الخميس، 8 مارس 2018

الرحلة الورثيلانية
فالرحلة الورثيلانية الموسومة بنزهة الأنظار في فضل علم التاريخ والأخبار( الجزء الخامس من الكتابة ) 

أن يذكر وطول هذا الجبل نحو عشرة أيام من بحرّيه وسبعة أيام من الناحية الأخرى وأكثر شجر الناحية التي مررنا بها العرعر حتى انه من شدة اشتباكه والتفافه لا ينفذ الناس فيه إلا في طرق معلومة وشعاب مسلوكة ومن خالفها توعر وانتشب في الغياض بحيث لا يخلص إلا بمشقة لا سيما إن كان ذا دابة ومع كثرة غلب هذا الجبل لا يوجد فيه الأسد والحجاج يزعمون أن سيدي أبا محمد صالحا دعا عليه فأجلاه الله من هذا البلد لئلا يؤذي صعاليك الحجاج وذلك أن صح غيض من فيض فيما لأولياء الله من الكرامات.
غريبة قال ومما شاهدناه في عرب هذا الجبل من الغرائب ركوبهم على البقر وحمل الهوادج عليها وأناختها عند الركوب والنزول مثل الإبل من غير مشقة عليها ولا عليهم في الإناخة لاعتياد الكل لذلك ولله في أرضه عجائب وفي طباع الحيوانات غرائب وكذلك الغنم لا يسوقونها إنما يسير صاحبها أمامها قلت أو كثرت وهي تتبعه فإذا أمهل في السير أمهلت وإذا أسرع أسرعت وإذا جرى جرت ويأتي أحدهم بالكبش إلى السوق وهو يتبعه كالكلب المعلم ثم سرنا من أجدابية بعد صلاة الظهر وزيارة مسجد سحنون لبقاء أثره لا سيما المحراب.
ثم نزلنا بعدها بصعدة (1) وبتنا ثم ظعنا منه فسرنا مرحلتين فوصلنا إلى معطن سلوك ونزلناه وقت العصر فبتنا فيه وأقمنا يوما انتظارا للتسوق من أهل ابن غازي إذ بعثنا إليهم رسولا من المنعم فأتوا إلينا في البلدة الثانية بالشعير وبالسمن والعسل وبعض الإبل.
وقدم إلينا بعض أحبابنا من قرية ابن غازي إذ بعثهم الود الصدوق والخل
__________________
(1) في ثلاثة نسخ بمدة.

الفاروق سيدي عبد اللطيف بسمن وشعير وغير ذلك جزاه الله أحسن الجزاء ثم إنهم طلبونا في الإقامة وامتنع الحجاج لكونهم مستعجلين لأن يدخلوا مصر في أوائل شوال غير أننا أمهلناهم لوقت الضحى فانصرف الكل على خير وعافية ومع هذا ذهب معنا البعض منهم من الأتراك وغيرهم إلى مصر بالإبل للتجارة فأحسن الجميع بنا والمحسن يجازى بالإحسان والمسيء تكفيه إساءته والله يقول ما على المحسنين من سبيل.
ولما سقى الناس واستقوا وملئوا أسقيتهم ما يكفيهم سبعة أيام إلى التميمي لأن السروال أصعب شيء في طريق الحج لانعدام الماء فيه أعني الحي وأما ماء السماء فعلى فتح إلهي ووهب فرداني غير أن الله لا يدع وفده إذ هم ضيافة فحاشاه من كريم أن يتركهم عطاشا لأنه أما أن يرزقهم بماء السماء ينزل عليهم في الحين أو يجدونه في بعض الأودية والغدران مخبوا (1) لمثلهم منة من الله وفضلا على قاصديه إذ لا يخلوا وفده من أحبابه الذين حركهم الشوق والوجد إلى تلك الأماكن الشريفة والمعاهد السنية والمواطن المحبوبة لتتصل بالساكن وتشاهد محبوبها فيها ويزيل ما بها من قلق الشوق وترتاح من مرض العشق فيخف بعض ما بها لأن الروح يطير إلى المحبوب فيرده فقص البدن فيسكن بعض سكون بنسيم الوصلة ورؤية حي المحبوب لأن الجوار ترياق المريض أي دواء مجرب والدرياق بالتاء أو الدال أي الدواء الجرب
هكذا فسره القاضي زكرياء في شرحه للرسالة القشيرية رضي الله عنه ونفعنا بهما آمين.
[إذ قال الأستاذ قبر معروف في بغداد ترياق أو درياق مجرب أي دواء مجرب](2)
__________________
(1) في نسخة فحق.
(2) ما بين القوسين ساقط في نسختين.

ولذا تتحرك النفس لإشراق محل النبوءة فلا تتعب بما حصل لها في الطريق لغيبها بالمحبوب عن ذلك فلا تتألم فإذا تمهد هذا فلا تخيب رفقة من هذا وصفه فحينئذ أما أن يرزقهم الله بماء جديد أو مستعد أو يكون البركة في أسقيتهم.
وقد شاهدنا الجميع مرارا والشكر لمن له المنة والفضل فلا تحسب الوفد خاليا فتكون فارغا إذ الجامد فارغ من الضمير المتعلق بهم فيحرم من بركتهم وهذا الذي يحصل له التعب لأنه إن وجد الماء فلا يجد الظرف وإن وجد الظرف فربما تتقطع وان سلمت ربما عطبت الدابة الحاملة وغير ذلك مما يصيب المحروم المزكوم عن شم شذاهم وإلا فمن لم يصبه وابل منهم فطل.
وقد سمعت من العارف بالله الصدر الأعظم ، والعالم الأفخم ، والورع الأفهم ، الجامع بين الشريعة والحقيقة سيدي محمد المغربي الطرابلسي عام (1154) أربعة وخمسين ومائة وألف يقول أن العام الذي قبل العام الأول تقبل الله من أهل عرفة سبعا وما عداهم قد رد ثم إن السبعة قد جدوا في الطلب واجتهدوا في الدعاء من الله أن يغفر لأهل الموسم إلى أن دخل رمضان فشفعهم الله في أهل الموسم جميعا ولم يرد منهم واحدا.
وأما العام الأول قال قد أتى رجل من أهل الله من فاس ليس له قصد ولا غرض إلا الشفاعة في أهل عرفة فلما وصلها شفعة الله فيهم وحررهم لوجهه جميعا حتى أهل الترهة.
ثم قال وقول الفقهاء وصح بالحرام وعصى مذهب فقهي وإلا فمذهب أهل الفضل أن الله يغفر لجميع من وقف بعرفة وكيف لا وأن المعلم الأكبر الذي هو صلى الله عليه وسلم حاضر هناك وكذا أصحابه مع النبيين والصديقين والشهداء

والصالحين وأهل التصريف والخضر والياس والملائكة ورجال الغيب وبركة الجميع تنوب عن الجميع والله يستحي أن يرد جمعا فيه محبوبه أو يمقت أناسا فيم أهل وده ولذا رفع الله المسخ لوجود أهل الذكر فيهم وما دام ذكره في الأرض فلا مسخ فيها لقوله عز وجل : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) فإذا علمت هذا فاعلم أن السروال محل صعب للعاقل (1) وغيره فيه سبعة أيام لا ماء فيها غير المرفوع أو الموجود بالفضل وفيه من التعب ما لا يمكن التعبير عنه إلا بالذوق غير أن الله يمن بفضله عليهم ويرحمهم ويرفق بهم بمحبته صلى الله عليه وسلم وأيام هذا الموضع مفازة في انعدام الماء مثل هذه ولذا قال بعض الحكماء لو لا السروال في برقة والعشاريات في الدرب لحج النساء والصبيان غير أن فضل الله يوصل ويبلغ ولا تعتقد أن كثرة الزاد مبلغة إذ ربما صاحبه هلك وغيره نجا وسلم والاعتماد إنما هو على الفضل والمنة من الله تعالى واستصحاب الزاد شريعة وسنة فالوقوف معها وقاية وجنة هذا وأن المخلص من صعب الزمان ، وقساوة المكان ، الاعتماد على مدد الرحمان ، والتخلق في هذا الطريق بالرأفة والشفقة للضعفاء من أهل الإيمان ، فان من رحم يرحم وان الله في عون العبد ما دام في عون أخيه وليس التخلص من سموم عقارب الزمان ، وأفاعيه إلا بترياق التفضل والإيثار بحسب الاستطاعة والإمكان.
ثم إن سعة الصدر وسلامته يحفظان من كل أذاية دينية ودنياوية وإن كانت سلامة الصدر ممدوحة في غير هذا الطريق غير إنها في هذا الطريق أنفع وأتم لا سيما مع وجود الرحمة والعفة وكف اللسان عن الخوض فيما لا يعني وعدم الاسترسال فيما لا يحتاج إليه فكما غاب الإنسان عن أهله وأحبابه يغيب عن مألوفاته إلا ما لا بد
__________________
(1) في نسخة القوافل.

منه مما يقتضيه شرع أو طبع مع كونه مباحا بحيث أن أسبابه ليس منهيا عنها لأن قبول الحج موقوف على تصحيح بدايته من حيث إقامة الحق عليه في تحصيل أموره ومادة أسبابه وإباحة موصله ورعي الحقوق في جميع ذلك كله من غير مهلة إلا ما أخره الشرع لوقته فسوف يأتي الله بقوم يعينونه على ما هو بصدده لقوله تعالى : (عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا) فتتيسر أسبابه وتجتمع همته ويتحقق مقصده وتتهيأ أعماله القبول مع استيفاء الحقوق فمن كان معه حال اجتماعهم به فهذا هو إشراق بدايته وهو يدل على إشراق نهايته لأن من صحت بدايته صحت نهايته مع الاتساع في معاملته والإنفاق على قدر طاقته والمعاملة بقدر أسراره والرأفة بقدر وسعه لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فيحسب قوته إذ لا يكلف الله إنسانا إلا بقدر استطاعته.
وإنما تنزل الرحمة على رفقته بقدر وصفه بما ذكر ونعته فإذا تقرر هذا فاعلم أن هذه المفازة كما وصفناها أولا غير أن الله تبارك وتعالى يسرها علينا بفضله لأن مقتضى العادة أن تتعسر على من هو مثلنا لأني بعيالي ثلاث نسوة زوجة لأبني وزوجتان لي مع كثرة الجماعة وقلة ذات اليد وكثرة البغال إذ كان معي خمسة ومع ذلك لم يصب الجميع جوع ولا عطش ولا خصنا خصب الدواب ففضل الله ظاهر ، ووجودة باهر ، وسوق أحبابه عامر ، وعطفه علينا حاضر ، لا سيما أنا تهنا عن الطريق حين دخولنا السروال أنا وجماعة أمير الركب سيدي محمد المسعودي الدكالي الصحراوي إذ تخلفنا لصلاة العصر فلما صليناه غاب عنا الركب بين الجبال فجددنا في لحوقه فتهنا عنه تيها عظيما ثم افترقنا في طلبه فلم يظهر لنا أثره ولا تبين لنا خبره ثم إن الله تفضل علينا بوجود آثاره بعد الاياس منه هذا وانه كريم لا يخيب من قصده ولا ينعكس معتمده أصلا فلما تفضل علينا وتكرم لدينا لحقناه بعد أن نزل واستقر في مبيته ووجدنا أيضا الإبل في مسارحها والناس متفرقون في مصالح المبيت

وهي أول منزلة من سلوك.
ثم ظعنا منه صبيحة ومررنا بمخاصب وأماكن كأننا ما رأيناها قط وبعد ذلك اليوم اختلف الناس هل الخبير حصل له تيه أم لا وعند اليوم الرابع ظهر لنا أنه قد تاه بنا غير أن تيهانه ليس بعيدا غايته انه مال بنا إلى جهة الصحراء إذ التوغل فيها يخرج عن سنن الاعتدال في الطريق بل المقصود المسير نحو جهة البحر ومحاذاته أياه غير أن اليوم الخامس صبيحته وقع التنادي في الركب والتباريح على أن الركب قد حصل له التيه وافترق جميعنا في طلب من يعرف الطريق ليرد الجميع إلى المقصود فلما افترقنا ساعة وإذا بأثار البغال من مسير الأركاب الماضية رأيناها فحصل اللطف واستبشروا بوجود الطريق وحصوله في أقرب مدة لما علمت أن وفد الله لا يخيب ولا ينعكس لإسباغ الله نعم الطافه عليه ووجود منته به فحصل لنا السرور بالإشراف على المفازة بالتوجه نحو قرب التميمي.
وفي اليوم السادس مررنا على قرية معلومة فقد قيل أنها آخر عمارة برقة وهي حديثة العهد بالخراب لأن أشجارها قائمة على أصولها لا سيما الزيتون وفيها آبار لا ماء فيها وأثار بنيانها ظاهرة وأسوارها متطاولة وأزقتها مشهورة وفي أسفلها واد كبير يجري السيل إليه ومنه ساقية تتصل بتلك القرية عظيمة عند وجود الأمطار فليس شربهم ولا استقاؤهم إلا من ماء الأمطار المجتمعة فيها ثم إن الحجاج تسابقوا إلى ذلك الوادي فوجدوا فيه غديرا صغيرا لا يبقي دوابهم فازدحموا عليه وخوضوه إلى أن صار طينا فلم يوف أحد مقصوده منه وبعد ذلك بمرحلة تفضل الله على الحجاج فوجدوا ماء مستبحرا في مواضع عديدة يكفي أركاب الدنيا كلها سقيا واستقاء ورفعا فأغناهم الله عن النظر إلى التميمي.
وفي ذلك اليوم ولدت بعض النساء طفلا وتأخرنا في جماعة انتظارا لها على أن

الله تفضل بتيسير طلقها وهي زوج سيدي عبد الرحمن الذويبي (1) ثم العمري من بلدنا بيننا وبينه مسيرة يوم ففرحنا له ودعونا له بالبركة وبعد ذلك لحقنا الركب بعد نزوله واستقراره بخيامه.
ثم ظعنا بعد ذلك الموضع فنزلنا التميمي على شاطئ البحر فيه آبار وحسيات (2) قرب البحر غير أن ماء البئر ليس طيبا بل فيه بعض ملوحة كما يعمله ذائقه والذي ثبت عند الحجاج واستقر عليه أمرهم أن ماء الحسيات أطيب وأعذب منه غير أنها تحتاج إلى معالجة وتنقية رمل وفيه من التعب ما لا يخفى فاستقى الناس بالبئر هربا من الكلفة وطلبا للعجلة وقد وجدنا هناك عربا متفرقين أكثرهم بلا بيوت قد أضر بهم الجوع إذ قل ميرهم ووقع القحط فيهم سنين متعددة وبلادهم في غاية الجدب ومع ذلك الغالب سلب بعضهم بعضا على أنهم مسلوبون إذ تعدى (3) عليهم عرب فأخذوهم بعد أن أخذوهم فكان الرجل يبيع أولاده وكذا المرأة تبيع أولادها إن كانت إيما.
وقد شاهدنا ذلك فنهينا الجميع عما هنالك فمن الحجاج من امتثل ومنهم من أعرض واشترى فالقادر منهم ذهب مع الحجاج وغيره طلب ما يقتات به في الحال وبقي الآن الجوع أخذ فيه نعم الحجاج أشبعوهم الطعام جزأهم الله أحسن جزاء إذ سمعت منهم أن البعض منهم لم يذق الطعام نحو الشهر والشهرين وإنما يأكل النبات (4) من الخضر ليس إلا غير أن الشبعة الواحدة لا تسمن ولا تغني من جوع [وإنما يحصل بها الأحياء في الوقت وقد فعل الحجاج ما وجب عليهم بل زادوا
__________________
(1) في نسخة الذوبي.
(2) في نسخة حسيان.
(3) في نسخة جار.
(4) في نسخة المنبوت.

زادهم الله خيرا](1) وإنما المشكوك فيه هل يجب علينا رفعهم إلى محل يقتاتون فيه ليحصلوا غرض الحياة إذ بقاؤهم هناك مهلك قطعا على حسب العادة الجارية غير أن قواعد الفقه لا تقتضي الوجوب لأن استخلاص المستهلك من نفس ومال يجب في الحال وأما في الاستمرار فلا لأن رفعهم إلى موضع العمارة قل من يقدر عليه والأحكام مبنية على الغالب وقد طال النزاع بين الطلبة من أفاضل الركب فمنهم من يقول بوجوب رفعهم لكونهم انقطعوا عن العمارة إذ بقاؤهم هناك موت أبيض لانقطاع مادة الرزق بحسب المألوف العادي ومنهم من يقول يجب إطعامهم في الحال لتحصل لهم الحياة حينئذ وغير هذا غير مكلفين به وهذا الثاني هو الذي يظهر من قواعد الفقه لقول خليل أو فضل طعام وشراب لمضطر يعني في الحال وأما ارتقاب المئال فالرزق على الله إذ في الغيب عجائب لا يعلمها إلا الله وقد قال تعالى وكائن من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم ولقوله وعنده مفاتح الغيب لا يعملها إلا هو وإنما رتب الله الأرزاق على بعضنا بعضا استمطارا للثواب وإظهارا له للمحسن من غيره ليكون محبوبا لديه إذ الله يحب المحسنين وقد قال ما على المحسنين من سبيل أن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ومن يخبل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني والمانع عند الاضطرار ، متعرض للآثام والإضرار ، وذلك سخط العزيز الجبار ، فالعاقل لا يبخل بما لغيره لا سيما عند الأذن منه وإلا حق ضده نعم كل ميسر لما خلق له فأسباب السعادة قريبة وكذا أسباب الشقاوة فالسعيد يشتري رضاه بما له والشقي بالعكس يبخل بما له عن رضاه وبالجملة ما أقبح نائبا لا يحسن التصريف عن منوبه فيما نابه فيه لأنه أمين في ذلك ليس إلا.
فإذا علمت هذا علمت أن بعض الناس يفتخر ويتكبر بمال الله وهو للورثة
__________________
(1) ما بين القوسين ساقط من نسخة.

وليس له فيه إلا ما انتفع به في الحال وبخله دليل على شقاوته لا سيما في هذه الأماكن الشريفة ومع ذلك الله تبارك وتعالى يقول الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا فكيف يبخل الإنسان بواجب عليه وهو البخل الممنوع (1) إجماعا وقد شاهدناه فيمن معه فضل ووسع يبلغه إلى أهله يقيمه سنين متعددة ويرى الناس في السياق بالجوع ولا يمدهم بلقمة من طعام ولا شربة من ماء ومع ذلك يشتري الأحرار ممن أصابه الجوع بفضلة ماله فيشقى في الدارين لا رضا الله حصل ، ولا مال احتفل ، غير أن من سبقت له الشقاوة يخجلك على رءوس العوام بما لا عذر فيه كما سمعته من بعض المخذولين من طلبة ابن غازي (2) إذ يقول متعللا عند بخله بواجب يمسك عرض الحياة في الإنسان بسبب جوعه أنهم كثروا وتجاوزوا قدر الاستطاعة فلا يمكن الاستيفاء بما وجب علينا وتبعه على ذلك بعض من تراس من أهل الدنيا إذ طبع الله على قلبه والعياذ بالله لأن القدر الواجب سهل والقائم به لا يعسر عليه ولا يحجف بما له إذ من بلغ حد السياق قليل بالنسبة لمن حصل له الجوع وإقامة البعض منهم بذلك فيه كفاية وإنما حيرهم كثرة السائلين وأدعاء كل الضرورة بل بعضهم أو أكثرهم يدعي حد السياق فالتبس عليهم القدر الواجب فتركوا الكل احتياطا بالبخل ولو أقاموا بالكل لا حتاطوا بالمرضي.
ولما اجتمعت معهم زجرتهم عن ذلك ونهيتهم عن الإقامة بحظوظ أنفسهم إذ قلت لهم إن كل من مات فهو في صحائفكم لما علمت أن من منع فضل طعام أو شراب لمضطر حتى حصل له الهلاك يغرمه (3) شرعا حتى استظهروا انه يقتص منه إذ مثلهم لو فرقوا الزّمن والضعيف لم يصعب عليهم.
__________________
(1) في ثلاث نسخ ممنوع.
(2) في نسخة بإسقاط ابن غازي.
(3) في نسخة يضمنه.

وأما الصحيح فيخدم على نفسه ثم أن رأيهم قد اتفق معي على أنهم يركبونهم في المراكب إلى الإسكندرية وبر الترك وإلى طرابلس وتونس فقلت لهم هذا القدر كاف شرعا والمسألة يتعذر فيها الاستقصاء فإذا تمهد هذا فأقول انعطاف إلى ما كنا بصدده.
وهو أننا ظعنا من التميمي وأخذنا شاطئ البحر متفرقين لما في الطريق من كثرة الشجر والحجر إلى أن قربنا ساحل البحر وأشرفنا على عين الغزالة وتلاقينا ببعض الأعراب راحلين إلى التميمي معهم أموالهم يطلبون الكلا ويسألون عن عافية المحل فقلنا له قد انجلى أهله لقلة المير والجور فتسوق بعض أهل الركب معهم.
وفي ذلك اليوم سقط ولد الفاضل الكامل الفقيه سيدي أحمد الصدقاوي الملقب عياض عن مركوبه فتحيرنا من أجله إذ حين سقوطه لم يبق فيه إلا نفس ضعيف وقد غشي عليه كأنه سكران ثم إن بعض الناس من أهل الخبرة قال اتركوه كذلك من غير أن توقظوه فبنفس إفاقته يرتاح وإن أيقظتموه حصل له المرض العظيم الألم الكبير فكان الأمر كما ذكر فتركناه حتى أفاق بنفسه وحصل اللطف من الرحمان عليه وعلى والده وعلينا أجمعين.
وفي ذلك اليوم أيضا حصل بعض التشاجر لأهل الركب ووقعت معركة عظيمة بين أهل عامر وأهل قصر الطير بالحجر والعصي غير أن الله رزق لنا اللطف من حالهم حيث لم يموتوا فهو من جملة ما تكرم الله به علينا في عدم حصول القتل ذلك اليوم وبذلك حصلت الفرقة في الركب وتقوى الغيظ بينهم ثم اجتمع أهل الفضل وأصلحنا بينهم أصلح الله حال الجميع بمنه وكرمه.
أقول قال شيخ شيوخنا المذكور ودرنة مدينة على ساحل البحر بها مرسى بينها وبين التميمي مسافة يوم ونصف من غربيه وكانت خالية منذ زمان إلى أن عمرها

الأندلس قرب الأربعين والألف ولم يزالوا بها إلى أن ربطوا فانشبوا الحرب بينهم وبين أمير طرابلس فأخرجهم منها صاغرين بعد وقعة قتل بها مئون من أشرافهم وهي الآن في طاعته وفيها عامله المستولي عليها وعلى عرب الجبل ومرسى هذه المدينة عجيبة تنزل بها السفن الجائية من الإسكندرية ومن طرابلس ومن بر الروم لا سيما مدينة (1) كندية فإن بينها وبين مدينة درنة مسافة يوم في البحر لأنها في مقابلتها والمعاش فيها متيسر كثير لجمعها بين البادية والحاضرة انتهى.
أقول ثم أن عين الغزالة صلينا عند قربها الظهر وهي عين جارية ماؤها عذب فيه بعض ملوحة تصب في بحيرة منقطعة عن البحر يدور بها القصب من أكثر جهاتها وليس في برقة كلها ماء يجري إلا هذا ثم قال الشيخ المذكور.
غريبة وفي ميسرة الطريق شرقي العين المذكورة وأنت مشرق بيت منحوت في الحجر الصلد قال شيخنا العياشي رحمه الله في رحلته طوله عشرون ذراعا في مثلها وبداخله بيت آخر نحو نصفه وفيه غرف صغار كأنها مخازن وكل ذلك منقور في الحجر الصلد نقرا عجيبا مربعا كهيئة أحسن ما أنت راء من البيوت وباب مربع كأحسن الأبواب وعند الباب حجرة واسعة منقورة في الحجر أيضا فتعجبنا من حسن صنعتها وإتقانها وتدبرنا قوله تعالى وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين.
قال وقد ذكر العبدري هذا البيت وأجاد وصفه وبهذا الموضع أرض طيبة كلها منقسمة فتخدم للحرث وأثار البناء متصل بأطرافها وعن يمناها شعاب تنصب من الجبال وكأنها كانت مجاري السيل ويقسمها أهل تلك الأرض على مزارعهم اه ـ.
ثم ظعنا من ذلك الموضع وسرنا نحو المرحلة أو المرحلتين فوجدنا آبارا مملوءة
__________________
(1) في الرحلة العياشية جزيرة.

بماء المطر فشرب الناس وسقوا دوابهم واستقوا بل حصل المطر بالفعل فأغنانا عن المعاطن بل كل يوم أو يومين نجد غديرا من الماء بل الماء كثير.
وفي تلك المراحل مررنا بشجر التين والخروب وأظن أن هناك شجر الرمان وغيره وفي اليوم الرابع وجدنا ماء كثيرا أعني ماء المطر إذ وجدنا بئر ماجل كبير عظيم (1) فاستقى منه جميع من كان في المراكب وسقوا منه جميع دوابهم فلم يؤثروا فيه لكبره ووسعه بل شاهدنا فيه أمرا عظيما من وضع البركة التامة لكثرة الخلق إذ فيه ألوف مؤلفة فإن أخذ الركب في المشي لا يستقصيه الراكب من أوله إلى آخره إذ سمعنا من أهل طرابلس وأهل مصر بأن قالوا منذ حصل لنا التمييز ما طلع ولا جاء ركب من المغرب مثله وقد استعظموه غاية ومع هذا أن البئر لما رأيناه ظننا أنه لا يكفي العشر منه فكفى والحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى.
وبعد انصراف الركب تأخرنا في جماعة فرأيناه كأنه لم يغرف منه دلو ولم يستق منه بشر ثم إن العجب العجاب في ازدحام الناس على البئر ولم يقع فيه أحد غير أني وقفت بالعصا على رءوسهم فمن أراد أن يؤذي صاحبه ضربته على ظهره ثم أن القوم أصابهم حياء من جانبنا غفر الله لجميعهم فحصل المقصود على التمام والوفاء فرأينا فضلا عظيما ، وخيرا عميما ، وذلك من خوارق العادة.
تنبيه ما هو أغرب من هذا وأعجب منه كرامة اليوم الذي بعد هذا اليوم حين قربنا من سطح العقبة ومرحولي شيخ الركب يتأخران عن الركب بكثير حتى لا نرى أحدا من الركب بل إنما نلحق الركب عند المبيت نعم من عادتي أتأخر مع الفضلاء سيدي أحمد الطيب وسيدي أحمد بن حمود (2) وسيدي محمد الشريف النوفلي رفقا
__________________
(1) في نسخة بئرا كبيرا عظيما.
(2) في نسخة حمودي.

بالضعيف من الحجاج وكذا شيخ الركب معنا وأصحابه غير المستعجل منهم.
وفي هذا اليوم تركت مرحولي (1) وذهبت إلى الفاضل الكامل صهري سيدي عبد الله بن رحاب والصديق سيدي محمد الشريف وجماعة من الحجاج ليشتروا لي جملا أو جملين خفت من ضعف أو بقاء الجمال الحاملة للنساء فتقدمت أول الركب وكان الركب توجه نحو اليمين للصحراء ثم أن سيدي عبد الله أمر العلام لينشر رايته فإذا رآها الحجاج رجعوا إلى سطح العقبة فلما امتثل الركب وإذا بالحجاج انعكسوا دونه إلى أن رجع الكل إلى قرب السطح ونحن في ذلك من غير تراخ وإذا بالطامة الكبرى من الخيل قد عمت على الركب فظننا أنهم أهل الوطن أولاد علي إذ سطح العقبة وطنهم غير أنهم أحاطوا بالركب فأراد بعض أن يضربهم بالبندق فزجرهم سيدي عبد الله وغيره ظنا منهم أ ، هم أهل الوطن فلما بادروا إلى الحجاج سبقت إلى أول الركب فأمرتهم بإناخة الإبل ليتصل آخر الركب بأوله فحص المقصود الذي رمته وأن الركب قد اجتمع إذ فيه نكاية العدو فأقام الناس على ساق الجد الاجتهاد على قدم واحدة ونحن كذلك وإذا بالصريخ وراءنا أن مرحول عبدكم ومرحول الشيخ قد أخذهما المحاربون فرجع الناس صفقة واحدة وذلك بعد وصول المحاربين إليهما فردهم الله خائبين منعكسين لسابق عناية الإله وفضل الأشياخ والأحباب وأسلافنا نابوا عنا جزاهم الله عنا خيرا فلما كنت في آثارهم وإذا بالمبشر يقول يا فلان قد سلم أهلك وأهل الشيخ فشكرت الله تعالى على ذلك بعد أن حصل الإياس لفرط تأخرهم جدا أو يحصل العطب لأصحابنا فالحمد لله على سلامة الكل غير أننا تغيرنا عن أخينا سيدي محمد الشريف إذ وقع بينهم وصار يزجرهم وينهاهم ويقول لهم هذا وفد الله ووفد رسوله فقبل منه بعضهم وأبى
__________________
(1) في نسخة من حولي.

الآخرون إلا الحرب والسلب لما رأوا من كثرة الإبل مع الحجاج فغاروا وصاحوا وشردت بغلته تحته فلم يستطع حبسها فسقط عليها فأخذ من لحق منهم ثيابه مع نسخة جديدة من دلائل الخيرات ثم أنه مسك البغلة وركبت ولحق بالركب ففزعنا من أجل ما أصابه فعند رؤيتهم الحجاج قاموا على ساق الحرب وعلموا أنهم لا يصيبون منهم شيئا اجتمعوا وجاهة الركب والحالة أنهم أخذوا بغلين وأربعة من الإبل فردوا البغلين وجملين ثم أني ذهبت إليهم وحدي والناس يبرحون بالويل خافوا عليّ وأنا لم أسمع لهم فلما وصلت نحو الأثني عشر فارسا نزلوا إلي وسلموا علي يدي ثم علي رجلي ورجل البغلة وبعضهم يتمرغ تحت البغلة ويطلب الإقالة ويقول إنما جئنا لأعدائنا أولاد علي إذ سلبونا وأخذونا فأخذناهم وقلت لهم أن حصل لكم الندم ردوا ما بقي من الإبل عندكم وكذا ثياب الولي الصالح الشريف سيدي محمد فقالوا أما الأولون منا قد طلبناه (1) في الدعاء واللاحقون ما علموا غير أننا نرد الجميع فأمهلونا وسألتهم كم من فارس قالوا نحن في خمسمائة ثلاثمائة من الخيل ومائتين من الرجال وأني سألتهم أيضا عن وطنهم فقالوا نحن من وطن الصعيد من عمالة مصر نحو الخمسة والعشرين يوما إلى هنا فلما رجعت وإذا بالحجاج فزعوا فزعة عظيمة ثم رجل من طرابلس قد جرحوه ومات من ذلك الجرح بعد ذلك ولما وصلت وجدتهم أمسكوا رجلا مع فرسه وأطلقته منهم وأما فرسه فقد مسكها الطرابلسية فيما ضاع لهم وقد سمعت انه لما ذهب من عندنا لحقه أولاد علي فقتلوه وبالجملة ففضل الله وجوده وحفظه بنا ظاهر من غير استحقاق إذ أعمالنا ليست أهلا لقبولها حتى توجه الله إلينا بالفضل بسببها نعم كرمه ليس مختصا بأهل الجد والاجتهاد وإنما هو مبذول لمن سبقت له العناية لا لكبيرة إن واجهك فضله ، ولا صغيرة أن قابلك عدله ، فالكريم لا يبالي من أعطى ولا كم أعطى ولا ما
__________________
(1) في نسخة طلبوه.

أعطى.
وعشية هذا اليوم نزلنا قرب معطن مقرب (1) وفي ذلك المنزل مات المجروح المذكور وقد مات لنا جمل فيه حقق الله ثوابه وأعطى عوضه.
ثم ظعنا إلى أن وصلنا معطن مقرب عند صلاة الضحى فسقى الناس نهارا وذهبوا إلا أن البعض لم يحص المقصود إلا عند الزوال وتخلفنا معهم وذلك أصحاب الشيخ وبعض الحجاج فلحقنا بعد الظهر بالركب نازلا ينتظر المتأخر ثم أن الله أغاث الحجاج بعد ذلك بالمطر الكثير بحيث استغنينا عن المعاطن إلى الشمامة لكثرة الغدير بل أحواض الماء في كل أرض مبسوطة وكذا الخصب والحمد لله على بسط نعمه ومنته الوافرة علينا ببركة أهل الفضل من العلماء العاملين والفقراء المحبين بل وجد في ركبنا هذا كل صنف من أصناف أهل الخير وقد رحم الله ركبنا وعم وابل الفضل علينا فغير المزكوم بالعاصي يشم شذا أنوارهم ، وسواطع أسرارهم ، وعطر أحوالهم ، فمن الله علينا بمحبتهم ، إذ من لا خير فيه يتذكر الله برؤيتهم ، وقد قالوا إن علامة الولي إذا رأيته تذكرت الله أقل المراتب أن يقول هذا فمن يخشى الله ويتقيه.
وبعد ذلك ظعنا نحو المرحلتين فكان أول شوال فصلينا العيد بين معطن مقرب والمدار (2) ولما صلينا العيد ظعنا ونحن على المياه السماوية والخضر العشبية والشكر لله تعالى فلما وصلنا للمدار وجدنا ماء السماء أكثر ولم نر من المعاطن بعد التميمي إلا مقرب وأما الطرفاوي وجرجوف والجميمة فقد استغنينا عن جميعها والحمد لله على ذلك وظعنا من المدار ومررنا على العقبة الصغيرة ووجدنا الماء في أطرافها أعني ماء
__________________
(1) في نسختين امقرب.
(2) في الرحلتين العياشية والناصرية المدور.

المطر ونحن كذلك في ماء المطر كثيرا إلى الشمامة وبالجملة ففضل الله علينا عميم وجوده لدينا عظيم جدا وكذا الخصب للدواب قد عم الأرض ومع ذلك أن الأرض خالية من العرب إلا قبل الشمامة بيوم قد وجدنا فيها العرب أعني نجع الخوابص (1) ومعهم نجع آخر قد طلبوا منها النزول للتسوق معهم فأراد بعض من الحجاج مساعدتهم وامتنع الكثير منه وتخلفنا للسقي والشرب من البئر قربهم ثم أتوا إلينا بتمر من تمر سيوي وهو أجود التمر ولم أر مثله في الجودة والحلاوة وحبه كبير ولونه صاف وهو معلوم عند الناس جودته وحلاوته لا سيما وأنهم يجعلونه في أوعية تحفظه بحيث لا يتغير أصلا بل زادت له رطوبة وجودة وهي من الحلفاء على شكل مخصوص من القفف غير أنها طويلة على قدر الاستطاعة وعليها غطاء وأوصاف هذا التمر أشهر من أن تذكر فاشترينا منه مع أصحابنا من طرابلس واشترى بعض أصحابنا من الركب كأخينا الفاضل سيدي أحمد الطيب ما تزود به في الطلعة في الدرب وكذا غيره واشترينا أيضا منهم شيئا من الروز (2) (الأرز) وكذا غيرنا لانقضاء الزاد عن الغالب من الحجاج فرحمنا الله بهم وتفضل علينا بوجودهم وسكنت روعتنا بالاشتراء منهم وكذلك فضل الله على وقده ولما علم من اضطرارهم وغاية احتياجهم فاطمأنت قلوبنا بهم وإلا فمن سرت ما رأينا نجعا إلا هؤلاء قرب الشمامة وهي قرب مصر لأنها خالية بالجور والظلم إذ العرب من قوي منهم يأخذ غيره وتلك سنة فيهم وعادة أجراها الله في أجدادهم ثم سرت إليهم فتمكنوا فيها غير أن الله دمرهم وأخلى منهم أرضهم لقوله صلى الله عليه وسلم لم يكن شيء أسرع بصاحبه كالظلم ولقوله تعالى وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليهم القول فدمرناهم تدميرا وإلا فوطنهم أحسن الأوطان
__________________
(1) في نسخة الجوابص.
(2) في نسخة الرزق.

لاعتدال الهواء فيه وأرضه طيبة المزارع ربوتها أحسن شيء للغرس ونباتها أجمل شيء للضرع فكانت أحسن شيء زرعا وضرعا وكذا خلق أهلها بفتح الخاء أو بضمها أي أوصافهم غير أن الظلم أهلكهم لا سيما حرب الحجاج فإن الله قد انتقم منهم بسببهم حتى تشاءوا بهم واستطاروا من أجلهم ليتسع الطريق وتأمن الوفود ولو لا فضل الله لأنسد الطريق إلى بيت الله الحرام ، وأماكنه الكرام ، فاستمر ذهاب الوفد ، وتمام القصد ، ليصل الإنسان إلى غاية القرب والود ، ولذا أجلاهم الله بجدب الأرض والضد ، جزاء لهم بتمام الحد ، وسعادة لأهل القصد ، ليتم من الله صدق الوعد ، وتزول عنهم موانع الصد ، وليرتاح ذو الشوق من تعب الكد ، فيكون محبا ومجيبا لنداء الفرد ، فيصحو ذو قلق مما أصابه من الوجد ، برؤية الآثار من العد ، ويلتئم بجمع الجمع وذلك حق بالجد ، فالتكاليف والتعاريف تقوى بالمد ، ولأعدائهم تمنعهم الأخذ والصولة فيها لها من ورد ، ولذا تطير العقول والقلوب من قفص الفند ، فيسعد لها أطوارا بالرد ، غير أن نسيم الوصلة يمكنها بعض تمكن في حضرة الود.
هذا وإن المنبعث أقلقه الشوق ، وأزعجه العشق ، فلم ير ما يؤلم في الأماكن الصعبة بمشاهدة آثار المحبوب في الأماكن المرسومة الدالة على الساكن الذي تخيله المصاب فلم يسترح إلا برؤية أثاره فلما أشرف على الرسوم واستحضر وشاهد علو شرفه ، وغريب كنهه ، استفتح باب الملكوت بالملك واستنشق علم الجبروت بسر اللهوت فلم يبق له صحو غير أن منى ، أبقت فيه بعض رؤية المنى ، فتكفه بالمشارع واستمطر العطف في المظاهر وصلى صلاة الجمع في مسجد الفردانية بإمام العرفانية في صلاة العظمة فرفع حجاب الكبرياء بسورة (1) الفرق في عرفة الصمدانية ، فهام
__________________
(1) في نسخة بسوق.

عقله في مزدلفة الوحدانية ، يلتقط درر الكمال ، في سعة (1) مشاهدة (2) الجلال والجمال ، فذلك نسك أهل اليقين باضمحلال ، وهذا كله قد تخيله المحب الصرف في بيت البشر والأطوار ، ودار الشهوات واللذات من غير استبصار ، فصاح صيحة انطوى فيها الليل والنهار ، وأظلم الكون طرا فلم يتعب من الأسفار ، ولا حرج عليه من شدة المفازة في البر والبحار ، إذ رأى أن قلبه ركب مطية الأنوار ، واستعد إلى مشاهدة العزيز الجبار ، واتصل في أسرائه بسدرة الاستقرار (3) ، ما ضل صاحبه وما غوى بالتجلي من النهار ، وما ينطق عن الهوى حال الوصول إليه في عرصات المختار ، فاعتراه وحي الهام الحقائق بأنها لا سواها يخفى باستتار ، فلما غاب في عين الجمع بملاحظة الفرق إليه صار ، إذ بيت الرب فيه فرق بالاعتبار ، علمه شديد القوى أسباب الانتقال من الجوار ، فاستوطن بسعة الشهود بالاعتمار ، فأحال الإحرام عن النظر إلى غيره أصلا بالتعظيم والاستكثار ، وهو بالأفق من الأوصاف العالية ثم دنا فتدلى إلى كعبة القرب والمشاهدة فحيره البغت فذهبت أثار عبوديته ، في كنه ربوبيته ، فمحتها ولم يبق لها أثار ، هذا في قالبه جنون ، وفي قلبه فنون ، فلما حركه لم يسكن إلا بمولاه فلم يرفث برؤية النفس ، ولم يفسق بالاعتماد عليها في مقام الأنس ، وكذا لم يجادل الأعداء ولا أحدا من الخواطر لغيبته عن الحس ، فقد حج قبل سفر الأجباح ، بالتنقل والتنزل في عالم الأرواح ، فحج الأجباح دليل عليه ، ومسبب لديه ، فزاد هذا هو فمنه إليه ، فإن التعلق بأستار الكعبة علامة على التعلق بعين الذات ، وكنه الأسماء والصفات ، وكذا يشير إلى الحضرة ودخول المقام ، برعي الحفظ والذمام ، والسعي بين الصفا والمروة سعي بين صفاء القلوب ، في التخلق (4) بأوصاف المحبوب ، فلم
__________________
(1) كذا في جميع النسخ.
(2) في نسخة مشاهرة.
(3) في نسخة الاستغراق.
(4) في نسخة بالتخلق وفي أخرى بالتحقق.

ينته به السير إلا بالطواف على قدم المحو والمحق للمعدومات الوهمية الوجود ، في سنن العهود ، فمن طاف بحضرة الدنو وبالدرة البيضاء فقد طاف القدوم على قضاء شهوده ، وارتوى برؤية وجوده ، وهي نزهة القدس من شوائب المحدثات ثم صلى ركعتين الطواف في مقام التخلي والتحلي والتجلي (1) ثم شرب من ماء القرب وهو ماء زمزم المتعلق بجمال الذات إذ هو طعام الإيمان ، وشراب العرفان ، فلم يحتج صاحبه إلى طعام الأجباح دائما سرمديا فلما روي وتضلع من ماء زمزم التجلي طاف طواف الوداع لأهل الدنيا بل ودع الكونين ، وصلى على الثقلين ، بأن لا ينظر إليهما ، إلا بنظر الحق إليهما ، وكذا إلى نفسه أخذه محبوبه ومطلوبه منه أي من بشريته إلى روحانيته فإنه إياها صرفا ومحضا ثم رده إلى بيته وهو قفص البشريات ليوافق ويمتثل رب البيت فلم تضره البشريات وإنما هي معنية ومؤيدة للروحانيات ولقد زين سماءها بمصابيح البشريات لأن أنوار الشريعة زينة سماء الحقيقة وجعل نجومها وهي امتثال الأوامر واجتناب النواهي رجوما للشياطين القواطع فأهلكتها وأذابتها فقلب هذا عرش من عروش الحق وقالبه سفينة نوح فما ركب أحد بحره إلا سلم من طوفان الجهل إذ قلبه يجري بموج الواردات كالجبال غير أنهم لا يعتبرون عظمتها وغالبتها اعتمادا على رب السفينة ونادى نوح يا ولد القلب أركب معنا في سفر القلب من الخلق إلى الحق ولا تكن من الجاحدين لهذه الطائفة والمعترضين عليها قال سآوي إلى جبل الأسباب يعصمني من ربها قال لا عاصم اليوم إلا بالاعتماد عليه وحال بينهم الموج من الهلاك فكان من المغرقين في الدعاوي.
هذا وإن من حج بهذا الوصف فقد كان حجه مبرورا بالوصول إليه ، والمنتهى لديه ، فحينئذ من سبقت له العناية لا تضره إن مس بعض الذنوب لزوالها
__________________
(1) من قوله وهي نزهة إلى هنا ساقط في نسخة.

بالاستغفار والتوبة على الفور وربما كان ذنبه دواء له ليرجع إليه ، وينكسر قلبه من أجله ، ويرتقى بسببه إلى حضرة ربه ، فيثمر الذنب بما يثمر خالص الطاعة المقبولة رب معصية أورثتك ذلا واحتقارا ، خير من طاعة أورثتك عزا واستكبارا ، نعم غاية اقترافه الذنب ليعرف قدره ، ولا يتعدى حده وطوره ، فيكون عبدا محبوبا فيا بشراه فينتقل أذن من الموجودات الوهمية إلى الموجود على الإطلاق إذ لا وجود لما سواه غير أن الشريعة لا بد منها لصاحب الصحو الذي ملك الحال أو بقيت منه بقية يتعلق بها حال التكليف وإلا فمن ملكه الحال أو لم يبق فيه إلا والتعريف (1) فقد صاح (2) في أرض المحو ونادى يا حي يا قيوم برحمتك استغيث لأنه دعاء المضطر فالعارف لا يزول اضطراره ، ولا يكون مع غير الله قراره ، فكيف يخاف ما أشركوا به وعند ذلك يقول الذين آمنوا بولاية الله لبعض أهل وده وخواص قربه ولم يلبسوا إيمانهم بظلم وهو النظر إلى سواه والاستحسان ما منه إلى الله من الأعمال التي بها حلاه ولكن أكثرهم يجهلون هذه المعارف نعم وجود مثل هذه في وفد الله أمام لهم إذ هو كعبة الزوار ، يقصده الظمآن لمحو الآثار ، ورحمة وجوده لديهم فهم مقبولون لوجهه ومحترمون لأجله فيا لها من سعادة لمن كان معه وقد حصل نتائج الحج قبل وصوله ، واجتنى ثمرته قبل حصوله ، فكان حجه كالنقل فلا يزال يقترب به حتى يكون له نفسه لأن المناسك في إخلاص المسالك ، والسلامة من المعاطب والمهالك ، فيرحم به الضعفاء ممن (3) هنالك ، ويقبل من بعد بالمعاصي والذنوب والموبقات لوجهه بذلك فيسعى لهم لا له فيكون عبدا خلقه الله لمصالح الخلق وهو عين من عيون الحق يستسقي (4) به فهؤلاء كل أحد منهم قد نجا وتخلص بجاهه.
__________________
(1) في نسخة التصريف.
(2) في ثلاث نسخ صحصح.
(3) في ثلاث نسخ من ما.
(4) في نسخة يستقضي.

ولقد علمت أن ركبنا لم يخب من هؤلاء الأفاضل إذ سرهم باق ليس بزائل فلم نعدم السباق (1) ولا تخلفنا عن تلك الرفاق ، هذا وإن الواجد يزيد المحو له من (2) الخطاب الاشتياق ، إن مع العسر يسر برؤية الحبيب من الخلاق ، صلى الله عليه وسلم الراكب البراق ، فقد رحم الله جميعنا بحسن الاتفاق.
انعطاف إلى ما كنا بصدده فلما ظعنا من قرب الجميمة نزلنا معطن الشمامة أي غربيها وهو أقبح المعاطن ماء إلا بئر واحدة على شاطئ البحر من جهة المشرق وهي أطرافها من تلك الجهة وأما باقيها فغير طيب وهو ماء جرف (3) أي مر غير أن الناس اضطروا (4) إليه لعدم ماء السماء هناك وكذا ماء طيب في غير ذلك المحل.
تتمة عدد الأيام من سيدي أحمد زروق على الاحتياط إلى مصر بحسب مشينا الجزائري لا الفاسي فانه أسرع في المشي لتأخره فمن سيدي أحمد زروق إلى الزعفران خمسة أيام ومنه إلى النعيم يومان ومنه إلى المنعم خمسة أيام أو صبحة السادس ومنه إلى اجدابية ثلاثة أيام غير أن الثالث وصلناه عند الظهر ومنه إلى سلوك يومان مع عشية الثالث ومنه إلى التميمي سبعة أيام ومنه إلى مقرب خمسة أيام مع صبيحة السادس ومنه إلى المدار أربعة أيام أو خمسة ومنه إلى الشمامة أربعة أيام ومنها إلى وادي الرهبان ثلاثة أيام ومنه إلى أرياف مصر أعني كرداسة أو المنصورة إذ نزلنا كفر حمام (5) يومان ومنه إلى المنشية على شاطئ وادي النيل ثم إلى بولاق وهذا ليس بمشي والناس إنما يقطعون إلى مصر في الزوارق أي المراكب فكل من يأتي من جهة المغرب من
__________________
(1) في نسخة السائق أو السابق.
(2) في نسخة الوجود يزيد المجرب.
(3) كذا في ثلاث نسخ وفي نسخة صرف.
(4) في نسخة اظهروا.
(5) في ثلاث نسخ كاف احمام.

الحيوانات العاقلة والبهائم لا يقطع إلا فيها بالكراء وأما صفة الماء في برقة فماء الزعفران أطيب وأحلى وكذا ماء النعيم وكذا ماء الأحمر وكذا ماء المنعم وأما ماء اجدابية فبين بين غير أنه إلى الحلاوة أقرب وكذا ماء سلوك وماء التميمي فيميل إلى الملوحة وأما ماء الطرفاوي فطيب وكذا ماء جرجوب دونه ودون ماء مقرب وماء المدار طيب ليس جدا وماء الجميمة دونه وأقبح المياه ماء الشمامة إلا البئر الذي أشرت إليه قبل فأحسن بالنسبة إليها.
ثم ظعنا من الشمامة إلى وادي الرهبان وهو واد عظيم طويل وفيه قصور للعباد من النصارى ينعزلون هناك لعبادة الأصنام يخرجون من مصر إليه وإن مصر فيها طوائف من النصارى يعطون الجزية للسلطان.
وبالجملة فبرقة متسعة ومعه اتساعها فيها من العافية ما لا يظنه الإنسان لأن وفد الحجاج يذهب متفرقا ومنقطعا بعضه عن بعض غير انه لا يصيبه شيء بخلاف عرب الحجاز فمن تأخر من الحجاج أخذ وسلب أو مات ولو لا ما أنعم الله على الحجاج من أجلاء (1) أهل برقة لأنسد الطريق وأنقطع رأسا.
ولذا قال شيخنا سيدي أحمد بن ناصر ما نصه ولو لا فضل الله على الحجاج ورحمته بهم بالانتقام ممن رامهم لتعطلت طريق الحج منذ أزمان خصوصا حجاج المغاربة لضعفهم وقلتهم وبعد الشقة عليهم فكم من قصر ومصر إقليم يقطعونه بلا عسكر ولا عدد ولا عدد (2) ولكن
وقاية الله أغنت عن مضاعفة
 

من الدروع وعن عال من الاطم
 
__________________
(1) في نسخة أجل.
(2) في الرحلة الناصرية بإسقاط ولا عدد.

أي العالي المرتفع من الحصون نسأل الله تبارك وتعالى بجوده وإحسانه العميم ، وبركة نبيه الكريم ، أن يحمي وفد بيته بما به قد حمى نبيه العظيم ، وينصر زواره بما نصر به رسوله وان لا يقطع الطريق بيننا وبين تلك الأماكن المشرفة والبقاع المطهرة فما دمنا في كل سنة طائفة ممن قدم من تلك المعاهد ، وورد من تلك الموارد ، وتشرف برؤية البيت العتيق والمسجد الحرام ، ووقف بالمشاعر ونسك المناسك العظام ، وصلى بين قبره ومنبره صلى الله عليه وسلم وزار محله الشريف ومحل أصحابه الأعلام ، فلا نشك أن مدد ذلك يسري في أدياننا وبلادنا وأبداننا ، وسائر متعلقاتنا ، ولو انقطعت رؤيتهم نعوذ بالله
من ذلك لاختل النظام ، وانقطع الخير بين الأنام ، اه نسأل الله تعالى الكرة إليها بعد الكرة أي الرجوع إليها والمرة بعد المرة آمين.
ووادي الرهبان واد كبير ذو رمل وفيه شجر النخل (1) وماؤه كثير وبه من أنواع الوحش والبقر والنعام (2) والظباء والمها وغير ذلك من أنواع الصيد وإنما أضيف هذا الوادي للرهبان لأن به رهبان النصارى يتعبدون فيه ديور كل طائفة في دير ولا يدخل إليهم أحد من غير جنسهم وليس لهم زرع ولا ضرع وأهل الذمة من النصارى الذين بمصر يعاملونهم ويبعثون إليهم بالنذور والصدقات من الطعام والكسوة ومن هناك تمر الطريق من مصر إلى أوجلة إلى أن قال واشترى الحجاج ما أرادوه من أنواع الطعام الريفية وتنعموا وزال ما بهم من العياء وألقت إليهم المسرة مقاليدها أي أمروها كيف لا ونحن على ساحل النيل الذي هو أشرف الأنهار الأربعة الخارجة من الجنة وآثار بركته ظاهرة بالعيان في مائه وترابه وقراه ومدائنه بحيث لا يوجد بلد أوسع مزارع وأكثر خصبا مع اتصال العمارة نحو الشهر من هذه إلا أنها لها مزيد اختصاص بمضاعفة الوظائف الجورية على الرعية بحيث تملك
__________________
(1) في الرحلة الناصرية فسلان نخل.
(2) في الرحلة الناصرية النعم.

رقابهم فضلا عن أموالهم ولا يجدون عن ذلك محيصا بمنعة أو فرار حتى لو أن أحدهم أراد أن يتخلى عن السبب ويترك المزارعة والفلاحة لم يتركوه ولو فر لا تبعوه حتى يأتوا به أينما كان.
قال الإمام العياشي في رحلته حتى استفاض عند العمال الفسقة أن ثلاثة لا تقبل فيهم شفاعة شافع فيعدون منهم من يريد أن يتخلى عن الزراعة والفلاحة قاتلهم الله أنى يؤفكون لا هم ينصفونهم فيخففوا عنهم من المظالم ولا هم يتركونهم يذهبون حيث شاءوا يسبحون في الأرض يرزقون كم ترزق الطير الالتقاط من نبات الأرض وخشاشها فتغدو خماصا وتروح بطانا اتخذوا مال الله دولا وعباد الله خولا والله من ورائهم محيط ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وقد ذكر ابن خلدون (1) أن مصر لا بد أن تشتمل على طائفتين إحداهما في غابة العتو والاستكبار والأخرى في غاية الذل والاستحقار (2) وقد صدقوا لقد كان بها فرعون وملاؤه فلم ينته دون أن قال أنا ربكم الأعلى وبنو إسرائيل إذ ذاك مستضعفون في الأرض يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم أي تركهن من غير قتل ثم لم تزل كذلك وأنها في زماننا بل قبله بأزمان لعلى ذلك الوصف فباشاتها وسناجقها وولاتها وحكامها بل وسائر جندها وعسكرها فيما يظهر لنا ليس فيها إلا من أعماه حب الدنيا وأصمه وختم على سمعه وقلبه لا يرحمون ضعيفا ولا يوقرون كبيرا أينما تبدو لهم صبابة من الدنيا وثبوا عليها إن كان صاحبها حيا تسببوا له بأدنى سبب حتى يأخذوا ماله أما مع رقبته أو بدونها إن كان في العمر فسحة وإن كان ميتا ورثوه دون بنيه وبناته وأما رعيتها وفلاحتها فلا تسأل عما يلاقون من الجند من الظلم وما
__________________
(1) كذا في الرحلة الناصرية وجميع النسخ وفي الرحلة العياشية ذكر المؤرخون.
(2) في غير الرحلة العياشية الاحتقار.

هم فيه من الإهانة والاحتقار تضرب ظهورهم وتؤخذ أموالهم ولا مشتكي لهم إلا لله ومن تجاسر منهم اشتكى ضوعف عليه العذاب الأليم.
قلت ولعل لأجل هذه الدقيقة يكثر فيهم الصالحون لأن نفوسهم ميتة قد تربوا على الذل والاحتقار وزالت الرياسة وحبها من قلوبهم بل لم تسكنها قط فإذا وفق أحدهم لعمل الطاعة والتفت أدنى التفات لإصلاح حاله لم يبق مانع بينه وبين ذلك لأن أكبر الموانع وأعظم الآفات حب الرياسة ومن جال في أرياف مصر واستخبر أهلها علم صحة ما ذكرنا ومن لم يجل فليطالع الأخبار في الكتب المؤلفة في ذلك كطبقات سيدي عبد الوهاب الشعراني رحمه الله وغيرها يرى مصداق ذلك وأخبار مصر وظلم الولاة بها وغش الباعة وحيل المتسببين ومكر العاملين أعظم من أن تحصى ولا غرض في تتبع ذلك ومن أراده فيسأل من وردها يخبره ببعض البعض من ذلك.
وبالجملة فمصر أم البلاد شرقا وغربا لا تستغرب شيئا ما يحكى عنها من خير أو شر ومصداق ذلك ما حدثني به بعض أصحابنا من التجار في سنة أربع وستين قال لما دخلنا مصر في حدود الخمسين سكنت في بعض الوكائل وكان من قدر الله أن اجتمعنا في محل واحد جماعة منا فلان وفلان تجار وفلان طالب علم وفلان ممن يميل إلى طريق الفقر وفلان وفلان من أهل الجنون وأهل المجون المسرفين على أنفسهم المطيعين لهواهم ذكر كلا بأسمائهم قال فإذا أصبحنا تفرقنا كل واحد يغدو لحاجته فإذا جن الليل جمعنا المنزل فنتحدث بما رأينا فيقول التاجر ما رأينا مثل هذا البلد في التجارة فأهله كلهم تجار ويحكي من حكاية ذلك ما شاهد ويقول الفقيه مثل ذلك والفقير مثل ذلك وذو المجون مثل ذلك وما ذلك إلا لكثرة الناس فيها فمن طلب جنسا وجد منه فوق ما يظن فيظن أن غالب أهل البلد كذلك.

وبالجملة فأهلها لهم عقول راجحة وذكاء زائد فمن استعملها في الخير فاق فيه غيره ومن استعملها في الشر فكذلك.
وقد ذكر ابن خلدون في كتابه منتهى العبر أن بعض ملوك المغرب سأل بعض العلماء ممن حج عن مصر فقال له أقول لك فيها قولا واختصر من المعلوم أن دائرة الخيال أوسع من دائرة الحس فغالب ما يتخيله الإنسان قبل رؤيته إذا رآه وجده دون ما يتخيل ومصر بخلاف ذلك كلما تخيلت فيها فإذا دخلتها وجدتها أكثر من ذلك.
وسئل آخر عنها فقال كأن الناس فيها قد حشروا إلى المحشر لا ترى أحدا يسأل عن أحد ساع فيما يرى فيه خلاص نفسه.
وقد أخبرني شيخنا سيدي أبو مهدي عيسى الثعالبي أيام كنت أتردد معه إلى مجلس شيخنا شهاب الدين الخفاجي فقال لي من لدن دخلت هذه المدينة ما رأيت أحدا يمشي في أزقتها وأسواقها على مهل وسكينة وتؤدة بل كل من تلقاه تراه مشمرا جادا في سيره إن كان راكبا فراكبا وإن كان ماشيا فكذلك فتأملت ما ذكر لي فوجدت صادقا وسبب ذلك والله اعلم أمران.
أحدهما الرغبة والحرص المستكن في القلب فيحمل الإنسان على أن لا يفوته شيء من أغراضه وهو يظن أنه لو توانى في مشيه لفاته غرض مع كثرة الأغراض وتزاحم الأشغال.
والآخر كثرة الزحام في الأسواق فكل سوق دخلته تقول هذا أكثرها زحاما فإذا خرجت منه إلى الآخر وجدته مثله أو أشد وقد شاهدنا الناس في بعض الأسواق تارة يقفون هنيئة لا يقدر أحد على أن يتحرك يمينا ولا شمالا من غير أن يكون هناك حاصر لهم من أمام إلا الزحام وربما رفع بعضهم صوته بالتكبير فيكبرون حتى يظهر

لهم بعض تحرك فيندفعون مثل السيل إذا اجتمع في مكان ضيق فيدفع بعضه بعضا حتى ينفجر من جهة فسبحان خالقهم ورازقهم وعالم نياتهم وضمائرهم يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون لا إله إلا هو رب العرش العظيم رب السماوات والأرض وما بينهما العزيز الحكيم.
وأخبار مصر وما فيها من العجائب وجميع ما يحتاج إليه من أحوالهم مستوفى في كتب تواريخها فلا نطيل بكثير منه.
قال وأحسن كتاب جامع في ذلك مع الاختصار كتاب حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة للجلال السيوطي فانه مفيد جدا ومن أجاد مطالعته لم يفته من أخبارها إلا المعاينة أو أشياء قليلة من العوارض المشخصات اه ـ كلامه إلى أن قال وقد تعرض لنا الفلاحون خارج البلد وتلك عادتهم عند قدوم الركب كلما قدم يتعرضونه ويتخذون الأصحاب ليودعوا عندهم الإبل ويتركوها عندهم أمد الإقامة طلوعا ورجوعا وهم كما قيل «الحرص على الأمانة ، دليل على الخيانة» فلا ترى أعجب من تلطفهم وليس خطابهم عند نصب شبكة الخداع للمغتر من الحجاج فيحلفون بالأيمان المغلظة على أداء الأمانة وبذل المجهود في النصيحة حتى يركن إلى قولهم ولو من جربهم مرارا ثم عند المفاصلة فلما ينفصل معهم أحد بطيب نفس.
قال أبو سالم ومن أمثال الحجاج المال المودع بع واستنفع فالعاقل من باع ما فضل عنه من أبله أو ضاع ومتى احتاج اشترى ولكن رزق يسوقه الله العباد أي الفلاحين من قديم الزمان لا مطمع لأحد في قطعه ففي كل مرة نقول متى رجعنا لا نودع عند أحد فإذا عدنا استنزلونا بخلب بارق من وعدهم الكاذب حتى نفع في حبائلهم ونتورط في مخالبهم التي يعسر الخروج منها بدين سالم وعرض مصون إلى أن قال أبو سالم بعد ما تقدم.

لطيفة وعظية والشيء بالشيء يذكر ذكر الشعراني رحمه الله في طبقاته عن بعض الصالحين ممن يسكن في بعض قرى مصر انه كثرت أذاية أهل القرية التي هو بها له فعزم على الخروج منها فاكترى جمالا لحمل أمتعة فأتي بجمل فجعل يلقي عليه كل ما كان من الأمتعة فلما أكثر عليه قال له الشيخ أنك قد ثقلت على هذا الجمل فقال له صبي هناك يا عم إن الجمل يحمل أكثر من هذا فتفكر في نفسه وقال هذا خطاب من الحق لي فإذا كان الجمل وهو من الحيوانات العجم لا يعقل ولا يرجو ثوابا يحمل أكثر من هذا فكيف لا أتحمل أكثر من هذا من إذابة الخلق فحط أمتعته ورجع فسمع منشدا
أن الجمال التي بالحمل قد عرفت
 

تأبى العياء ولو مست من القتب
 
فأكد ذلك عنده لما فهمه اه ـ إلى أن قال وقد ذكر شيخنا أبو سالم عن بعضهم أن الوباء قد وقع مرة بمصر وكثر الموت حتى كان يدفن في اليوم الواحد أربعون ألفها فهمّ الباشا وأتباعه بالخروج من مصر والفرار لما شاهد من كثرة الموت فلما فشا خبر أرادته الخروج طلع إليه رجل مسن من أهل التجربة والرأي فقال له بلغني أنك تريد الخروج فما الذي يخرجك قال هذا الموت الذريع الذي وقع في الناس فقال وأي موت هنا أبعث شيوخ الحومات بمصر لك كم من حومة بمصر فبعث إليهم فعدوا الحومات فوجدوها أربعين ألفا فقال له ذلك الشيخ ألم أقل لك أي موت هنا إنما هذا ميت من كل حومة فهو أما عبد أو صبي أو امرأة فلما سمع الباشا ذلك خف عليه الأمر فجلس اه ـ.
وممن أخذ عنه سيدي أحمد بن ناصر في مصر وقد أخذ عن كثير من الأشياخ إلا أن إمام الجميع وهو أبو الحسن علي الزعتري إلى أن قال فيه ما نصه ومما أفادنيه وأنشدنيه :


إذا ما مضى القرن الذي أنت منهم
 

وخلفت في قوم فأنت غريب
 
وأنشدنا أيضا لغزا في الخمر إذا استحال خلا :
وما شيء إذا فسدا
 

تحول غيه رشدا
 
وإن هو راق وصفا (1)
 

أثار الشر حيث بدا
 
وأنشدنا أيضا في نيل مصر :
كأن النيل ذو عقل وفهم
 

وذو علم بما يرجون منه
 
فيأتي عند حاجتهم إليه
 

ويذهب ين يستغنون عنه
 
وأملى علينا في ذم الدخان وأهله وهو في مجلس أقرانه :
دخان داء لا دوا
 

من شربه قلبي انكوى
 
وهد حبلي والقوى
 

فقلت من عظم الجوا
 
بيوت شعر مفردة
 

وأنفس من أجلها (2)
 
مقطوعة من أصلها (3)
 

بعشبة لأهلها
 
مشغولة لأجلها (4)
 

جاءت كنار موصدة
 
مشعلة (5) لدائهم
 

تجول في أمعائهم
 
مضرة لبائهم
 

تأتي إلى أفواههم
 
__________________
(1) كذا في جميع النسخ وفي الرحلة الناصرية لاق وصفا.
(2) في نسخة وصلها.
(3) في نسخة أصلها.
(4) في الرحلة الناصرية مشغلة لأهلها.
(5) في الرحلة الناصرية مشعولة.


فجاءه إنسان فكلمه بلغتهم فقلت في نفسي أن فرغ هذا من كلامه أكلمه بما في نفسي فلما فرغ المتكلم وأردت أن أتكلم بادرني الشيخ رضي الله عنه بقوله ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها فسكت ولم أزد شيئا نقول ايش.
ونظير هذه الحكاية ما حدثني به الشيخ محمد أخو الشيخ مصطفى أنه حج مع الشيخ وكانت خيمته بإزاء خيمة الشيخ فقام ليلة متهجدا وقد هدنت الأصوات ونامت العيون قال فقلت في نفسي متعجبا من تهجدي وأنه لم يجارني أحد هذه الليلة أو كلاما هذا معناه قال ولم استتم الخاطر إلى أن سمعت الشيخ يقول وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا قال فخجلت واستحييت وتداخلت فضربت أخماسي في أسداسي أي صرفت الحواس الخمس في الجهات الست أفكر في أمري معاتبا لأنفاسي.
قلت ومثل هذا وأرفع من كرامات الشيخ لا يعد ولا يحصى ، ولا يحفظ ولا يستقصى ، فلو تعرضنا لأدنى شيء منه لأملينا أسفارا ، ولاستغرقنا دهورا وأعصارا ، نسأله تعالى أن ينفعنا به ، وأن يجعلنا من حزبه ، وإنما ذكرنا هاتين إيذانا بمنقبة هذين السيدين إذ الكرامات لا يراها إلا من أهّل لها وصار من أهلها.
وكنا ذات يوم جلسنا معه في مجلس أقرائه وقال لنا كم هذا في غشت فقلنا له خرج وانصرم وهذا أول شتنبر وقال هذا لا يصح فقلنا له صحيح فأخذ بيده جداول التاريخ فاختبره فوجد كلامنا صحيحا فقال سبحان الله غلطتموني في جمعة وحكى لنا قصة فقال كان الإمام السبكي في زمانه يسكن بولاق وله منزل على شاطئ البحر يجلس فيه وفيه كتبه وكان السبط المارديني يأتيه وهو رحمه الله رجل مغفل ويجلسه الشيخ في مجلسه ويتحدث معه ويتذاكر ثم بعد ذلك ينصرف الشيخ يبيت بمنزله ويتركه هو يبيت هنالك فكلم الشيخ رحمه الله يوما نوتيا معه سفينة

حيدة سريعة السير وفيها كثرة المقاذيف وقال له كيف تصنع وتتحيل على هذا السيد إذا نام تأخذه برفق وتضعه في السفينة وتقذف به بسرعة حتى تصبح به في دمياط فإذا بلغت دمياطا خذه برفق وضعه في مكان معلوم عينة له واتركه هناك أسبوعا ثم أفعل به ما فعلت أولا وتصبح به في مكانه هذا ففعل النوتي ذلك وأصبح به في دمياط وجلس يقرأ فيه السيد أسبوعا وكان ذلك ليلة الأحد فلما كان ليلة الأحد الأخرى فعل به مثل ما فعل به أولا فأصبح به في بولاق في المكان الذي أخذه منه أولا وجاءه الشيخ السبكي صباحا على عادته وسلم عليه وقال له المارديني أنا أتيت من دمياط فقال له السبكي متى جئت من دمياط ألم تكن هنا ليلة الأحد وهذا يوم الأحد فقال له المارديني بل أتيت دمياطا وقرأ علي فلان وفلا وجعل يعد له من قرأ عليه وغلطه السبكي في جمعة وهذا مراده حتى فعل به ذلك رضي الله عنهم أجمعين وأنشدنا أيضا رضي الله عنه :
أرى الإحسان عند الحر دينا
 

وعند النزل منقصة وذما
 
كقطر الماء في الأصداف درا
 

وفي جوف الأفاعي صار سما
 
أشار بهذين البيتين إلى ما ذكره أهل الهيئة من أن ماء النيسان ينعقد جواره في بطن الأصداف ويصير سما في بطن الحيات.
أعجوبة ذكر صاحب الفلاحة النبطية أن بالمشرق جبلا عاتيا ذا مدارج لا يستطاع الصعود إليه فإذا كانت أيام النيسان أتت الرفاق من أقصى البلاد وتنزل حواليه لتصغي لأصوات طيور تظهر في تلك المدارج ولها ريش كريش الطاوس ومناقير حمر وصفر في غلظ شبر وطول ذراع وفي تلك المناقير أبخاش متعددة فتستقبل الريح وتفتح مناقيرها شهرا كاملا حتى تمتلئ حواصلها ريحا ثم يأخذ في انعكاس مناقيرها فيخرج الريح على أصوات عجيبة ونغمات مطربة حتى أن رقيق

النفس يموت طربا من السماع فإذا تم شهر استفرغ الريح وزعقت زعقة عظيمة واشتعلت نارا وتبقى رمادا في مواضعها إلى قابل فإذا نزل ماء النيسان خلقت منه فأحييت به وفي أيام نزوله تكثر الضفادع في البر فإذا ماتت بقيت فرائسها إلى قابل فتحيى حين نزوله بتقدير العزيز العليم.
وحكي أن فرعون لعنه الله كان يفتن الناس بها فيعد تراب فرائسها فيحفظه عنده ويعد مطر النيسان في قوارير ويقيم عليها وكيلا وإذا أراد فتنة أحد أمر قيم التراب فيأتيه بقبضة منه ويأمر الآخر فيأتيه بشيء من مائه فيجعله في يده ويضمها عليه مدة حتى يحس بتكوينه ضفدعا فيفتح يده فإذا بها ضفدع تثب فيدعي أنه خلفها عليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. وأنشدنا أيضا رحمه الله أبياتا مطلعها.
لعمرك أن أخذت إخاء قوم
 

فلا تعجل بتوكيد الوداد
 
فإن الغدر في النسمات طبع
 

تعوده الورى من قبل عاد
 
وصاحب من صحبت بحرص عزم
 

ولا تودعه أسرار الفؤاد
 
فبعض الناس ظاهره بياض
 

وباطنه أخال من السواد
 
ولا تحقر عدوك لو تراه
 

أقل إذا نظرت من القراد
 
وكن حذرا ولا تركن لخل
 

وعد (1) الناس كلهم أعادي
 
وكن كالغيث في أرض بخصب
 

وفي أرض عذاب للعباد
 
وكن كالغصن ينبت فوق صخر
 

وكن كالماء يجري من جماد
 
وكن كالسيف حد المتن عضبا
 

وفي الاغماد يرفع بالنجاد
 
فكم صاحبت قبلك من أناس
 

فخانوني وخاب بهم مرادي
 
وخلان حسبتهم دروعا
 

فكانوها ولكن للأعادي
 
__________________
(1) في نسخة وظن.


وخلتهم سهاما نافذات
 

فكانوها ولكن في فؤادي
 
وقالوا قد صفت منا قلوب
 

لقد صدقوا ولكن من وداد
 
وقالوا قد سعينا كل مسعى
 

فقلت نعم ولكن في فساد
 
وأنشدنا أيضا رضي الله عنه
أرزاقنا شتى ونحن طيورها
 

نلقطها من جانب بعد جانب (1)
 
ثم قال لما خلق الله الأرزاق سلط عليها الريح ففرقتها في الدنيا فكل واحد يجعله الله حيث رزقه.
قلت مراده والله أعلم أن أرزاق العباد فرقتها القدرة الإلهية في البلاد وأظهر ذلك بالمثال بتفريق الرياح ومنه قوله :
وأرزاق لنا متفرقات
 

فمن لم تأته منا أتاها
 
مشيناها خطى كتبت علينا
 

ومن كتبت عليه خطى مشاها
 
ومن كتبت منيته بأرض
 

فليس يموت بأرض سواها
 
وعنه أيضا حكمة إلهية بنت الحكماء عليها قاعدة تقررت لديهم واطردت وذلك أن الشمس كلما كانت مسامتة للرءوس اشتدت حرارتها على وجه الأرض وكلما مالت إلى الجنوب خمد حرها ومن ثم تجد المياه غالبا تبرد في الصيف لبعد الشمس عن باطن الأرض وتسخن في الشتاء لقربها من باطنها ويعتدل حرها فيما بين انتهاء مسامتتها وميلها وذلك في الربيع والخريف ذلك تقدير العزيز العليم.
وذكر أيضا أن غاية نصف قوس النهار في بلدنا مائة وسبع وأن الساعة المستوية
__________________
(1) كذا في جميع النسخ.

خمس عشرة درجة دائما والزمانية هي نصف سدس قوس النهار فيقسم النهار على اثني عشر جزءا يخرج مقدار الساعة الزمانية.
وأخبرني أنه ولد عام خمسة وثلاثين وألف (1035) رضي الله عنه ولقد سألته يوما عن علم النصبة هل لك معرفة به فقال نعم ولكن لم استعمله إلا مرة واحدة ولد لي ولد في أول شبابي ونظرت فيه فخرج لي أنه يموت بعد ثلاث سنين فأخبرت شيخي القيلوبي بذلك فزجرني ولما مضى ذلك القدر توفي.
قلت والإمام القيلوبي هذا هو أبو العباس أحمد بن أحمد بن سلامة المصري القيلوبي الشافعي الإمام العالم العامل الفقيه المحدث أحد رؤساء العلماء المجمع على نباهته وجلالته وعلو شأنه جامعا للعلوم الشرعية متضلعا من العلوم العقلية وأما معرفته بالحساب والمقيات والرمل فأشهر من أن تذكر وإمامته في الأوفاق الحرفية وغير ذلك من الفنون فذلك أمر مشهور وكان في الطب ماهرا خبيرا ومحبا للفقراء ولا يتردد إلى الكبراء ولا يقبل من أحد صدقة بل يرى متصدقا وكان متقشفا ملازم الطاعات مهابا لا يتكلم أحد بين يديه إلا مطرقا وله تآليفه عديدة وتقاييد مفيدة توفي أواخر شوال سنة تسع وستين وألف (1069).
وأما الشيخ موسى المصري القيلوبي فهو من أيمة المالكية المشهورين بحسن السيرة وطيب السريرة شهير صيته بين علماء الأزهر وأرباب الدولة وهو من أجل تلامذة الأجهوري أبي السن المتصدرين للأقراء والفتيا في حياته وله خبرة تامة بفروع المذهب ومشاركة حسنة في غيرها من العلوم وانفرد بالاختصاص بالكشف عن علم الأوفاق وأسرار الأسماء والحروف بحيث لا يشارك في ذلك وله أخذ وسلوك في طريق القوم على منهج صاحب كتاب الجواهر وقد تلقى وأخذ طريق الأسماء الخلوتية عن الشيخ محمد بن علي الشبراملسي عن الشيخ محمد الخافي عن

الشيخ صبغة عن وجيه الدين العولي عن الشيخ محمد الغوث صاحب كتاب الجواهر وأسماء الخلوة مشهورة عند أهل مصر وهي أربعة عشر.
وذكر شيخنا العياشي أن بيد هذا الشيخ أثر جراحات كادت أن تتلف يده وأخبرنا أن سبب ذلك أن الشيخ أبا الحسن الأجهوري جاءه بعض طلبة المغاربة يستفتيه في طلاق وقع بينه وبين زوجته فرام أن يترخص له في ارتجاعها فأبى الشيخ رضي الله عنه من ذلك فاحتقدها عليه المغربي وأسرها خفية سوء في نفسه فلما كان ذات يوم جاء مشتملا على خنجر والشيخ يدرس في المجلس فلم يشعر به حتى ضربه بخنجره فترامى عليه من حضر من الطلبة يقونه بأنفسهم فخرج جملة منهم ووقى الله الشيخ من كيده وجرح في رأسه جرحا كان السبب في ذهاب عينه وكان الشيخ موسى من جملة من جرح فقبض على ذلك المغربي وضر ضربا شديدا فأراد الولاة قتله فمنعهم الشيخ من قتله ثم قتله الله بعد مدة بأثر ما حصر له من الضرب في المجلس وبعد ذلك ما كان الشيخ يترك أحدا من المغاربة يدخل عليه إلا إن كان معه أحد من أصحابه ممن يعرفه.
قال ولم يزل شياطين الأنس والجن يضمرون العداوة والسوء لأهل العلم وينصر الله أولياءه عليهم بمقتضى صادق وعده وكان حقا علينا نصر المؤمنين وينجيهم من كيدهم ويحميهم من شرهم بحماية ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا كذلك حقا علينا ننجي المؤمنين.
قال وحضرت درسه وكان يقرئ في الجامع الصغير للسيوطي بباب رواق الحنفية ومن جملة ما قرر في حديث إيما عبد أبق من سيده فمات إلى قوله ولو مات شهيدا أن العبد إذا أبق من سيده ومات في قتال الكفار كان شهيدا من جهة قتله وعاصيا من جهة أباقة ثم قال كمن شرب الخمر فغصته فمات فهو شهيد لغصته

عاص لشربه الخمر اه ـ كلامه وهذا الأخير عندي غير مقبول لأن الشهادة رتبة شريفة وهي من الرخص التي ترخص الله بها لعباده المؤمنين فأكرمهم بها زيادة في ثوابهم على ما حملوا أنفسهم من المشقة المتلفة لأنفسهم في مرضاته والعاصي في فعله لا يترخص له ولا سعي له في مرضاة ربه حتى يرضيه بالشهادة نعم إذا كانت المعصية بغير ما وقع به القتل كالأباق أو من زنى أو من سرق في سفره فهذا قد يقال فيه شهيد من جهة عاص من جهة لأن الجهة منفكة فجهة قتله غير جهة عصيانه وأما إذا كان سبب القتل في نفسه معصية كشرب خمر فيغص بها أو تمكين امرأة من الزنى بها فيموت فيبعد أن تحصل لهذا رتبة الشهادة أليس الغريق والحريق وذو الهدم والمبطون وغير هؤلاء كلهم قد ورد أنهم شهداء فلو أن أحدهم رمى بنفسه عمدا في البحر فغرق أو في النار فاحترق أو تناول سما أو دواء معلوما فمات لا يقال فيه شهيد اتفاق وكذلك هذا تناول معصية كانت سبب حتفه أنّى له الشهادة اللهم إلا أن يكون المحترق مثلا ممن قام لنار يريد إطفاءها ولا يعلم أنها تحرقه فغلب حتى احترق أو أراد إنقاذ غريق وهو يظن من نفسه القدرة على ذلك فغلب فغرق أو غير ذلك من الوجوه التي يكون فيها أصل الفعل الذي وقع به القتل مباحا فهذا شهيد بلا كلام وشارب الخمر أن لم يقصد به إتلاف نفسه فهو معصية وحدها وما ترتب عليه من القتل معصية أخرى سببها معصية وإن لم يكن القتل مقصودا فإن المعصية لا يتوقف كونها معصية على القصد إليها ونيته إنها معصية فإن الطاعة هي التي تتوقف على النية دون المعصية فيؤاخذ بها عاجلا ويعاقب آجلا نواها أم لا ألا ترى أن من تعمد ضرب إنسان ولم يرد قتله ولا قصده فمات منه فإنه آثم آجلا ويقتص منه عاجلا لأن السبب الذي نشأت عنه المعصية معصية كشرب الخمر في مسألتنا فهو معصية ونشأت عنه معصية أخرى وهي قتل نفسه إلا أنها ليست مقصودة له فلا ينفعه عدم القصد ولا يدرأ عنه الآثم ولو سلما أن آثم القتل مندفع عنه لكونه غير مقصود له

فمن أين له الشهادة التي هي أشرف مقام خص الله بها من جاهد في سبيله ثم من صبر لضر أنزله به مولاه حتى لقي ربه وهو راض عنه نعم إن لم يمت هذا المغصوص بأثر الغص وطالت حياته حتى تاب من فعله توبة صادقة ثم مات بأثرها من تلك الغصة لا يبعد أن يقال هو شهيد بغصته ولو قيل أنه مرتكب في المعصية بعد توبته لبقاء أثر ما سبب فيه كما قال إمام الحرمين في الخارج من المغصوص تائبا لما بعد ذلك والصحيح صحة توبة هذا المغصوص إن لم يمت بأثرها كتوبة الخارج من المغصوب. اه – فليتأمل قلت ما ذكره من النظر فيه نظر عندي إذ لا فرق بين الأبق الذي مات في قتال الكفار وبين من غص بشربة خمر إذ كلاهما عاصيان بسببهما لأن الأبق نفس سفره معصية وهو السبب في موته وكذا شرب الخمر فانه السبب أيضا فإن سلم الأول أنه يثاب من جهة القتل ويعاقب من جهة الأباق لزمه أن يسلم الثاني أيضا لأنه يثاب من جهة الموت لكونه شرق بشربة فمات فهو شهيد لظاهر ما ورد فيه لأنه لا فرق فيما غص فيه انه مأذون فيه أم لا فيشمل المحرم لأن الشهادة حاصلة بالإشراق فمن غير اعتبار لما حصلت به فيعاقب من جهة ويثاب من جهة.
فإن قلت الأباق ليس سببا مباشرا للموت لأن الموت إنما حصل بقتال الكفار مباشرة والأباق سبب السبب الذي هو حصول القتل من الكفار فافترقا فلم يكن حينئذ الغص مثل الأباق لما علمت من كون الغص مباشرا في الموت بخلاف الأباق.
قلت لا فرق بينهما عند التأمل لأن سفر الأباق معصية وحصول الموت له نشأ عن معصية كذا الغصة فإنها معصية نشأ عنها الموت وقتال العدو لمسلم يوجب له الشهادة كما يوجبها الإشراق أيضا فلا فرق بينهما حينئذ حصل عن سبب مباح أو غيره لأن ما به الموت موجب الشهادة ولا علينا من غيره فإن كان السبب طاعة أثيب

من جهتين وإن كان معصية أثيب من جهة وعوقب من أخرى فحص ما قاله أولا لما تقرر لك أن الآبق عند القتل والمغصوص عند الإشراق كلاهما في معصية وحصول الإشراق والقتل موجبان للشهادة كما هو ذلك في صحيح الخبر من غير اعتبار السبب أو الوقت نعم وزانه ما ذكروه في باب قضاء الفوائت وهو أن من عليه القضاء ثم ترك ما عليه من القضاء واشتغل بالتنفل فانه يحرم عليه ذلك غير انه يثاب على التنفل ويعاقب على ترك ما عليه من القضاء لما علمت من تعمير الوقت بالطاعة وان كان غير وقت للنفل إذ هو عاص في ذلك لأنه وقت قضاء ومثاب لكونه اشغله في طاعة فهذه طاعة نشأت عن معصية وكذا ثوابها نشأ عن سبب منهي عنه فلا فرق في كل ذلك والمسائل من هذا النهي لا تعد ولا تحصى.
وأما قوله أن الإنسان إذا ضرب ما لا يحل فنشأ عنه الموت فانه آثم ويقتص منه بعيد عن هذا المرام لكونه تعمد الضرب فيما لا يحل ونشأ عنه إتلاف النفس وهو مذموم شرعا بل هو من الكبائر فنشأ عن هذه المعصية معصية كبيرة وجناية عظيمة بخلاف الغص فانه نشأ عنه كرامة عظيمة وهي الإشراق كما أن الآباق الذي هو حرام وسبب منهي عنه نشأ عنه أيضا كرامة جليلة وهي القتل من العدو لأنهما أي الإشراق والقتل الموت بهما شهادة شرعا.
وبالجملة المعتبر في الحاصل الذي هو الموجب في الشهادة لا في المحصل إذ لا عبرة به فتأمله منصفا والله تعالى اعلم.
قال الشيخ المذكور وذكر انه حضر مجلس شيخ الإسلام الشبراملسي يقرأ عليه المواهب اللدنية قال وقرر تقريرات عجيبة في حديث أول ما خلق الله نور محمد صلى الله عليه وسلم إلخ وقرر وجه انقسام ذلك النور وكيفيته مع أن الحقيقة الواحدة لا تنقسم وليست الحقيقة المحمدية إلا قسما واحدا من تلك الأقسام والباقي إن كان

منها أيضا فقد انقسمت وان كان غيرها فما معنى الانقسام وحاصل جوابه أن معنى الانقسام زيادة نور على ذل النور المحمدي فيؤخذ ذلك الزائد ثم عليه نور آخر ثم كذلك إلى آخر الأقسام.
قال وهذا جواب مقنع بحسب الظاهر والتحقيق والله اعلم وراء ذلك.
وذلك إنما يدركه على الحقيقة من عرف معنى تعالى الله نور السموات والأرض ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم لما قيل له هل رأيت ربك فقال نور أنّى أراه كما في بعض الروايات بفتح الهمزة في أنى ونونه كلمة استفهام أو نوراني بياء النسب آخره كما في بعضها وتحقيق ذلك على ما ينبغي ليس مما يدرك ببضاعة القول ولا مما تتسلط عليه الأوهام والإفهام وإنما يدرك بكشف إلهي وإشراق حصة من أشعة ذلك النور في قلب العبد فيدرك نور الله بنوره فيكون الحق في الحقيقة هو المدرك لنوره بنوره ونسبة الإدراك حينئذ إلى العبد مجاز وأقرب تقرير يعطي القرب من فهم معنى الحديث أن يقال لما كان النور المحمدي هو أول الأنوار الحادثة التي تجلى بها النور القديم الأزلي وهو أول التعينات للوجود المطلق الحقاني وهو مدد لكل نور كائن أو يكون فكما أشرق النور الأول في حقيقته فتنورت بحيث صار هو نورا كما دل عليه قوله عليه الصلاة والسلام في دعاء الأنوار واجعلني نورا أشرق نوره المحمدي على حقائق الموجودات شيئا فشيئا فهي تستمد منه على قدر تنورها بحسب كثرة الوسائط وقلتها وعدمها وكلما أشرق نوره وفاض على نوع من الحقائق ظهر النور في مظهر الانقسام فقد كان النور الحادث أولا شيئا واحدا ثم أشرق في حقيقة أخرى فاستنارت بنوره تنورا كاملا بحسب ما تقتضيه حقيقتها فحصل في الوجود الحادث نوران مفيض ومفاض وفي نفس الأمر ليس هناك إلا نور واحد أشرق في قابل الاستنارة فتنور فتعددت المظاهر والظاهر واحد ثم كذلك كلما أشرق في محل ظهر

بصورة الانقسام وقد يشرق نور المفاض عليه أيضا بحسب قوته على قابل آخر فتنور بنوره فيحصل انقسام آخر بحسب المظاهر وكلها راجعة إلى النور الأول الحادث أما بواسطة أو بدونها وهذا غاية ما يمكن أن تصل إليه العبارة في هذا التقرير.
قال ومثلي في قصور باعه وعدم تضلعه من العلوم الإلهية إن زاد في التقرير خشي علي إيمانه ولو لا تأييد الحق جل وعلا ما كنا لنهتدي على أقل من هذا والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لو لا أن هدانا الله.
واقرب مثال يضرب لذلك إذ بالمثال تتضح الأشياء بعض الوضوح نور المصباح الذي ليس في البيت الكبير إلا هو فتصبح منه مصابيح كثيرة [ويصبح بعضها من بعض فليس هناك في الحقيقة إلا نور المصباح الأول وقد انقسم إلى مصابيح كثيرة](1) وهو في نفسه باق على ما هو عليه لم ينقص منه شيء.
واقرب من هذا المثال إلى التحقيق وأبعد عن الإفهام نور الشمس المشرق في الأهلة والكواكب على القول بأن الكل مستنير بنوره وليس لها نور من ذاتها فقد يقال بحسب النظر الأول نور الشمس منقسم في هذه الأجرام العلوية وفي الحقيقة ليس هناك إلا نورها وهو قائم بها لم ينقص منه شيء ولم يزايلها منه شيء ولكنه أشرق في أجرام أخر قابلة للاستنارة فاستنارت.
واقرب من هذا للفهم ما يحصل في الأجرام السفلية من إشراق أشعة نور الشمس على الماء أو قوارير الزجاج فيستنير ما يقابلها من الجدران بحيث يلمح فيه نور كنور الشمس مشرق بإشراقه ولم ينفصل شيء من نور الشمس على محله إلى ذلك المحل ومن كشف الله حجاب الغفلة عن قلبه وأشرقت الأنوار المحمدية على قبله
__________________
(1) ما بين القوسين ساقط في الرحلة العياشية.

بصدق أتباعه له صافية بصفاء إيمانه بالله ورسوله من شبه الباطل أدرك الأمر إدراكا آخر لا يحتمل شكا ولا وهما نسأل الله أن بنور بنور العلم الإلهي بصائرنا ، ويحجب عن ظلمات الجهل سرائرنا (1) ، ويغفر لنا ما اجترأنا عليه من الخوض فيما لسنا له بأهل بل نحن عن أهله بمعزل ، ولم نطف قط بساحته فضلا عن المنزل ، ونسأله أن لا يؤاخذنا بما تقتضيه العبارة من تقصير في حق ذلك الجناب ، ناشئ عن القصور في مقام العرفان ونزول منازل الأحباب.
ولقد أجاد كل الإجادة صاحب منارات السائرين إلى الله لما قرر معنى كون النور المحمدي أصل الموجودات ولأجله خلقت مع مجيئه آخرا وضرب لذلك مثلا قريبا إلى الإفهام ببزر الشجرة مع الشجرة والثمرة فجعل النور المحمدي الذي هو الأصل كالبزر والعالم كله شجرة واللطيفة المودعة في ذلك البزر (2) سارية في جميع أجزاء الشجرة من أوراق وأغصان وأزهار فيه قامت ولولاه ما وجدت ثم الحقيقة (3) المحمدية الموجودة بصورتها آخرا بمنزلة الثمرة هي عين اللطيفة البزرية السارية في عوالم الشجرة إلى أن ظهرت آخرا على أكمل وجه مع عوارضها المشخصة فهي ثمرة الوجود بأسرها ولولاها ما غرست الشجرة ولأجلها كان غراسها وهي أصلها وبزرها وهو مثال حسن قريب من الفهم وقد جعل صاحب الكتاب المذكور هذا المثال أصلا بنى عليه فصول كتابه كلها وهو حسن جدا مفيد في بابه إلا أن فهمه يعسر على غير أهله اه ـ.
ومن أكرمنا بهذه الديار واستدعانا لمنزله الشيخ عبد الرءوف نقيب كسوة
__________________
(1) في نسخة أسرارنا.
(2) في الرحلة العياشية النور.
(3) وفيها أيضا الحقيقية.

الكعبة المشرفة وهو من خواص أصحاب شيخنا الشيخ علي الزعتري ذهب معنا يوما لداره باستدعائه وبالغ في الإكرام والمبرة والاحترام وحدثنا وباسطنا حسبما يجب وأخبر أن الكسوة تقام كل سنة باثنين وعشرين ألف كيس والكيس خمسمائة غرش والمحمل سبعة أكياس من أحباسها وربما يزيد القيم المذكور من عنده أربعة أكياس إلى ستة وكان كثيرا ما يبحث عن علم الكيمياء وسر الحروف ليستعين به على ما هو بصدده وحسبنا أننا نتعاطى من ذلك شيئا واستعظم كوننا غير معتنين بتلك الحرفة ولم يعلم أن طريقتنا كطريقة أشياخنا عدم استعمال الأسماء والأوفاق بل ولا الأذكار طلبا لفائدتها العاجلة بل ولا الآجلة في الغالب وإن كانت حاصلة ضمن ذلك والكفاية بالله أولى من التعلق بالآثار.
ولله در شيخ شيخنا القطب الكامل وارث المقام المحمدي أبي محمد سيدي عبد الله بن حسين الرقي إذ قال لما بلغه أن بعضا اتهمه بعلم الكيمياء خدما لا إله إلا الله حتى وجدنا له بركة ومن ظننا بخلاف ذلك فقد ظلمنا.
قلت ومن أحمق الناس من لم يرض بقسمة الله في حاله ومقامه وصار يتشوق لما لم يقدر له ولا تحمله قواه غافلا عن تدبير الله أياه قال ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء.
ولقد ذكر شيخنا أبو سالم في رحلته عن الشيخ علي الصوفي وكان ممن يبحث عن هذا الفن أنه حدثه أن بعض من ينتحل علم الأسماء أخبره انه كان يستعمل دعوة آية الكرسي ويشتغل بها على طريق أهل ذلك ولا يبيت عندك منها درهم واحد فقال له لا أقدر على هذا فانه لا يكاد يخفي وأخاف على نفسي أن ظهر ذلك علي من أرباب الدولة فلو كنت تأتيني كل يوم بشريفي واحد أو اثنين أو عشرة ففيها الكفاية فقال له لا بد من الألف على الشرط المذكور وإلا فلا ولم يزل راجعه في الاقتصار

على الكفاية حتى أبى عليه فأيس منه وترك قراءة الدعوة.
قال وهذا من أعظم دليل على حمق الراغب في الدنيا فإن الله قد تكفل له بالكفاية على وجه يرضاه لي على قدر حاله ويعلم فيه صلاحه أن رضي ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء فلو أعطى ما فوق اللائق بحاله لم يستطع ألا ترى أن هذا لما ردّ إلى حال لا تليق إلا بالملوك ومن يحاكيهم أي ومن يماثلهم لم يقدر على ذلك لأنه فوق طوره ولا استغنى بالحال التي أقامه الله فيها فانه اعلم بشئونه لاستراح ولكنه أراد أن يدبر لنفسه حالا ظن أنه أولى به منن خلاف مراد الله به فنبهه الله بما أراه على أن ما كان يظنه من أن كثرة المال هو اللائق بحاله ويحسن في الرأي وغلط في التدبير لعجزه عن القيام به وهذا رجل ملطوف به ولو لا لطف الله به لقبل ذلك فيكون فيه حتفه قريبا ولكنه نظر ما آتاه الله من نور العقل والحكمة فعلم أن ذلك لا يتم له لأنه على خلاف مقتضى الحكمة الإلهية اه ـ.
تنبيه الكسوة المذكورة إذا كان النصف من شوال أو قبله أو بعه يخرج المحمل الخروج الأول فيوتى بها من دار الصنعة فتضرب سجافة على باب القلعة فتخرج السناجق كلهم والولاة والأمراء والحكام والقاضي كل واحد مع أتباعه ولكل واحد مجلس معلوم في السجافة المضروبة ومجلس الباشا في الوسط وعن يمينه مجلس القاضي وكلما أتى واحد من الأمراء وأرباب الدولة جلس في مجلسه المعهود له وقربهم من الباشا بحسب قربهم من مناصبهم فإذا تكاملوا كلهم وأخذوا مجالسهم وصفّت الخيل عن يمينهم صف كل طائفة مع جنسها إلى أن تحيط بالميدان الذي هو أمام مجلس الباشا وهو ميدان كبير يسع من الخيل الألف وآخر من يخرج الباشا فتخرج أمامه طائفة من عسكره بعضه أثر بعض على ترتيب معلوم وقانون مضبوط

وآخر من يخرج معه طائفة من الشاوشية (1) على أرجلهم عليهم جلود النمر وعلى رءوسهم طراطير طويلة من اللمط لها ذيول معكوفة بين أكتافهم وعلى جباههم صفائح من الفضة مستطيلة مع الطراطير إلى فوق مموهة بالذهب تلمع لمعانا فإذا خرج هؤلاء خرج الباشا بأثرهم راكبا فإذا وصل إلى السجافة قام الكل له واضعين أيديهم على صدورهم حتى يجلس وكذلك يفعل من تقدم للجلوس من الأمراء مع من يأتي بعده فإذا جلس الباشا جيء بالجمل الذي يحمل المحمل وعليه المحمل وهو قبة من خشب رائقة الصنعة بخرط متقن وشبابيك ملونة بأنواع الأصباغ وعليها كسوة من رفيع الديباج المخوّص بالذهب ورقبة الجمل ورأسه وسائر أعضائه محلاة بجواهر منظمة أبلغ نظم وعليه رسن محلى بمثل ذلك والجمل في غاية ما يكون من السمن وعظم الجثة وحسن الخلقة مخضوب جلده كله بالحناء يقوده سائسه وعن يمينه وشماله آخر ويتبعه جمل آخر مثل صفته ثم يؤتى بالكسوة المشرفة ملفوفة قطعا قطعا لك قطعة منها على أعواد شبه السلالم معدة لذلك يحملها رجال على رءوسهم والناس يتمسحون بها ويتبركون ويؤتى بكسوة باب الكعبة منشورة على الأعواد وتسمى البرقع كلها مخوصة بالذهب حتى لا يكاد يظهر فيها خيط واحد بصنعة فائقة وكتابة رائقة ثم يمر بكل ذلك بين يدي الباشا والأمراء ويقومون لها إذا مرت بهم تعظيما لها ثم يخلع على الذين صنعوها بمحضر ذلك المجمع ثم يذهب بها كذلك حملتها ويمرون بها في وسط السوق والناس يتمسحون بها حتى يبلغوها إلى المشهد الحسيني فتنشر في صحن المسجد وتخاط هناك.
قال الشيخ العياشي في رحلته فإذا كان اليوم الحادي والعشرون من شوال خرج المحمل من القاهرة وهذا اليوم هو يوم خروج المحمل الكبير الذي هو من أيام الزينة
__________________
(1) في ثلاث نسخ الشواش.

ويجتمع له الناس من أطراف البلد ويؤتى بكسوة البيت الشريفة المعظمة المنيفة من موضع خياطتها وتجعل في المحال التي تحمل فيه ويجتمع الأمراء والسناجق والجند جميعا على الهيئة المتقدمة في الخروج الأول إلا أن هذا أتم احتفالا وأكثر جمعا فإذا تكامل جميع الأمراء على الوجه المتقدم وصفت الخيل والرماة وخرج الباشا جيء بجميع ما يحتاج إليه أمر الحاج من إبل وقرب ومطابخ وخيل ورماة وغير ذلك من الأسباب التي تخرج من بيت المال فيحضر جميع ذلك في ذلك الميدان كل طائفة لها أمير مقدم عليها حتى الطباخين والفراشين والسقائين ثم يؤتى بالمحمل الشريف على جملة المذكور أولا يقوده سائسه حتى يناول رسن الجمل للباشا فيأخذه بيده ويناوله الأمير الحاج بمحضر القاضي والأمراء ومعاينتهم ثم يناوله أمير الحاج لسائسه فيذهب به وذلك كله كالشهادة على الباشا بأنه مكن لأمير المحمل وكل ما يحتاج إليه أمير الحاج من ذهابه إلى إيابه وعلى أمير الحاج بأنه تسلم ذلك ويشهد على ذلك القاضي والأمراء ويكتب بذلك إلى السلطان فإذا مر المحمل بين يدي الباشا وذهب جيء بالإبل يمر بها بين يديه بما عليها من القرب والمطابخ والآلات كل طائفة بمقدمها فإذا مرت الإبل كلها جيء بالمدافع وهي خمسة تجرها البغال ثم جاء الرماة الرجالة من ورائها فيمرون ثم تأتي الخيل فتمر فإذا مر جميع ذلك بين يدي الباشا جاء أرباب الطوائف (1) كل طائفة من مشائخ الصوفية بشيخهم ولوائهم رافعين أصواتهم بالذكر كالقادرية والرفاعية والبدوية والدسوقية حتى السعاة يأتون بشيخهم فيمرون بين يدي الباشا ويعطيهم ما تيسر فإذا لم يبق أحد ممن يمر بين يديه خلع الباشا على أمير الحاج خلعة وعلى كل أمرائه الذاهبين معه كالكخيا (2) والدويدار وغيرهما ثم يودعه وينصرف ثم يمر بالمحمل وسائر الإبل والعسكر
__________________
(1) في نسخة الوظائف.
(2) لعله الكاخية لغة في الكاهية.

وسط المدينة والناس مشرفون من الديار والمساجد التي تلي الشوارع ويتعطل غالب الأسواق في ذلك اليوم.
قال أخبرنا أن بعض تلك الديار المشرفة على الشوارع قد تكرى من أول السنة ولا يسكنها مكتريها ولا ينزلها إلا في ذلك اليوم قصدا للتفرج وفيما سوى ذلك من الأيام تبقى معطلة أو يسكنها غيره.
وبالجملة فهذا اليوم عندهم من أعظم أيام السنة ولا ثاني له إلا يوم كسر النيل عند وفاته ويقرب منه أيضا يوم قدوم الحاج فهذه الأيام الثلاثة هي التي يحتفل لها عندهم غاية الاحتفال ويهتبل أتم الاهتبال فإذا خرج المحمل من الميدان الذي على باب القلعة إلى فضاء الرملة بقي الكثير من الخيل هناك للعب ولا يذهب معه إلا المعينون للسفر معه والرملة فضاء واسع خارج قلعة الجبل فيه تباع الإبل والخيل وسائر الدواب وبه يوجد غالب ما يحتاجه الحاج من الأثاث والأمتعة وتنصب فيه أيام الموسم اراح متعددة لتدشيش الفول يديرها الرجال بأيديهم مع كبرها وقد أعطوا قوة على ذلك يطحن الرجلان أرادب متعددة في يوم واحد فتكون بالرملة صبر من الفول المدشش كل صبرة تزيد على المائة أردب ومن هناك يكيل غالب الحاج قولهم ويعمرونه هناك من غرائرهم ويمكنونه للجمالين فيذهبون به فلا يراه صاحبه إلى المكان المشترط معهم وهو المويلح في الغالب وفي الرملة كثير من حلق المعجبين يلعبون هناك في سائر الأيام كأنواع المشعوذين وأصحاب القرود ومن ضاهاهم من أصحاب اللعب بأنواع الحيوانات كالدب والحمير والتيوس والكلاب.
وبالجملة فأهل مصر لهم ذكاء زائد وحيل غريبة قد سخرت لهم أنواع الحيوانات فقليل من أصناف الحيوانات ما لا يوجد عندهم مسخرا مذللا فسبحان

الذي خلق لابن آدم ما في الأرض جميعا ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا.
قال وبطرق الرملة الذي يلي المدينة مسجد السلطان حسن وهو مسجد لا ثاني له في مصر ولا في غيرها من البلاد في فخامة البناء ونباهته وارتفاعه وأحكامه واتساع حناياه وطول أعمدته الرخامية وسعة أبوابه كأنه جبال منحوتة تصفق الرياح في أيام الصيف بأبوابه كما تفعل في شواهق الجبال وفي أحد أبوابه سارية ورخامية لطيفة يقال أنها من أيوان كسرى وفيها نقوش عجيبة يقال إنها على صورتها وضعت أبواب المسجد قال المقريزي لا يعرف ببلد الإسلام معبد من معابد المسلمين يحكي هذه المدرسة في كبر قالبها وحسن هنداسها وضخامة شكلها قال وذريع إيوانها الكبير خمسة وستون ذراعا في مثلها ويقال انه أكبر من إيوان كسرى بخمسة أذرع وقد وجدنا ركنا منه قد انهدم فكأنه طرف جبل قد سقط فملأ ما تساقط منه الشوارع والرحاب التي بإزائه ووجدناهم مجدين في ترميمه.
وقد أخبرنا أنه أعطوا ستين كيسا من الريال على جمع أنقاضه ورفعها في الشوارع والرحاب لتعاد للبناء ثانيا فإذا كان هذا أجرة النقض فما بالك بأجرة البناء قال ولما رجعنا من الحجاز بعد سنة ونصف وجدناهم قد فرغوا من ترميم ذلك الجانب المهدوم وبالغوا في إتقان صنعته ورفع بنائه ليناسب البناء الأول فكان كما قيل (1) :
يا بارقا بأعالي الرقمتين بدا
 

لقد حكيت ولكن فاتك الشنب
 
والشنب الماء أو نقط بيض الأسنان اه قاموس (2) فرحم الله أفاضل الملوك
__________________
(1) من البيتين المذكورين في صحيفة 251 إلى هنا ساقط من النسخة المطبوعة بتونس.
(2) لا يوجد هذا التفسير إلا في نسخة واحدة.

الذين درجوا ، والذين من خلفهم على منهجهم نهجوا ، لقد خلدوا من المآثر الدينية ما أوجب خلود الثناء عليهم ، ووصول الدعاء ممن بعدهم إليهم ، ولم يزل أهل المشرق إلى الآن لهم فضل اعتناء ببناء المساجد والخانقات ويبالغون في تعظيمها ويتأنقون في ذلك ويبادرون إلى أصلاح ما وهي منها.
وأما أهل مغربنا فلا تكاد ترى في مدائنهم مسجدا عظيما قد أحدث بل ولا مهدما قد جدد أو واهيا قد أصلح بل لو سقط شيء من أكبر مساجدهم فأحسن أحوالهم فيه أن كان مبنيا برخام أن يعاد بآجر وجص وإن كان مجصصا أن يعاد بطين بحيث تجد المسجد كأنه مرقعة فقير هندي فيه من كل لون رقعة وإلى الله المشتكى وما أرى ما حل بمغربنا من الوهن إلا بسبب أمثال هذا من عدم تعظيم شعائر الله ولو في الأمور الظاهرة فضلا عن الباطنة وقد قيل إذا أراد الله خلاء بلد بدا ببيته ثم يتبعه ما سواه وإذا أراد عمارته فكذلك.
ثم يسار بالمحمل على هيئته وتعبيته (1) حتى ينزل ذلك اليوم بالعادلية خارج باب النصر فيقيم هناك إلى اليوم الثالث والعشرين فيرحلون من هناك إلى بركة ويخرج أمير الحاج وجميع عسكره ويخرج مع الركب من المشيعين ومن العساكر والأمراء أضعافهم فتنصب الأسواق هناك ويخرج غالب الباعة والمتسببين بحيث يوجد هناك ما يحتاج إليه السفر بأرخص من سعر مصر ويقيمون هناك إلى آخر اليوم السابع والعشرين إلى أن قال.
تنبيه أكثر العلماء مائلون في القهوة إلى الإباحة وترشح قولهم بفعل أكثر الصوفية مع تورعهم في المطاعم والمشارب زاعمين أنها تعين على السهر في العبادة ويستعين
__________________
(1) كذا في الرحلة العياشية في نسخة نعته وفي أخرى تعيينه.

بها الطلبة كثيرا في المطالعة الليلية.
قال الإمام أبو سالم ولا شك أنها تزيل ما يحصل في الرأس من تدويخ بسبب السهر وخلو المعدة صباحا فإذا شربها الإنسان وجد في أعضائه نشاطا وأحس بخفة رأسه وهذا في الغالب لمن اعتادها وهي مخففة اتفاقا وهاضمة.
وصحح بعض العلماء أنها تحرم على من طبعه السوداء وتكره لمن طبعه الصفراء وهي نافعة لصاحب البلغم وغيرها من أنواع المطعومات كذلك يحرم تناول ما يضر منها على من علم أنه يضره ولا يكون ذلك موجبا للحكم بتحريمها.
والحاصل أن الشاربين لها فريقان يشربونها في أماكن معدة لذلك مزخوفة قلما تخلو من لهو حضور من لا يحل حضوره من الجواري والمرد فهؤلاء الحامل لهم على شربها أتباع الأهواء والتلذذ بما قارنها من الأمور المذمومة فلا يبعد أن يقال أنها في حق هؤلاء محرمة لا لذاتها بل لما قارنا وفريق يشربونها في مساكنهم وحوانيتهم أو يشربونها في السوق ويشربونها من غير جلوس مع الفريق الأول فهؤلاء الحامل لهم على شربها الفهم لها حتى أنهم ربما يتضررون ضررا خفيفا بتركها كما يتضرر من آلف الحجامة بتركها ومن آلف شرب المسهل (1) بتركه وغير ذلك من الأمور التي يعتادها الناس ويحملهم عليها أيضا تحصيل المنافع المتقدمة من الاستعانة على السهر ومن إزالة التدويخ صباحا وغالب ما يستعملونها مع طعام خفيف ككعك أو كسر خبز فيكفيهم ذلك إلى وقت الغداء هذا كله مع خقة المؤنة إذ بفلس واحد يشرب ما يكفيه من ذلك مع تيسرها في أي وقت أرادها ولا يحتاج فيها إلى أكبر مئونة ولا مقارنة أدام أو ملح أو أبراز أو خضر أو غير ذلك مما يحتاج إليه غالب الأطعمة ويزاد
__________________
(1) في الرحلة العياشية العسل المسهل.

على ذلك وهو أكبر منافعها عندهم أنها تقدم للضيف وتقوم قام الطعام عندهم ولا يستحي أحد في تقديمها للباشا فمن دونه ويقوم ذلك عندهم مقام ما يتكلفه المرء عندنا من أطعمة كثيرة تبلغ قيمتها في الأحيان دينارا فأكثر ودرهم واحد يقوم مقام دينار لا يكرهه أحد بل لو قدم إليه أي طعام ولم تكن معه فكأنه لم يقدم شيئا وإن قدمت هي كفت.
قال أخبرنا شيخنا الملا إبراهيم بن حسن الكوراني أن شيخنا الإمام صفي الدين القشاشي كان يقول مما أنعم الله به على أهل الحجاز هذا البن أي القهوة لأنهم ضعفاء فقراء في الغالب والناس يقدمون عليهم من الأفاق والإنسان لا بد له من طعام يقدمه لمن دخل عليه ولا قدرة لهم على تكلف ذلك لكل أحد يدخل عليهم وهذه القهوة خفيفة المئونة والناس راضون بها غنيهم وفقيرهم ورئيسهم ومرؤسهم فكانت صيانة لوجوه الفقراء عند ورود أحد عليهم فلا يبعد أن تكون مستحبة عند أهل الحجاز لأن اتخاذ الإنسان ما يصون به عرضه مطلوب شرعا.
قال ذلك بعض الشراح وقد سئل عن حكمها قال وكلام هذا الشيخ مع جلالة قدره وجمعه بين العلم الظاهر والباطن وكلام غيره من أئمة الطريق مما يتقوى به قول من قال بإباحتها لأن المسألة إذا كانت ذات قولين وكان الصوفية مع إحدى الطائفتين ترجح قولهم لا محالة لما رزقوه من صدق الإلهام ونفوذ البصيرة مع تأييد الله لهم عند اشتباه الأمور فيميلون مع الحق أين ما مال لرفضهم دواعي الهوى نص على ذلك غير واحد من الأئمة وقد شاع وذاع عند كثير من الناس بل ذكره غير واحد ممن تكلم عليها أن أول من أحدثها وأخرجها من أرض اليمن الشيخ الولي الصالح المتفق على ولايته سيدي علي ابن عمر الشاذلي اليمني وأمر أصحابه بشربها ليستعينوا بذلك على السهر في العبادة ثم لم يزل أمرها يفشو شيئا فشيئا ومن بلد إلى

بلد إلى أن آل إلى ما آل بحيث عمت البلاد المشرقية وكثيرا من المغربية فيحمل منها في كل سنة من بلاد اليمن لكل أفق من الأفاق شرقا وعربا آلاف من الأحمال فتدفع فيها أموال قلما تدفع في غيرها من التجارة فيبلغ الحمل منها في مكة إذا رخص فوق العشرين ريالة وبمصر إلى الخمسين وفي البلاد الشاسعة كأفريقية وبلاد الروم من القسطنطينية وغيرها فوق المئين ثم قال لكل جواد كبوة ولكل صارم نبوة.
رأيت في مكة كلاما لابن حجر الهيتمي المكي في إباحة القهوة بالغ فيه بالثناء عليها وذكر محاسنها وكان من جملة ما ساقه مساق الاستدلال على أنها مباحة وأنها من شراب الصالحين ومعينة على العبادة أن كثيرا من السلاطين والولاة والحكام قد بالغوا في أرادة قطعها والنداء عليها في الأسواق أن لا تشرب ولا بد من أراقتها وزجروا عليها بأنواع الزجر ومع ذلك لم تزد إلا شهرة وشيوعا في البلاد فدل ذلك على أنها من شراب الصالحين وأنه قد شمل نظر مخرجها ومبدعها فلا يقدر أحد على قطعها أو كلاما هذا معناه لطول العهد به.
قال وهذا الاستدلال كما ترى ساقط فإن الدخان الذي شاع في الأفاق أكثر العلماء على تحريمه وهو الصحيح إن شاء الله لما اشتمل عليه من المفاسد ولا منفعة فيه أصلا وأنفق أرباب القلوب شرقا وغربا على التنفير منه وكراهته ولم يزل الأمراء مجتهدين في قطعه ومع ذلك فلا يزاد إلا شهرة بل الخمر المحرم بالكتاب والسنة والإجماع قد اشتهر في كثير في الأمصار وعمت البلوى به غالب الأقطار فالاستدلال بالشيوع وعدم القطع الولاة والحكماء على الإباحة لا يخفى ضعفه وبطلانه على من له أدنى معرفة وتمييز بين صحيح الأدلة وباطلها فكيف بذلك الإمام اللهم إلا أن يقال لما لم يقتصر على الاستدلال عليه وضم غيره إليه فكأنه لم يعتمده دليلا بل ذكره مقويا للأدلة ومستأنسا به وهو الظاهر من كلامه ومع ذلك فلا يخفى ضعفه فان

داعي الهوى لا سيما في الأواخر غالب مع ميل النفوس إلى المطلوب وضعف داعية الردع من الطالب انتهى.
قلت الاستدلال بما ذكر ظاهر ونظيره ضعيف وبيانه إن محدث القهوة إمام صالح عارف ولي ولم يحدثها سدى وإنما أحدثها لنفع ظاهر شامل إذ فعل مثله لا يخلو عن الفائدة وهو مصون عن العبث قطعا والولي محروس بعناية الله فلم يكله إلى نفسه طرفة ولا أقل م ذلك فلما أطلعه الله على نفعها للعامة والخاصة أبدعها وأعلم بها أصحابه ثم سارت بها الركبان في المشارق والمغارب ولم يذمها أحد من أولياء الله الصالحين وكذا أرباب القلوب فاشتهرت من غير نكير إذ لو كان هذا الحكم من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا فركب الدليل عليها [من أحداث الولي لها وعدم النكير من أرباب القلوب وكذا من العلماء فأقبلت عليه](1) إذ قال الأجهوري إقبال العامة (2) على الحديث دليل على صحته ذكر ذلك في شرحه لألفية العراقي في السيرة النبوية بخلاف الدخان فلم يحدثه ولي وكذا أنكره أرباب القلوب وذمه أكثر العلماء بل حرموه فلا يشربه إلا خسيس الهمة وقد علم في وطننا انه لا يشربه إلا من لا دين له أو ضعيف عقل بهوى.
وبالجملة فمنور السريرة لا يشربه ويزجر عن شربه بخلاف القهوة إذ أرباب القلوب وجدوا شربها مغيرا لها ومكدرا لصفوها ومانعا من الفتوحات اللدنية والعوارف (3) الإلهية وصارفا عن الحضرة الربانية فشربه كأكل طعام محرم وآكله يعصي الله شاء أم أبى فإذا كان كذلك فإنكاره دليل على ذمه شرعا لا سيما وإن
__________________
(1) ما بين القوسين ساقط في نسخة.
(2) في نسخة الأئمة.
(3) في نسخة المعارف.

أفاضل العلماء قالوا بحرمته لما فيه من ضرر الأبدان بل في بعض الأحيان انه يغيب العقل ويوجب إسرافا في المال من غير منفعة دنيوية ولا دينية بل مضرهما.
وقد قال الشيخ عبد الباقي في شرحه على العزية عند ذكره لشربه فقال بجوازه إذ لا دليل على تحريمه شرعا والأحاديث المروية في منعه موضوعة يدلك على وضعها ركاكة ألفاظها غير أن جوازه مقيد بقيود منها أنه لا يضر بالبدن فان اضربه حرم وكذا لا يمنع السلطان من شربه فإن منع منه حرم أيضا لأن السلطان له أن يمنع المباح فإن منعه صار حراما نص عليه غير واحد من شراح خليل وغيرهما من القيود فالمنع حينئذ من شربه طوق في عنق وأيضا في شربه التشبيه بأهل النار في قوله تعالى (وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ 5 نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ 6 الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ 7 إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ 8 فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ 9) ولا شك أن الدخان كذلك يطلع على الأفئدة وناره موصدة في عمد الذي هو الغليون في لغة مصر والسبسي في لغة المغرب.
فإذا تمهد هذا ظهر أن نظر العارفين ليس كنظر غيرهم لأنم لهم أدلة زائدة على القدر استدل به جميع العلماء وهي الإطلاع على خبث الأشياء الملتبسة التي وقع فيها الخلاف بين العلماء وكذا الأشياء الطيبة الملتبسة أيضا عندهم وإذا وقع الخلاف في الكل فيستدل حينئذ برأي العارفين في الجواز والمنع فيكون حينئذ من المرجحات لما لهم من الكشف التام والإدراك الحقيقي على أتم حال وأكمله إذ لا يشك فيهم لغيبتهم عن الأكوان والآثار والأوهام لأشراق شمس الحقائق على قلوبهم فلم تبق ظلمة الأوهام فيها قل جاء الحق وزهق الباطل فإذا لاح على قلب العارف فعل المختلف فيه مع كونه كاملا في علمه مستوفيا لشروط الاقتداء بفعله فإن ذلك يستدل به على كونه مأذونا فيه لا سيما إذا كان مما يستعان به على العبادة أو ينور القلب فلا جرم في جوازه وأن وقع لبعض العلماء فهي النهي لا سيما إذا كان فحا أي

لا ذوق له فلا يعتبر.
فإذا علمت هذا علمت الفرق بين الدخان والقهوة فإن القهوة أقبل عليها المتلبسون بالصدق والدخان الغالب فيه إقبال أهل الفسق عليه بل لا تجد صديقا عارفا يشمه أو يشربه فلا تساعد من يشربه ولا تسمع لقوله لما علمت قبل من اتفاق أرباب القلوب على ذمه وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى.
انعطاف إلى ما كنا بصدده قال شيخنا المذكور ما نصه ومن أحسن ما رأيت من الأسئلة والأجوبة في شأن القهوة نظما ما اشتملت عليه هذه الأبيات التي كتب بها العلامة رضي الدين محمد بن إبراهيم الحلبي الحنفي المعروف بابن الحنبلي للشيخ علي بن محمد بن عراق إلى أن قال في الجواب عن إباحتها بحيث لا يحرمها ما عرض لها مما لا يحل حضوره من الشبان والنساء وآلة اللهو غاية الأمر أن من ولاه الله أمور المسلمين يجب عليه أن ينكر ذلك ويزجر فاعله بان يفرق تلك الجموع ويشتت تلك المحافل وأما هي فحلال قطعا.
وجوابي أنها حل ولا
 

يقتضي ما قلتم تحريم عين
 
وعلى ذي الأمر أنكار الذي
 

شأنها حتى تصفي دون رين
 
وإذا لم يستطعه دون أن
 

يمنع الأصل ففعل منه زين
 
والتداني من حماها وهي في
 

وصفها المذكور شين أي شين
 
والصفا في شربها مع فئة
 

أخلصوا التقوى وشدوا المئزرين
 
ثم ناجوا ربهم جنح الدجى
 

بخشوع ودموع المقلتين
 
فابتداء الأمر فيها هكذا
 

قد حكاه عن ولي دون مين
 
ذا جوابي واعتقادي انه
 

في اعتدال كاعتدال الكفتين
 


قال والإمام ابن عراق مشهور فضله وعلمه وورعه وهو صدر في علماء الحرمين علما وعملا جوابه في المسألتين هو الحق إن شاء الله وإلى مثل ذلك تميل أجوبة كثير من الأئمة إنها إذا خلت مما يضاف إليها من المحظورات (1) فهي في نفسها مباحة وعلى ذلك عمل كثير من الأئمة في جميع الأمصار التي هي محل الاقتداء وربما رأينا من يبالغ في التنفير عنها من الأئمة المتعمقين في الورع تركا لما لا بأس به حذرا مما فيه ألباس كما هو شأنهم في غيرها من المباحات التي هي من الفضول انتهى كلامه.
قلت : وفي الخطاب ما نصه فائدة ظهر في هذا القرن والذي قبله بيسير شراب يتخذ من قشور البن يسمى القهوة واختلف الناس فيه فمن متغال فيه فيرى أن شربه قربة ومن غال يرى أنه مسكر كالخمر والحق انه في ذاته لا إسكار فيه وإنما فيه تنشيط للنفس ويحصل بالمداومة عليه ضراوة أي استئناس وألفة تؤثر في البدن عند تركه كمن اعتاد أكل اللحم بالزعفران والمفرحات فيتأثر عند تركه ويحصل له انشراح عند استعماله غير أنه تعرض له الحرمة لأمور منها أنهم يجتمعون عليها ويديرونها كما يديرون الخمر ويصفقون وينشدون أشعار من كلام القوم فيها الغزل وذكر المحبة وذكر الخمر وشربها ونحو ذلك فيسري لذلك مع ما ينضم إلى ذلك من المحرمات ومنها أن بعض من يبيعها يخلطها بشيء من المفسدات كالحشيشة ونحوها على ما قيل ومنها أن شربها في مجامع أهلها يؤدي للاختلاط بالنساء لأنهن يعتاطين بيعها كثيرا وللاختلاط بالمرد أي الشبان الذين لا شعر لهم لملازمتهم لمواضعها وسماع الغيبة والكلام الفاحش والكذب الكثير من الأرذال الذي يجتمعون لشربها مما يسقط المروءة بالمواظبة عليها ومنها أنهم يلتهون بها عن صلاة الجماعة غنية لوجود ما يلهي
__________________
(1) في الرحلة العياشية المحذورات.

من الشطرنج ونحوه في مواضعها منها ما يرجع لذات الشارب لها كما أخبرني والدي رحمه الله وحفظه عن الشيخ العارف بالله تعالى العلامة أحمد زروق انه سئل عنها في ابتداء أمرها فقال أما الأسكار فليست مسكرة ولكن طبعه البلغم فإنها توافقه وقد كثرت في هذه الأيام واشتهرت وكثر فيها الجدال ، وانتشر فيها القيل والقال ، وحدثت بسببها فتن وشرور واختلفت فيها فتاوي العلماء وتصانيفهم ونظمت في مدحها وذمها القصائد والذي يتعين على العاقل أن يتجنبها بالكلية إلا لضرورة شرعية ومن سلم من هذه العوارض كلها الموجبة للحرمة فإنها ترجع في حقه إلى أصل الإباحة انتهى.
قلت : وهذا هو الحق الذي لا معدل عنه والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
وممن اجتمع به شيخنا المذكور الأستاذ الشيخ محمد البقري وإليه انتهت اليوم بالديار المصرية رياسة علم القراءات وأخذ عنه علم القراءات إلى أن قال وحرر كتبه يوم السبت المبارك السابع عشر صفر من شهور سنة ألف ومائة وعشرة من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام والله اعلم.
وذكر لنا أن من أراد قضاء الحاجة وقدم إليها انه يكتب على خنصر يده اليمنى محمدا وفي إبهامها دحطة بالدال والحاء والطاء المهملات والتاء المثناة من فوق ويذهب إليها فإنها تقضي بحول الله وقوته وأفادنا أيضا أن من قرأ سورة إذا زلزلت إلى آخرها ثم يقول سبحان الله ملء الميزان ومنتهى العلم وعدد المنعم ومبلغ الرضي وزنة العرش فإن الله يكتب له من الأجر قدر ما بين حروف إذا زلزلت إلى أول القرآن ويمحو عنه بقدر ذلك من السيئات ويرفع له بذلك درجات.

وعنه أيضا من وضع يده على جبهته وقرأ يا مبدئ يا معيد ثلاث مرات ذكّرني ما نسيت فانه يتذكر الشيء الذي نسيه وعنه أيضا تكتب الفاتحة أحرفا مقطعة والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وهذه الأحرف ف ج ش ت ث خ ز تمحى بماء ورد وسكر ويشرب فإنها تزيل جميع ما في الإنسان من الأوجاع.
وعنه أيضا :
لا تعترض من تراه
 

تكتب من الأحباب
 
واحذر تكن منكرا
 

تطرد عن الأبواب
 
أهل الولا في الورى
 

أخفاهم الوهاب
 
كليلة القدر
 

أخفاها عن الطلاب
 
وقال هذان البيتان لسيدي عبد الوهاب الشعراني من الملحون ولم يقل منه شيئا سوى هذين البيتين وأقول زرت ما زاره الشيخ المذكور بمصر غالب ما بها من المزارات بالقرافتين الكبرى والصغرى من أئمة الإسلام وعلماء الدين وما بداخل المدينة كذلك ومن أجل المزارات وأعظمها بركة ونجحا المشهد العظيم المحتوي على جماعة من أهل البيت رجالا ونساء أشهرهم السيدة نفيسة الطاهرة وإليها ينسب المشهد وبها يعرف وعليه بناء عظيم وبازائه مسجد وبيوت تسكن فلما تخلو من زائر وراغب إلى الله في كشف كربه وقبرها معروف بإجابة الدعاء فهو ترياق لنيل كل مراد ، كقبر ابن عمها موسى الكاظم ببغداد ، وهي السيدة نفيسة بنت الأمير حسن بن زيد بن علي بن الحسين دخلت مصر مع زوجها إسحاق بن جعفر الصادق وكان الإمام الشافعي يصلي بها التراويح في رمضان رضي الله عن جميعهم.
وزرنا أيضا قبر الإمام الذي لا ينبغي لأحد دخل مصر أن يهمل زيارته إذ هو صاحب التصريف التام بمصر رئيس الأئمة ، وشيخ شيوخ الأمة ، محمد بن إدريس

الشافعي رضي الله عنه وعليه بناء عظيم ومسجد وخانقات وقوم من الفقراء يسكنون هناك وقيم المشهد لا يفارقه ليلا ولا نهارا وهو من المشاهد الكريمة ، والمآثر العظيمة ، له أوقاف كثيرة ويتخذ عند قبره كل ليلة سبت مولد يجتمع فيه أناس كثيرون يضيق بهم المسجد وأفنيته ما بين فقراء وأمراء رجال ونساء يبيتون طول الليل بين ذكر بجماعة وصلاة وقراءة قرآن لا يفترون إلى طلوع الفجر وذلك دأبهم أبدا في كل ليلة سبت ولا يخلو ذلك المجمع من جماعة من الصالحين فقد ذكر سيدي عبد الوهاب الشعراني أن جماعة من الأولياء يحضرون كل يوم لزيارة الإمام الشافعي رضي الله عنه وهو حقيق بذلك وجدير فانه بالمحل الذي لا يدرك علما وعملا وحالا وفتوة وحسن أخلاق وزكاء أعراق ونصرة للدين وحماية له باذلا في ذلك نفسه وماله وجاهه فقد اتفق العلماء على انه ليس في أصحاب أمام الأئمة مالك رضي الله عنه أثبت ولا أعلم ولا أفقه من الإمام الشافعي كما اتفقوا على أنه ليس في مشائخ الإمام الشافعي أجمع للخصال المذكورة من الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه وعن جميعهم وما علم من تعظيم كل واحد منهما للآخر وثنائه عليه يدل على أنهما عالما الأمة وناصرا السنة وشيخا المشرقين والمغربين وقمرا سماء الكتاب والسنة المنيرين فالعلماء في كل قطر من بعدهما عيال عليهما فهما فرسا رهان ، وقطبا فلكي الإتقان ، وأن أنفرد الإمام مالك رضي الله عنه بفضيلة السبق ورتبة الأستاذية وسكنى المدينة ودار الهجرة والسنة إلى أن مات فللإمام الشافعي رضي الله عنه مزايا كثيرة ، ومآثر شهيرة ، استحق بها أن يشهر ويذكر ، ويحمد في دين الله ويشكر ، نسأل الله تبارك وتعالى أن يرزقنا محبتهما وتعظيمهما ومحبة سائر الأئمة المجتهدين ، والعلماء المهتدين ، خصوصا شريكيهما في تقرير المذاهب ، وحيازة التشريف باسم الأئمة بالغلبة وذلك من أعظم المواهب ، الإمام الأعظم أبا حنيفة وناصر السنة أحمد بن حنبل فكلهم على هدى من ربهم ، ومهتد حقا من اهتدى بهم ، فرضي الله عنهم وعن

سائر العلماء أجمعين ، وجعلنا لمناهجهم السديدة من خيار المتبعين.
وزرنا أيضا الإمامين الشهيرين ، الشامخين الهمامين الحاملين ، لراية مذهب مالك ، السالكين في ذلك أحسن المسالك ، راية المذهب ، عبد الرحمن بن القاسم وحاميه وناصره أشهب ، رضي الله عنهما وقبراهما متجاوران يستجاب الدعاء عندهما مجرب وذكر الإمام أبو القاسم القشيري رضي الله عنه في رسالته أن من وقف بين قبريهما وقرأ قل هو الله أحد مائة مرة ثم استقبل القبلة ودعا أجيب دعاؤه وبإزائهما قبور كثيرة لمشائخ الأئمة رضي الله تعالى عنهم وزرنا بائع نفسه في مرضاة الله المجاهد في سبيل الله عقبة بن نافع الصحابي رضي الله عنه وعليه بناء عظيم ، ومسجد كريم ، وزرنا أبا الفيض ذا النون المصري وشيخ المشتهرين بحب الله لسان المحبين أبا حفص عمر بن الفارض رضي الله وقبور السادة بني الوفا ، مناهل الصفا ، ومشائخ العارفين الإمام تاج الدين ابن عطاء الله صاحب الحكم والإمام شرف الدين البوصيري وإمام المحققين ابن أبي جمرة وتلوه في المعارف والعوارف ابن الحاج صاحب المدخل وغير من ذكر من المشائخ لو تتبعنا ذكر أسمائهم لطال الكلام ولا نستقصيهم وزرنا محل الشيخ أبي عبد الله المغاوري على حرف الحبل مشرف على القرافة كلها وبالجملة ففضل القرافة وما اشتملت عليه من المزارات أشهر من أن يذكر ، وأظهر من أن يشهر ، وقد ورد في الآثار أنها بقعة من الجنة ولذلك أمر الإمام عمر بن الخطاب رضي الله عنه بجعلها مقبرة للمسلمين قائلا لا أعلم تربة الجنة إلا مقابر المسلمين رضي الله عنه ما أصدق فراسته ، وأجل إمامته ، وزرنا تربة المجاورين ، ومن اشتملت عليه من الأئمة المحققين ، والعلماء العاملين ، وسمي هذا المكان بتربة المجاورين لأنه قريب من الجامع الأزهر وبه يدفن غالب أهله والمجاورين له بل الأماكن القريبة من الجامع كلها تسمى حارة المجاورين إذ لا يسكنها في الغالب إلا العلماء والغرباء والفقراء وقل أن تجد بإزائه دار سنجق أو أحد أرباب الدولة لضيق

المحل وهم يريدون السعة والقرب من القلعة التي هي محل الباشا وأكابر دولته وزرنا كذلك غالب من بالقرافة الصغرى من الصالحين وزرنا قبر الشيخ خليل رضي الله عنه وقبر شيخ الشيخ أبي عبد الله المنوفي وهما في مكان واحد وبقربهما تربة الأئمة اللقانيين وزرنا أيضا قبر السلطان المرحوم الملك المعظم المهاب العدل المعدود من الأولياء الأتقياء كما ذكر غير واحد من الأئمة السلطان قايت باي رضي الله عنه وأرضاه ونفعنا ببركاته وعلى قبره بناء عظيم وبازائه مسجد متقن ومحلات لسكنى الفقراء ولقيم القبر وهو لا يخلو من عمارة وعند رأس القبر حجر منبي عليه بناء حسن فيه اثر قدمين شاع عند الناس أنها قدما النبي صلى الله عليه وسلم وهناك حجر آخر فيه أثر قدم أخرى يقال أنها قدم الخليل والناس يزورونهما ويذكرون أنها من الذخائر التي ظفر بها قايت باي أيام سلطنته فجعلت عند قبره رجاء بركاتها ولا يبعد ذلك فقد كان ملكا عظيما عدلا موقرا مهابا محببا إلى الخلق ذا سيرة حسنة في الرعية واجتهاد في عبادة ربه إلا أنه لم نر من نص على أنه ظفر بشيء من هذه الآثار من المؤرخين بل قد ذكر جماعة من حفاظ المحدثين أن ما استفاض واشتهر خصوصا على ألسنة الشعراء والمداحين من أن رجل النبي صلى الله عليه وسلم في الحجر لا أصل له ولم يذكر أحد أن أثر الخليل عليه السلام موجود في غير حجر المقام.
أقول قال شيخنا المذكور قال شيخنا العياشي في رحلته وبالمدينة المنورة ومكة والقدس آثار يقال أنها آثار بعض أعضاء النبي صلى الله عليه وسلم من قدم ومرفق وأصابع والله اعلم بصحة ذلك ولكن لم يزل الناس منذ أعصار يتبركون بها من العلماء والصلحاء ويقتفي الأخير منهم الأول قال فلأجل ذلك لما دخلنا إلى مزار السلطان المذكور صب القيم على الأثرين شيئا من ماء الورد فغمسنا فيه أيدينا ومسحنا به على وجوهنا ورؤسنا وأبداننا رجاء البركة بحسن النية وجميل الاعتقاد لأن المنسوب إليه ذلك عظيم ورائحة النسبة مع حسن النية كاف في ظهور الأثر

وحصول المرام ولم يزل الناس يتعرفون البركة وإجابة الدعاء في الأماكن المنسوبة إلى الأنبياء والأولياء والعلماء ولو لم تصح النسبة فما بالك بما نسب إلى سيد الوجود فالكل في الحقيقة إليه منسوب إذ هو أصل الموجودات وسر المشهودات فأي محل كان مظهرا لبعض كمالاته بالفعل أو بالقول أو بمجرد النسبة مع أصل النسبة الحقيقية عمت البركة وغشيتهم الرحمة يدرك ذلك بالذوق أربابه ، ويتعرفه بالبصيرة النورانية أصحابه ، والله المسئول أن يمدنا بمدده الساري في أسرار محققي أتباعه ، وينظمنا في زمرة حزبه وأشياعه ، وصلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين انتهى كلامه.
ومن يوم خروج المحمل شمر الناس عن ساق الجد في التجهيز للسفر باتخاذ الزاد وشراء الإبل أو كرائها وأزيحت العلل وكان الناس قبل ذلك في سعة من أمرهم ويقدم الجمالون من الصعيد والأرياف طالبين الكراء واختلفت رغبات الناس في ذلك فمن مائل للكراء ومن مائل للتدرب بإبله فمن أراد راحة بدنه وتعب قلبه والخصومات آناء الليل وأطراف النهار اكترى ومن أراد سلامة قلبه ودينه والمخاطرة بماله اشترى إبله ثم يأتي عرب الدرب للكراء على حمل الفول من مصر إلى المويلح ومن أراد المخاطرة فلا يكتري شيئا ويشتري في كل بندر ما يحتاج إليه إلا أنه ربما يقل في بعض الأحيان فيشتري في بعض المحال غاليا وغالب الأوقات يكون الأمر متقاربا في الشراء والكراء وربما كان الشراء أرخص من الكراء.
قلت وفي وجهتنا هذه كان الشراء أرخص بكثير والتقى الناس من رخص الأسعار في جميع البنادر ما لم يخطر لهم على بال وكاد يعد من المحال وكذا في الحرمين الشريفين فسبحان من بيده الأمر كله يفعل في ملكه ما يشاء تبارك وتعالى وهو أرحم الراحمين.

ولا يقطع الكراء مع واحد من عرب الدرب حتى يأتي عريفهم لأمير الركب فيتقاطع معه في الكراء ويعطون له حملاء هناك بمصر لئلا يغدروا وربما غدروا في بعض السنين فيغلي الفول في بعض البنادر فيكابد الناس لذلك ما الله به عالم فإذا كان اليوم الحادي والعشرون من شوال خرج المحمل من القاهرة وهذا اليوم هو يوم خروج المحمل الخروج الكبير الذي هو من أيام الزينة ويجتمع له الناس من أطراف البلاد إلى أن ينزل خارج باب النصر بالعادلية فيقيم هناك إلى اليوم الثالث والعشرين فيرحل من هناك إلى البركة ويخرج أمير الحاج وجميع عسكره ويخرج مع الركب من المشيعين ومن العساكر والأمراء أضعافهم فتنصب الأسواق هناك فيخرج غالب الباعة والمتسببين بحيث يوجد هنالك ما يحتاج للسفر بأرخص من سعر مصر ويقيمون هنالك إلى آخر اليوم السابع والعشرين وأما المغاربة فلا يخرج منهم إلا من قصده هنالك مع المصري مؤثرا مشي الليل على مشي النهار مستسهلا مشقة السهر بالليل عن حر النهار لا سيما في أيام الصيف وإنما يؤثر ذلك غالبا صنفان من الناس أهل القوة والثروة الذين لهم شقاذف ومحامل وهوادج ينامون فيها بالليل على ظهور الإبل ويصبحون بالنهار كأنهم مقيمون ولا شك أن هذا أولى لهم من السير نهار إذ وطنوا أنفسهم على بذل الدينار والدرهم للجمال والعكام والسقاء والطباخ وقائد الإبل وغيرهم وهم في ذلك متعاطون من النوم على ظهر الدابة ما تأباه الشريعة السمحة المبنية على الرحمة والشفقة. والصنف الآخر الفقراء الذين لا إبل لهم ولا أمتعة فيسترفقون عند المصري بالماء المسبل في أوقات من الليل وعند الرحيل نهارا مع ما ينالهم من أهل الثروة من التصدق بفضل الأطعمة إلا أنهم يكابدون مشقة عظيمة في المشي والسهر ليلا وفي النهار يشتغلون بالسعي على ما يقوتهم فلا يكادون ينامون إلا قليلا وأما المستوقة والباعة والجمالون من فلاحي مصر فلهم قوة وفرط صبر على مكابدة أعظم من ذلك فبالليل يسيرون وبالنهار يعملون في البيع والشراء

والسقي والطبخ وعلف ال بالسعي على ما يقوتهم فلا يكادون ينامون إلا قليلا وأما المستوقة والباعة والجمالون من فلاحي مصر فلهم قوة وفرط صبر على مكابدة أعظم من ذلك فبالليل يسيرون وبالنهار يعملون في البيع والشراء والسقي والطبخ وعلف الإبل وإصلاح أقتابها ومداواة جراحاتها فلا يكادون ينامون حتى القليل.
أقول قال شيخنا أبو سالم وقد أخبرنا عن بعض من اعتاد السفر في درب الحجاز من الجمالين أنه لم ينم من يوم خرج من مصر إلى أن رجع إلى مصر مائة يوم وهذا كالمحال عادة فان صح فهو من أغرب الغرائب ولعله كان لا يضطجع للنوم على هيئة القاصد لذلك بل يغفي إغفاءة تارة على ظهر بعيره وتارة في وقت انتظار حاجة أو فراغ من أكل أو ما يظاهي ذلك فإن كان مثل هذا فلا يستبعد انتهى.
وأما من لم يقصد الذهاب مع المصري من المغاربة فلا يخرجون إلى اليوم السابع والعشرين من شوال وينزلون بالبركة عند رحيل الركب المصري أو قبله بقليل.
قلت وهكذا كانت العادة وقد يؤخرون في هذه الأواخر بحسب تجهيزهم وتهيئة زادهم وما يحتاجون إليه لمسافة الدرب أمامهم ولله در العلامة الصلاح الصفدي (1) :
درب الحجاز مشقة لكن إذا
 

الجمال هان تسهلت أهواله
 
أصبحت في تصريف جمالي على
 

ما يشتهي فكأنني جماله
 
قد كان خف على فؤادي لو غدا
 

من فوق ظهري بالسوا أحماله
 
ويكون طوعي في الذي أختاره
 

لكن قسا وتضاعفت أثقاله
 
وقال أيضا في المعنى :
__________________
(1) هذه القطعة ساقطة من نسختين.


درب الحجاز مبارك لكنه
 

يحتاج صبرا زائد الأجمال
 
وغبونه شتى ولا مثل الذي
 

أصبحت ألقاه من الجمال
 
وقال أيضا :
غدا سفر الحجاز كما تراه
 

لأخلاق الرجال بدا محكا
 
فكم من صاحب أمسى عدوا
 

به وصحيح ود قد تشكى
 
وجمال جميلك لا يراه
 

وعكام أتى من أرض عكا
 
كما أن المقوم في أعوجاج
 

وحين تقيمه بيديك دكا
 
ثم بعد الأسفار تحملنا بحملنا ما لا مندوحة عنه في الأسفار فعوضنا الخيام من المسك ، وفوضنا إلى الله الأمر في المحرك والمبرك ، ونحن نتوقع تواتر الأذى ، ونتوقى توالي القذى ، فما وجدنا والمنة لله إلا اللطف الخفي والإعانة ، وتسهيل الطريق منه تعالى وسبحانه ، ونكبنا البركة ذات اليسار ، وشمرنا ذيول التيسار ، آمين الدار الحمراء ، مستمدين من مالك الغبراء والخضراء ، وهان علينا بذل البيضاء والصفراء ، بل سررنا بذلك لما أملناه ، وخف على النفس كل ثقيل لما قصدناه.
سررنا وطبنا حين سرنا لطيبة
 

ولم نخش من طول المسير التماديا
 
وقلنا اجتهد يا سائق الركب إنما
 

تهون المنايا أن بلغنا الأمانيا
 
وبركة الحاج المذكورة هي بركة واسعة مد البصر يتموج فيها ماء النيل العذب الفرات تنصب فيها الأسواق الحافلة بشاطئها والقهاوي المزخرفة والفساطيط المؤنقة ويخرج غالب أهل مصر لوداع الحاج والتفرج هناك والتنزه في بساتين ومقاصير على شاطئي النيل المنصب إلى تلك البركة وفي جانبها الغربي قرى متعددة في أحداها مسجد لسيدي إبراهيم المتبولي حسبما ذكره الشيخ الشعراني في الطبقات فنزلنا غربي

الدار الحمراء فاستهل لنا هلال ذي القعدة وهو كالسنان المنعطف فوق الصعدة.
انعطاف وتنبيه لما ظعنا من كفر حمام أردت أنا ومن اتبعني من الفضلاء السفر مع الركب المصري لما اشتهر من ظلم الركب الجزائري للناس وللهرج فيه أيضا حتى أن الإنسان يتمنى لم يقدم إلى الحج وان شيخ الركب ليس إلا يساعد الناس على ما هم عليه من ظلم وغيره وأنا لا أملك نفسي عند ظهور الظلم وساعدني الأخ في الله سيدي أحمد الطيب وسيدي أحمد بن حمود (1) وغيرهما من أفاضل الركب فلما ظعنا وأرنا الفرقة رحل جميع الركب وراءنا من غير تراخ إلى أن وصلنا إلى إمبابة (2) وجاهة بولاق فنزلنا فرادى ونزل معنا بعض الركب وبقينا أياما هناك غير أن الناس لم ينزجروا عن التعدي عن زرع الناس بل حصدوه ورعوه بالإبل والفلاحون يتشكون ويبكون ويتباكون فنهيناهم وزجرناهم بل ضربنا بعضهم فلم ينزجروا بل زادوا ظلما وعدوانا فذهبت للشيخ فقلت له ليس إلا الانتقال إلى بولاق فرحلنا وقطعنا النيل بأجرة كما هو العادة غير أن أهل الركب يقطع أكثرهم ويمتنع من إعطاء الأجرة فلما رأينا ذلك منهم وشاهدنا عدم توبتهم نزلنا فرقتين فالشيخ مع بعض الركب نزل محاذيا لبولاق ونحن نزلنا بين مصر وبولاق ثم أن من نزل معنا من لم ينكف عن الظلم والتعدي فاكترينا (3) عن رجل جندي غير أنه لما طلب قبض ثمن الكراء اتهمناه (4) فأتينا به إلى شيخنا الفاضل الكامل المحقق العلامة المدقق صاحب التصانيف المفيدة سلطان العارفين وإمام السالكين الشيخ البركة سيدي محمد الحفناوي نفعنا الله به وبأمثاله آمين فعاهده وتوثق جميعنا بحضرته.
__________________
(1) في نسخة حمودي.
(2) كذا في نسخة ولعله انبابة وفي ثلاث نسخ أم بابة.
(3) في ثلاث نسخ فلما اكترينا.
(4) في نسخة امهلناه.

نعم قد ألزمت نفسي أني لا أعطي دراهمي أحدا إلا بعد رفع الأحمال والدخول في السفر فأخذ ذلك الجندي الدراهم من بعض الحجاج اعتمادا على الشيخ المذكور فبعد يومين أو ثلاثة هرب (1) بالدارهم على أني بعثت له جملا بعشرين ريالا أبو طاقة والأجل مكة فذهب الجمل إلى أن وصل بولاق فرجع الجمل بنفسه من غير قائد ولا سائق وهو من خوارق العادة إذ من غفل لي دابته طرفة عين أخذت من غير شك فلما علمنا بهروبه ربطنا ولد أخيه وأعلمنا حاكم بولاق فحبسه وأعطى الحجاج ما وجد بين يديه من المال فلعناه وقسمناه بينهم فصار لكل نصف ما أعطى إذ قد أحاط الدين بجميع ماله.
نعم فلا تغتر أيها الحاج بحلاوة اللسان من الشياطين ولا بإظهار المودة ولا بكثرة الإيمان فإنهم ذئاب في ثياب وكذا أن أتوا لك بهدية لا تقبلها منهم فإنهم يريدون التحيل بالوصول بها إلى مالك فتقع في شبكة لا مخرج لك منها فلا يعتبرون عهدا ولا مودة ولا يمينا ولا صحبة ولا شيخنا ولا وليا إلا المكر والخديعة فلا يرجى منهم إلا الخيبة والخسران والنكث والعكس ولا ينجو منهم إلا من اشترى إبلا لنفسه وحمل عليها وإلا فقد قطعوا الطريق وأسبابها لأنهم أن قدروا على أخذ المال تحيلا فعلوه وإلا أخذوه بإعطاء رشوة لأصحاب المخزن من الدعاوي الكاذبة والفجور وإظهار الشكوى بلسان الباطل وغير ذلك من فضائحهم (2) فلم يبق إلا النصرة بالله والاعتماد عليه ليحفظك من شرهم وبسبب ذلك انقطعنا عن الركب المصري.
نعم اجتمعنا وتشاورنا فظهر لنا السفر مع سلطان فزان وحاكمه لما ظهر لنا فيه
__________________
(1) في ثلاث نسخ إلا وهرب.
(2) في نسخة فظائعهم.

من الحكم والعدل فتعينت أنا والفاضل الزاهد الورع سيدي محمد الشريف النوفلي الطرابلسي للمشي إليه لطيلون إذ هو نازل هناك فلما وصلنا إليه أخبرناه بالسفر معه وأخبرناه بالسبب ففرح وسر بنا سرورا عظيما فلما رحل رحلنا معه ونزلنا عليه خارج مصر وبعد ذلك اختلط معنا (1) ركب الجزائر ثم رحلنا معه في النهار إلى البركة ليذهب مع الشيخ كل من يريد ركبنا فبتنا جميعا فلم يزالوا على النهب والتعدي في البركة ذلك اليوم وبتنا جميعا والركب الفزاني نزل حده فلما ظعنا صبيحة ذلك اليوم تأخرنا إليه أعني جميع من يتبع سيدي أحمد الطيب وسيدي أحمد بن حمود (2) وسيدي محمد الشريف وزابر هذا الكتاب فاجتمع أهل وطننا أعني من الجزائر إلى قسنطنية معنا وما بقي إلا أهل عامر وقصر الطير وأولاد عبد النور وأولاد سعيد بن سلامة ومن تعلق بجميعهم وكذا أهل بسكرة وأهل مدكال وأهل المسيلة وأهل الصحراء وأهل الزاب وغيرهم الكل مع الشيخ سيدي محمد المسعود وقد رفع منهم ما رفعت الأرض من أعباء الثقلين جزاه الله عن المسلمين خيرا.
تنبيه وقد زرنا في هذه الحجة شيخنا الفاضل الكامل سلطان العارفين ، وإمام الطريقة والسالكين ، الجامع بين الحقيقة والشريعة ، سيدي محمد الحفناوي ، والشيخ الصالح ، والبدر الواضح ، نخبة العارفين ، ودرة الموحدين ، الشيخ الجوهري وزرت أيضا من بالأزهر من العلماء والطلبة وغيرهم واجتمعت مع أبي الحسن شيخ رواق المغاربة وأعارني الشيخ الحطاب شارح المناسك لخليل وهو شرح جليل قد سافرت به إلى مكة أحياه الله على السنة النبوية وأعلمته بشرحي على خطبة شرح الصغرى فلما رآه ورأى حاشيتي على المحقق المراكشي (3) السكتاني استحسن جميع ذلك وقد
__________________
(1) في نسخة اختلط علينا.
(2) في نسخة حمودي.
(3) في نسخة بإسقاط المراكشي.

شرح هو أيضا هذه الخطبة غير انه اختصره كثيرا ثم اجتمعت الطلبة وكلموني على مسألة الجوهر الفرد إذ عندنا معشر أهل السنة موجود وأما عند غينا فمستحيل لشبهات أوردها من منع فردها أهل السنة بأمور معلومة نص عليها غير واحد كابن التلمساني في شرح المعالم والسعد والإمام السنوسي وغيرهم أن البعض ممن يدعي التحقيق من الأفاضل المحققين يسلم أدلة المنع ويمنع أجوبة أهل السنة لتمكن الشبهة في قلبه فلما أوردوا تلك الأدلة فمنهم من فهم الشبهة فمنع جواب أهل السنة ومنهم من لم يفهم الشبهة ولا الجواب عنها ففتح الله علي بسد تلك الثلمة ومنع تلك الشبهة من أصلها ورفع ما عسى أن يرد من المحال على وجود الجوهر الفرد فأشرق علي نور العرفان حتى علم الحق كل من حضر وتعجب الكل في ردع (1) المفصح بها فصعق من حضر ذلك المجلس.
نعم شهدوا الفضل وانه باق وان الفتح والوهب لا ينقطعان أبدا حتى أن بعض من كان في المجلس لما أفاق من سكرة البغت أراد ببضاعة عقله وضعف ملكته أن يرد ذلك الجواب بالحل والنقض فلم يقدر لكونه سماويا إلهيا نزل من عند الله طريا ولو أن أهل المعقول (2) آمنوا وصدقوا بفتوحات القوم لفتح الله عليهم من بركات السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذوا بحجاب الجهل وأطوار البشر بغتة من غير تراخ فسكت لكسف نور شمسه.
نعم بعد ذلك طلب مني جميعهم قراءة الكبرى للشيخ السنوسي وقالوا لا بد أن تحضر الشيخ علي الصعيدي وقت أقرائه إياها وأنك لا بد أن تشتي عندنا فوافقتهم على أقرائها ومساعدتي لهم عليها فكل من سمع من الطلبة فرح وسر بذلك غير أن
__________________
(1) في نسخة ردي.
(2) في ثلاث نسخ القلوب.

منعني من الإقامة في مصر لما كان من الهرج والفتنة والنزاع بين الحجاج [والشيال لأن من دخل بولاق من الحجاج ربطوه وحسبوه ومن دخل منهم الركب ربطه الحجاج](1) فوقع هول عظيم وجميع الفضلاء يجري (2) بين الجميع بالصلح حتى خفنا على أنفسنا من كثرة الظلم الواقع من الجانبين غير أن الحجاج مظلومون بالنسبة للمال إذ أقرضوهم في الطريق فأكلوهم وأرادوا الزيادة منهم وأما الحجاج فقد ظلموهم بالضرب في الطريق والشتم وكل عمل قدروا عليه فانتقم الله من الجميع رزق الله الكل التوبة والندم على ما صدر من الجميع بمنه وكرمه.
وقد زرت في الحجة الثانية الشيخ البليدي وهو عالم فاضل محقق مؤلف وقد ألف حاشية على الشيخ عبد الباقي إذ رأيتها على هوامش الكتاب المذكور وأجازني في العلوم كلها وزبر ذلك بخط يده وقد حضرت عليه في الحجة الأولى بعض الدروس في الرسالة.
وزرت أيضا الشيخ الفقيه المقبول المنور العارف بالله تعالى إذ شرح خليلا شرحا مختصرا بالمزج وقد رأيته في داره وهو شرح مبارك لا بأس به وهذا الشيخ هو شيخنا الإمام العمروسي وقد أجازني أيضا غير أنه زبر الإجازة بعض تلامذته بإذنه وإملائه عليه وقد ختمها وكتب على ذلك بخط يده وطبع عليه بطابعه.
وزرت أيضا شيخنا المحقق العلامة المدقق خاتمة المحققين وإمام الإجلاء العارفين الشيخ خليل المغربي (3) وهو في العلوم بحر لا ساحل له وان العلوم كلها ضروريات عنده لا سيما علم المعقول وقد قرأت عليه القطب على الشمسية أعني
__________________
(1) ما بين القوسين ساقط من نسختين.
(2) كذا في جميع النسخ.
(3) في نسخة الأزهري.

التصورات والعكوس والتناقض بحاشية السيد عليه وقد أجازني بخط يده في سائر العلوم نفعنا الله به والذي أخذنا معه عليه (1) هو الفاضل بالاتفاق والعلامة على الإطلاق سيدي أحمد بن عمار والفضلاء الإجلاء سيدي أحمد بن حمود وسيدي الصالح القصاري وسيدي أحمد الصديق الجزائري والفاضل المحقق البغدادي وفق الله الجميع آمين وأن محل القراءة الروضة المنورة والنخبة المشتهرة التي يستجاب الدعاء عندها وهو مسجد سيدنا الحسين (2) فقرأنا عليه قراءة بحث رضي الله عنه وأرضاه.
وزرت أيضا الشيخ العلامة والفاضل الفهامة الشيخ المؤلف ذا التصانيف المفيدة والتآليف العديدة شيخنا الملوي وقد أجازني في سائر العلوم وزبر ذلك تلميذه لأنه أقعد لا يقدر أن يقوم وهو مضطجع على سريره وقد كبر سنه بان عمره زاد على مائة سنة والذي رأيته من تصانيفه الشرحان الكبير والصغير على السلم والشرحان أيضا الكبير والصغير على رسالة السمرقندي في الاستعارات وكلاهما عندنا والأولان عند سيدي أحمد بن حمود وكذا نظم الموجهات وشرحها وهو ممن له الذوق السليم والطبع المستقيم رضي الله عنه وأرضاه آمين وقد سمعت انه حشى المراكشي على الصغرى وغير ذلك من تآليفه نفعنا الله به آمين.
وممن زرته أيضا وحضرت مجلسه وهو من المؤلفين والعلماء المحققين وقد صنف كثيرا وإليه النظر في وقتنا هذا في الجامع الأزهر بل إليه تشد رحال الطلبة بمصر من كل جانب وقد بلغ صيته علمه مشارق الأرض ومغاربها شيخنا سيدي علي الصعيدي وقد أجازني بخط يده في جميع العلوم وقد حضرت مجلسه في الفقه في
__________________
(1) في نسخة والذي أخذ معنا عليه.
(2) في ثلاث نسخ مسجد الحسنين.

مختصر خليل بشرح الشيخ الخرشي وهو يحشي فيه وقد كملت حاشيته الآن عليه في نحو الخمسة أجزاء وقد باحثته في بعض المسائل الفقهية في مجلس أقرائه إذ وجدته في السهو من الشيخ الخرشي المذكور فأورد على الشيخ الخرشي اعتراضات غير انه يغلظ عليه ويكثر من قوله كلام الخرشي فاسد فلما سمعت ذلك أصابتني غيرة عليه ولما وصل إلى قوله لا سنة خفيفة كتشهد (1) إلى قوله وإعلان بكآية إذ قال الشيخ الخرشي قوله وإعلان معطوف على قوله كتشهد إلى آخره فقال الشيخ علي هذا العطف فاسد وقال في بيانه أن التشهد متروك وإعلان ضده والعامل في المعطوف عليه هو العامل في المعطوف ولا يصح تسلط الترك على الإعلان لأن الترك هو العامل في التشهد فلما تم كلامه أغلظت عليه القول فلم يؤاخذني بذلك بل قال ما البيان فقلت له المعطوف في الحقيقة محذوف تقديره كتشهد وسر في بعض الفاتحة أي كترك تشهد وترك سر بأن أعلن وقد صور المصنف الشيء بضده لأن القراءة يكتنفها أمران السر والجهر ولا يترك أحدهما إلا بفعل ضده ولذلك قلنا المعطوف في الحقيقة محذوف كما سبق فسلم رضي الله عنه على يدي وقبلها وبعد ذلك لا يكتب قولة على الشيخ الخرشي إلا أن يعلمني بالبحث بها ومعه شخصان عالمان في غاية التحقيق وهما ضريران لا يكتب شيئا عليه إلا بعد أن يخبرهما ويختبرهما فان سلما نزاعه وبحثه كتبه وإلا فلا وقد أجازني أيضا كما سبق من الشيوخ غير أنه صاحب تواضع بان قال في نص الإجازة لست أهلا لأن أجاز فضلا عن أن أجيز إلخ رضي الله عنه وأرضاه ونفعنا ببركاته آمين.
ولقد رأى أيضا شرحي المذكور في هذه الحجة وأجازني بالتأليف أمدنا الله وإياه بمدده وجعلنا من عده وعدده (2).
__________________
(1) كذا في جميع النسخ وفي متن المختصر ولا لفريضة وغير مؤكدة كتشهد.
(2) في نسخة وجعلنا من حزبه وأوليائه.

وممن أجازني أيضا وزرته الشيخ علي الفيومي الفاضل العارف بالله ذو الأحوال المرضية والمحبة الصافية والحقيقة النبوية والواردات الإلهية والعلوم اللدنية والفتوحات الربانية وكذا عنده تفريد التوحيد وتجريد التفريد وسهم فهمه نافذ إذ علمه يطابق (1) علوم الإنسان الكامل وهو عبد الكريم الجيلي وفتوحات ابن العربي الحاتمي وشوارق عبد القادر الجيلي وأبو حفص عمر بن الفارض وأكثر عباراته في المحو والغيب والفناء وفناء الفناء وله شطحات وتحركات في الوجد وهو ممن يرقص وقد أنكر عليه شيخنا الحفناوي وغيره وقد علمت أن علامة الصديق انه لو شهد عليه ألف صديق بأنه زنديق لا يضره ذلك ومن علامته أيضا كثرة أعدائه وأنه لا يبالي به وقد ألف رسالات في التوحيد الخاص وعندي من تلك الرسائل رسالة في اسم الجلالة رسالة عظيمة بحيث يهتز من رآها ويخشع قطعا لأن فيها علوما لا تكاد توجد في غيرها إلا على سبيل التفريق والقلة وقد قال فيها وفي الخبر يا عبدي خلقت كل شيء لك فلا تتعب وخلقتك لأجلي فلا تلعب وبالجملة ما كان فيك ظهر على فيك كل إناء بما فيه يرشح وهو ممن يلقن أذكار الشيخ البدوي ويلبس الخرقة وقد حققت منه الكشف غير ما مرة وقد نهاني عن الصوم إذ كنت أسرده فلم يتيسر لي بعد إلا الفرض رضي الله عنه وقد أخذت عنه أيضا نفعنا الله به آمين.
وممن أخذت عنه أيضا واجتمعت به الشيخ البركة المحقق الفاضل الكامل الزاهد الورع المقتفي طريق النبي صلى الله عليه وسلم الشاذلي شيخنا ومن على الله ثم عليه اعتمادنا وانه من المتوكلين على الله حق التوكل وأن الجالس معه يحدث في قبله خشوع ويقين وإيمان قوي وحلاوة ووجد يعلم ذلك من حاله (2) وصحبته
__________________
(1) في نسخة وفهمة يافذ إذ علمه غير نافذ يطابق إلخ.
(2) في نسخة جالسه.

ورؤيته لا سيما إذ تلك أخذ القلوب ومن فارقه وغاب عنه أحب (1) الرجوع إليه بل يجد الإنسان الداعي والباعث إلى الرجوع إلى مشاهدته ومشاهدة حضرته وأني جربت من نفسي ذلك فلا أصبر عليه ولو لحظة فإن غبت عنه ساعة وجدت محركا يحركني [إلى الوصول إليه وأن كل هم وغم يزول برؤيته والاجتماع به فإنه يفيد صاحبه](2) بأقواله إن نطق وبأفعاله أن سكت وكله رضي الله عنه علم وحال فانه ينهضك بحاله ، ويدلك على الله بمقاله ، وقد اتقى رضي الله عنه جميع الشبهات ، وحلي بسائر الكمالات ، وقد تقدس رضي الله عنه المتشابه فضلا عن الحرام فلا يركن إلى ظالم ولا يقبل هديته وقد تحقق عنده حب النبي صلى الله عليه وسلم بدليل إتباعه واقتفاء آثاره صلى الله عليه وسلم وهو من أهل القدوة إذ جمع بين الحقيقة والشريعة جمعا متواطئا فلا نظير له في زمانه رضي الله عنه وقد أخذنا عنه الطريق ورسم الحقيقة وانه لقنا الأذكار وجددنا عليه العهد في الطريق الشاذلية المحضة وأجازني إجازة مطلقة في سائر العلوم العقلية والنقلية وقد بالغ رضي الله تعالى عنه في حبنا واعتقادنا ومن عجائب ما رأيت له أنه أمرني بالذهاب معه إلى زيارة الصالحين والأولياء العارفين والعلماء العاملين في القرافة الكبرى والصغرى ملازمته للأدب في الزيادة غاية قل أن يوجد مثله في ذلك وكذا معرفته للعلماء المؤلفين فلا يخفي عليه شيء من قبورهم كأنه هو الذي دفنهم فمهما وصلنا قبرا أو رأيناه إلا قال هذا قبر فلان وفي جواره قبر فلان وفي تجاهة القبلة قبر فلان أيضا إلى أن يعد الجهات والقبور فعلمت أن ذلك ليس من طريق الحفظ والتمرين بل ذلك إنما هو من طريق الكشف لاستحالة أن يكون ذلك من رسم الصفة لأنه من خوارق العادة قطعا.
هذا وأني قد شهدت أنوار صحبته في حال الزيارة معاينة ومع ذلك ما تركنا
__________________
(1) في نسختين أيس.
(2)؟؟؟؟

ناحية من النواحي إلا زرناها من الصبح إلى الظهر وقد رجعنا وصلينا الجمعة في الجامع الأزهر.
وبالجملة فالذي زرناه تلك المدة لا يزار إلا في أيام عديدة ومع ذلك وجدنا حلاوة ما وجدناها في غيرها من الزيارات فأني قد جبلت على حبها من صغري وقد كثرت مني غربا وشرقا وجوفا وقبلة بمعنى وجودها مني للأحياء والأموات فمهما ذكر لي ولي أو صالح أو عالم حيا أو ميتا إلا ذهبت إليه واقتبست من نوره لا سيما عمالة الجزائر فأني قد خضتها وبحثت عن أهلها بحثا شديدا تاريخا وسيرة وطريقة وحالا وكرامة لما رأينا من وقوع الإهمال في ذلك في وطننا فرسمنا كل ذلك رسما جيدا فحفظت من كل خلف وصف أسلافه ونقلت (1) من كل فرع أخبار أصله علما مني أنه لا يمجه السمع السليم والطبع المستقيم ريحانة لما (2) يجده المتأخر بعدنا ورحمة لما يحصل (3) له من اقتباس الأنوار في وطننا فما تركت من جهدي شيئا ولا في استطاعتي أمرا إلا حاولته في التفتيش عنهم والاستقصاء بالطلب والفعل في آثارهم لا سيما أهل بجاية فإنها مدينة عظيمة يكاد زيتها يضيء من علم أهلها وقوة أحوالهم وأنوار مواجدهم ومن أراد استقصاء أخبارهم فليطالع عنوان الدراية للغبريني ورياض الصالحين للثعالبي وغيرهما.
وكذا بالغت في الزيارة والاستقصاء لمدينة الجزائر وأرض الجدار أعني تلمسان وكذا مليانة التي تشرفت بالولي الصالح ، والقطب الواضح ، ذي الأحوال الفاخرة ، والكرامات الباهرة ، سيدي أحمد بن يوسف وقد سمعت أنه أخذ عن الشيخ زروق
__________________
(1) في نسخة بإسقاط ونقلت.
(2) في نسخة بإسقاط لما.
(3) في نسخة بإسقاط لما يحصل.

فصار يترقى حتى أخذ زروق عنه نفعنا الله بهم وأفاض علينا من بركاتهم وبركات أشياخهم.
وكذا الشيخ الكامل ، والولي الفاضل ، صبغة الله في أرضه ، وعين الرحمة في خلقه ، سيدي علي بن المبارك القليعي نفعنا الله به ومثله من تأتيه الوفود وتؤخذ عنه العهود الولي بلا ارتياب سيدي فرج القريب من الجزائر على شاطئ البحر فقبره معلوم وروضته ترياق مجرب وهو الذي أخبر عنه شيخنا ووسيلتنا إلى ربنا سيدي أحمد بن ناصر بأنه هو الذي أظهر الخلوة المزارة المتعبد فيها الأولياء تحت أبي شعيب (1) على شاطئ البحر في أرض مسراتة من عمالة طرابلس الغربية لبرقة وهي التي كان فيها الشيخ زروق.
وكذا البليدة وقد زرنا فيها الأكابر كالولي الصالح الشيخ سيدي الكبير وغيره نفعنا الله بهم آمين ومثلها المدية وقد زرنا فيها الشيخ سيدي محمد ابركان وغيره.
وكذا دلس وما قاربه وكذا جبال زواوة على اختلاف أنواعها ولم تكن بلدة أوسع منها كادت أن تلحق بمصر أو أعظم منها.
وكذا المسيلة وقد زرنا فيها الشيخ القطب الغوث سيدي محمد بن عبد الله بن أبي جملين وغيره.
وكذا زرت مدينة بسكرة وسيدي عقبة والنبي سيدي خالدا وغيرهم وسيدي عبد الرحمن الأخضري صاحب التأليف المشهورة والتصانيف المذكورة وقد زرت أيضا تبسة ومن فيها.
__________________
(1) في نسختين شعيف.

وكذا قسنطينة ومن فيها من الأحياء والأموات لا سيما سيدي سعيد السفري (1).
وزرت أيضا بونة أي عنابة ومن فيها لا سيما من يستجاب الدعاء عند قبره وهو أبو مروان وأولاد سيدي أحمد ابن الشيخ سيدي زروق لا سيما من كتب اسم محمد صلى الله عليه وسلم بقلم القدرة في يده اليسرى وهو من العلماء العاملين لا نظير له في المعقول والمنقول وقد حلاه الله بحلية القبول من رآه أحبه وهابه وقد جبل على السخاء والكرم فأخلاقه وخلقه أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم وخلقه ما رأيت أحسن منه باطنا ولا ظاهرا وقد سألني فيه فأجبته بأنه إنما كتب الله بذلك (2) اليد إعلاما لنا أنك يمين كلك (3) فجهة اليسرى منك منفية عنك وسألني أيضا عن قوله تعالى في مريم واسجدي واركعي مع الراكعين وان كانت الواو لا تقتضي الترتيب إذ كلام البلغاء لا بد في سبقه بشيء من الحكمة.
قلت والله اعلم أن الله خاطبها أولا بسجودها نظرا لمقامها الخاص بها وخاطبها ثانيا بالركوع مع الراكعين نظر إلى حالها مع قومها لأن العارفين بالله تعالى قلوبهم مع الحق وأجسامهم مع الخلق فكانت مريم من هؤلاء المتمكنين الراسخين في العلم ولما سمع كلامنا هذا استحلاه وكتبه وكان أجود الخطوط وما رأيت خطا أحسن منه وانه أجازني رضي الله عنه في سائر العلوم النقلية والعقلية ودراهم دار الولاية من أعالي أسلافهم إلى الآن وان والده رضي الله عنه كان من المؤلفين وتآليفه كثيرة لا تحصى كثرة وقد نظم [مختصر] خليل بتمامه ونظم أيضا عقائد الشيخ السنوسي
__________________
(1) في نسخة الصفراوي.
(2) كذا في جميع النسخ.
(3) في نسخة كلا يديك.

الخمسة وقد رأيت له جوهرة نظما وكذا ياقوتة نظما ورأيت أيضا كتابا ألفه في أخبار العلماء السابقين وأوصافهم وذكر حكايات وأسماء الله وفوائدها وذكر الخضر وأمثاله حاصله كتاب عجيب وله كتاب حسن ذكر فيه السيد عكاشة انه ولي من أولياء الله وليس الصحابي المعلوم وقد شطّر البردة تشطيرا حسنا.
وبالجملة فمن رأى أولاد سيدي أحمد ابن الشيخ رأى أنوار فيهم وعناية كاملة لهم وفضلا عاما لديهم والآن في الحياة ولده الفاضل الكامل سيدي محمد وقد مكثت عنده نحو الجمعة نعم [كنت] ذلك الزمان مشتاقا للحج فقال على طريق الكشف انك تحج السنة ومع ذلك أني فقير والركب في البر قد انقطع من أمر الوباء في الجزائر وكان الأمر كما ذكر فأتى الله بولد سيدي أحمد بن يوسف وهو سيدي أحمد بن طيبة فذهب الركب معه والحمد لله رب العالمين.
وبالجملة فما رأيت أفضل من شيخنا الشيخ العفيفي أسبغ الله تلك النعم على أولاده وعلينا أجمعين بمنه وكرمه فقد أجاز أيضا ولدي محمدا وكان صغيرا ولقنه الذكر على طريق الشاذلية رضي الله عنه وأرضاه آمين وأحواله ونعوته لا تعد ولا تحصى ولا تضبط ولا تستقصى.
وممن أجازني سلطان العارفين ، وإمام المحققين ، شيخنا وعمدتنا العالم على الإطلاق ، وشمس الأنوار بالاتفاق ، الشيخ الحفناوي نفعنا الله به وبأمثاله وكتب الإجازة بخط يده رضي الله عنه في المعقول والمنقول.
وكذا لقنني الذكر على طريق أشياخه وأذن لنا في الإعطاء والأذن نعم كان فاضلا كاملا جامعا للعلوم النقلية والعقلية وجامعا بين الحقيقة والشريعة ويكاد أن يكون ممن يجدد الدين وما رأيت أحسن منه في إقراء العلم كأن الجواهر تخرج من فيه

وذلك منه من غير كلفة ولا صعوبة فالعلوم كلها طوع يده بحيث لا يحتاج إلى كبير مؤنة في استحضارها وقد حضرت في مجلسه المعلوم عند أقرائه الرحبية بالشنشوري يتمنى الإنسان أن يتجرد لصحبته لأخذ العلم منه بحيث لا ينظر إلى وال ولا ولد ولا صاحبة ولا غيرهم وله تآليف كثيرة وان نسبت إلى الشيخ يوسف أخيه فهي في الحقيقة له وعندي من تآليفه حاشيته على رسالة الوضع وهي حاشية عظيمة نعم حاله حال الملوك وقد قال أبو الحسن الشاذلي ومن الأولياء من يظهر على هيئة العظامة والجبر والانتقام لأن الله تجلى على قلوبهم بذلك فلا يصحب ذلك الشيخ من المريدين إلا من محق الله نفسه ومحاها والشيخ من ذلك القبيل فمن سلم له ولغيره وصدق أحواله وأموره انتفه به فلا تسمع لمعاصره من إنكار بعض الأمور عليه إذ قد جرت عادة الله مع أحبابه أنه يسلط عليهم أهل زمانه فلا بد لمتبع ما تحقق لمتبوعه فلا بأس في ذلك ولا قدح أصلا بل يزيد الصادق صدقا والمحق حقا.
وبالجملة فالشيخ أنوار الشريعة ظاهرة عليه ، وأنوار الحقيقة بادية لديه ، وهو من أهل الكشف تحقيقا وأني ذات يوم جلست معه فقال لي قدم بعض المغاربة مصر زمان كذا وكان من نجباء الطلبة وفي قلبه انه يختبر المحقق في الجامع الأزهر فيقرأ عليه ويأخذ العلم منه فصار يتردد في مجالس العلم ويبحث مع أهلها أبحاثا قوية حتى اشتهر في المسجد بتلك الأبحاث وما كان قصده إلا خيرا كما سبق قال ذات يوم أتاه رجل من أهل الخير فقال له لا تعد إلى مثل هذا وإلا هلكت أو سلبت أو كلاما هذا معناه أعلاما لي إذ حالي مثل حال هذا الرجل وقصدي كقصده لأني أتردد في الدروس بالبحث والسؤال حتى اشتهر أمري في المسجد فقال لي إياك ثم إياك فبعد ذلك لم أعد إلى ذلك أبدا وزال عني ذلك كله بل كنت مولعا بالنزاع ومحبا له غير أني بالإنصاف فكنت معافي بحيث لا أحبه ولا أرضاه أصلا بعد ذلك ببركات الشيخ وأن أحتمل أنه حصل له العلم بحالي وثبوته عنده غير أن الكشف أقرب إليه

وأيضا كان لا يأتي إلى المسجد ذلك الزمان إذ قد رفع ذلك من قلبي ببركاته رضي الله عنه وهو دليل على انه من أهل الكشف وأيضا أتى له شخص حديث السن نحو العشرين سنة في عمره جاءه من مسافة بعيدة كسبعة أيام أو أكثر والشيخ لا يعرفه ولا يعرف محله فقال له ذلك الرجل أتيت إليك لأدخل تحت طاعتك وأكون من أولاد قلبك فقال له الشيخ ارتجالا حتى تتوب من عقوق والدك إذ أنت على مدة طويلة عاق له وعاص من أجله فإن أردت اخذ العهد منا فكن على بروره وتب إلى الله من عصيانه فبكى ذلك الشخص وقال نعم منذ مدة طويلة وسنين عديدة وأنا على عقوقه وعصيانه (1) فصاح بالتوبة والاستغفار فعجبنا من حال الشيخ وأصاب ذلك الشخص عبرة بل أصابه بعض الغيب عن حسه فلا أصعب من حيرة البديهة وهيبة الفجاة.
وبالجملة فأحوال الشيخ ساطعة ، وعلومه نافعة وأسراره واقعة ، وآثاره رافعة ، وأهل السلوك قلوبهم خاشعة ، وأصحابه مطيعة سامعة ، وقد زحلق عن القوم (2) الأول ، وكل ملهوف وضعيف عليه عول ، رضي الله عنه ونفعنا به آمين.
وممن حضرت درسه الشيخ عمر الطحلاوي وقد جمع المعقول والمنقول وانه كالشيخ الحفناوي في كونه تخرج من فيه جواهر العلوم وعباراته سلسة تصدر من غير كلفة ولا تعب ولا تعسف قل نظيره في الجامع الأزهر وسمعت منه بعض الرسالة الوضعية وبعض التفسير وهو ذو الجلالين وقد سألته عند قوله في أن المعارف غير العالم هل وضعت وضعا جزئيا أو كليا وقد أوردت عليه كلام القرافي فتعجب من كلامه لأنه غير معهود به إلخ وكذا سألته أيضا في قوله تعالى : (وَلَقَدْ
__________________
(1) في نسخة نسيانه.
(2) في نسخة القرون.

نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ) الآية لأن قوله إذ تقول للمؤمنين ظرف متعلق بنصر فلما ذكر ذلك قلت له إذا كان النصر حينئذ لم يكونوا أذلة أي في قلة فقيد النصر بالملائكة ليسوا على قلة في الظاهر ولا في الباطن فلما عجز عن الجواب صار يغالطني بكلام ليس من العلم وهي المغالطة الخارجية فلم أرجع إلى مجلسه بعد غير انه مشتهر بالتحقيق وهو من مشائخ المالكية الكبار.
وممن سمعت منه أيضا الشيخ العالم العلامة ، المحقق الفهامة ، ذو الأبحاث الرائقة ، والنكت الفائقة ، الشيخ الزياتي الشافعي بعض المسائل من النحو أعني كلام الأشموني وهو ممن يحب البحث والإنصاف فمهما أوردت عليه شيئا إلا قال بلزوم الإيراد وإنما ينظر الجواب عنه وهو ضرير في غاية التحقيق وقد اشتهر بذلك في الجامع المذكور وحضرت عليه أيضا دروسا في المحلي نفعنا الله ببركاته آمين.
ومن أشياخي الشيخ الفاضل ، والعالم الكامل ، إمام الجامع ، ذو الصدر الواسع ، الحافظ على الإطلاق ، والناقل بالاتفاق ، وله باع قوي في المنقول والمعقول وقد أخذ عنه كل من كان في زمنه من الشافعية والحنفية والمالكية وغيرهم فقد حقق المذاهب رضي الله عنه الشيخ سالم النفراوي ولقد علم من حاله أن كل من يحشي أو يشرح بفوائد غريبة أو نقول عجيبة إنما ذلك منه رضي الله تعالى عنه ونفعنا به آمين.
وقد قرأت عليه مدة مختصر السعد غير أنه ما رأيت مثله أبدا نعم لا يسأله أحد في المجلس لأن جميع ما يخطر ببالك إلا ألقاه في الدرس وإن بقي للإنسان شيء ألقاه عليه بعد الفراغ منه وأما أ ، ا فاسأله دائما وهو يجيبني من غير غضب ولا عنف لكوني غريبا من آل المصطفى صلى الله عليه وسلم وكان يحضر مجلسه نحو السبعين طالبا نعم لما رأوني اسأله ولا يمتنع من الجواب تعجبوا من ذلك وصاروا بعد ذلك يرغبون ويحبون مني دوام السؤال له بل تارة يأمرون بالسؤال وتارة بالإشارة إلى

ذلك لأن الشيخ نفعنا الله به ضرير أي أعمى ومع ذلك انه من أكابر الأئمة وأفضل علماء مصر فلا ترى أحدا في الجامع مثله لأنه شيخ الجميع كما سبق وإمام المحققين على ما تقرر واشتهر.
هذا وقد وقع بيننا وبين الوالد رحمه الله نزاع في بعض المسائل من مسائل الفقه فاستظهرت أنا والعلامة الفاضل والمحقق الكامل عمنا سيدي محمد الصغير أمرا والوالد جزم بفهم آخر وهو قول خليل وتفكّر بدنيويّ إذ ذكره في باب المكروهات فقال جميع من شرحه محل ذلك إذا درى ما صلى وإلا بطلت صلاته أي أن لم يدر ما صلى بطلت إلخ فقال الوالد يصدق ذلك أي عدم الدراية ولو بركعة واحدة لأنه لم يدر ما صلى فقلنا له في الرد عليه هذا يبنى على المحقق ويأتي بالمشكوك فيه لأن قولهم أن لم يدر ما صلى إلخ إذا صدرت منه أفعال كثيرة ولم يظبطها أصلا ولم يتحقق عنده ولو ركعة فهنا تبطل الصلاة لأن الفعل المضارع في سياق النفي كالنكرة في سياقه يفيد (1) العموم فلما ذكرت ذلك له أجابني بما قال به أبي نعم عندنا أنه لا بد لمن يضبط شيئا من الصلاة بمنزلة من صدرت منه أفعال أجنبية منها فتبطل صلاته غير أن الشيخ ابن أبي جمرة ذكر في مسألتنا هذه قولين والله اعلم.
حاصله علمه مشهور ، وتحقيقه مذكور ، وقد حضرنا موته في الحجة الثانية وقد ازدحم الناس على الصلاة عليه بان لا تجد موضعا في الجامع الأزهر إلا وهو عامر فقد أتى للصلاة عليه أكثر أهل مصر ومات فجأة رضي الله عنه وخطب الإمام عليه على المنبر خطبة عظيمة بأن ذكر علمه وحاله ونسبه وهو متصل نسبه (2) بالشيخ أحمد الرفاعي أفاض الله علينا من بركاته وجعلنا في زمرته وخرجت مع جنازته مع بعض
__________________
(1) في نسخة لا يفيد.
(2) كذا في جميع النسخ.

الطلبة فوقع الازدحام على نعشه أي سريره الذي حمل عليه حتى أن بعض الولاة أقام شواشا يدفعون عنه نعم لم يفيدوا شيئا فلما خرجنا إلى القرافة الصغرى لم نر جنازة ولا قبرا ولا قبره من كثرة الخلق فمن الجبل إلى مصر لا ترى موضعا خاليا يكاد من خرج لجنازته أن لا يحصى كثرة وانه لا يقع ذلك الجمع أصلا في بلد من البلدان فلو كان في غير مصر ما ظننت أن يتفق جمع مثله ولا عمارة تساويه ولا محلا يأويه نفعنا الله به وبأمثاله آمين.
وممن أخذت عليه المحقق المدقق الكامل ذو الفضائل والفواضل والحافظ الورع الزاهد المدرس صاحب الأنوار والعوارف والأسرار شيخنا سيدي أحمد الأشبيلي تلميذ الشيخ الحفناوي وهو ممن ظهر عليه آثار الفضل في ابتداء أمر الشيخ وقد اشتهر حاله في الحرمين الشريفين علما وحالا وسرا وقد كان من المحققين فقرأت عليه بعض مختصر السعد في البيان قراءة تحقيق ما رأيت مثله بتدقيق المسائل وتحريرها وفي آخر أمره كان ملتزما للحرم الشريف رضي الله عنه ونفعنا به.
وفي الحجة الأولى اجتمعت مع الولي الصالح والعالم الواضح فكان ديدنه وشأنه الهجرة للعلم من داره في الإسكندرية إذ كان ملازما لإعطاء العلم في الأزهر وكان فاضلا فقيها متكلما بيانيا مفسرا أصوليا نحويا لغويا أديبا حاصله قد جمع المعقول والمنقول والحقيقة والشريعة واعيا للمذاهب الشيخ الصباغ السكندري نفعنا الله ببركاته آمين بمنه وكرمه.
وكان ممن يحضر مجلسه النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الأربعة يقظة وقد سمعت ذلك ممن سمع منه والذي سمعت منه هو الفاضل العدل الثقة المبرز في العدالة والعالم الفقيه المحدث المفسر صاحب المنقول والمعقول سيدي أحمد زروق نجل الشيخ المؤلف البركة سيدي أحمد بن الشيخ العنابي المتقدم ذكره قال غير أن

ذلك ارتفع عنه مدة وسبب ذلك أن بعض الناس من أصحاب الشرطة من الظلام جاء ليقرأ عليه ويحضر مجلسه فخطر لهذا الشيخ أعني الشيخ الصباغ كيف يحضر هذا من أصحاب الشرطة مجلسي والنبي صلى الله عليه وسلم فيه مع أصحابه أي استعظم ذلك فلما علم الجميع منه ذلك قام أبو بكر فقال له ألم تعلم أن هذا من أمته صلى الله عليه وسلم وتبعه عمر بأن قال قوله ثم عثمان كذلك ثم علي كذلك ثم محمد صلى الله عليه وسلم وقال بمقالة الجميع ثم قال الصباغ المذكور فصرت لا أراه صلى الله عليه وسلم إلا في النوم وأراه كما تراه الرعاة وقد كان أذن لي في الكلام معه وبعد هذا أن رأيته لا أتكلم معه.
يؤخذ من هذا أن العبد لا يحقر أحدا بين عينيه ولا يذمه بقلبه ولا يفر من مجالسته ولا من مخالطته إن جاء طالبا للخير كائنا من كان ولو كان ممن يجاهر بالمعاصي ولعله يكون بمخالطتك وحضوره معك تائبا راجعا إلى الله تائبا إليه نادما على ما صدر منه مقلعا فتكون سببا في صلاحه وقد قال صلى الله عليه وسلم ولئن يهدي الله بك رجلا واحدا خير من أن يكون لك حمر النعم أو كما قال وأما ازدراؤه وغمصه بين عينيك أو التحاشي عنه بحيث لا يسمع منك كلاما من الخير أو تقول هذا لا يجالس مثلي ولا يكون في زمرة الأخيار تعظيما لجانبك أو جانب من كنت معه فكبر وبطر عن الحق فالذي يجب عليك أن تنقذه مما هو فيه بأن تداويه بالوعظ والزجر إن كان لا يفر (1) وإلا فباللين حتى يرجع عما هو عليه ومع ذلك أعتقد أنه أولى منك إذ من كان على شر أولى ممن كان على خير ويقول أنا فإن الطاعة لا تكون مع الكبر والعجب ورؤية العمل للنفس واستحسانها له والمعصية لا تكون معصية مع الذل للنفس وانكسار القلب من أجلها أي المعصية.
__________________
(1) في نسخة يفرق.

حاصله خواطر الحق بينة وخواطر الباطل ظاهرة مضلة فمن راعى خواطره رعي إذ لا يرعاها إلا سعيد ولا يهمل نفسه وخواطرها إلا شقي والعياذ بالله تعالى.
حاصله الشيخ الصباغ صبغة الله لخلقه ورحمة للعالمين في أرضه لا سيما الغرباء والضعفاء والفقراء فلا تجد أحدا في زمانه يرحم الأمة المحمدية مثله رضي الله عنه وقد كان رضي الله عنه أكثر زمانه في مصر مجردا عن أهله إذ أهله في الإسكندرية وهو في مصر يعلم الناس ليلا ونهارا وبركاته قد عمت الخلق جميعا فلا ترى نصوحا للأمة مثل وقد حلاه الله تعالى بحلية القبول فمن رآه أحبه وقد صدق عليه قوله تعالى سيجعل لهم الرحمن ودا.
وبالجملة فكل من أخذ عنه العلم أو الطريقة إلا ظهر عليه آثار الفضل وحلي بحلية العارفين ونعت بنعت الزاهدين وكان ممن يخشى الله ويتقيه نفعنا الله به وقد حضرت عليه دروسا في العلم ومع ذلك تعلقت به رضي الله عنه وأرضاه وان أخلاقه وخلقه أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم وخلقه كان غير منقبض جدا ولا منبسط كذلك بل إلى البسط أرجح والبسط مقام محمود فلا يكون صاحبه إلا منتفعا به بخلاف صاحب القبض يقل نفعه في جانب الرحمة وإنما يغلب ضره وهلاكه فلا يصلح للمريدين والذي يصلح لأهل السلوك هو صاحب البسط أفاض الله علينا من بركاته وجعلنا من أهل زمرته بمنه وكرمه.
وممن أخذت عليه القراءات السبعية إفرادا الأستاذ المحقق والفاضل المدقق سيدي أبو القاسم الربعي (1) القسنطيني إذ قرأت سورة البقرة والفاتحة عليه وأظن أن الشيخ البغالي من أشياخ أشياخه وقد سمعنا انه قرأ على شمهورش الطيار وهو قد
__________________
(1) في نسخة الربيعي.

أخذ قراءته على النبي صلى الله عليه وسلم وهو من أهل الصلاح قطعا وقد أجازني أيضا نفعنا الله به.
وممن اجتمعت معه وصاحبته أيضا وهو من أهل الله حقا وكان عالما فاضلا صاحب حال ووج وشوق له كشف قوي وفتح إلهي ووارد صمداني وله كلام في الحقائق رائق وإذا ورد عليه كلام في الفتوحات تكلم به من غير كلفة ولا تعب وقد جعل كتابا عظيما في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم على نهج دلائل الخيرات غير انه لا يكتب تآليفه إلا إذا وجدها في سره رضي الله عنه وهو الولي الصالح والعارف بالله الواضح سيدي الهاشمي المغربي إذ اجتمعت معه في الحجة الأولى وسبب معرفتي إياه أني وجدت رجلا فاضلا عليه سيمة طيبة يقرأ عند باب الجامع الأزهر وتعلق قلبي به فجلست عنده فوجدته يقرئ في ابن هشام أعني المحاذي على الألفية بشرح السيد خالد أعني التصريح وحاشية الشيخ يس عليه فما رأيت مثله في التحقيق وحسن العبارة نعم كلامه عليه حلاوة وطلاوة سيدي إبراهيم نجل الشيخ سيدي علي شعيب التونسي وقد اجتمع في هذه النخبة العلم والصلاح والعبادة والمجاهدة وقد قيل لي أنه غلب عليه القيام والصيام كأنه لم يبق لسواه فيه نصيب فقد كان كله لله رضي الله عنه ونفعنا به وان العلوم النقلية والعقلية طوع يده.
حاصله محاسنه لا تعد ولا تحصى ولا تضبط ولا تستقصى نعم كنت حينئذ أسرد الصوم وواصلت نحو ثلاثة أيام من غير أكل طعام إلا إذا أفطرت على الماء القراح فلما ورد علي اليوم الرابع تغيرت نفسي وتحركت طلبا للطعام فكنت في المجلس أتردد هل أزيد اليوم الرابع كذلك أو أذهب لرفقتي في بولاق لتحصيل الطعام معهم أو أبيت في الأزهر صبرا حاصله تشوقت نفسي للطعام وإلى تحصليه فلا ختم المجلس السيد إبراهيم المذكور تفرق أهل مجلسه فبقيت هناك والله اعلم ساعة زمانية

ثم قمت فدخلت المسجد وإذا بالفاضل المذكور سيدي الهاشمي واقف معي فأعطى لي نحو رطل من تمر معجون معه شيء من الرغيف حاصله أتاني بما يكفي الإنسان الجائع فقال من يتوكل على الله ويعتمد عليه لا يتحير في أمر العيش ولا ينتظر غير الله تعالى فتعجبت من كلامه واطلاعه على ما بنفسي وما رأيته قبل قط فكأنه حاضر في قلبي فعلمت أنه ولي من أولياء الله تعالى فرغبت في صحبته وإذا هو راغب مني فتعلق بي تعلقا كليا فأعلمت به الأخ في الله والمحب من أجله صاحب الكشف أيضا والصدق تحقيقا سيدي محمد الشريف البلغيثي الطرابلسي وابن عمي سيدي محمدا صالحا وتلميذي سيدي محمدا الجوادي فتلعق الجميع به ظاهرا وباطنا ثم أنه لم يفارقني إلى أن سافرنا إلى الحج فنفعنا الله به آمين.
ولما رجعنا من الحج وجدناه ينتظر جماعتنا خارج مصر ثم ذهب بنا إلى داره رغبة ومحبة وفرحا وسرورا فأقمنا عنده ثلاثة أيام ومع ذلك ما ترك أحدا منا يخرج من داره أصلا.
هذا وأني كنت لا آكل سمنا ولا لحما ولا أداما فإن رمت شيئا من ذلك خرج عقلي فلما وصلت داره فأتى بكل ما منعت منه فقال لي كل ولا تخف قلت خفت زوال عقلي إذا جربت نفسي في ذلك فقال لي كل فأنت مأمون من كل ما تخافه بإذن الله تعالى فأكلت وما صار لي شيء من ذلك بإذن الله تعالى فعلمت أن له حالا قويا مع الله تعالى ثم كان معنا كذلك إلى أن سافرنا إلى بلدنا نعم مرضت مرضا في مصر وأشرفت فيه على الموت وكنت حينئذ في الوكالة فيضيق علي الحال مع الوحشة إذ أصحابي ربما خرجوا وتركوني وحدي فحين يتقوى التوحش علي وإذا به وارد يؤنسني ويقول لي لا تخف فإن الله يعافيك أو كلاما هذا معناه.
والحاصل أن هذا السيد من أكابر الصالحين والعلماء العاملين فينبغي أن تشد

إليه الرحال نفعنا الله به وبأمثاله وأما من زرته مت الصالحين ، والعلماء العاملين ، فكالشيخ العارف بالله المبصر بنور الله وهو من الواصلين حقا ، ومن العارفين صدقا ، من له كشف تام ، ونفع عام ، الشيخ كشك (1)
(2) فإنه رضي الله عنه يحكى عنه انه ما دخل أحد مصر من أهل الله غالبا إلا سلبه وكان له التصرف التام وقد أخذني حال غيبتي عن إحساسي أظنه خارج مصر غير أن المواهب تجري على لساني فضبط مني أصحابي كلاما على هذا الشيخ وأنا غير مستحضر له غير أني ذكرت كلاما على طريق النظم في شأنه والآن طال عهدي به أو على غيره والله أعلم.
ثم إن تلك الورقة التي فيها ذلك الكلام حملها سيدي محمد الشريف المذكور معه بحيث لم يرها أحد فلما اجتمعنا معه رضي الله عنه قال له مد لي تلك الورقة فتعجبنا منه ودعا لنا من قريحة قلب وعزيمة همة فعلمنا أننا قد نلنا منه ما لا يحصى كثرة وأنا زرنا في مصر أولياء وصلحاء قد تعذر علينا ضبط أسمائهم لغلبة النسيان على البشر أفاض الله علينا من فضلهم وجودهم وإحسانهم.
وممن اجتمعت معه أيضا في هذه الحجة المنور على الإطلاق ، والولي العارف بالاتفاق ، صاحب الجذب الإلهي ، والحال الناهي ، والوجد الزاهي ، العالم بالحقائق ، والراسخ بالدقائق ، المنفق من الفتح ، من قد جبل على الصفح ، أنوار معارفه مشرقة ، ولوائح أسراره رائقة ، فقد توقى في أوقاته ، وتشكل روحانيا في سماواته ، فكاد أن يكون من عالم الأمر لطافة ، فغالبه بشر وقلبه ملك ف الخلافة ، أن امتحنته وجدته لم يرق أحد مرقاه ، ولا سلك شخص مسلكه وحيدا في مثواه ، أن تكلم أغرب ، وأن أفصح أعرب ، جدير بما يقول ، وعندي هو أكثر ما نقول ، الشيخ محمود الكردي نفعنا الله به وبأمثاله وقد اعتقدنا فيه أكثر مما نقول لأن ما خامر القلوب فعلى الوجه
__________________
(1) كذا في جميع النسخ ولعله كوجك أو كوجوك.
(1) كذا في جميع النسخ ولعله كوجك أو كوجوك.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مشاركة مميزة

بناء شخصية  الأطفال   ...