1) وهو اليوم الذي مات فيه الباي عليّ كما مر في القول الجلي. ومن خبره أنه كان في أول أمره طبّاخا لأربعين جنديا من
__________________
(1) الموافق 26 أكتوبر 1817 م.


الأتراك ، في غاية ما يكون من التدريج والاشتراك ، ثم صار تبّاغا يبيع الدخان ، ويتعاطى بيعه في السر والإعلان. قال فى در الأعيان في أخبار وهران ، وكان ذا عقل وافر وسياسة ، ورأي ناجح ورئاسة ، ولما رءاه الباي محمد الرقيق على تلك الحالة شغف بحبّه ، إلى أن أخذ بمجامع قلبه ، وظهر أنه لا يصلح لمصاهرته ألّا (ص 296) هو ، وأنه هو الذي / يوافقه في الجد والهزل ، والذكر والسهو ، فقرّبه منه وأدناه وأولاه سرّه ومعناه ، وزوّجه من ابنته وصيره من جملته ، وشوّر ابنته بدرة بما لا له قيمة مثل الدرة اليتيمة والذهب والحرير ، والدراهم والدنانير ، وغير ذلك من الشورة والأمتعة فصار من حينه متسعا في غاية السعة ، وولّاه قائدا بفليتة ، وانضبطت أموره فليس لها تفليتة. قال صاحب در الأعيان ، وهو السيد حسن خوجة كثير المعاني والبيان ، وكنت كاتبا لأموره الشاملة ولازمته في الخدمة السنة الكاملة ، فلم أسمع قط منه جناحا ولا كلمة فحش ولا منا ولا فخرا ولا تكبرا ولا مزاحا ، وإنما يظهر منه من محاسن الأخلاق ، والتعبّد ما يرضّي المالك الخلّاق. قال وكان قليل الغضب كثير الرضى ، يمسح برؤوس اليتامى ويعيد المرضى كثير الترحّم والتودّد للفقراء والمساكين ، محبا للعلماء والشرفاء والأولياء والصالحين والمساكين ، مواضبا على الطهارة لا يتركها أصلا محافظا على الصلوات فرضا ونفلا ، مجالسا لأهل الفضل والعناية ، مجانبا لذوي السفاهة والجناية.
ثم ولاه خليفة الشرق لكنه لم يبلغ فيها مناه ، ولا توصّل إلى مرغوبه ومنتهاه ، بل وافق أمره فيها مخالفة صهره الباي محمد الرقيق لأهل الجزائر ، كما مرّ فعاقه العيوق عن تلك المراتب والمشاعر. ثم كان من أمر الله تعالى أنه بلغه إلى مكانة أرفع منها وأرقاه بايا والأولى أعرضه عنها. وقد قحط الورى قبل ولايته (ص 297) فلم يمطروا ، ودام عليهم ذلك إلى أن تضرروا ، ولمّا ولّى عليهم أمطرهم / الله تعالى بمنّه وفضله ، وخفّ بعض غلاء الشعر الصادر بعدله. قال السيد حسن خوجة التركي في الكتاب المذكور ، وهو ذكر الأعيان المشهور ، ولذلك قلت فيه هذه الأبيات ، الدالة على كماله بالثبات ، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل وهو حسبي ونعم الوكيل ، وهي من بحر الطويل :
أيا معشر الإسلام دام سروركم
 

بدولته من في الناس دولته ترضا
 
أمير أتانا بعد ما قحط الورى
 

فأمطرنا رب العباد به أرضا
 




تراها وقد أبدت من الغيث أبحرا
 

فمن هائم طولا ومن هايم عرضا
 
كما حسنا كان اسمه حسنت به
 

ليال وأيام وطبّت به مرضا
 
إذا ذكر البايات كان أعفّهم
 

وأكثرهم جودا وأوضبهم فرضا
 
وإن ذكر الفرسان كان أكرّهم
 

وأفرسهم خيلا وأرماهم غرضا
 
وإن ذكر الأبرار كان أبرّهم
 

وأوسعهم صدرا وأكظمهم غيظا
 
سياسة الباي حسن وسلوكه
قال شيخنا العلّامة الربّاني ، والقدوة الصمداني ، الشريف الحسني ذو البياني السيد محمد بن يوسف الزياني ، في كتابه : دليل الحيران وأنيس السهران في أخبار مدينة وهران ، ولما استوسق له الملك وأذعنت له الرعية ، رفض ما كان عليه من الوصف السابق وكثر ظلمه وغضبه وغيظه وغصبه وعبثه بالرعية ، وحدث بوقته الوباء العظيم العسير وتكرّر رجوعه بعد ذهابه إلى أن مات به الخلق الكثير.
وفاة أبي راس الناصر بمعسكر
ومات بوقته مجدد القرن الثالث عشر ذو التآليف العديدة ، والتصانيف الكثيرة المديدة ، الشريف الأمجد ، العلامة / الأفرد ، الضابط الجامع الحافظ (ص 298) الدراكة المانع المحقق اللافظ ، أبو راس محمد بن أحمد بن عبد القادر ، ابن محمد بن أحمد بن الناصر بن علي بن عبد العظيم بن معروف بن عبد الجليل الراشدي المعسكري الناصري الذي ليس له نظير بالراشدة ، ولا مثيل ، يوم الأربعاء خامس عشر شعبان سنة ثمان وثلاثين ومائتين وألف (1) ، من هجرة من له كمال العز والشرف ، وصلى عليه العلامة الأسد الهائج فريد وقته المعبر عنه بالراشدية بالخرشي الكبير السيد أحمد الدايج ، ودفن بعقبة بابا علي من المعسكر ، فنسبت له تلك العقبة إلى أن بها اشتهر وعلى ضريحه قبّة نفعنا الله به وأورثنا منه محبة وقربة. وفي تلك السنة رفع المطر عن العباد بعد ما فرغوا من
__________________
(1) الموافق 27 أبريل 1823 م.


الحراثة إلى أن بقي للصيف شهر واحد في القول الذي ليس من أقوال الرثاثة ، فأرسل الله مطره النافع للعباد ، وأزال ما بهم من التخمين والكساد ، ونبت الحبّ وتمت الصابة وحصدوا ، وبلغوا مناهم فشكروا الله على ما أولاهم وحمدوا ، فسميت تلك السنة بصابة الشهر ، وتعاطى اسمها في البدو والحضر. قال واجترأ على العلماء والأولياء والشرفاء والرعية فبان منه الجور والظلم والتعدي ، وكثر منه الضلال وهتك المحارم والتردي ، وطغا وتجبّر وتكبر وكثر منه الفساد والسفك بغير موجب لدماء العباد ، ولم يراقب في ذلك خالقه ولم ينظر ليوم المعاد ، فقتل في سنة تسع وثلاثين ومائتين وألف (1) ، قتلة ذميمة ، ولي الله الفقيه السيد محمد ابن أحمد الصدمي من أولاد سيدي بن حليمة ، لمّا سعى به خاله أبو ذريع عنده (ص 299) بأنه يريد أن يقوم عليه بغتة بالعقبة ، فبعث له ما أتاه به وعلى رأسه ساجل من / الحلفاء ظليلة على عمود نكاية له إلى أن وصل بتلك الحالة لوهران فعلّقه بها مع الخشبة. وفيها في شهر شعبان أمر بقطع رأسي الفقيهين العالمين الجليلين ، الوليين الكاملين الجميلين ، السيد بن عبد الله بن حواء التجيني الدرقاوي والسيد فرقان الفليتي بغير الكلام وأكثر من الخظية وهي العقوبة بالمال للرعية ، ولم يراقب فيها قط الأحوال المرعيّة ، حتى صار يقول لعماله من اصطاد لنا حجلة فله جناحها ، وربحها ونجاحها ، يريد بذلك أن من سعى عنده بأحد للعقوبة بالمال والساعي من الخواص ، فإنه يأخذ حظه من الخطية وهو القدر الذي يأخذه من الأجرة لما يذهب للخلاص ، ولشدة ظلمه أمر كاتبه أن يكتب لمن يريد أن يخطّيه على الفورية ، إنما استوجبت هذه العقوبة لخدمتك الرّدية. وأنه في بعض الأيام نظر لضعف الرعية وحصول الغنا للقواد والأغات والعمّال ، استعمل حيلة ليأخذ بها منهم ما شاءه من الأموال ، فقال لهم وهم بمجلسه حجيتكم أيها السادات الكرام الدائرين بي في هذا المقام ، إني هزلت من اليدين والرجلين وسمنت من الأذنين والعينين ، فتحيّر عمّاله في فهم حجّايته ، وأمعنوا النظر في فكها كل بحسب عنايته إلى أن قال لهمءاغة المعظم الوجيه النبيه المحترم من خاض البحور في فهم المعاني إلى أن أظهرها لكل قاص منهم والداني ، المعتصم في
__________________
(1) الموافق 1823 ـ 1824 م.


أموره كلها بالباري ، الشجاع الأفضل السيد الحاج محمد المزاري ، أيها الأعيان إنّ باينا يريد بيديه ورجليه الرعية لما رءا (كذا) ضعفهم ببصره ، ويريد بأذنيه وعينيه أغواته وقياده لما كثر مالهم في نظره ، فعليكم بإعطاء الأموال ليلا يصير كل واحد منكم في أرذل الأحوال ، وبادر لذلك فأعطاه من العدد ما أرضاه في الصك ، وقال له هذا الجواب حجايتك فإني واحد من أذنيك وعينيك فقال له أنك الخبير بالفك ، ثم شرع كل واحد من الأعيان في دفع ما قدر عليه ، فسرّ بذلك الباي وعلا قدر المزاري لديه ، وقال لوزرائه وأهل مجلسه أن المزاري لفهيم ، وأنه على التحقيق لآغا جسيم ، وعاتب الباي يوما بعض أصدقائه على كثرة الخطية ، التي ضعفت بها الرعية ، فقال له / أن أهل الجزائر قد أكلوني (ص 300) بالكلية ، ولذلك تراني قد أكلت للرعية. ثم صار مهمى مات أحد من رعيته وهو ذو مال وفلوس ، إلّا صيّر نفسه واحد من الورثة ويأخذ حظّه معهم على عدد الرؤوس. وفي سنة أربعين من القرن الثالث عشر (1) أمر ببناء الرّحبة لبيع الحبّ بمدينة المعسكر ، وكتب على رخامتها ما نصه : بسم الله الرحمن الرحيم ، والصلاة والسلام على أفضل رسله محمد الكريم ، وعلى آله وأصحابه المرشدين للصراط المستقيم ، أما بعد فقد أمر ببناء هذه الرحبة الماسوسي ، صاحب الخيرات والحسنات السيد حسن باي بن موسى زاد الله تعالى خيراته ، وعفا عنه سيئاته ولوالديه آمين ثم كتب هذه الأبيات :
بناها حسبة لله حسن باي
 

بوجسصّة إيلدي بنيّا داى
 
صحفه خطر أيله أجنلف
 

جهانك عافيته أولسون
 
أول تارىّ غدا أيكان
 

جهانك أيلسون شادان
 
وهم أيلسون رحمت بوان
 

وأجداد له ربّ غفران
 
صوره أحمد بن محمد سنة أربعين ومائتين وألف ، ثم أمر بجعل قبرية لضريح سيدي علي أبي الوفا ، بعد ما بنا عليه القبة ، وذلك سنة ثلاثة وأربعين من الثالث عشر (2) بالحسبة وكتب بأحد جانبيها ما نصه : الحمد لله أمر بصنعة هذه
__________________
(1) الموافق 1824 ـ 1825 م.
(2) الموافق مارس 1828 م.


القبرية وتزويقها المعظم سيدنا حسن باي العمالة التلمسانية ، والثغور الوهرانية ، وقد أدّى جميع ما أصرف عليها وأهداها للولي الصالح سيدي علي أبي الوفا وبتاريخ أواسط رمضان المبارك من عام ثلاثة وأربعين ومائتين وألف (1) والمتولي لحلية تزويقها الطالب صالح بن سالم وصيف الشيخ سيدنا محمد بن أبي زيان القندوسي سامحه الله آمين. وبالآخر هذه الأبيات :
يا رجال الإلاه إنّي مريض
 

وأن الدّوا لديكم والشفاء
 
أنتم الباي والإلاه كريم
 

من أتاكم له المنا والهناء
 
فكم أنني حماكم من سقيم
 

وزال عنه سقمه والعماء
 
كم أغنتم على الدوام مريض
 

في الفراش وقد كفاه النّداء
 
فانظروا بفضلكم في علاجي
 

وامنحوني جودكم ما أشاء
 
وأكثر من الربطة حتى أنه دفع له المزاري سبعة آلاف وخمسمائة ريال في عام توليته ، وكتب له رسما لتبريته ، ونصّه : الحمد لله تذكرتنا بيد القائد (ص 301) المزاري بن إسماعيل ، آغا على أنه دفع لنا سبعة / آلاف ريال وخمسمائة رياب بودهيا؟ من قبل الربطة يوم توليته أواسط ربيع الأول الأنور من عام 1241 (2) وكتب بأمر المعظم الأرفع السيد حسن باي وفقه الله وبمقلوب الرسم خاتم الباي المنقوش فيه ما نصه : الواثق بالرحمان ، عبده حسان باي بن موسى 1232 (3).
ثورة أحمد التيجاني
ثم قام عليه في عام اثنين وأربعين ومائتين وألف (4) السيد محمد الكبير ابن القطب العلامة المعبر عنه بالقطب المكتوم السيد أحمد بن سالم التيجيني بغير الخلف ، وجاءه حاركا في ستمائة رجل من التيجانية أهل عين ماضي ،
__________________
(1) الموافق مارس 1828.
(2) الموافق أواخر أكتوبر 1825 م.
(3) هذا التاريخ يمثل سنة تولي الباي السلطة بالبايليك 1817 م.
(4) الموافق 1826 ـ 1827 م.


الزاوية المحفوفة بحفظ الله في الزمان الآتي كالماضي وعدد كثير من العرب الصحراوية التي لا تمتثل للمعروف ولا تنتهي عن المنكر ، مع قوم الحشم إلى أن وصل للمعسكر ودخل منها حومة بابا علي ثم خرج منها ورجع لغريس فمات بعوّاجة مع أصحابه كلهم بلا تحريس ، ومن خبره أن الباي حسن كان قد دخله التخمين بأن التجيني سيقوم عليه بالأصفى ، كقيام ابن الشريف الدرقاوي على الباي مصطفى ، لإقبال الناس عليه في كل ناحية وانتشار صيته في كل ضاحية ، فرام كسر شوكته قبل تزايدها ، وهدم قوته قبل تعاهدها فجمع له جيشا عظيما ، وعددا كثيرا جسيما ، وغزى به عليه بعين ماض ، وحاصره بها شهرا كاملا يماض ، إلى أن حصل الصلح بينهما على يد كاتبه السيد الحاج محمد ابن الخروبي القلعي على أن يعطي التجيتي للباي لزمة سنوية في المرعى ، قدرها خمسمائة ريال منجّمة ، ويعطيه ألفي ريال حالّة مقدّمة (كذا) ، وكان ذلك عام إحدى وأربعين ومائتين وألف (1) ، فأخذ الباي تلك الغرامة الحاضرة وارتحل لوهران بالشضف ، وقد انكسر في قتال تلك الواقعة بلا تماري ، عدة ولد عثمان البحثاوي خليفة آغا الحاج محمد المزاري. ثم أنّ التجيني لمّا رأى ما حلّ به بغير سبب ظهر له مقاتلة الترك والغزو على الباي حسن في محلّه للعطب ودسّ ذلك في سويداء قلبه ، وصار يحشد الجنود ويجمع الحشود لشيء لم يكن من كتبه ، ويكاتب من يظن به الإذعان للمهالك ومن جملتهم الحشم فأخبرهم بمراده ووافقوه على ذلك. ولما دخلت سنة اثنين وأربعين ومائتين وألف (2) ظهر للباي السفر للجهة الغربية لإزالة الغلف ، ويتفقد أحوالها في السرّ والإعلان ، فذهب بجيوشه / الكثيرة التي رأسها المخزن سيما أعيانهم قاصدا تلمسان. ولما نزل (ص 302) بالحناية كأنه الأسد الحاقد جاءته ثلاثة مكاتب في وقت واحد ، أحدهما من عند الهواري الحشمي ، صاحب الصدق للباي في القول الجزمي ، وثانيها من عند قدور بن سفير قائد المعسكر وثالثتهما من عند مرة أحمد التركي الذي نفاه الباشا حسين من الجزائر للمعسكر ، وصيّره بها بمنزلة ناظر الأحباس ، يخبرونه فيها
__________________
(1) الموافق 1825 م.
(2) الموافق 1826 م.


باتفاق الحشم على القيام مع التجيني وإظهار الأرجاس ولما قرأ الباي تلك المكاتب ، أعلم أعيان جيشه ومخزنه بما فيها من الأمر العاطب ، وقال لقواده لا بد تأتوني بجيوشكم الباقية والجمع بيننا بوادي ماكرة ، وارتحل من الحناية فنزل بيسّر وبعده بماكرة ، وأقام بها أياما والجيوش تجتمع عليه إلى أن صار خميسه في غاية الخميس ، ثم رحل ونزل بالزفيزف ثم بعوّاجة من أرض غريس ، فأتاه الحشم بأجمعهم للضيافة ، ولم يعلموا ما سيحل بهم من المكافة ، فضيفوه وبعد الأمل قالت له نفسه لا يستقيم لك الأمر وتحصل لك الرّاحة إلّا بقتل قواد الحشم الإثنا عشر ، وهم محمد ولد عبد الله وابن أخته الحبيب ومحمد بن ركموط ومحمد ابن نكروف وغيرهم في صحيح الخبر ، وكان الكبير في هؤلاء القواد سنّا ورأيا وتدبيرا وشجاعة محمد ولد عبد الله فالصادر منه هم له طاعة ، فأمر الباي بقبضهم فقبضوا ، ما عدا القائد الحبيب فإنه لا زال على فرسه وقد سمع ما لفظوا وصار واقفا من بعيد ينتظر ما يحل بهم من الانتقام ، فلما رآهم ذهبوا بهم لبشوضة وهي محل القتل ذهب فارا بعد طول القيام ، ثم أنّ القواد الإحدى عشر لما عاينوا القتل وتحققوا به وهم في الجزع والدهش ، نطق كبيرهم ملتفتا وراءه لناحية الباي وقال يا هذا الوتاق ظلمتنا من غشك سلط الله عليه الغش ، فقال له محمد ابن زكموط يا مختل العقل حلفك لا ينفع ، وصاحب الوتاق لا ينظر فيك ولا لكلامك يسمع ، فالشّاه فيك على القساوة ، حيث كنت في نجاة ومن السعداء وصرت في هلاك ومن أهل الشقاوة ولما وصلوا لبشوضة وقد صارت جموعهم مفضوضة ، قال ابن زكموط لظربير ، وهو المأمور بقطع الرأس ، بأمر الأمير ، ناشدتك الله أن تبدأ بمحمد ولد عبد الله لتحصل به الراحة ، لقلة رأيه الفاسد (ص 303) وعدم إصغائه / لقولنا حيث كان من أهل السمع فصار أصمّا كما صار أبكما بعد أن كان في الفصاحة ، ثم اقطع رأس الباقين واحدا بعد واحد. ففعل ظربير ما قاله ابن زكموط الماجد ، قال ولما قتل الباي في ساعة واحدة إحدى عشر قائدا ، وبعث برؤوسهم للمعسكر بعثا متواردا ، أنكر عليه ذلك كافة الترك الذين كانوا بالمحلة والغائبين ، كما أنكر عليه ذلك أغواته الذين هم من الراكبين ، وقالوا له سترى ما ينتج لك ولنا معك من الضرر العظيم ، حيث لم تستشر أحدا ، واستقلّيت برأيك الصميم ، وأظنك استشرت المازري وابن وارد ، فقالا نحن

على براءة من هذا الكلام الوارد ، فإنه لم يستشرنا ونحن من جملتكم ، وإنما ذلك رأيه هو أدرى بأحواله منّا ومنكم.
ثم أنه لما قتلهم وحاله استبشر ، رحل من عوّاجه وهو في نخوة ودخل المعسكر وكان في قلبه وجل من القائد عبدي وأبي الأقدار لعلوّ كلمتهما عند العرب والترك في السرّ والإجهار وميل أصحاب الجزائر لهما لما فيه الغاية ، وربما تتولد له منهما النكاية ، وقد ضرب على الحشم الخطية الكبيرة ، والعقوبة المالية العسيرة ، رأى أنه لا تكمل له الأيام ، ولا تتم له الفائدة إلا بقتل هذين ، التركيين القيام ، بعثهما لقبض تلك الخطية ، ومراده قتلهما لتكون لهما الرزية ويتهنا من أمرهما ويستريح ، وينفرد في مملكته من المليح والقبيح ، فذهبا لقبض تلك الخطية ، ولما وصلا للحشم قالوا لهما جئتانا لإتمام الرزية ، بالأمس قتلتم قوادنا ، والآن جئتما لأخذ مالنا وقد جرحتم أكبادنا ، وغرضكم إتمام النكاية فستريا ما لكما فيه من النكاية ، وبادروا لقبضهما ، لأخذ الثأر في نفلهما وفرضهما ، ففرّ عبدي هاربا وأتبعه الحشم إلى أن دخل لخيمة سيدي الأعرج من أولاد سيدي محمد بن يحيى وجلس عند النساء للحرم فدخلوا عليه وأخرجوه منها جبرا على السيد المذكور بالاشتهار ، وقطعوا رأسه كما قطعوا رأس أبا الأقدار ، وقالوا هذا ثأر القواد ، الذين ذهبوا لجنة الخلود فاذهبا لجهنم وبيس المهاد ، وبعثوا بالرأسين للتجيني وقالوا له على عبدي هذا رأس الباي حسن ، وعلى أبي الأقدار هذا رأس خليفته كثير المحن فاستراح الباي بفعله بالتركيين والحشم ، ولم يبال بما سيأتيه من الغم والهم.
تآمر الحشم مع التيجاني ضدّ الباي حسن
ثم أن الحشم حثوا على التيجني حثيث الاحتباك / في القدوم معهم لقتال (ص 304) الأتراك ، ولما رجع الباي لوهران ومكث بها مدة في أمن وأمان ، قام عليه التيجني في جيش عظيم يريد المجاجنة من أهل الصحراء ، واليعقوبية وستمائة رجل من التجاجنة ، ووصل لغريس في خريفة اثنين وأربعين ومائتين وألف (1)
__________________
(1) الموافق أواخر عام 1826 م.

فنزل بفروحة في يوم الأحد بغير الشك والخلف ، فبعث الهواري للباي بذلك ، وأخبره بتحقيق ما هنالك ، فلذلك جعله قائدا على الحشم في الرواية الفريدة ، وقد أطاع الحشم للتجيني لما أحلّ بلادهم بجيوشه العديدة ، ثم كاتب التجيني بني عامر وبني شقران والبرجية والغرابة والزمالة والدوائر وسائر النواحي الشرقية والغربية له بالإذعان ، فأمّا البرجية والغرابة والزمالة والدوائر هؤلاء الأعراش الأربعة المتوالية الذين هم مخزن الباي فقد أبوا من الإذعان ، وأما بنوا عامر وبنوا شقران وغيرهم فقد توقفوا ، وصاروا ينتظرون الغالب يتبعونه وبذلك اتصفوا.
محمد التيجاني يهاجم مدينة معسكر
ثم رحل التجيني في يوم الإثنين لمدينة المعسكر وهي على سبعة أقسام ، حومة العرقوب بسورها ، وحومة سيدي علي محمد ، وحومة عين البيضا ، وحومة الباب الشرقي ، وحومة بابا علي ، وحومة سيدي محمد أبي جلال ، وحومة المدينة الداخلة ، وهو الوسطى بسورها ذي أدهام ، ونزل على الحومة الغربية وسط النهار وهي حومة العرقوب ، يريد الدخول إليها ويظفر بالمطلوب ، فتلقاه أهلها بأسرهم بالقتال ، وصار الحرب بينه وبينهم في السجال ، وأعانهم بنوا شقران على ذلك القتال ، وقد مات من الفريقين خلق كثير وقد بات في تلك الليلة (كذا) بأعلا الحومة البحرية وهي بابا علي في تحرير ، وفي يوم الثلاثاء بعث لهم ليدخلوا في طاعته ، فأبوا وبدءوه (كذا) بالحرب من غير مراعته ، فكان من أمرهم أنه قتل منهم خلقا كثيرا ودخل تلك الحومة فجاس خلالها ودمّرها تدميرا ، ولما رأوا ذلك قادوا له فرسا أشهب ودخلوا تحت حكمه بانتخاب وأتوه ليلتهم لمؤنته (كذا) جيشه من المأكول والمشروب وعلف الدواب واندرج في ذلك أهل الحومة الشرقية بلا محال ، وهي حومة الباب الشرقي ، كما اندرج في ذلك أيضا حومة سيدي محمد أبي جلال.
(ص 305) ثم في الغد وهو / يوم الأربعاء ارتحل من موضعه ونزل بخصيبية على الحومة القبلية ، وهي سيدي علي محمد وعين البيضاء ، وسألهم الإذعان أو يحلّ بهم ما حلّ بالحومة البحرية فقادوا له فرسا ودخلوا في الطاعة ، دفعا عن أنفسهم

وعلموا أن ذلك من الخروج عن الجماعة. وفي يوم الخميس تهيأ بجيشه لقتال الحومتين المحيط بهما السور وهما العرقوب والمدينة الداخلة ، وكان في السابق دخل أهل سيدي محمد أبي جلال ، وأهل سيدي علي محمد ، للمدينة الداخلة ، ثم ظهر لهما في الخروج فخرجا وشدت أبواب المدينتين وكل في مخزنه.
الباي حسن يذهب لمعسكر لمحاربة التيجاني
فبينما هو يحاول القتال مع هاتين الحومتين وإذا بالباي حسن بلغه الخبر فخرج من وهران بجيشه ومخزنه ، وحث السير فبات بالكرمة ، وتليلات ، وسيق ، ووادي الحمام ، فنزل بمشرع حسين ، وهو كالأسد الضرغام ، سمي المشرع بذلك سرا وجهرا لكون حسين التركي تعدى على بعض العرب بالمنكر بذلك المشرع فقتل به وذهب دمه هدرا. وكان من عادة الباي لا يدخل للمعسكر إلّا مع عقبة الملّاحة ، سميت بذلك للنكبة الكثيرة الواقعة بها الدواب الملّاحة ، فنكّب عن تلك الطريق وذهب مع تيفرورة ، ومعناها ذات الخير الكثير فهي بالبربرية مشهورة وأخذ طريق سيدي علي بن أحمد الولي المشهور. ولما قرّبه طوى ألويته وترك ضرب الطبول بتوابعها توقيرا للولي المذكور ، وبعث لضريحه زيارة تدفع بيد المقدم ليحصل له الفوز على التجيني والحشم وسأل من الله الإعانة على عدوه في الحفي مقدما في دعائه ، التوسل إلى الله تعالى بذلك الولي ولما جاوزه قال له ليث الضراغم ، ومن كثر للأعداء منه التقاصم ، ءاغته المتقاعد النبيل المحترم السيد مصطفى بن إسماعيل وسائر الأغوات الباقين ، أيها الباي لا تخش أحدا إلا ربّ العالمين فانشر سناجقك ونقطر طبولك كالعادة ، حيث جاوزت الوليّ ، فالنصر لك ولنا معك في الزيادة ، والعدو لا ريب يحل به النّكال لأنه ما معك إلّا ليوث الرجال.
قال ولما وصل الباي لخروبة الصيادة المطلة على غريس ، هبط على قرية الكرط ، ومرّ على سيدي علي القطني كأنه أسد التغليس ، ولما بلغ الخبر بأن التجيني لا زال محاصرا للمعسكر ، رجع نحوه / متوجها له وهو بخصيبية من غير (ص 306)

المفر ، ولما طلّ عليه ورأى عنده الجراد المنتشر ، وسمع به التجيني فتأخر عن المعسكر ، وهبط دالجا ناحية أولاد رحّو يروم المقاتلة وعنه يلحّ دخل الباي الخوف والجزع ، ولحقه الرعب والفزع وظن أن الدّائرة كائنة عليه فثبّته أعيان مخزنه وواعده بأن النصر مقبل عليه ، وقالءاغته المتقاعد الشبيه بالجوطي الحاج عبد الله بن الشريف الكرطي أيها الباي رأيك الذي استقليت به حيث تركت المشورة لكل أحد في ابتداء الأمر ، هو الذي وصلك وأوصلنا معك لهذا الأثر فضحكءاغته المتولي وقت ذلك ، وهو السيد الحاج محمد المزاري البحثاوي من ذلك ، وقال للباي يا من أنت في ستر الحليم الغفار ، وحفظ العزيز القهار ، لا يدخلك الجزع ولا تصغي للقول المعسار ، سترى ما يصدر من مخزنك الأبرار ، فإن لهم حق عليك في المشورة ، وأنت تركت ذلك لجميعنا إلى أن صارت الحضاجر هي القسورة ، فأحسن ظنّك بالله ولا تهن ، ولا تجزع ولا تحزن ، فعند حلول الكفاح في الميدان يتبين لك الشجاع من الجبان ، ومن كان صغيرا في السن يصير كبيرا في الضرب والطعن وليس الكلام بالأفواه وقت تقابل الصفوف ، وإنما الكلام للبنادق والسيوف ، ويظهر الكر من الفر فالشجاع يتقدم والجبان يتأخر ، ولا يخفى سيدنا طعن مخزنه للعدو إذا تراءا (كذا) الجمعان وغلت الجماجم وتأججت النيران سيما الأعيان الدارئين (كذا) عن سيدنا ما يلحقه من ألم الدعاوى ، سيما ما ولده البشير البحثاوي فهم فداؤك في الهموم والكروب ، ووقايتك في القتال والحروب ، فسرّ الباي وجميع الجيش بقوله ، وعلا شأن عمّه مصطفى وطلع رأسه إلى أن قال أهلا بقوله. وقد كان بن يحيى ابن محمد الغلالي ثم الشقرائي فيما الراوي قد رواه ، كتب لآغا السيد مصطفى ابن إسماعيل بطاقة يخبره فيها بقدوم التجيني لأم العساكر ومقاتلتهم إياه ، لكون هذا ابن يحيى كان خليفة قائد المعسكر في الوارد ، وخليفة القائد عند الأتراك يقال لهءاغة القائد ، وبعث بطاقته مع ابنه فجاء بها ليلا لغنيمة الفيء ، ولما وصل المحلة قبضه أهلها ومنعوه من الدخول لها وسلبوه من كل شيء ، وهو يقول جهرا يا قوم أوصلوني عند السيد مصطفى بن إسماعيل ، فإني ولد ابن يحيى بن محمود (ص 307) الغلالي قاصدا للنبيل ، وجئته بالمكاتب / من عند أبي فلم يلتفتوا لقوله وصفا ولا زال ينادي إلى أن سمعهءاغة مصطفا (كذا) فأمرهم بالإتيان به ومطلبه ، ولما

وصله سأله عن نفسه ونسبه ، وعرّف بذلك دون شبيه وناوله مكتوب أبيه ، فأمرهم فورا بردّ ما أخذ له بأسره لما ظهرت العلامة ، فردوه فورا ولم تضع له حتى الغلامة وذهبءاغة مصطفى بمكتوب خليفة القائد للباي حسن ، وعرّفه بالواقع وزال ما به من الوهن ، وقال له أنّ ما تراه من الجراد فضباب على رؤوس الحبال ، وستطلع عليه الشمس الحارّة فينصرف عن آخره وهو في النكال ، وأن العرب ستأكل بعضها بعضا ويقتل بعضها بعضا والنصر مآله إليك ، فانشر ألويتك ونقّر طبولك واضرب غوائطك بناغراتها ولا حرج عليك ، فنشرت السناجيق في الحين ونقرت الطبول والغوائط والناغرات بصوتها الحنين ، والتقى الجمعان بعوّاجة بلاد أولاد رحّو فكان ثمّ أعظم الوقوف ، ونشأ الحرب بين الفريقين وتزاحفت لبعضها بعضا الصفوف وحام الوطيس وترادفت الردوف ، واشتبكت الناس ببعضها بعضا وهاج الرّيح العصوف.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مشاركة مميزة

بناء شخصية  الأطفال   ...