الخميس، 8 مارس 2018

الرحلة الورثيلانية
فالرحلة الورثيلانية الموسومة بنزهة الأنظار في فضل علم التاريخ والأخبار( الجزء السادس والاخير من الكتابة )
تلوح أثارة والأسرة تدل على السريرة وما كان فيك ظهر على فيك.
وقد سمعنا الأخ في الله سيدي محمدا الشريف يذكر عنه أمورا يكاد أن يكون صاحب وقت إذ لا غرابة في صدور مثلها من مثله.
حاصله لا يخفى عليه شيء في الكون وله اسراءآت بروحه متعددة كثيرة ومجاهدات عظيمة يكاد العقل أن يحليها منها ما سمعت انه مكث أربعة عشر عاما ما شرب ماء.
حاصله مجاهدته قوية عظيمة وتتبعها كثير نعم لما اجتمعنا معه أخذ بمجامع قلبي وكلامه كله طب نبوي وترياق مجرب ولو ساعدنا الحال ما فارقناه طرفة عين لأنه كنز لا يفنى والله اعلم انه ممن يقلب الأعيان فعند مجالسته تزول الهموم والغموم وقد حصلت فيه علامة الولاية وهو انه إذا رأيته تذكرت الله تعالى وانه أيضا لا يفتر عن ذكر الله تعالى ومن أعطي الذكر فقد أعطي منشور الولاية ومن سلب شيئا من الذكر فقد عزل عنها ولا تسمع من يعترض على مثله من أهل زمانه فإن ذلك شقاوة والعياذ بالله تعالى فقد جمع وأوعى ولا غرابة في كون التلميذ أعظم من شيخه إذ شيخه الشيخ الحفناوي كما سبق في الشيخ زروق مع سيدي أحمد بن يوسف.
حاصله أن الشيخ المذكور بلغ الغاية في الترقي والمجاهدة رضي الله عنه وأرضاه ولا جعله آخر عهد بيننا وبينه آمين ليتم ما أردناه.
وممن اجتمعنا معه أيضا وزرناه من لاح نوره ، واشتهر أمره ، وارتفع صيته ، العالم الفاضل ، المحقق الكامل ، العبقري الحافل ، الذي هو البحر من غير ساحل ، من رآه تحقق صلاحه وولايته بلا ناقل ، الشيخ الجوهري نعم أهل مصر اتفقت كلمتهم على انه ولي من أولياء الله تعالى وما حصل من الجود من الله عليهم ، والفضل

لديهم ، إنما هو لوجود مثله وكفى به علما وعملا وخشية وإتباعا للنبي صلى الله عليه وسلم واقتفاء آثاره عليه الصلاة والسلام وقدوة للأمة المحمدية نفعنا الله به وبأمثاله آمين وأظن أنه ممن لا يشقى جليسه نعم أنوار الولاية تلوح على وجهه من غير شك فهو محقق الفلاح والنجاح فلا تجد أحدا يسوء ظنه فيه بل قد حلاه الله بحلية القبول وكذا أطلق السنة الخلق بالثناء عليه عموما والسنة الخلق أقلام الحق متع الله المسلمين بطول حياته وجعل البركة في أيامه وأفاض علينا من بحر أنواره بمنه وكرمه.
وممن اجتمعت معه وزرته مرارا الشيخ الصالح ، والولي الواضح ، الشيخ الغرياني نفعنا الله به وبأمثاله وهو ممن ظهر عليه الفضل والخير والناس أفواجا في مصر تتبعه تقتبس الأنوار والفتح منه وتتوسل بجاهه وقد اشتهر عند أهل مصر أيضا أنه هو الحارس للركب فإن أهل الخير جعلوه رقيبا عليه ومأمونا من أجله فلا يقع مكروه به لوجهه والظن منا به كذلك نفعنا الله به وبأمثاله رضي الله عنه وأرضاه ورزقنا العافية في الدنيا والآخرة مع كفاية همهما بمنه وكرمه.
هذا وأن مصر قد حشيت بأولياء الله وأنهم فيها كالنجوم في السماء فالمستور فيها أكثر من الظاهر إذ الخامل فيها أكثر من أن يحصى والغالب أن أسواقها لا تخلو منهم فمن أزيل عنه الحجاب رآهم عيانا.
وبالجملة فأحوالهم كمثل بحر ووجودهم كثير فهم ينبتون فيها دائما لا تنقطع آثارهم ، ولا تغيب شموسهم وأقمارهم ، فعلى من دخل مصر أن يجعل معتمده عليهم فإن بحث عنهم وجدهم لا سيما أن كان بصدق الطلب فوطن مصر ليس كغيره رضي الله عن أولياء الله أين كانوا ونفعنا الله بهم وجعلنا في زمرتهم آمين.

وممن اجتمعت معه في مصر أيضا الفاضل المحصل ، والعالم المؤمل ، الفقيه المفسر ، المحدث المخبر ، المنطقي الكلامي ، المؤرخ الأصلي البياني ، المرتقي أعلى رتب التدقيق الجامع بين الحقيقة والشريعة الشيخ المنور التلمساني ، تلميذ الشيخ القطب الرباني ، والعارف الصمداني ، سيدي أحمد الحبيب الفيلالي نفعنا الله بجميعهم آمين وقد كان يقرئ الكبرى في رواق المغاربة واجتمع عليه خلق كثير من مصر ومن المجاورين وغيرهم غير أن الغالب منهم مقصودهم البركة ومعه التحقيق من غير شك.
وكان الشيخ العمروسي يحضر درسه ومع ذلك أنه شرح خليلا وكان الشيخ خليل المغربي (1) قد وقع بينه وبين الشيخ نزاع في بعض المسائل في الكبرى في كلام الشيخ السنوسي فلما طال نزاعهما وقد ظهر لنا ما ظهر للشيخ خليل قلت الحق مع الشيخ خليل فلما خرجنا قال لي والله لقد أساءني نصرك للشيخ المذكور فأجبته بما هو حاصله أن الحق أحق أن يتبع وما ذكره هو الحق والله تعالى اعلم فلما علم الشيخ خليل منه ذلك انقطع عن مجلسه وقبل ذلك أوردت عليه مسائل من العلوم منها في البيان على من يقول في قولهم أنبت الربيع البقل انه استعارة بالكناية أي شبه الربيع بالفاعل الحقيقي الذي هو الله تعالى في كونه منبتا فحذف المشبه به وهو الله وأثبت له شيئا من لوازم المشبه به وهو الإنبات لأنه من فعل الله تعالى فالحق أن يسند إليه ثم أن الربيع فاعل حقيقي ادعاء ومبالغة في التشبيه أي فرد من أفراد الفاعل الحقيقي ثم استعير الربيع للخالق الذي هو الله تعالى بأن جعل اسما من أسمائه على مذهب السكاكي إلخ فقلت له يلزم من ذلك أن يكون اسما من أسماء الله تعالى وأسماء اله توقيفية فلا يجوز إطلاقه عليه بناء على ذلك القول لأنه تصرف في الذات ولا
__________________
(1) في نسخة الأزهري.

يتصرف فيها إلا الله تعالى وكذا على القول الأخر لأنه لفظ يوهم النقص فلا يجوز أيضا فتحير في الجواب بعد جهد جهيد في الوصول إلى الإشكال فضلا عن الجواب على أن الادعاء في الاستعارة كاف في انفكاكه.
قلت هب على انه كذلك فلا يسمن ولا يغني من جوع لأن الكلام في إطلاقه على ذاته وهو حاصل قطعا على هذا المذهب لأن المستعار هو الربيع فيكون إطلاقا على الذات من غير شك وأما على القول بأن المستعار هو الفاعل الحقيقي والمستعار له هو الربيع فلا يلزم فيه شيء كما علمت ويظهر لك من قولهم أنشبت المنية أظفارها قيل أن المنية استعير لها السبع إلخ أو أنها فرد من أفراد السبع ثم استعير اسم المنية له على ما اشتهر بينهم وعليهما فانبت الربيع البقل على كونه استعارة بالكناية وأما على القول بأنه من المجاز في الإسناد فلا يلزم فيه شيء أصلا فلم يأت بجواب رأسا.
أقول فيه والله اعلم أن التحقيق في الجواب هو أن ذلك الإطلاق ليس المقصود منه التسمية لله تعالى باسم الربيع وإنما المقصود التشبيه لأن الاستعارة مبنية عليه وإن كانت تباين التشبيه في الاستعمال والله تعالى اعلم.
ومنها أني أوردت عليه أيضا من علم الكلام مسائل عديدة فلم يفصح عن جميعها بجواب وأن أجاب عن البعض فلا يسلم من أمور ترده.
حاصله أن الأسئلة باقية إلى الآن فالسؤال الأول العلم بالوقوع تابع للوقوع ولو كان الوقوع تابعا له لدار كما ذكره الشيخ السنوسي في الوسطى فسألته عن بيان الدور وعن معنى هذا الكلام فوجدته كأنه ما سمعه قط فلم يتعب نفسه في شيء أصلا فلما علمت منه ذلك تبين لي أنه لا خبرة له به رأسا والكلام فيه معلوم وإنما اختلفت عبارة الجميع في تفسيره وبيان معناه وإلا فهو كنار على علم إلا أن التحقيق

أن العلم بقدوم زيد يوم الخميس تابع لقدومه بالفعل ولو كان القدوم بالفعل تابعا للعلم بالقدوم لدار وهو محال لأن القدوم بمنزلة التصور والعلم به كالتصديق وقد علمت أن التصديق تابع للتصور ولو كان التصور تابعا له لدار وهذا معناه والله اعلم ذكره بعض أفاضل المحققين وقال بعضهم إرادة قدوم زيد كما سبق متبوع والعلم بقدومه تابع لإرادة قدومهم ولو كان العكس لدار نعم العلم بالأشياء [كلها سابق تعلقا على إرادتها وأما العلم بوقوع شيء فهو](1) مسبوق بإرادة وقوعه وغير ذلك أنظر القاضي زكرياء على الرسالة القيشرية.
والسؤال الثاني في أن البصر في حقنا يتعدد بتعدد المبصرات فما لم تره فلمانع قام بالعين فلزم عليه أن الجزء الواحد قامت به أبصار وموانع وهي أضداد يستحيل اجتماعها في محل واحد فلم يتفق له الجواب أيضا كأنه رضي الله عنه وان حصل له العلم تحقيقا فقد طال عليه العهد برؤية الكتب لما علمنا من حاله انه ذهب للسيد الشيخ المعلوم ذي الطريقة المشهورة والأنوار الظاهرة والكرامات الحاضرة والأحوال الباهرة وكيف لا وهو من ذرية أبي بكر الصديق رضي الله عنه فقد سرت (2) فيه روحانيته صلى الله عليه وسلم فاشتغل عنده بالأسماء وخواصها حتى نسي العلم وقد مكث عنده مدة طويلة أكثر من عشر سنين فأثر فيه ذلك النسيان.
أقول في الجواب أن الموانع والأبصار وإن كانت متضادة بحسب المعنى غير أن ما تعلق به البصر غير ما تعلق به المانع فلا تضاد ذكر هذا الجواب بعض المحققين من الأفاضل.
فإن قلت إنما يتم لو تعدد المحل فلما كان المحل واحدا وقام فيها المتضادات
__________________
(1) ما بين القوسين ساقط في نسختين.
(2) في ثلاث نسخ سارت.

امتنع لأن المانع مضاد لأصل البصر وضد المثل ضد.
قلت نعم غير أنه إنما يلزم في غير المتعلق كالألوان والأكوان لأن اللون إذا قام بمحل منع قيام ضده به فإن قام السواد مثلا بمحل واحد منع قيام البياض به وأما قيام بصر زيد في جزء من محل عين عمرو فلا يمنع من قيام مانع بصر بكر فيجتمع المانع والبصر في محل واحد غير أنهما مختلفان تعلقا كما ترى وهذا كلما مررت بهذا المحل إلا خطر لي هذا الإشكال في صميم القلب فادفعه بما سبق من الجواب غير أن في القلب منه ما ذكرنا فتأمله منصفا والله اعلم.
والسؤال الثالث والرابع بالنسبة لعلم الكلام في تعلق علم الله بالمحال هل تعلق به تصورا أو تصديقا وهو سؤال قوي فقد زلت فيه الأفاضل والفحول فلم يفصح لي بالجواب أيضا نعم تعل علم الله بنفي الشريك وشبهه من كل محال وإنما الخوض في علمنا الذي يتعلق تصورا وتصديقا وأما علم الله فمنزه عن ذلك وان بقي فيه نوع خبط (1) غير انه خوض في ما لا يليق به تعالى إذ أكثر من هذا مستحيل عليه تعالى.
والسؤال الخامس في قول السيد الخرشي في شرح خطبة خليل وحمد المؤلف العام وشكره الخاص في مقابلة قول البراذعي على ما خص وعم من نعمه فما للبراذعي ترق وما للمؤلف محتمل له وللتدلي فقال في تقرير ذلك ونسبه لابن مرزوق أن الأصوليين اختلفوا هل الخاص أفضل أو العام في ذلك قولان فإذا بنينا على أن العام أفضل فقول البراذعي ترق لأنه بدا بالخاص ثم العام وأما قول خليل فيحتمل القولين فإذا كان العام أفضل فهو تدل وإن كان العكس فترق.
قلت هذا منقوض لأن البراذعي كخليل أي عبارتهما معا تحتمل القولين فلا
__________________
(1) في نسخة خطب.

فرق بينهما والتفريق بينهما تفريق بلا مفرق وهو من التحكم قطعا.
حاصله قد اتحد نسبة القولين إلى كلام الإمامين أي نسبة واحدة فلما ذاق هذا وحققه سلم الإيراد لم يفهم وجه الترقي والتدلي.
فقلت له ولمن حضر من العلماء في الجواب أن الترقي في كلام البراذعي انه بدا بالأخص إذ هو أقل إفرادا ثم العام إذ هو أكثر فهو ما تزايد من النعم يحتمل أن يكون على الحامد نفسه فيقدر حمدا يوافي ما تزايد علي وفي قوله والشكر له على ما أولانا من الفضل إلخ النون للتشريك أي علي وعلى غيري فيكون عاما.
حاصله أن الحمد خاص كما سبق والشكر عام فهو ترق فكأنه قال يوافي ما تزايد علي والشكر على ما أعطاني أي لي ولغيري فيكون ترقيا كما للبراذعي أو يكون تدليا وهو الظاهر فإن حمد المؤلف عام أي يوافي ما تزايد من النعم علي وعلى غيري وشكره خاص فبدا بالعام ثم الخاص وقد تقرر أن العام أكثر إفرادا من الخاص فهو تدل قطعا وبالجملة فكلام خليل يحتمل التدلي والترقي غير أن التدلي فيه أظهر.
فإن قلت قول الخرشي وحمد المؤلف العام وشكره الخاص إلخ مناف لهذا التقرير لكونه جزم بقوله وحمد المؤلف فما هذا منك إلا شبه تناف لكلام خليل.
قلت ولا منافاة إن شاء الله تعالى لأن جزمه بذلك على الظاهر من الاحتمال ما سبق فتأمله منصفا وقد جعلت في رسالة على نحو ما سبق فاستحسن الجواب كل من حضر المجلس وهذا الذي قررت شيء فتح الله به علي في هذا المقام إذ كل من يمر به يستهوله ويستصعبه وإنهم لا ينفصلون عنه كبير انفصال.
وقد أوردنا هذا الكلام على الوالد رحمه الله لأنه افقه زمانه وما رأيت مثله في

الفقه إذ انه في التحقيق بمكان فاستصعبه غاية ولما سمع بما فتح الله به علي شكر الله على ذلك وفرح بسببه فرحا عظيما.
والسؤال السادس في النحو وهو قولنا في قول ابن مالك :
وصالحا لبدلية يرى
 

في غير نحو يا غلام يعمرا
 
ونحو بشر تابع البكرّي
 

وليس أن يبدل بالمرضي
 
أما بشر تابع للبكري فهو ظاهر المنع لأن البدل على نية تكرار العامل ولا تصح هنا لأن المحلى بالألف واللام لا يضاف إلا لما هو كذلك وهنا ليس كذلك وأما يعمر بالنصب فأعرابه عطف بيان صحيح لكونه تابعا للمنادي المضموم لفظا المنصوب محلا فنصب وأما إعرابه بدلا فلا يصح لأنه على نية تكرار العامل والعامل هنا ياء النداء كأنه قال وذلك قول الشاعر [وهو المرار الاسدي]
أنا ابن التارك البكري بشر
 

عليه الطير ترقبه وقوعا
 
يا غلام يا يعمر فيضم مع أنه لم يقع مضموما غير أن هذا لا يظهر كونه علة للمنع وأما المثال الأول فقد ظهر فيه علة المنع وأما المثال الثاني فليس له علة للمنع غايته مخالفة ما نطق به المتكلم وذلك ليس بمنع فليس من باب القراءة لأن القراءة سنة متبعة فيصح حينئذ عطف البيان فيه وكذلك البدل أيضا فلا تأثير لمتابعة ما نطق به المتكلم من النصب فيجوز حينئذ اعتبار الوجهين قطعا البدلية وعطف البيان فتأمله منصفا.
وقد استخبرت عليه أناسا غربا وشرقا فلا أجد أحدا يقول غير ما ذكرناه من وقوع النطق به منصوبا وإنما اسأل الناس هل أجد أحدا منهم حفظ هذا اللفظ وهو يا غلام يعمر من الشعر وانه وقع بالنصب رعيا للقافية إذ لو ضم لخالف الحرف

الروي في القصيدة لأنها منصوبة فلو ضم لوقع فيه المخالفة المذكورة.
أقول جميع من شرح الألفية لم ينبه على هذا السؤال ولا على الجواب نعم أنا أظن أنها من قصيدة شعر رويها منصوب فلو ضم على البدلية لأنه على نية تكرار العامل لوقع الخلف فيها غير أني لم أطلع على انه من الشعر فانظر رحمك الله لعلك تطلع عليه في ديوان الشعراء فيزول اللبس فيما وقع فيه الكبس من سائر الطلبة المسئولين عنه انتهى.
والسؤال السابع عن الكيمياء أي عن الأكسير فقال أمره إذ قال أنه مستور بشعرة فعلمت من كلامه أنه يعرفه وأشار لي أيضا ببيانه فتغافلت عنه ظنا مني انه لا يعرفه.
والسؤال الثامن سألته ومن حضر عما نقله الشيخ إبراهيم الشبرخيتي في شرحه لخليل في باب الجنائز من أن الموت عرض قائم بيد ملك فمن مسه بها مات وهو انه عرض والعرض إذا قام بمحل أوجب الحكم لمن قام به لا لغير من قام به وهنا أوجب الموت لغير من قام به وأما من قام به فلم يمت وهي اليد التي قام بها والقضية العقلية (1) يستحيل تبديلها عقلا فلن ترتفع فتحير الكل في الجواب.
نعم فلا جواب عنه على مقتضى القواعد العقلية غير أن المعتزلة خالفوا في هذه القضية وأمثالها لكنه لا يكون جوابا فإذا علمت هذا علمت أن كون الموت في مخلوق عند المس باليد التي قام بها الموت ليس من إعطاء الصفة الحكم لغير من قامت به بل أن الله أجرى عادته أن يخلق الموت في الحي عند ذلك المس فيخلق عنده لا انه (2)
__________________
(1) في نسخة النقلية.
(2) في نسخة لأنه.

أوجبه وصف الموت القائم بتلك اليد ولا أنه به فالحاصل أنه يخلق عنده لا به ولا أنه موجب الحكم المذكور إلخ وأما اتصاف اليد بالموت فلا مانع منه أيضا أن قام به الموت حقيقة.
فنقول أنها ميتة وتلتزم ذلك على قواعد العقل ومع ذلك متحركة حركة اضطرارية فإن الميت يتحرك بتحريك من غيره إياه.
حاصله أن اليد وإن ماتت فلا مانع من أن يحركها الله بمحرك كما يتحرك الميت بغيره تحرت خرق عادة لأن الحياة ليست شرطا عقليا في الألوان والأكوان والحركة وإنما الحياة شرط عقلي في الإدراك لا غير وقد توقف في هذا السؤال جميع من رأيناه ولقيناه من أكابر العلماء غربا وشرقا نعم وقد من الله علي بالفتح في هذا المقام الذي يستهوله ويستصعبه ويقول بإحالته كل من سمعه أو مر عليه فلا تستحقر فان الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء وممن توفق في هذا السؤال أيضا الشيخ علي الصعيدي وغيره انتهى.
والسؤال التاسع قد سألته عن التناقض الذي بين المذاهب لأن النبي واحد والملة واحدة ومع ذلك تناقضت الأحكام وتضادت والقائل بها في الواقع واحد وهو النبي صلى الله عليه وسلم والواحد مثلا لا يقول في صلاة واحدة باطلة صحيحة كيف وأن مالكا يقول بأن الصلاة التي بسمل المصلي في أول الفاتحة مكروهة وان تركها أولى ويلزم من ذلك صحة صلاة تاركها قطعا وإما الإمام الشافعي فيقول ببطلانها أن تركت لأنها آية من الفاتحة ومن ترك آية عمدا بطلت صلاته ومذهب مالك أنها ليست آية من الفاتحة فيا عجبا كيف تكون الصلاة في دين واحدة باطلة غير باطلة هذا على من يقول أن المذاهب كلها على الحق في الواقع إذ قال الإمام الشعراني يجب على كل مسلم أن يعتقد أن الأئمة الأربعة كلهم على

الإصابة في نفس الأمر فيلزم أن بطلانها وصحتها حق وهو باطل لما علمت من أن اجتماع النقيضين محال وأما من يقول أن الإصابة بحسب ظن المتجهد فلا كلام أو أن حكم الله هو ظن المجتهد في حقه وحق مقلده فلا قدح أيضا وإن المصيب واحد غير أن الله لم يكلفنا بتعيينه فلم يبق إلا ثوب التناقض فيما إذا حملت الإصابة لكل في نفس الأمر ولذا قال الإمام المذكور حصلت لي وقفة منذ أزمنة متطاولة في مثل هذا التناقض إلى أن دخلت الخلوة ففتح الله علي بأن بعض الأئمة شدد وبعضهم رخص إلخ ما ذكره.
وهذا الجواب لا يغني شيئا لأن مالكا قد كرهها مطلقا وذلك ليس لمقلده فقط والشافعي أوجبها على كل مصل باجتهاده إلخ.
فلما ذكرت ذلك بحضرة شيخنا الشيخ العفيفي وجماعة من العلماء فمنهم من فهم السؤال وصار ينظر في الجواب عنه ومنهم من لم يصل إلى السؤال فضلا عن أن يجيب والشيخ المذكور فهم السؤال وأنكر وجود قولة بإصابة الجميع في نفس الأمر للأصوليين.
نعم قلت قد كان ذلك في المحلي فلما أتوا بنسخة منه وجدناه كذلك وأنكروا ما ذكره الشعراني بأن قالوا لم يذكره فإذا بشيخنا العفيفي قد أخرج كتابه فأصبناه كذلك أيضا فبعد ذلك سلم الكل الإيراد إلا الفاضل سيدي أحمد بن عمار مفتي الجزائر قد أنكر وصادر عن المطلوب غير انه لم يقصد عنادا وبعد ذلك سلم رضي الله عنه وعن الجميع آمين.
ولا غرابة أن يمن الله على بعض الناس بالجواب وقد من الله علينا بالجواب بما هو حاصله أن ترك البسملة في الصلاة مبطل على مذهب الشافعي وغير مبطل عند

مالك وذلك تناقض قطعا نعم الإصابة بحسب الثواب ونفي العقاب إذ كل من المذاهب مصيب في نفس الأمر بحسب الثواب في صحة العبادة على من يقول بها وعدم العقاب على من يقول ببطلانها وفسادها وأما في الواقع عند الله فأما صحيحة أو فاسدة لاستحالة الجمع بين صحتها وفسادها في علم الله وإنما يصح ويثبت في علمه تعالى أحد المذهبين فقط لما علمت من عدم اجتماع النقيضين فحينئذ فترك البسملة في الصلاة أما أن يوجب خللا عند الله في الواقع كما هو مذهب الشافعي أو لا يوجبه كما هو مذهب مالك فالحق في الإصابة في علم الله أحدهما دون الآخر وأما بالنسبة للثواب وعدم العقاب فكلاهما صحيحان يعتد بهما في ظاهر الشرع لأن مالكا يرى أن البسملة ليست آية من الفاتحة ولذا قال تركها لا يوجب خللا بل التلبس بها مكروه لما فيها من التلبس في قراءتها في أول الفاتحة وإيهام أنها منها وهي ليست كذلك لأدلة عنده قولية وفعلية من أهل المدينة لأنه يقدم عمل أهل المدينة وذلك قاعدة من قواعده ولذا جزم بأنها ليست من الفاتحة فإذا كل كذلك عند الله فالحق معه ظاهرا وباطنا وإلا فيحصل الثواب من تلك الصلاة المتروك فيها البسملة وإن كانت في علم الله فاسدة فإصابته حينئذ بحسب الثواب عليها وعدم العقاب على ترك البسملة وإن كانت فاسدة بسببها تركها في علم الله تعالى.
حاصله أن مالكا مصيب فيما أما بحسب علم الله وغيره وأما مصيب في الثواب عنها وعدم العقاب على تحمل المفسد في على الله تعالى وهذا معنى إصابته.
وبالجملة فهو مصيب قطعا في صحة الصلاة ثوابها وأما مصيب في الثواب وعدم العقاب فقط وإن كانت فاسدة في علم الله تعالى وهذا معنى الإصابة في كل مذهب وذلك مطلقا أي في العمليات والعبادات وعلى هذا تحمل الإصابة في نفس الأمر وإلا فالتناقض ظاهرين لا ينكره عاقل فضلا عن عالم وكذا مذهب الشافعي

في حمل الإصابة فيما يناقض غيره من المذاهب فإذا قلنا بفساد الصلاة عنده بترك البسملة أما عند الله تعالى فتكون فاسدة ظاهرا وباطنا وإما أن تكون فاسدة بحسب رأيه واجتهاده بالأدلة الواردة في ذلك أي بأنها آية من الفاتحة فيكون حينئذ أما مصيبا في نفس الأمر وفي الظاهر فقط.
وحاصله أن إصابته أما بحسب علم الله أنها فاسدة بتركها أو بحسب الظاهر من الأدلة فيكون مصيبا قطعا غير انه إن كان مصيبا في فسادها بحسب علم الله فيكون مالك مخطئا بحسب صحتها غير انه مصيب بحسب الثواب وعدم العقاب وأما أن يكون مالك هو المصيب في صحتها بتركها في علم الله تعالى فيكون الشافعي مخطئا في فسادها بحسب علم الله وإنما يكون مصيبا في فسادها بحسب الظاهر من الأدلة ويكون حال من ينتمي إليه يعاقب ولا يثاب عليها أيضا لمخالفته ما دل عليه الحديث أنها آية من الفاتحة ومن تعمد ترك آية منها عوقب وآثم.
فإن قلت قد اجتمع الثواب والعقاب في صلاة واحدة لأنك حملت الإصابة على ذلك قررت منه من اجتماع النقيضين وقعت فيه فهو مشترك الإلزام قطعا.
قلت السؤال قوي غير أن لطف الله موجود وكرمه معهود وفتحه ممدود فلا منع أن يجعل الحق حيث شاء.
أقول وعلى الله اعتمدت أن الصلاة إذا كانت صحيحة عند الله مع ترك البسملة فالفساد حينئذ ليس إلا في الظاهر ومخالفة الظاهر ضعيفة لا سيما مع عدم التعيين فيه فلا أقل أن يكون مع ما عند الشافعي من الحكم بفسادها بحسب الظاهر من الأدلة من أنها آية من الفاتحة غير مجزوم به ولا مقطوع به أصلا لا سيما على ما تقدم أن صحتها هو الواقع في علم الله تعالى فيكون بطلان الصلاة بتركها أمرا خفيفا لما لم

يكن في علم الله تعالى فخف أمره وتيسر حاله فكأنه معفو عنه فالالتفات إليه التفات إلى حال الأدلة واعتبار لقواعد اجتهاده فيصير العقاب والفساد أمرا عارضا غير موثوق به إذ المعتبر ما عند الله من الصحة فيها بتركها فيكون الشافعي مصيبا بحسب الأدلة أنها آية من القرآن أي آية من كل سورة فيلزم أن تكون آية من الفاتحة فعلى من اجتهد ولاحظ أنها آية من الفاتحة من غير أن يعتريه شك في ذلك بأن كان عنده ظن قوي بأنها آية من القرآن ففساد الصلاة بتركها ظاهر وهو مصيب من هذه الحيثية ومعاقبا على تركها عقاب أقله توبيخ وتفريع على مخالفة الشافعي في ظنه أنها آية من الفاتحة إذ المعتمد على مذهبه لا بد أن يعمل به وإلا عوقب عليه لأن العمل بمقتضى المذهبين تناقض والإصابة فيهما مستحلية إذ لا يمكن الجمع بين النقيضين.
وبالجملة فالإصابة على المذهبين هو أن لا مؤاخذة على كل من عمل بهما وعلى هذا تحمل الإصابة في نفس الأمر ولا شك أن كل مجتهد في المظنونات بشروط الاجتهاد غير مؤاخذ في نفس الأمر وكذا مقلده وأن أخطأ بحسب علم الله تعالى بخلاف المجتهد في الاعتقاد فلا بد أن يكون مصيبا في نفس الأمر وإلا عوقب هو ومقلده لأن الناس مكلفون فيها بالعلم واليقين ولا يصح فيها الظن القوي ولذا كان المصيب في العقائد واحدا لأن العلم له وجه واحد والمطلوب فيها العلم بالاحتمال فإذا علمت هذا علمت صحبة إصابة كل مجتهد في الفقه في نفس الأمر بحسب عدم المؤاخذة فيه عند الله تعالى فمن صلى حينئذ بغير بسملة كما هو مذهب مالك لا مؤاخذة وكذا على مذهب الشافعي أن يسلم وظن أنها آية من الفاتحة نعم كذا كل مذهب في الفقه.
حاصله أن التناقض الواقع بحسب المذاهب الفقهية إن كانت مدونة ومقتفية مالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة يجب أن يحمل كل رأي منهم على الإصابة في

نفس الأمر بمعنى أن من عمل بمقتضاها غير مؤاخذ شرعا وإن كان المصيب في علم الله وأحدا إذ لا يمكن الإطلاع عليه إلا بالوحي أو الأدلة العقلية وقد تعذر ذلك أما الوحي فقد انقطع به صلى الله عليه وسلم وكذا الأدلة العقلية لأن هذه الأحكام نقلية ولا مجال للعقول فيها فإن كان كذلك فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها وترجيح المصيب من المجتهدين فيها تحكم نعم يصح فيما ظهر فيه المدرك أو كثرة القائل نعم فلا يكون ذلك دليلا على انه في علم الله تجب الفتوى بالراجح والعمل به وأما في العمليات فالمصيب فيها واحد والعمل بما في علم الله انه الحق واجب والبحث على ذلك بالأدلة العقلية لازم متحتم والمعتقد على خلافه مأثوم أو كافر وأن اجتهد بإمكان التوصل إلى ما في علم الله من المعتقد الصحيح بالأدلة العقلية.
فظهر ذلك أن المصيب فيها بحسب المؤاخذة واحد بخلاف المجتهد في المظنونات صح أن يكون كل مصيبا بحسب عدم المؤاخذة هذا وهو التحقيق في الجواب والله الموفق للصواب وإليه المرجع والمآب.
ولتعلم أن الله قد من علي بفتح منه وإلا فهذا المحل يستهوله كل من مر عليه ويستصعبه فلا ينفصلون عنه إلا على بطلان القول بالإصابة في نفس الأمر وإنما الإصابة بحسب ظن المجتهد وان ظنه هو حكم الله في حقه وحق مقلده كما هو تحقيق في فن الأصول والإصابة لكل فلا لما علمت من التناقض والنقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان غير أنك قد سمعت الجواب عنه الله هو الفتاح العليم.
والسؤال العاشر والله اعلم هو برهان القطع والتطبيق إنما يستحيل في الحوادث دون القديم إذ قولهم ما دخل في الوجود متناه وذلك والله اعلم في القديم والحادث وأظن أن المحقق ابن التلمساني في شرح المعالم قال أدلة ذلك أي إحالة التسلسل في الحوادث خالص بها لتوقف وجود بعضها على وجود بعض قبلها وأما القديم فلا

لعدم السبقية فيه ولهذا قال ابن التلمساني المذكور وتبعه المحقق المراكشي في حاشيته على الصغرى وكذا اليوسي في حاشيته على الكبرى أن كمالاته تعالى لا نهاية لها بحسب الواقع وإنها صفات موجودة قائمة بذاته غير متناهية ودعوى الإجماع أن كل ما دخل في الوجود قديما أو حادثا متناه منقوض بمذهب الإمام الصعلوكي في قوله أن علمه تعالى يتعدد بتعدد المعلومات ومعلوماته غير متناهية لأن الإجماع لا ينعقد بدونه إلخ ما ذكره الشيخ اليوسي فظهر لك أن الأدلة العقلية غير جارية فيه وكذا الإجماع لما ذكر الصعلوكي وكذا ابن الحاجب في تعدد القدرة سلمنا الإجماع غير انه دليل ظني.
قلت سلمنا ذلك غير أن عدم إحالته ممنوع وسند المنع أن أمر الكمالات عدد وكل عدد أما أن يكون زوجا أو فردا أو غير زوج ولا فرد أو زوجا فردا وكل ذلك لا يصح لأنه أن كان زوجا أو فردا فهو متناه وأما غير زوج ولا فرد فمستحيل وكذا زوجا فردا فمستحيل أيضا فإذا علمت هذا علمت استحالته في القديم أيضا وإن كان هذا الجواب أفحاميا إذ أكثر أدلة الكلام أفحامية أو اقناعية.
نعم حصول الفائدة للناظر من هذه الأبحاث إشكالا وجوابا ظاهرا للمعتني بالعلم والراغب فيه وإما غير فضائع فيه كتعليق وعاء فيه مسك للحمار أو نثر الجواهر للدجاج.
وبالجملة فأمر مصر وحالها من يوم عمارتها إلى الآن أمر غريب وعجائبها في العلوم والمعارف والعوارف والولاية لا تحصى وغرائبها كادت أن لا تستقصى فمن اختبرها وعاين بعض أحوالها حصل له اليقين الخاص والعبرة العظيمة.
ومن عجائبها في كل شيء أنك إذا رأيت شيئا عظيما ثم رأيت شيئا أعظم منه

نسيت الأول ثم كذلك إلى هلم جرا.
نعم أحوال مصر داخل المدينة وخارجها كافية في الاعتبار إذ في أهلها وأسواقها ودكاكينها وأزقتها وديارها ووكلاتها قهواتها ومساجدها ومدارسها وعجائب قرائها وعلمائها وصلحائها وطلبتها وفقرائها وظلامها وبطارقتها وأهل شرطتها وجنودها وعساكرها وأمرائها وكثرة خلقها وكذا سحرتها وزناديقها وكذلك كثرة اليهود فيها مع النصارى وكذا مقابرها في القرافة الصغرى والكبرى وكذا عجائب ما فيها من البنيان وأعجب من ذلك ما فيها من العلماء المؤلفين والأولياء الصالحين ممن يستجاب الدعاء عند الجميع وكذا خارج المدينة ففيه من القصور والغرف وصهاريج من الماء وكذا ما في داخلها من الحمامات والأفران على أن سعة الديار فيها وعلو أسوارها وتزيينها بالنحاس والذهب والفضة فبعض الديار إن كان أحد في طرفها والأخر في الطرف الآخر لا يسمع كلامه بل وقد لا يرى له شخصا فإن رآها بعض الناس غاب عن حسه لما أصابه من مشاهدة رونقها يكاد المرء أن تكون عنده الجنة عجائب وغرائب لا تكاد توجد في غيرها من البلدان أيا كانت هذا الذي سمعته بعد أن دمرها الله وغيرها بسبب الفسوق والعصيان على أنها الآن قد كثر فيها الظلم حتى سمعت من الشيخ العارف المحقق الفاضل سلطان الموحدين شيخنا الشيخ الحفناوي يقول في حجتنا هذه إن ظلم ولاتها قد وصل كل جنس من أجناس الآدميين حتى بلغ ظلم الحاج المغربي والعلماء والطلبة والفقراء والأشياخ والصناع والتجار والمجاورين وسائر الناس قاطبة ولذلك ابتلاهم الله بالشقاق والفتنة فكانت مصر لمن غلب وقد قال صلى الله عليه وسلم لم يكن شيء أسرع بصاحبه كالظلم.
فإذا علمت هذا علمت أن والي بولاق قد تعدى على ركبنا أهلكه الله وأخلى منه الأرض وكذا معينه يمسك جماعة بعد جماعة من الحجاج ويلقيهم في السجن فإن

أخذ منهم شيئا من الدراهم سرح لهم من غير أن يدعوهم أحد للشريعة عدو نفسه إلا أنه لا يقدر أن يربط من الركب هو وغيره من الولاة وإنما يربطهم من الأسواق وقد نجاني الله منه والحمد لله.
وسبب ذلك الشيالة أي الحاملون للحجاج فيشتكون إليه بباطل قصدا منهم أن يأكلوا ما عليهم من الدين الذي أقرضوه وتسلفوه منهم إذ كيدهم عظيم فإننا سلمنا منهم في الطلعة والهبطة لقوة الركب فلم يغن عنهم ما أرادوه من إتلاف أموال الحجاج بالباطل عند أمير الحاج من مصر فلم يوافقهم على الظلم ولما وصلوا إلى مصر رجعوا إلى فعلهم الردي غير أنهم لم يأخذوا شيئا منهم وإنما ذلك الظالم هو الذي أخذ منهم.
نعم ما خرجنا من مصر حتى أوقع الله بها فتنة عظيمة وغلاء قويا ببركة الحاج.

ذكر خروجنا من مصر
ولما ظعنا من البركة نزلنا الدار الحمراء وهي لا ماء فيها بل إنما يأتي الحاج بالماء من النيل يصحبه إلى أن يصل دار عجرود أو يجاوزه إذ ماؤه قبيح لا يشربه إنسان إلا خرج من حينه بل يغير طبيعة شاربه فلما يسلم شاربه من مرض البطن فيستعدون الماء تلك المرحلة إلا الفقراء فيضطرون لشربه فلا يسلمون منه غالبا بل الطعام الذي يطبخ به تصيبه مرارة فلا يؤكل إلا بشدة الجوع.
نعم الذي عنده وسع في ماله وقوة في زاده يشتري الماء العذب إذ يأتون به من النيل فيباع في الأسواق إذ أسواق الركب المصري كثيرة لا يمكن عدها إذ فيها كل خير مما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وترغب فيه الناس إلا كان فيه سواء كان نازلا أو سائرا فإن من لم يصحبه زاد من طعام وشراب وعنده فلوس يشتري كل ما يحتاجه منه غير أنه يشتريه بزيادة الثمن وإنما الرخاء فيه بكثرة ما يباع فيه من المطاعم والملابس والفواكه والخضر حتى يحكم الإنسان ويجزم أن مصر خرجت برمتها وما فيها إذ تجد الطبائخ من أنواع الأطعمة والأشربة والأغذية أحسن مما يوجد في الأمصار الكبار ومع ذلك هم سائرون فالمضطر الجائع يجلس عند الطباخ ويأكل عنده ما يحتاجه بثمنه فتجتمع نعمتان الاستراحة والشبع بل عنده نعمة شاملة كأنه حاضر في سفر ونزهة في كدر وعبرة في ضرر ورحمة في سفر.
انعطاف إلى ما كنا بصدده وهو أن عجرودا هذا قد يوجد فيها بعض المياه العذبة في نواحيه وكذا في نواحي الدار الحمراء غير أنها ليست في كل الأوقات ولا أنها تكفي الحاج ومع ذلك لا يعلمها الحاج وإنما يخبر بها بعض الأعراب.
ولذا قال شيخنا سيدي أحمد بن ناصر المذكور ما نصه قرب هذه الدار مررنا

على واد به ماء طيب بآبار قريبة القعر يحفر الإنسان بيده فينبع له الماء قريبا بحيث تتناول الدابة منه بفيها من غير كلفة وأخبرني بعض من كثر ترداده في هذه الطريق أن هذا الموضع يجدون به الماء ولو في الصيف هذه الأزمنة وهذه السنة زاد الماء فيها كثيرا من كثرة الأمطار ونداوة الأرض إلى أن قال وهو عن يمين الذاهب لعجرود فسرنا ومررنا كذلك على واد به فيعان من ماء يسيل سيلا تاما من المطر بإزاء عجرود فقلت لأعرابي حجازي هذا الماء طيب فقال مجيبا نعم زي الشهد إلى أن قال وماء عجرود يضرب به المثل في القبح واشتهر بذلك مع وجود ما يضاهيه كثيرا في مياه الدرب إلا أنه لما كان أول ماء يرده الحاج قبل أن يألف مشاق الطريق مع اعتياد الناس قبل ذلك لمياه النيل ووجود فضلة منه لا يكادون يسيغون منه جرعة إلا وهمت بطونهم بالرجعة.
وفي هذه المورد حصنان متقاربان مبنيان بأوثق بناء يترك الناس فيهما ما استثقلوه من الأزودة والأمتعة إلى الرجوع وكثيرا ما تعطب المؤمن من الإبل في هاتين المرحلتين بجد السير وثقل الأحمال إذ لم يخفف منها شيء والإبل قد ألفت الراحة بمصر ويغلب عليها السمن وكثير من الناس لا يشفقون عليها فيحملونها فوق طاقتها ولا يرخون عليها في المشي لما يتوقعون من خوف اللصوص على من تأخر فكل واحد يريد أن يتقدم وقد لطف الله بنا عادة عودناها تعالى في جميع الأحوال فنتأخر عن الركب ونكون في أخرياته فنسير على مله بإبلنا وينضم إلينا من ضعف من الناس أو تأخر لغرض فكان لنا في ذلك وللناس خير كثير فلم نر ما رأى الناس من المشاق وموت الإبل وفي أحد الحصنين اللذين هناك بئر كبيرة تسني دائما بالبقر ويخرج الماء من البندر إلى برك ثلاث خارجات اثنتان صغيرتان والثالثة كبيرة وبهما عسكر لا يفارقهما أبدا وكذلك غيره من البنادر في كل سنة يأتي قوم فيذهب الذين كانوا يه ولهم جراية من بيت المال على ذلك ولو لا لطف الله بالعباد بوجود هذه

البنادر في الطريق لما قدر أحد على سلوكها مع كثرة مخاوفها وقلة مرافقها ولكن الله سلم أنه عليم بذات الصدور ومن هنا يعدل عن طريق الحاج ذات المصانع ذات اليمين للنابعة والمصانع سواري مبنية في سبخة لا يظهر فيها أثر الطريق وكذا في الرمل القريب منها فجعلوا تلك الأعلام المبنية ليستدلوا بها على الطريق وجعلوا في رؤوس الأبنية حجر مستطيلا خارجا لناحية الطريق ليستدل بها الماشي ليلا وربما علقوا على بعض الأعلام مصابيح ليلا لبعد ما بينها وبين كل علم وعلم نحو فرسخ أو أقل أو أكثر في محالها وعلى هذا الطريق يسلك الحاج المصري والمغربي دائما إلا في أوان الحر وخوف العطش فيعدلون إلى النابعة عن طريق المصانع وهي واد كبير ذو رمل به احساء كثيرة تزيد على المائة بل أينما حفرت مقدار قامة أو أقل وجدت ماء حلوا باردا في غاية الحلاوة كأنه ماء النيل ربما يتوهم أنه أحسن منه شرقي مدينة سويس.
وهي مدينة صغيرة ذات أسواق ومساجد ووكالات مستطيلة على شاطئ البحر المالح الذي يأتي من الهند وهناك يقف بين جبال شامخات وبينه وبين البحر الرومي نحو مرحلتين قاله الشيخ أبو سالم في رحلته.
قلت وذكر المقريزي أن ما بينهما هو البرزخ الذي ذكره الله تعالى في كتابه في قوله تعالى : (بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ) وبهذه المدينة ترسى السفن التي تأتي من جدة ومكة واليمن فيها السلع التي لا تحصى والبضائع التي لا تستقصى ومن هناك تحمل إلى مصر في البر.
قلت وهي بموضع مدينة القلزم التي ينسب إليها هذا البحر وبالقرب منها غرق فرعون قال المقريزي في خططه وقد عرف بهذا البحر وذكر في تفاصيله وان مبدأه من البحر الكبير المحيط بالأرض المسمى ببحر الظلمات لتكاثف البخار

المتصاعد منه وضعف الشمس عن حله فيغلظ وتشتد الظلمة ويعظم موج هذا البحر وتكثر أهواله ولم يوقف من خبره سوى ما عرف من بعض سواحله وما قرب من جزائره وفي جانب هذا البحر الغربي الذي يخرج منه البحر الرومي الجزائر الخالدات وهي فيما يقال ست (1) جزائر يسكنها قوم متوحشون كما أن في جانبه الشرقي مما يلي الصين ست جزائر أيضا تعرف بجزائر السيلي نزلها بعض العلويين في أول الإسلام خوفا على أنفسهم من القتل ويخرج من هذا البحر المحيط ستة بحار أعظمها اثنان وهما اللذان ذكر الله تعالى في كتابه في قوله تعالى : (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ) وفي قوله تعالى : (بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ) فأحدهما من جهة الشرق والآخر من جهة الغرب فالخارج من جهة الشرق يقال له البحر الصيني والبحر الهندي والبحر الفارسي والبحر اليماني والبحر الحبشي بحسب ما يمر عليه من البلدان وأما الخارج من الغرب فيقال له البحر الرومي وأما البحر الهندي الخارج من جهة الشرق فيبدأ خروجه من مشرق الصين وراء خط الاستواء بثلاث عشرة درجة ويجري إلى ناحية الغرب فيمر على بلاد الصين وبلاد الهند إلى مدينة كتبانة (2) وإلى التبر (3) من بلاد مكراف (4) ينقسم هناك قسمين أحدهما يسمى بحر فارس والآخر يسمى بحر اليمن فيخرج بحر اليمن من ركن ينزل خارجا من البحر يسمى هذا الركن رأس الجمجمة فيمتد من هناك إلى مدينة ظفار وساحل بلاد حضر موت وإلى عدن فإذا انتهى إلى باب المندب يخرج بحر القلزم والمندب جبل طوله اثنا عشر ميلا وسعة فوهته قدر ما يرى الرجل من البر تجاهه فإذا فارق باب المندب مر بجهة الشمال بساحل زبيد فإذا وصل إلى القلزم انعطف من جهة الجنوب ومر إلى القصير
__________________
(1) كذا في جميع النسخ وفي الرحلة الناصرية ليست.
(2) كذا في أربع نسخ وفي نسخة كنبانة وفي الرحلة الناصرية كبتانة.
(3) كذا في أربع نسخ وفي الرحلة الناصرين وأما في نسخة فتبت.
(4) في الرحلة الناصرية مكران.

ومن القصير إلى عيداب إلى بلد الزيلع وهو ساحل بلاد الحبشة ويتصل برا وطول هذا البحر ألف وخمسمائة ميل وعرضه من أربعمائة ميل إلى ما دونها وهو بحر كريه المنظر والرائحة وأما البحر الرومي فقد تقدم أن مخرجه من جهة الغرب وهو يخرج في الأقليم الرابع بين الأندلس والغرب سائرا إلى القسطنطينية وإذا خرج هذا البحر مر شرقا في بلاد البربر وشمال الغرب الأقصى إلى وسط بلاد المغرب على إفريقية وبرقة والإسكندرية وشمال التيه وأرض فلسطين وسواحل بلاد الشام ثم يعطف من هناك إلى العلايا وانطاكية إلى ظهر بلاد القسطنطينية حيث ينتهي إلى البحر المحيط الذي خرج منه وطول هذا البحر خمسة آلاف ميل وقيل ستة آلاف وعرضه من سبعمائة (1) ميل إلى ثلاثمائة وفيه مائة وسبعون جزيرة عامرة.
وذكر بعض أصحاب السير من الفلاسفة أن ما بين الإسكندرية وبين بلادها أي وبين القسطنطينية كان في قديم الزمان أرضا تنبت الجميز وكانت مسكونة وكان أهلها قوما من اليونانية وكان لاسكندر خرق إليها البحر فغلب على تلك الأرض وكان فيها فيما يزعمون الطائر الذي يقال فه فقنّس وهو طائر حسن الصوت وإذا حان موته زاد حسنا في صوته قبل ذلك بسبعة أيام حتى لا يمكن أحدا يسمع صوته لأنه يغلب على قلبه من حسن صوته ما يميت السامع وانه يدركه قبل موته بأيام طرب عظيم وسرور فلا يهدأ من الصياح وزعموا أن بعضا من الفلاسفة أراد أن يسمع صوت فقنس في تلك الحال فخشي أن هجم عليه أن يقتله حسن صوته فسد أذنيه سدا محكما ثم قرب إليه فجعل يفسخ من أذنيه شيئا فشيئا حتى استكمل فسخ الأذنين في ثلاثة أيام يريد أن يتوصل إلى سماعه رتبة بعد رتبة ولا يسمعه في أول مرة فيأتي عليه وزعموا أن ذلك الطائر هلك ولم يبق منه ولا من فراخه شيء هجم عليه
__________________
(1) في الرحلة الناصرية تسعمائة.

ماء البحر وعلى رهطه بالليل في الأوكار ولم تبق له باقية ويقال أن بعض الفلاسفة أراد ملك من الملوك قتله فاعطاه قدحا فيه سم ليشربه واعلمه بذلك فظهر منه مسرة وفرح فقال له ما هو هذا أيها الحكيم فقال له هل أعجز أن أكون مثل فقنس انتهى كلام المقريزي مع بعض حذف ولو الإطالة بما لم يكن لنا بصدده لاستطردنا ذكر البحور السبعة ومواقفيها وكيفية مجاريها في أمكنتها وإنما تعرضنا لهذين لأن لهما تعلقا بطريق الحاج ومجاورتهما له ذهابا وإيابا والله الغفور بفضله وطوله.
قال شيخنا أبو سالم.
تتميم قد ظفرت بمصر برسالة للشيخ البكري وأظنه شيخنا محمد ابن الشيخ زين العابدين ذكر فيها منازل الحج ودياره ذهابا وإيابا وحقق قدر ما في كل مرحلة من الساعات والدرج والدقائق وصعوبتها وسهولتها بنثر بليغ وعبارة رائقة وذكر في كل منزلة شعرا يتعلق بأحوالها فأردت أن اقتطف منها ما يكون في أذن هذه الرحلة شنفا إذ كلامي بالنسبة إلى كلامه لا يعد معه صنفا ولما كانت المنازل التي ذكرها قد لا تتفق مع منازلنا ومراحله تزيد أو تنقص عن بعض مراحلنا لم أذكر في كل مرحلة ما يناسبها من كلامه فأخرت ذلك إلى آخر مرحلتين أو ثلاث أو أزيد فاخترت لإدراج كلامه المراحل التي فيها البنادر لأنها في الغالب متفقة فإذا جاء ذكر بندر من البنادر ذكرت من كلامه ما يتعلق بالمراحل التي قبله ليكون ذلك أسهل لمطالعته وأبقى لرونق كلامه من التقطيع وكثير التوزيع.
قال فلنذكر الآن من كلامه ما يتعلق بالمراحل التي قبل عجرود فأقول قال الشيخ البكري رضي الله عنه فأول المنازل البركة المباركة ، التي توحدت في مشارق أنوارها ومشارع شوارع أقطارها عن المشاركة ، وقصرت عن أوصافها ذوو اللّسن ، وجمعت بين الماء والخضرة وقدوم الوجه الحسن ، فهي مخضرة الأكناف ، بديعة

الأوصاف ، قد مدحت أطيارها ، ونفحت بالنسائم أزهارها ، وبها الخيام منصوبة ومرفوعة ، والخيرات لا مقطوعة ولا ممنوعة ، مع وقوف أشائرها على الأقدام ، يستدل بضوئها في الليل من له على القدوم إقدام ، كأنها في جنح الليل نجم الثريا إذا اقترنت بالنثرة ، أو الأكليل إذا قارن الزهرة ، وبها سوق يساق إليه بدائع البضائع ، التي يحتاج إليها المسافر في أكثر الوقائع ، ما قصد نحوه قاصد ، إلا وعاد منه موصولا بالصلة والعائد ، وكان هذا النعيم المقيم مسامرنا ومسائرنا في الذهاب والإياب ، إلى أن رجعنا إلى بركة الحاج ثانيا ولاقينا الأحباب ، قال الشاعر :
في بركة الحج ترى
 

نخلا زها لكن عجب
 
زبر جدا يحكي وما
 

ثماره إلا ذهب
 
فيها نسيم رائق
 

بلطفه يشفي الوصف
 
والطير فوق مائها
 

يشدو بأنواع الطرب
 
فيا لها من بركة
 

تبلغ القلب الأرب
 
عوذتها من طارق
 

وغاسق إذا وقب
 
وبعد ما كملت الركائب ، واجتمع بعد التفريق نجائد النجائب ، وانقضى مقام المقيل ، ونودي في ذلك المكان الرحب بالرحيل ، وحمل المحمل الشريف ، وفارق المربع والظل الوريف ، وسار الركب سير السيل ، وتسابقت العيس لجهات الخير كأنها الخيل ، حتى وصل إلى قرب البويب المعروف بالتصغير ، وفي الحقيقة هو باب الدرب ومفتاح المسير ، فاجتمع شمل الركب في ذلك المكان ، ورجع المودع في خبر كان ، فاستراح الناس والبهائم ، واستيقظ بسهر الليل كل نائم ، ثم أطعمت الجمال العلائق ، وقطع الحجاج من تلك المحطة العلائق ، ومدة المسير في تلك المرحلة ، ثلاث ساعات مكملة ، ثم نادى منادي الرحيل ، فسار الركب إلى أن أصبح مقاربا للبئر الطويل ، وهو المكان المعروف بالمصانع ، ومطلب راحة الناس في الإقامة لو لا

الموانع ، وبه تقطير الجمال وضبطها في سير الركوب ، واحتياج الماشي من تعبه إلى الراحلة والركوب ، فيا له من يوم تقطر فيه الدموع ، ويطول فيه الوقوف والوقوع ، وتشرب فيه الفقراء كاسات الردى ، لشدة ما يحصل لها من جور الجنود واعتداء الاعتدا ، فما من فقير إلا ويحتاج إلى غني يسعفه ، وإلى عادل من ظلامته ينصفه ، قال الشاعر :
قد أتينا إلى محل المصانع
 

فاصنع الخير فيه إن كنت صانع
 
وانفع الناس في كثير جميل
 

على تلقى خيرا كثيرا ونافع
 
واعلم أن عدة درج المسير ، إلى هذه المنزلة ست ساعات على التحرير ، ثم قام دليل الركب للمسير ، وأمر الناس من تقطيع أزمة الجمال بالتقطير ، فسرنا طول ليلنا إلى الأسفار ، واسترحنا بالوصول إلى عجرود عن مشقة الأسفار ، فوصلنا إلى بندر عجرود ، وماؤه ملح أجاج غير مورود ، فأتانا أهال بندر السويس ، وعطفوا علينا انعطاف الأغصان في الميل والميس ، وأهدوا إلينا الأخطاب للمشاعل ، والأغنام للمآكل ، وعدة درجة هذه المرحلة المبهجة ، سبع وثمانون درجة ، انتهى كلام الشيخ البكري.
فلنرجع إلى ذكر مراحلنا ، وحيث انتهى سيرنا ، فأقول لما قضى الناس من هذا البندر الأوطار ، وعانقوا أعناق التسيار ، وجدوا السبخة لكثرة ما توالى عليها من الأمطار ، بركة واحدة من جميع أرجائها والأقطار ، فنكبوها وعدلوا ذات اليسار ، ونزلنا بعد ما توغلنا في الرمل مغيربان ، في أفيح بسيط وأوسع مكان ، ثم ارتحلنا من ذلك الموضع يوم السبت وبلغنا وادي الرمل قبل الظهر ووجدنا به غدرانا من الماء غدرها السيل ، لما جر عليها الذيل ، وللناس إليه أي ميل ، وأدركنا الركب التونسي هنالك ، وكان قد خرج من مصر قبلنا لما تأخرنا للتوارك ، كما ذكرنا وسرنا حتى

خلفناه وراء ظهرنا ، فأرحنا ركبنا ، ونزلنا لصلاة الظهر ، وإراحة الظهر ، ولما بلغنا ركبنا وكنا في أخرياته وزالت الشمس ، ولم يبق في زوالها لبس ، إذنا لها ، ثم أقمناها ، فصليناها جماعة ، وكان ذلك لأهلها أربح بضاعة ، فتمطينا مطايا المسير ، وشمرنا لقطع المراحل أبلغ تشمير ، حتى أنخنا بغربي وادي السدرة والخروبة ، والسرقة في تلك الليلة من كل ناحية من الركب أعجوبة ، ولكن الله تعالى سلم وفده ، فرد على السارق في نحره كيده ، فأخذوا بغلة لسيدي أحمد بن أطاع الله وضايقوهم عليها ففروا عنها وأخذها صاحبها وسمي الوادي بشجرة كبيرة من الخروب ومن السدر في أصل الوادي ثم ارتحلنا من هناك يوم الأحد رابع ذي القعدة الخامس والعشرين من دجنبر الرابع عشر من الليالي وسرنا مع الوادي برهة ومررنا بالعقبة المشرفة على التيه وقت الضحى ونزلنا (1) بعد أنا جاوزناها في أوائل التيه في انتظار الركب وتناول الأغذية وهي عقبة فيها بعض صعوبة إلا أنها سويت حتى صارت طريقا بينا (2) ومنها ينزل إلى أرض التيه وهي أرض مقفرة موحشة طويلة عريضة معطشة قد امتدت فيها الطرق امتداد السطور في الطروس ، لم يلحقها على قدم العهد الدروس ، وهذا المحل من المحال التي تعظم فيها المشقة أيام الحر وقد تتلف فيه أنفس كثيرة بالعطش.
قال أبو سالم وقد وقع لنا مثل ذلك في سنة تسع وخمسين ارتحل الناس من عجرود ظهرا ولم يمروا على النابعة فبتنا ليلتين بلا ماء إلا ماء عجرود الذي لا يتجرعه الضمآن ولا يكاد يسيغه فلم نصل إلى أرض التيه حتى اشتد الحر وقل الماء في اليوم الثالث ومات بعض الإبل وجعل الناس يعصرون ما في بطون الإبل من الفرث ويشربونه وفي ذلك قلت :
__________________
(1) في نسختين وصلينا.
(2) في الرحلة الناصرية لا حبا وفي العياشية مليحا.


ولم أنس بالتيه يوما به
 

تفاني الحجيج صدي وولوها
 
وان يستغيثوا يغاثوا بماء م
 

عجرود كالمهل يشوي الوجوها
 
قلت وكذا يشتد أمره في زمان الشتاء لأن أرضه عراء لا حطب فيها وقد تتلف به النفوس من البرد وأما عامنا هذا فسلكناه في أطيب هواء ولا حر ولا قر ولا مخافة ولا سآمة ووجدنا به اصفرار غدران من الماء في أخاديد ما كفى الله به شر العطش وأوامه فتوسطنا التيه فنزلنا بعيد المغرب.
والتيه كما في خطط المقريزي أرض بالقرب من آيلة لا يكاد الراكب يصعد إليها لصعوبتها إلا أنها مهدت في زمان جاروبة بن أحمد بن طولون وهو مقدار أربعين فرسخا في مثلها ويسير الراكب مرحلتين في فحص التيه حتى يصل بحر فاران وفيه غرق فرعون وفيه تاه بنو إسرائيل أربعين سنة لم يدخلوا مدينة ولا أووا إلى بيت ولا بدلوا ثوبا وفيه مات موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام ويقال أن طول التيه نحو من ستة أيام واتفقوا أن الممالك البحرية لما خرجوا من القاهرة هاربين في سنة اثنتين وخمسين وستمائة وطائفة منه بالتيه فتاهوا فيه خمسة أيام ثم تراءى لهم في اليوم السادس سواد على بعد فقصدوه فإذا مدينة عظيمة لها سور وأبواب كلها من رخام أخضر فدخلوها وطافوا بها فإذا هي قد غلب عليها الرمل حتى طمر أسواقها ودورها ووجدوا بها أواني وملابس وكانوا إذا تناولوا منها شيئا تناثر من طول البلى ووجدوا في صينية بعض البزازين تسعة دنانير ذهبا علها صورة غزال وكتابة عبرانية وحفروا موضعها فإذا حجر على صهريج ماء فشربوا منه ماء ابرد من الثلج ثم خرجوا ومشوا ليلة فإذا طائفة من العربان حملوهم إلى مدينة الكرك فدفعوا الدنانير إلى بعض الصيارفة فإذا عليها أنها ضربت أيام موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام ودفع لهم في كل دينار مائة درهم وقيل لهم أن هذه المدينة الخضراء من مدن

بني إسرائيل ولها طرفان رمل يزيد تارة وينقص تارة أخرى لا يراها إلا تائه والله تعالى اعلم ثم ظعنا منه يوم الاثنين وغلسنا الرحلة وانفرد عن الركب مسائره بإزائه رجل من أهل توات مع ولده وعبده بعد ما حلموا على جملهم ولقوا جماعة من المتلصصة فأخذوا الجمل وما عليه وهو كل ما يملك وذلك مقدار ثمانمائة مثقال تبرا بعد ما شجوه فخر صريعا نسأل الله السلامة والعافية التامة فالله يخلف له من فضله الفياض أنه الكريم الوهاب وأتينا بنرد النخيل قرب الزوال ووجدنا الركب التونسي نازلا واستقرت بهم الدار وحططنا الرحال وتسابق الناس لسقي الجمال والبغال وصادفنا فيه بقية من السوق به بعض الفواكه الشامة أتى بها أهل غزة مثل الزبيب الفاخر الحلو ونحو ذلك وذلك عادتهم أبدا يتعرضون للركب هنا ذهابا وإيابا بالكثير من أنواع الفاكهة الشامية.
وهنالك بندر حصين فيه بئر ماء عذبة كثيرة لا تنزح أبدا يسقى منها بالبقر إلى برك خارج الحصن وهي ثلاث بركات مثل ما بعجرود إلا أن هذه أكبر وقد وجدنا الماء فيه فاضلا عن الكرب المصري وأخذ الناس منه حاجتهم وهو من المواضع التي يصعب فيها الماء إذ ليس فيه إلا بئر واحدة فإذا شرب المصري ما في البرك وقعت الزحمة على البئر فلا يصل الناس إلى الري إلا بعد تعب شديد ومشقة فادحة واتفقت الأركاب المغربية على الذهاب وعدم البيات به فلما قضوا منه الغرض ، ووفوا الحق المتفرض ، سرنا ونزلنا بعيد المغرب وقل في ركبنا الفلاحون فضبط أمر الركب بعض ضبط.
قال الإمام أبو سالم وقد كانوا في غالب السنين يكثرون عليهم في الركب المغربي فرارا من جور عساكر المصري فيكثر ضجيجهم وخصوماته فلا يكاد ينضبط للركب المغربي أمر من كثرتهم فيه فيرحلون في غير أبان الرحيل ويتبع الأخر الأول

من غير تأن لا سيما في محل الضيق والخوف ولا يبالون بما أتلفوا من أنفسهم وأموالهم خشية التأخر والمزاحمة على القرب من أول الركب لغلبة الجبن والخوف عليهم إذ لا يعرفون في بلادهم قتالا ولا مدافعة عن الأنفس والأموال لكونهم رعايا أن شتموا مروا ، وأن ضربوا فروا ، وكلما نقص الله من جهدهم وجرأتهم ، وبطش أيديهم زيد في ألسنتهم ، حيث لا يخافون فيبالغون في الشتم والسب حتى لا يكد سامعهم يملك نفسه فإذا رأوا من هم بضرب خضعوا وقالوا عافية يا مغربي عافية ويقولون المغاربة مجانين لا يعرفون إلا الضرب وكان الضرب عندهم أبعد بعيد يصدر من شخص عاقل ولعمري انه لكذلك في حق كل مسلم لمسلم ولكن الغريزة الغضبية لا سيما ممن لم تذلله الأحكام ، ولم تكسر من سورته شدة الأيام ، لا يملكها إلا الأقوياء وهي لا تنتهي دون أبلغ عقوبة تمكنها نسأل الله تعالى أن يكفينا شرها ، ويسخر لنا أمرها ، أنه سميع مجيب انتهى.
قال البكري في رحلته من عجرود إلى النخيل ثم سرنا إلى النواظير ورأس وادي المنصرف ، وهو واد بكثرة الرمال والكثبان قد عرف ، ليس به ماء ومرعى ، وإنما عيون الناس بمضيق أرجائه ترعى ، قال الشاعر :
نزل الركب بوادي المنصرف
 

وعلى لقياه كم مال صرف
 
نحمد الله الذي جئنا له
 

وجميع الهم عنا منصرف
 
ثم سرنا إلى وادي القباب ، وهو واد فسيح الرحاب ، تهيم به قلوب الأحباب ، ويتذكر به عهد زينب والرباب ، لا سيما اجتماع الأصحاب ، في مواطن البعد والاغتراب ، قال الشاعر :
شافنا وادي القباب المرتضى
 

في اسمه وهو فسيح في الربى
 
فوصلناه وقد قلنا عسى
 

بعده نأتي إلى وادي قبا
 


وميقات المسير إليه عشر ساعات على التمام ، وبعد إقامتنا به إلى وسط النهار تهيأنا للقيام ، ثم نادى المنادي بالرحيل ، فسرنا إلى وادي تيه بني إسرائيل ، وهو واد واسع الفضا ، يعتبر فيه بأحوال من مضى ، ليس فيه ماء ترده الأنام ، ولا ظل سوى ظل بني إسرائيل من الغمام ، قال الشاعر :
لا تسلكنّ بوادي التيه منفردا
 

بلا دليل ترى وقع الردى فيه
 
فما سمعت كلاما من أخي ثقة
 

في الناس إلا وقال أحذر من التيه
 
ومدة المسير إليه عشر ساعات ، حررها أهل الميقات ، ثم سرنا إلى قلعة تحل الحصينة المحمية ، وتعجبنا من كثرة الفواكه الشامية ، من سفرجل ورمان ، وعنب على اختلاف ألوان ، والخيرات الكثيرة ، وما يحتاج إليه من الذخيرة ، والفساقي المملؤة بالماء البارد ، المعدة للغادي والوارد ، قال الشاعر :
إلى نخل الحصينة سر حميدا
 

ترى فيه المنى والخير باقي
 
ولا تشك الظمأ لفقد ماء
 

فساقيها مقيم بالفساقي
 
ومدة المسير إليه ست ساعات محررة ، وخمس من الدرج مقدرة ، انتهى كلامه رضي الله عنه.
رجوع وانعطاف إلى التعداد لمراحلنا والائتلاف ثم فوضنا الأخبية ، وحلمنا الامنية ، من منزلنا الذي جاوزنا النخيل إليها في صر شديد ، وبرد متزايد جديد ، تخال الأيدي منه رميت بالشلل ، والأرجل نظمت بالسلا والاسل ، قال الشاعر :
رحلنا العيس نمشي في هواء
 

له برد على الغادي يشقّ
 
فما في الركب إلا من تراه
 

له حنك بسورته يدقّ
 
ولم يزل الهواء كذلك إذا سد منه منخر جاش منخر ، وعم ببرده المفرط المتقدم

والمتأخر ، وسرنا ولم يزل البرد ساحب أذياله ، إلى أن حان وقت العصر فاشرف جرحه على اندماله ، فصلينا صلاة العصر ببئر الصعاليك وتسمى ببئر البارود وهي بئر كبيرة طويلة مطوية بحجر وبناء متقن في أصل واد وبجانب البئر أثر بناء وبركتين إلا أنه لا عمارة عليه وماؤها باردا إلا أنه قبيح لا يكاد الشارب يسيغه فتقدمنا ونزلنا بعد المغرب ثم ارتحلنا منه بعد صبح يوم الأربعاء سابع ذي القعدة الثامن والعشرين من دجنبر سابع عشر الليالي في اشتداد القر ، وتزايد الصر ، ولما تعالى النهار تراءت للركب خيل وإبل للمحاربين (1) فأخذ الناس حذرهم ، وكفى الله شرهم ، ثم تبين بعد ذلك أنهم سلم للحاج لا حرب لهم وإنما أغاروا على بعض أعدائهم وأكلوا والتقوا مع الحاج وبتنا بسطح العقبة.
انعطاف ورجوع إلى ما عليه ركبنا وإنما نقلت كلام شيخنا سيدي أحمد بن ناصر وما رأى في هذه المراحل وما رآه فيها من العجائب والاعتبار حتى يعلم الإنسان أنه لا يسلك تلك الطريق أحد إلا بفضل الله وقوته والسلامة فيها من المعاطب من أكرم الكرامات لا سيما زمان الحر وزماننا هذا لزيادة ظلم الظالمين ، وعتو المجرمين ، ومكر الجمالين ، وسرقة الحجاج وصولة تحيلهم إلا من أجاره الله برحمته وقد وصلنا بندر عجرود بعد صلاة العصر في يوم حر شديد وعجرود هذا كثر ماؤه غير أنه لا يمكن شربه من قوة قبحه وتغير مائه وبتنا هناك ونزل رحلنا في حرف الركب وبعد جواز ثلث الليل وإذا بالسراق أتوا إلينا أي إلى ناحيتنا فرفعوا جملا للحاج عبد الله الشباخي (2) وقد كان جمال شيالنا وكذا عندي جملان أمرت عند النوم بزوالهما من ذلك الموضع إلى موضع آخر فأتوا إليهما فوجدوا المكان فارغا ووجدوا هذا الجمل هناك ولم يكسب صاحبه إلا هو فذهبوا به نعم بنفس رفعه استيقظ جيراننا وممن
__________________
(1) في الرحلة الناصرية الحراميين.
(2) في نسخة الشياخي.

استيقظ ابن عمنا خالي عبد العزيز الشريف فذهب في أثارهم وكذا أنا تبعته وقد جاء بعض الناس في أثرنا وذهبنا في ظلمة الليل في ذلك الوادي حتى لا نسمع صوت الركب ولا عرفنا أثرهم فلم يرجع أحد منا حتى أيسنا من لحوقهم فرجعنا خائبين.
فلما أصبح الله بخير الصباح ظعنا منه وسلكنا طريق اليمين إلى النابعة لكثرة مائها وعذوبته وقلته في الطريق الميسرة ولما انفصلنا عن دارنا سبقنا أنا والفاضل أخونا في الله سيدي أحمد الطيب في غيم شديد ورياح شديدة حيث لا يمكن الركوب معها فلحقنا الفاضل الكامل الأخ الشقيق والودود الصديق سيدي محمد الشريف البلغيثي النوفلي والفقيه الأديب سيدي محمد بن عزوز وسيدي الحاج أحمد المسراتي الجميع على البغال والحالة أن الركب تأخر عنها كثيرا بحيث لا نرى له أثرا فنزلنا على البغال في موضع منخفض على الريح نرتقب الركب فصلى من صلى منا الضحى واطمأن بنا المجلس إلى أن لحق الركب ونحن كذلك حتى دخل السبحة فركبنا ولحقناه ثم سرنا كذلك إلى قرب الزوال فنزلنا النابعة في رمل عظيم بين آبارها المحفورة إلا أنها مملوءة بالرمل إلا البعض منها غير أن التي عذب ماؤها عذبا شديدا لم ينزل عليها الركب لأن ماءها يكاد أن يكون كالنيل.
وبالجملة فماؤها عذب وأن اختلفت عذوبته فاشتغل الجميع بالسقي إلى أن ملئوا أسقيتهم فسقوا واستقوا مع كثرة الهرج من الحجاج لقلة الحكم من الأمراء إذ لا يقدرون عليهم لكثرتهم وكثرة تعصبهم غير أن فضل الله عليهم لما لم يكن فيهم قتال وموت ذريع حسبنا الله منهم ونعم الوكيل.
وظعنا منه حين تنفس الصبح فانفصل ركبنا بخير وعافية فسار في تلك الرمال وهي كالجبال ترى كثيبا منه تقول لا يخرج منه أحد على خير فإذا دخلتها خرجت منه على أحسن حال ونحن كذلك إلى أن وصلنا إلى دار بعدها فنزلنا بعد العشاء ومنهم

من نزلها بعد المغرب ونحن والحمد لله في جماعة لا نسير إلا آخر الركب صونا للضعفاء ومن بقي رحله وقد بقي رحل ولد الشيخ الناصح والقطب الواضح سيدي محمد بن عبد الله بن أبي جملين المسيلي الغوث فرفعناه على بغالنا إلى أن لقينا صاحبه سيدي أحمد فرفعه وبعد ذلك والحمد لله سرنا ساعات فدخلنا التيه الذي تاه فيه بنو إسرائيل وقد سبق ما فيه من الكلام ما أوحشه من موضع وأصعبه من محل لكثرة حره وشدة أمره مع انعدام الماء فيه وقد كثر فيه الهلاك من العطش زمان الحر فلا تجد من يسخى بالماء إلا من قوي يقينه وغلب عليه الرقة والشفقة والرحمة والخوف من الله تعالى ترى القوم فيه صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية فهل ترى لهم من باقية من ثوران الحر في ذلك الموضع إلا أن رحمة الله واسعة ورأفته قوية ونعمته بالحجيج شاملة خصوصا أهل المعرفة بالله تعالى فلا تراهم فيه وفي غيره مما هو نظيره في الصعبة إلا كالعرائس تتلألأ وجوههم نورا وتنبسط أثار محبة الله في طلعة خدهم علما منهم أن غاية أمرهم غيهم عن اليم ما هم فيه وهو بيت الله وحرمه وكذا حضرة الله وحضرة رسوله صلى الله عليه وسلم وحرمه أيضا فلما شهدوا مطلوبهم غيبهم ذلك عما لا قوه من العذاب وبعد تلك المرحلة وصلنا بندر النخيل فنزلنا عند الضحى الأعلى والله اعلم في فرح وسرور لما سلمنا من أرض التيه.
وقد مات لنا واحد من أصحابنا وهو رجل من العامة رجل صالح مديم للصوم كثير الصمت قليل الاضطراب فلا ترى عليه إلا آثار الخير دائما وهو الحاج محمد بن مدشر اسمامة من قرى بني ورثيلان وبندر النخيل بندر عظيم فيه عسكر كما في عجرود وفيه أسواق فكل ما تريده موجود لأنه يأتي من ناحية الشام أناس بذلك أي من بيت المقدس وقربها محل فيه أبسط الخيرات وأنواعه الملذوذات لا سيما الفواكه في زمانها فلا ترها في غير ذل المحل والشكر لله تعالى وهذا البندر رحمة للحجاج فوضعوا فيه أمتعتهم تخفيفا ورحمة بالإبل إلى أن يرجعوا وكذا اشترى من

خصه الإبل أو بدله فلما أصبح الله بخير الصباح ظعنا منه عند الضحى فلما انفصلنا تأخر بعض من أحبابنا وهو الحاج بلقاسم الحربيلي ثم اليعلاوي يشتري جملا من بعض العرب فتأخرنا مع فاشتراه فلما أقبض الدراهم لصاحبه هرب الجمل فتبعته على بغلتي حتى آيست من لحوقه وخفت اللصوص من الحراميين ورجع سيدي أحمد المسراتي على فرسه ولحقه ثم وقع الصياح في آخر الركب أن فلانا وأصحابه قد أخذه اللصوص فرجع البعض إلينا بأسلحتهم فلم نر إلا خيرا والحمد لله حتى لحقنا بالركب وصاروا يحمدون السلامة لنا لما علمت من كثرة عطب الطريق وكثرة محاربيه ولصوصه فلا ترى أحدا تأخر إلا أخذ وسلب أو هلك فالحمد لله علينا نتأخر نحن معاشر الإخوان عن الركب كثيرا واللصوص في آثارنا فلا نرى منهم ما يكره فلم يسلب أحد إلى أن وصلنا إلى مكة المشرفة ثم كذلك نسير والحمد لله حتى قربنا بئر الصعاليك فبتنا من الحجاج من سقى من البئر المذكورة وهي عميقة جدا وماؤها بارد فكاد أن يكون كالثلج إلا أنه قبيح لا يكاد يساغ من مرارته وفي أثاره بناء قديم ولما ظعنا سرنا بعد في أودية وشعب صعبة في يوم قوي ريحه واشتد أمره فلا تنفع فيه استراحة ولا نزول ونحن كذلك سائرون إلى قرب سطح العقبة فنزلنا وبتنا في خير وعافية ومات بعض من أهل وطننا فدفناه ليلا.
ولما صبح الله بخير الصباح ذهبنا إلى أن بلغنا سطح العقبة فانتظر الحجاج بعضهم بعضا يسيرون على قدم واحد فاستعدوا بأسلحتهم وافترقوا فرقا فمنهم من سبق ومنهم من تأخر ومنهم من توسط خوفا من متلصصي العرب لكونهم في الغالب لا يتركون الشر في ذلك الموضع فنحن معاشر ركبنا لم نر منهم أحدا والحمد لله غير أن كل من كان من أهل الركب إلا نزل ولو كان من أهل المخدرات فيسيرون على أرجلهن ولو نساء الملوك فرأينا نساء السلاطين ذاهبات على أرجلهن وأنا والحمد لله عيالي ما نزلوا أبدا نعم جعل الله البركة في الجمل الذي حمل اثنتين من

النساء في المهيا (1) وهو يسير كأنه ليس في ذلك المحل الصعب والمنة لله فتعجب كل من رأى ذلك وذلك كله من فضل الله تعالى علينا فلما انفصلنا وانحدرنا من العقبة إلى ساحل البحر اشتغل الناس بالغداء فلما فرغوا منه اخرجوا أسلحتهم وأمامهم من البارود واجتمعوا على قدم واحدة وقدموا أمامعم سلطان فزان بالبارود واللعب بالخيل وكذا الناس على الأرجل إرهابا لعرب العقبة إذ العام الذي قبل عامنا أخذوا ركب المغربي لقلته وقلة سلاحه وبينما نحن كذلك وإذا عسكر من الركب المصري خرج ولقينا برعود من البارود والخيل تعلب والناس كذلك إلى أن وصلنا إلى البندر فتعجب كل من كان في ذلك من أهل ذلك الوطن من العرب ومن تسوق من غيره حتى بلغ ذلك أقصى عرب الحجاز فلا تجد سارقا يدور بنا ولا قاطع طريق ليلا ونهارا خوفا من الركب المغربي لكثرته وكثرة سلاحه لا سيما الركب الجزائري نعم الركب المصري يخاف منا ومع ذلك هو في قوة عظيمة أمد مروره ثماني ساعات كما رسمه من اعتنى بذلك بالدرج فكل عام أمير الحاج من مصر يربط من الركب المغربي ويفعل فيه ما شاء إن شاء قدمه وإن شاء أخره وإن شاء زاد في الكراء زاد وغير ذلك من ظلم الغزّ (2) أما عامنا وركبنا هذا فليس عليه حكم ولا له عبرة على أن ركبنا تعصبوا وقالوا إن أبى إلا أن يحكم علينا منعناه وضربناه وفتناه فلما رأوا منهم ذلك فروا عن الحكم عليه فلا نقول إلا سلم سلم كما سمعت منه ذلك ومع ذلك أنه رجل حليم لا يرضى بالفساد ولا الظلم الكثير والحمد لله على ذلك.
قال شيخ شيوخنا سيدي أحمد بن ناصر ما نصه ثم ظعنا بكرة يوم الخميس ثامن ذي القعدة التاسع والعشرين من دجنبر وثامن عشر الليالي وما تعالى النهار ، وتفتحت للشمس عيون الأزهار ، حتى رأينا عقبة ايلة وخبرها قد روع القلوب ،
__________________
(1) في نسخة المهيع.
(2) كذا في جميع النسخ.

ونوع المهابة لأمرها فما من الركب إلا من هو من لباس الصبر مسلوب ، فحصل هناك من الزحمة ، ما تقطعت به القلوب رحمة ، وتصادمت المحاف وتكسرت ، وبرزت أنياب النوق وتكشرت ، فما كان بأسرع من خمود أمرها ، وركود حرها وجمرها ، وهي عقبة كؤد ، صعبة الهبوط والصعود ، إلا أن الطريق بها منحوتة ، قد سويت في أكثر الأماكن الصعبة ، وبنيت حافاتها ببناء متقن.
ولما كان المحل معروفا بلصوص الأعراب وحرابتهم ، تهيأ الناس وأخذوا حذرهم وأبرزوا أسلحتهم ، وعبوا تعبيتهم ، خوفا من أعدائهم فإن الغالب لا بد أن يتعرضوا للركب في هذا الموضع لصعوبته وتقدمت طائفة من الحجاج بمدافعهم أمام الركب وتأخرت طائفة وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا فلم نر بها سارقا ولا غائرا ، ولا عاتيا ولا غادرا ، فانفرجت هذه الشدة ، وكفى الله منها مدية المدة ، فما زهقت روح ، ولا أثيرت جروح ، وخلص الناس من تلك الضغطة ، وخرجوا من ضيق القبض وجلسوا على بسطة البسطة ، ونزل الناس منها سالمين ، وقيل الحمد لله رب العالمين ، قال الشاعر :
كم قد فككنا رقبة
 

لا اقتحمنا العقبة
 
وكم لنا من أمنية
 

في حجنا مرتقبة
 
وبعد أن نزلنا من المنحدر الصعب جعلت الطريق تلتوي في شعاب كأنها أزقة يكثر فيها المخاوف والمتآلف فيرى البحر من بعيد فيظن أنه قريب ووصلنا البندر ظهرا ولم يبلغ الحاج إلى قرب العصر ووجدنا المصري به مخيما وأرسل إلينا أمير الحاج إمامه ، وأبلغنا سلامه ، واسمه إبراهيم أبو شنب وأقمنا بها الخميس والجمعة وفيها حصن حصين في قرية على شاطئ البحر في سفح الجبل وبها آبار كثيرة وفيها نخيل وسوق كبير يحضره أهل غزة وتأتيه العرب بالإبل والغنم والسمن والعسل والعلف

للدواب ووجدنا الفول فيها رخيصا أرخص ممن اكترى عليه من مصر وبتنا بها وبات المصري هناك وأوقد بالليل نيرانا كثيرة وضرب المدافع ورمى المحارق في الهواء ولها منظر عجيب ، وأسلوب غريب ، كأنها شهب النجوم يرمى بها من الأرض إلى السماء فتراها في الجو طالعة حتى ترى من أعالي هام شوامخ الجبال دونها ثم تنعطف راجعة كأنها ثعبان أحمر ثم يسمع لها صوت وتخرج منها شرارات من النار فإذا انقطعت تلك أتبعها بأخرى وخروجهن فيما نرى من نار زرقاء كأنها نار الكبريت تشتعل اشتعالا قويا فتطلع منها تلك الشهب ولا نعلم صنعة ذلك وهي من الغرائب والرمي بها وبالمدافع عادة المصري في كل منزل أقام فيه إذا أراد الرحيل قاله الإمام أبو سالم.
ثم ارتحل في الغد وأقمنا بعده ولم نر في مبيتنا ولا إقامتنا ما يسؤنا من سارق ولا غيره.
قال شيخنا أبو سالم وقد سألنا هناك وبحثنا عن القرية التي كانت حاضرة البحر هل بقي من رسومها شيء فقد ذكر المفسرون أنها ايلة فلم نجدد من يشفي لنا خبرها.
وقد ذكر لنا بعض الناس أن بأعلى الوادي أثر بناء كثير يشبه أن يكون مدينة ولعلها هي وقد أخبرنا كثير من متسوقة الأعراب الذين هناك أن وراء الجبل الكبير المشرف على القرية بلدة فيها نخل وماء إلا أنها خالية ويمكن أن تكون هي فإنها قريبة من البحر والعلم عند الله تبارك وتعالى.
قلت وفي الخطط للمقريزي أن ايلة مدينة في شاطئ البحر المالح سميت بأيلة ابنة مدين بن إبراهيم عليه السلام وقد كانت مدينة جليلة القدر بها التجارة الكبيرة

وأهلها أخلاط من الناس وكانت حد مملكة الروم في الزمان الفائت وعلى ميل منها باب معقود لقيصر قد كان مسلحته يأخذون المكس وبين ايلة وبين القدس ست مراحل والطور الذي كلم الله تعالى عليه موسى عليه الصلاة والسلام على يوم وليلة من ايلة وكانت في الإسلام منزل بني أمية وأكثرهم موالي عثمان بن عفان رضي الله عنه كانوا سقاة الحجاج وكان بها علم كثير وأدب ومتاجر وأسواق عامرة وكانت كثيرة النخل والزرع.
قال وكانت بايلة مساجد عديدة وبها كثير من اليهود يزعمون أن عندهم بردا للنبي صلى الله عليه وسلم وانه بعثه إليهم أمانا وكانوا يخرجونه رداء عدنيا ملفوفا في الثياب قد أبرزوا منه قدر شبر فقط.
ويقال أن ايلة هي القرية التي ذكرها الله في كتابه العزيز حيث قال : (وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ) واختلف في تمييزها فقال ابن عباس وعكرمة والسدي رضي الله عنهم هي ايلة وعن ابن عباس أيضا أنها مدينة بين ايلة والطور وعن الزهري أنها طبرية وقال قتادة وزيد ابن أسلم هي ساحل من سواحل الشام بين مدين وعينوني.
وسئل الحسن بن الفضيل هل تجد في كتاب الله الحلال لا يأتيك إلا قوتا والحرام يأتيك جزافا قال نعم في قصة ايلة إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم انتهى المراد منه مع بعض حذف ولما التقينا بالمصري بالعقبة أخبرونا عن حالهم مع البرد وانه قتل منهم واحدا أو أثنين ليلة العقبة وقرب عجرود ما ينيف على خمسين نفسا وذكروا أن الإنسان يكون في حمل الخشب فيوجد ميتا بالبرد وعلى الدابة كذلك.

وحدثنا بعض حجاج القدس التقوا مع المصري في سطح العقبة أنه لاقوا من البرد والثلج والمطر ما يقضى منه العجب مكثوا يومين وليلتين ما أوقدوا نارا ولا قدروا عليها ولا أكلوا من كثرة المطر وأخبرني واحد منهم أنه عليه عدة لباس من الأقبية والقمص وجوخة فوق ذلك وبات من أول الليل إلى آخره واقفا ورجلاه داخلتان في الطين إلى ركبتيه والمطر يصب عليه حتى أفضى إلى لحمه وعاينوا من ذلك الموت الأحمر ونحن والحمد لله سلمنا الله من ذلك كله.
تتمة في ذكر كلام البكري من النخيل إلى العقبة قال ثم سرنا من النخيل إلى وادي القريض المشهور ، وهو واد ينبت به الشوك عوضا عن الزهور ، فكم آذى بشوكه أقدام ، وعطل من له على المشيء إقدام ، ولا سيما الفيحاء لاتساع أرضه ، وزيادة فضائه في طوله وعرضه ، قال الشاعر :
في وادي القريض (1) كم سائر
 

من غير نعل ثابت الكعب
 
قد صار كالأعجام من شوكه
 

يرقص من رقص على الكعب
 
وسيرنا اثنتا عشرة ساعة كاملة ، محررة من الميقات متواصلة ، ثم سار الركب إلى بئر العلاء في التجريد ، وهي محطة ببئرها معطلة وليس بها قصر مشيد ، وبقر بها حدرة منحدرة (2) ، وأشجار أتل منتشرة ، وبجانبها فسقيتان ليس بهما منفعة ، فما ورد عليها حيوان ظمآن إلا وقام عند رؤيتها بالأربعة ، قال الشاعر :
إلى بئر العلاء قد أتينا
 

وفزنا بالنجاح وبالهناء (3)
 
شكرنا للدليل وقد دعانا
 

إلى شيء يوصل للعلاء
 
__________________
(1) في الرحلة العياشية في وادي فيحاء.
(2) في الرحلة العياشية حذرة وفي الرحلة الناصرية جدرة منحذرة.
(3) في غير الرحلة العياشية وبالثناء.

ومدة المسير ، إليه اثنتا عشرة ساعة بالتحرير ، وبعدها الجد إلى سطح العقبة في المسير ، وهو سطح واسع الأكناف ، متسع الجوانب والأطراف ، لا يوصل إليه إلا بالاستطاعة ، لأن مدة المسير إليه اثنتا عشرة ساعة ، ثم سرنا إلى العقبة ، وما أدراك ما العقبة ، فكم بها من حدرة ومضيق ، وجبال في شكل الحمرة والبياض وهي عقلة في الطريق ، وصعود وانهباط ، وعلو وانحطاط ، قال الشاعر :
عقبات يسلك الناس بها
 

بقلوب لم تزل مرتعبه (1)
 
قد قطعناها بوقت هين
 

لم نرى فيها أمورا متعبه
 
نحمد الله الذي خلصنا
 

فاسترحنا من عقاب العقبه (2)
 
فقطعنا تلك الحدرة الكبرى ، ثم سرنا إلى واد بشاطئ البحر وأحطت به خبرا ، وبجانب البحر مغائر ماؤها عذب فرات ، وآبار تسقي منها الناس بسائر الجهات ، ورأينا نخلا زاهية ، وقلعة حصينة عالية ، فأقمنا بتلك المنزلة ثلاثة أيام ، ونحن في زيادة إنعام ، وذبح أنعام ، وقد وردت الفواكه من غزة وأعمالها ، فنصبت للبيع وانخفضت (3) الأسعار ورفعت البواقي على أحمالها ، وبقلعتها يوضع البضائع ودائع إلى الإياب ، ومدة المسير تسع ساعات في الحساب ، انتهى كلام البكري.
وزرنا قبر الشيخ إبراهيم اللقاني في مقبرة هنالك محوط عليه بالأحجار على يسار الذاهب إلى منزل الركب وأوقفنا عليه مغربي ساكن في بندر العقبة نيفا وعشرين سنة ثم ارتحلنا من العقبة صبيحة السبت فسرنا في مسلك ضيق بين البحر والجبل لا يمر به إلا جمل أثر جمل كأنه مثل الصراط إلا أنه غير مستقيم وقلما يخلو
__________________
(1) في غير الرحلة العياشية متعبة وفي ثلاث نسخ متعبة مكررة وفي نسخة منتعبة.
(2) في الرحلة العياشية وارحنا وفي جميع النسخ اراحنا من عقبات.
(3) في الرحلة العياشية وانحبطت.

هذا المحل من لصوص يتعرضون للركب فتشتد أذايتهم وتعظم نكايتهم لا سيما عند البرج قرب بندر العقبة ولكن ذلك في الرجوع أكثر ولم نر فيه والحمد لله بأسا ولا بؤسا ووصلنا ظهر الحمار بعد الظهر ووجدنا أخريات المصري ووقفنا حتى غاب عنا وسار وصلينا العصر وهو بسيط من الأرض أحرش مرتفع يطلع إليه من مسلكين لا يخلوان من صعوبة وتحته على ساحل البحر إحساء كثيرة في وسط حدائق النخل وقلما يخلو من عمارة بعض ضعفة الأعراب لا سيما في وقت جذاذ النخل ويكون فيها في ذلك الوقت رطب جيد وماء هذا المحل كله عذب طيب قال شيخنا أبو سالم في رحلته ويسمى ذلك المحل في زماننا هذا حفائر النخل وخلفا البحر يمينا فسرنا ونزلنا بعيد المغرب في فسحة من الأرض بين جبلين ثم ارتحلنا منه يوم الأحد الأول من يناير حادي عشر ذي القعدة وبلغنا عش الغرب قبل الظهر وجاورنا دار المصري بشرفات بني عطية بموضع يقال له أم العظام وهناك أرجام كالشعاب عن يمين الذاهب.
ذكر العبدري في رحلته أن ذلك قبر الشفاف والشفاف رجل كان يقطع الطريق على الحاج هناك في غابر الزمان وقصته مشهورة في رحلة العبدري ومن وراء الجبل الذي على يسار الذاهب بلد واسع فيه ماء جار وأرض مخصبة وربما عطش الركب في ذلك المحل فيأتي العرب بماء يبيعونه ونزلنا قبيل مغيب الشفق وبنو عطية هم عرب هذا البلد.
قال الإمام أبو سالم ويقال لهذا المكان يعني الشرفات عش الغراب.
غريبة تزعم العرب أن الإبل تنفر في هذا المكان ويقولون أنها تسمع صوت

سقب (1) ناقة صالح وانه في ذلك الجبل وأن هنالك الصخرة التي دخل فيها لما عقرت أمه فالإبل إذا وصلت إلى ذلك المكان تسمع صوت العشار فتنفر ولا أدري من أين لهم ذلك وهو بعيد إذ ليست هذه ديار ثمود الذين عقروا الناقة وهم قوم صالح على نبينا وعليه الصلاة والسلام ثم منه يوم الاثنين وصلينا العصر (2) بالمكان المسمى بمغائر سيدنا شعيب على نبينا وعليه الصلاة والسلام في حش ملتف ملنا إليه لأجل الحريم الذي معنا وهي احساء كثيرة في مضيق بين جبلين فيها نخيل وماؤها طيب حلو خفيف نافع وعادة أعراب مدين أن تسوق الأركاب هنالك بأحمال كثيرة من أنواع العنب وغيرها من الفواكه وتنخفض أسعار ذلك كله وبينها وبين مدين مسيرة نصف يوم وهي بلدة بساحل البحر كثيرة الفواكه والمياه الغزيرة وسكانها أعراب أهل بادية وكانت قبل ذلك مدينة ويذكر أن أثر البناء باق فيها إلى الآن.
قال شيخنا العياشي وعلى يسار منزل الركب خارج المضيق مغارة يقال أن فيها كان شعيب على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام يأوي بغنمه وبإزائها بئر كبيرة معطلة وبجانبها بركة ويقال إن هنالك كانت البئر التي سقى منها موسى عليه السلام غنم شعيب عليه السلام وفي ذلك الوادي دوم طويل كأنه نخل صنوان وغير صنوان وعريش كثير في الوادي وهو محل مخافة فلما يخلو من لصوص الأعراب.
قلت ولمدين أخبار وأثار ذكر المقريزي منها نبذة ولما صلينا العصر بالمغارة كما تقدم تجاوزنا ونزلنا بين العشاءين في بسيط أفيح ثم ارتحلنا منه يوم الثلاثاء ونزلنا عيون الأقصاب بعد العصر وهو ماء جار في مضيق بين جبلين في محل كثير القصب
__________________
(1) في الرحلة العياشي صغب ولعله صقب وهو السقب وزنا ومعنى.
(2) في غير الرحلة الناصرية يوم الاثنين وصلنا المصري.

والديس وفي أعلى الوادي نخل وأرض صالحة للحرث فلما يخلو ذلك المحل من أعراب نزول به فيكثر الخوف ويعظم ضررهم لا سيما مع نزول الليل فيأخذ الناس حذرهم فيطلعون الرماة إلى أعلى الوادي مراقبين حتى يأخذ الناس حاجتهم من الماء ويكتفوا فيأتي الرماة لمنازلهم على شفير الوادي عند منزل الركب مسجد بني بالحجارة المنحوتة ومنبر بإزائه.
ثم ارتحلنا منه يوم الأربعاء إلى أن قال إلى بندر المويلح وبنينا الأخبية بحيث تقرب الأمواج من الأستار وماء هذا البندر كثير حلو فيه آبار كثيرة وبساتين حسنة ونخل وهناك حصن كبير وفيه عسكر وأمير وتخزن فيه الميرة والفول كثيرا وعلى بابه سوق كبير يوجد فيه غالب المحتاج وبه موسى حسنة تنزل بها السفن القادمة من السويس والقادمة من جدة ومن القصير.
تتميم قال البكري رضي الله عنه في ذكر المراحل من العقبة إلى المويلح ثم سرنا إلى مرحلة يقال لها ظهر الحمار ، وهي محطة عالية كثيرة الأوعار ، يصعد إليها من عقبتين ، واليمنى أوسع من اليسرى في المسلكين ، قال الشاعر :
صعدوا على ظهر الحمار لعلهم
 

أن يبلغوا بعصودهم كل الأمل
 
تعب الحمار من الطريق وطولها
 

ومديدها واجتث من بعد الرمل
 
حتى الجمال به شكت يا هل ترى
 

يقبل (1) به عذر الحمار أم الجمل
 
ومدة المسير إليه ثمانية من الساعات ، محررة عند أهل الميقات ، ثم سرنا إلى بين الجرفين ، وهو مكان كأن الجبال قد قسمت به شطرين ، يحترز منه أن يقذف بالحجاج ، في أيام السيل إلى البحر المالح الأجاج ، قال الشاعر ملغزا فيه :
__________________
(1) في الرحلة العياشية به تلت ياهل ترى نقبل.


وخمسة أحرف في اللفظ تقرا
 

فإن صحفتها صحت بحرفين
 
وإن أسقطت خامسة فتبقى
 

ثلاثة أحرف من أصل ألفين
 
ومنها إلى الشرفة ، وهي بطول السير متصفة ، تتعب فيها الجمال ، ولو رحلت بلا أحمال ، لما فيها من الوهاد ، والطلوعات الشداد ، وخلفت جبالها قبيلة بني عطية ، المعروفين بالسرقة والأذية ، قال الشاعر :
إذا ما جئت للشرفة
 

ترى العربان مختلفة
 
وأما العيس فاجعلها
 

بحسن الحفظ متصفه
 
فان منعت بحارسها
 

وإلا فهي منصرفه
 
ومدة المسير إليها خمس عشرة ساعة من غير ريب ، وبعدها المغار المعروف بمغار شعيب ، وهو غار يتبرك به الناس ، وترى فيه الحظ والإيناس ، وبه الماء العذب والنخيل ، وشجر المقل والإثل والظل الظليل ، قال الشاعر :
قد وصلنا إلى مغار شعيب
 

فرأينا المياه كالأنهار
 
فاستقينا من مائه واشتفينا
 

وظفرنا بغاية الأوطار
 
وذكرنا بغاره غار ثور
 

من حوى للصديق والمختار
 
خير من أنزل الإله عليه
 

ثاني اثنين إذ هما في الغار
 
ومدة المسير إليه ثمان عشرة ساعة ، محررة عند أهل الصناعة ، ثم منها إلى عيون القصب ، إذا نظر إليها العاجز أذهبت عنه الوصب ، لأن خضرتها نضرة ، والأشجار بها منتظمة ومنتشرة ، قال الشاعر :
قد وصلنا لعيون القصب
 

واستراح القلب بعد النصب
 



وعيون الماء فيها قد جرت
 

كسيول الغيث بن القصب (1)
 
فجلسنا بصفاء حولها
 

وظفرنا عندها بالأرب
 
وتشوقنا لشاد مطرب
 

يتغنى بعيون القصب
 
ورأينا مجاورا لتلك العيون ، نسوة من العرب يوصفن بحسن العيون ، ويتعاجبن بظفائر الشعور ، فيمنعن من عقل الحب الشعور ، كأنهن الأقمار ، وكأنما نبتت في وجناتهن الأزهار ، فكأن قطع المفاوز والأوعار ، كالمتنزهات في الرياض والأزهار ، قال الشاعر في بدوية اسمها ساكتة :
بروحي أفدي ظبية بدوية
 

لها وجنة فيها الأزاهر نابته
 
إذا رمت منها أن تكلمني غدت
 

تكلمني ألحاظها وهي ساكته
 
ومدة المسير إليها أربع عشرة ساعة وثلاثة من الدرج ، يتعب في سيرها من ركب ومن درج ، ثم ارتحلنا منها إلى بندر المويلح المشهور ، ورأينا بساحله المراكب من السويس والطور ، فيا له من بندر فاق البنادر ، يأتي إليه الوارد والصادر ، وبه جملة من الكروم ، التي تذهب برؤيتها الهموم ، وبمخازن القلعة تودع الودائع ، وإلى سوقها تساق نفائس البضائع ، من ثمار تجلبها العرب ، وزلابية عجينها كاللجين فإذا قليت أشبهت الذهب ، وبهذا البندر رجل من أرباب الأحوال ، حاز رتبتي الجلال والجمال ، صاح مجذوب ، تميل إليه محبة القلوب ، وله أسرار ظاهرة ، ومكاشفات باهرة ، يعتقده الناس ، ويحصل لهم بهم الإيناس ، لا يعرف الدرهم ولا الدينار ، ولا يقبل إلا القوت عند الاضطرار ، لباسه جبة من صوف ، ورأسه في غالب الأوقات مكشوف ، إن نطق تكلم على الخواطر ، وإن صمت نطقت عليه ألسنة الناس بالثناء العاطر ، ويكسوه المارة العدد ، فيقبلها ويعطيها لمن وجد ، لأن من رآها عليه ، يطلبها فيدفعها إليه ،
__________________
(1) في نسخة الغصب وفي أخرى الغضب.

وهذا شأن الكرام ، الذين قطعوا علائق الدنيا على الدوام ، فأقمنا بهذا البندر ثلاثة أيام ، وبعدها طوينا المضارب والخيام ، ومدة المسير ثلاث عشرة ساعة ، وخمس من الدرج في علم الصناعة ، انتهى كلام البكري إلى أن قال.
ونزلنا بالموضع المسمى بدار أم السلطان قبل الغروب وبه آبار عذبة المياه ، تستلذه الأفواه ، على انه سخن ولكنه سريع الانفعال للهواء وهي محدثة وأحلى ما في الدرب من الماء ومثلها ماء النبط أخبرني بعض كبراء أعراب هذه النواحي أن الأمير إبراهيم الففاري هو الذي تسبب فيها وانه طلع للحج وبعث إلى أخيه بمصر وقال له أن الماء الطيب بهذا المنزل إن مت فاحفره وأكد عليه في ذلك ومات بمكة لما حج وحفر أخوه آبارا ولها نحو من عشرين سنة والمحل قبل لا ماء به انتهى كلامه إلى أن قال.
ومررنا بالمضيق الموسوم بشق العجوز وسايرنا البحر المالح عن يسارنا جبال سلمى وكفافة ومررنا ضحى بقبر سيدي مرزوق الكفافي على ساحل البحر عليه أعواد قد علم بها عليه والناس يتبركون به وطلعت الشمس فارتفعت حارة ونزلنا بندر الأزلم قبيل الاصفرار ووجدنا به شرذمة من الأعراب يبيعون الحشيش والغنم وبه ثلاث آبار كبيرة محكمة والبناء وماؤها غزير إلا أنه زعاق يصلح للإبل ولضرورية الناس من غسل ونحوه ولا يسيغه إلا المضطرون قال الشيخ أبو سالم وعلى يسار البندر بعيدا عن الآبار حسى أي ماء حي محفور في الأرض ليس بمطوي ماؤه أحسن من ماء الآبار إلا أنه قليل ولا يعرفه الكثير من الناس وهذا البندر قليل الجدوى لقبح مائه وقربه من المويلح ومن الوجه هما أتم منه منفعة فليس فيه كبير فائدة وقد انهد ما في داخله من البيوت وتثلم بعض سوره والخلاء أقرب إليه من العمارة شعر :


إذا لم يكن فيكن ظل ولا جنى
 

فابعد كن الله من شجرات
 
انتهى ثم ارتحلنا منه إلى أسطبل (1) عنتر وفيه ثلاث آبار قليلة الماء وهو حلو طيب للشراب وأما الإبل فلا تكاد تطمع فيه.
ثم مررنا بوادي الأراك وهو واد واسع يأتي من ناحية الشمال والبحر عن يمينه قريب منه وفيه كثير من شجر الأراك الأخضر الناعم ثم يسير الماشي في مضائق بين فدافد من جبال ذات حدور وصعود إلى أن يصل إلى بندر الوجه وفيه حصن حصين في حرف واد كبير يخرج بين جبلين والناس يتهيئون النزول في أصل الوادي إذا كان الوقت وقت السيول فيرتفعون عن جنبي الوادي وفي الوادي عدة آبار بعضها أحسن من بعض والتي فوق البندر أحسن من التي تحته وداخل البندر بئر تسنى بالبقر وتصب في ثلاث برك لصق حائطه أحداهما من بناء الأمير رضوان في آخر أيامه واثنتان من بناء مملوكه الأمير غيطاس عام تولى إمارة الحاج بعد مولاه والبرك الثلاثة ملاصقة لسور البندر.
قال أبو سالم وفي أعلى الوادي بين الجبلين ماء يسمى الزعفران وماؤه طيب إلا أنه قليل فإذا كثر الزحام على الآبار طلع إليه أهل الجرأة من الناس وربما هجمت عليهم العرب هناك فيقع بينهم قتال إلا أن الموضع قريب من البندر فيغاثون واستقى الناس ما احتاجوا إليه وأوردوا إبلهم بالغوا في حمل الماء [وتعاهدوا أسقيتهم وأوثقوا أوكيتها ولم يألوا ما ملئوا من الأوعية وباتوا ليلتهم في الآبار إذ نزحت وكابد الناس لذلك مشقة فادحة](2) لأنهم استقبلوا المياه القبيحة والمسافة العويصة التي ليس في الدرب أصعب منها لتوالي المياه القبيحة فيها وبعد العمارة
__________________
(1) كذا في بعض النسخ وهي لغة في الاصطبل بالصاد.
(2) ما بين القوسين ساقط في الرحلة العياشية.

ووحم هوائها وسوء أخلاق أعرابها (1).
قال أبو سالم وهذا البندر آكد البنادر إلى الخزن لأن الركب في الإياب قد يسبق الملاقي من مصر إلى هذا المحل فيغلى فيه الفول والطعام غاية حتى تعجز عنه الأثمان في بعض الأوقات وفي حجتنا عام تسعة تجاوزناه لقلة مائه ونزلنا قرب العشاء بعد مجاوزته بأميال إذ لم نجد به شيئا من المنال.
قال الشيخ البكري في ذكر المراحل من المويلح إلى الوجه ما نصه ثم سرنا من المويلح إلى دار أم سلطان ، التي هي لعرب البادية أوطان ، ونزلنا بوادي سلمى وكفافة ، وحصل مزيد الأمن بعد المخافة ، وخلف جبلها الغربي البحر الأصيل ، وبجانبه القسطل البري وهو كثير طويل كالنخيل (2) ، وحفائر مائها عذب بارد ، يشرب منها الغادي والوارد ، قال الشاعر :
إن وادي سلمى بهي بهيج
 

حيث فيه قبر الولي المسمى
 
صاحب السر والمعارف مرزوق م
 

الكفافي طاب روحا وجسما
 
فإذا جئت قبره قم فنادي (3)
 

وتوسل بجاهه ثم سل ما
 
فأقمنا بتلك المرحلة الإقامة المعتادة ، وحصل لنا ببركة الشيخ مرزوق في الرزق الزيادة ، ومدة المسير كاف تمام ، وعددها معروف من غير اتهام ، ثم سرنا إلى بندر الأزلم ، ولا يرغب فيه من بحقيقته يعلم ، فماؤه ملح أجاج ، ما شربه إنسان إلا أحتاج إلى العلاج ، فأقمنا به من غير إقبال ، ورحلنا منه بعد الزوال ، ومدة المسير إليها ست
__________________
(1) في الرحلة العياشية وبعد العمارة وشدة الحر (الحرب) لقربها من بلاد الحجاز بل غالبها منه وسوء أخلاق عربها.
(2) في الرحلتين العياشية والناصرية القسطل البري منتظم كالنخيل.
(3) كذا في جميع النسخ وفي الرحلتين قبره فتأدب وهذه الرواية أصوب.

عشرة ساعة محررة ، وخمس من الدرج مقدرة ، ثم سرنا إلى مرحلة تسمى أسطبل عنتر ، وقد اختفى بها العربان للأذى وتستر ، والمسير إليها بين جبال صاعدة ، وحدورات وأوعار متقاربة ومتباعدة ، وبها آبار عذبة ، يود كل ظمآن شربة ، قال الشاعر :
إن جئتا للأسطبل لا
 

تغفل به عند النزول
 
وأحذر من العرب الذي
 

بجباله أبدا تصول
 
واعلم فديتك انه
 

صعب ولكني أقول
 
قد سمي الإسطبل من
 

عرب به شبه الخيول
 
ومدة المسير ثلاث عشرة ساعة (1) في العدد ، صحيحة الضبط والسند ، ثم سرنا منه إلى وادي الأراك ، وهو واد ليس لانفراد محاسنه اشتراك ، وبعده دخلنا بين جبال وأوعار ، ومضيق وأحجار ، وحدرات طوال ، وصعودات وتلال ، حتى نزلنا ببندر الوجه المبارك ، وصار حصنه متقاربا متدارك ، فرأينا به الآبار الخالية ، وحفائر الماء العذب غير خالية ، فأقمنا به إلى قبيل العصر ، وقد زال من الناس الحصر ، قال الشاعر :
قد دخلنا بندر الوجه الذي
 

فيه قوت كل عام يختزن
 
وشربنا من مياه عذبة (2)
 

شربها يجلو عن القلب الحزن
 
نحم الله الذي أسعفنا
 

ورأينا ذلك الوجه الحسن
 
ومدة المسير إليه سبع عشرة ساعة وثلثا ساعة بالإجماع ، حررها أهل العلم والاطلاع ، انتهى كلامه رضي الله عنه.
__________________
(1) في ثلاث نسخ عشر ساعات وفي أخرى بإسقاط عشر.
(2) في الرحلة العياشية عذبت.

ثم منه إلى الأكره وهو واد كبير تأتيه السيول من بلاد بعيدة ويذكر أن سيل المدينة المشرفة على من تشرفت به أفضل الصلاة والسلام وأزكى التحية والإكرام يصل إليه وماؤه قبيح جدا إلا أن يكون عقب سيل فيحسن وبه احساء كثيرة وأشجار ملتفة ووجدنا جل ماء آباره جيدا لقرب العهد بالسيل وسقى الناس منه وأخذوا من مائه ما ليس لهم عنه بد وسقوا إبلهم وتجاوزه قبل الظهر وباتوا غربي بئر الدركين ثم ارتحلنا منه وبلغنا بئر الدركين مع طلوع الشمس وهو منزل الحاج المصري وسمي بذلك لأنه بين درك أعراب مصر وأعراب الحجاز فإن ما بعده من عمل الحجاز وفي درك أعرابه إلى أن قال.
ولما بلغنا العقبة السوداء وهي عقبة صغيرة في حرة سوداء ذات أزهار وأشجار ويقال إنها أول أرض الحجاز ولا يبعد ذلك فإن من هنالك تخالف الأرض ما قبلها وتباين الجبال ما سواها ويشتد شبهها بجبال الحجاز السود ويتقوى الحر إلى أن قال.
وهذه المرحلة والتي قبلها يشتد فيها الحر وهي أرض سهلة مطمئنة ليس فيها جبال إلا ما يتراءى عن شمال المار بها والبحر يتراءى عن يمينه وفيها غياض من شجر الطلح وهي من أنواع الكلأ الذي ترعاه الإبل كثيرا إلا أنها تترك للرعي فإن المحل مخوف تغير فيه أعراب بلي وجهينة وغيرهما إلى أن قال.
نزلنا الحوراء بعد المغرب وتفرق الناس في مياهها وهي على حفائر على ساحل البحر يحيط بها ديس كثير وفيه ملوحة كثيرة (1) والقريب العهد بالحفر أجود من غيره وكلما طال في القرب خبث والإكثار منه يورث إسهالا مفرطا كماء الاكره والأزلم وعجرود والحاج منها راق على تلال واديها وأكامها وروابيها لكون المحل محل
__________________
(1) كذا في جميع النسخ وفي الرحلتين العياشية والناصرية قليلة.

الغارات إلى أن قال ومن أمثال الحاج لا رجال إلا رجال الحوراء ولا جمال إلا جمال الدورة ويعنون بالدورة الرجعة يعني لا يعد صابرا من الجمال (1) إلا من صبر في حالة الرجوع من الحجاز إذ هو آخر السفر ومحل قلة العلف ومنه ذاهبين مع واديها الكثير الأشجار من أراك وغيره ثم يعدل الحاج يمينا إلى الوادي المسمى على السنة الحجاج بوادي العقيق.
قال شيخنا أبو سالم ولا مناسبة بين الاسم والمسمى بل تسميته بوادي العقوق انسب لشدة جرأة أعرابه على السرقة فإنهم من أجرأ الناس على ذل ثم منه إلى النبط وبه آبار محكمة البناء بالحجر المنحوت وماؤها عذب حلو غزير في الغالب.
قال أبو سالم وغزارة ماء أودية الدرب إنما يكون بحسب كثرة المطر وقلته فإذا حمل الوادي ولو مرة في السنة غزر ماؤه سائر السنة ومنهم إلى الخضيرة مرحلة لا ماء فيها ولا في الخضيرة إلى الينبع حاصله يومان لا ماء فيهما ومن النبط إلى الخضيرة واد حار وهو مكان يتشوق الناس فيه ويموتون عطشا إلا إذا وجد فيه ماء المطر وهذا الوادي قد وافق فيه الاسم المسمى قلما تخلو سنة من شدة تقع للحجاج فيه من عطش أو موت وهو واد كبير طبق ما بين جبلين لا سعة فيه من النبط إلى الخضيرة فإذا اشتد الحر في النهار حجبت الجبال عنه الهواء البحري فينعكس غربيا أو شرقيا صاعدا من الوادي أو منهبطا فيصير سموما محرقا ولا ماء هناك فربما أتلف الناس فيه العطش المهلك وربما أحدث ذلك سمية الأبدان بقبح الهواء مع حرارته فتموت المئون بل الآلاف من الخلق في أسرع مدة فيأخذ الرجل الماء فلا يضعه من يده حتى يموت.
__________________
(1) في الرحلة الناصرية الرجال.

قال الشيخ أبو سالم ووقوع ذلك في الإياب كثير وفي الركب المصري أكثر وقد غمرتنا فيه والحمد لله ألطافه تعالى الخفية ، وحضرتنا منته ومواهبه السابغة الوافية ، فلم نر به بأسا في الحر ولقر والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وتنزل البركات.
ونزلنا مغيب الشفق قبيل الخضيرة وصلينا بها الصبح وقطعنا الوعرات السبع المسماة على ألسنة الحاج بسبع وعرات وخرجنا إلى متسع من الأرض وبلغنا ينبع النخل غروب الشمس ولما قربنا مضيق ينبع تأخر كثير من الصعاليك فخرج عليهم المحاربون وجردوا صعلوكا فصاحوا ورجع إليهم بعض الحجاج فهربوا وجلسوا تحت أحجار ورموهم ببنادق ورماهم الحجاج فكفى الله شرهم واستبشر الناس بقدومهم الينبع لأنها أول بلاد الحجاز العامرة وفيها قرى كثيرة ومزارع ونخيل وعيون جارية وذكروا أن عمرانه متصل نحو ثلاثة أيام والقرية التي ينزل بها الركب هي آخر القرى التي من ناحية البحر وليس بعدها إلا ينبع البحر الذي هو المرسى وغالب أهل القرى يأتون إلى هذه القرية التي ينزل بها الحاج للتسوق وتعمر هناك سوق كبيرة يوجد فيها غالب المحتاج وتجلب إليها البضائع والسلع ذوات الأثمان ويجلب إليها من الثمار والفواكه والحبوب والفول شيء كثير وهناك وجدنا أخبار المدينة ومكة زادهما الله تعالى تشريفا وتعظيما ، وتبجيلا وتكريما ، ووجدنا أيضا أخبار سائر بلاد الحجاز وتعرفنا على رخصها من غلائها وخصبها من جدبها ومن هناك تجلب الميرة للمدينة الشريفة لأن السفن الجالبة للطعام من مصر ما كان منها للمدينة يرسي بينبع البحر وما كان منها لمكة يتجاوز إلى جدة فإذا وصل الطعام إلى الينبع حمل منها إلى المدينة تحمله أعراب تلك الناحية من بني سالم وجهينة ويتداركون بالطريق من هناك للمدينة.
قال شيخنا أبو سالم وأكبر جبال تلك الناحية جبل رضوى وهو المشرف على

بلاد الينبع وليس هو الجبل الصغير الذي هو بجانب الينبع بل هو الجبل الكبير المشرف عليه وإلى هذا البلد كانت غزوة العشيرة من غزواته صلى الله عليه وسلم ومسجد القرية الآن هو مسجد العشيرة المعدود في المساجد التي صلى فيها النبي صلى الله عليه وسلم.
قال السيد السمهودي ما نصه ومسجد العشيرة معروف ببطن الينبع وهو مسجد القرية التي يزلها الحاج المصري ولابن زبالة (1) أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في مسجد الينبع بعين بولا.
قلت وعنده عين جارية لكنها لا تعرف بهذا الاسم انتهى.
وقد دخلنا هذا المسجد وقلنا فيه حتى صلينا الظهر والعصر وتوضأنا من هذه العين وعليها نخيل وفي الينبع ملتفة ناعمة ووجدنا بها العام يبس ماء العين وانهدم بعض سقف المسجد وذبلت النخل وفي الينبع مزاراة على تل مرتفع لأبي الحسن النفاتي وقبر الحسن المثلث فوق القرية لم نصل إليه لبعده وذعارة عرب البلد يزار من بعيد بالنية وبهذا البلد موطن طائفة من الأشراف ومنهم شرفاء بلدنا القاطنون بسجلماسة.
قال البكري في ذكر المراحل من الوجه إلى الينبع ما نصه ثم سرنا من الوجه إلى مشرف (2) النعام ، ثم إلى حدرات واكام ، وأماكن يرى منها البحر الأجاج ، وشدة تلاطمه بالأمواج ، ثم إلى حدارت كبيرة المقدار ، كثيرة الصخور والأوعار ، ونزلنا في مرحلة يقال لها بركة اكره ، وهي أرض بها حفائر ماء تكره ، ماؤها مر المذاق ، من تقيد
__________________
(1) كذا في الرحلتين العياشية والناصرية وفي ثلاث نسخ زياله وفي نسخة زياد.
(2) في الرحلة العياشية مفرش.

شربه حصل له الإطلاق ، وهي مرحلة لا تراح بها النفوس ، ولا يضحك بها العبوس ، قال الشاعر :
يا من أتى اكره في سيره
 

ابشر بنيل القصد والمنه
 
لا تكره المكروه في اكره
 

فبالمكاره حفت الجنة
 
ومدة المسير إليها تسع ساعات بتمامها ، وثلث ساعة ثابتة في أحكامها ، ثم سرنا منها إلى مرحلة يقال لها الحنك ، ولها من بين القرى اسم مشترك ، بين فضاء واسع المجال ، ومراعي أعشاب للجمال ، إلا أنها خالية من الماء للوراد ، والإقامة بها إنما هي على طريقة السير المعتاد ، ومدة المسير إليها أربع عشرة ساعة من الزمان ، حررها أهل الإتقان ، ثم سرنا منها إلى العقبة السوداء المشتهرة ، وقطعنا مفاوزها ونزلنا بالحوراء النضرة ، وهي مرحلة رملها غزير ، ومخاطبها كثير ، وبها شجر الأراك الأخضر ، والماء من حفائر رملها يتفجر ، قال الشاعر :
جئنا إلى الحوراء وهي محطة
 

فيها الأراك نزاهة للرائي
 
ناديت خل قف بها متأملا
 

وانظر لرمل مغمر بالماء
 
واغنم زمانا مقبلا بسعوده
 

فيه اجتماع الشمل بالحوراء
 
ومدة المسير إليها في جمل الإعداد ، حررها أهل الإرشاد ، ثم سرنا منها إلى مفازة نبط ، وهي حد عربان جهينة في الشيل والحط ، وبطرقها مضائق وحدرات ، وجبال راسيات شامخات ، وشجر أثل كالنخيل ، وحفائر ماء عذب يشفي العليل ، قال الشاعر :
وفي اكره والتي بعدها
 

مرارة ماء تزيد القساوه
 
فجئنا إلى نبط نشكر الظما
 

فانعشنا ماؤها والطلاوه
 
ولما صبرنا على مرها
 

فاعقبنا صبرنا بالحلاوه
 


ومدة المسير إليها عدد كاف ، وهي عشرون ساعة من غير اختلاف ، ثم سرنا إلى طراطير الراعي ، وهي مكان تحمد فيه المساعي ، وهي جبال سود فوق الجبال ، وتسمى أيضا بالأباطح كما يقال ، ثم إلى واد يسمى وادي النار ، وهو واد بين جبال ووعر وغبار ، ثم نزلنا بالخضراء وقيل الخضيرة بالتصغير ، وهي من أعمال بندر الينبع في المسير ، قال الشاعر :
أنظر إلى الخضراء واغنم بسطها
 

تلقى رباها نزهة للرائي
 
فلرب حشاش شكا من همه
 

قد زال عنه الهم بالخضراء
 
ومدة وصولنا إليها في المسير (1) ثم رحلنا منها واستقبلنا دار البقر ، ورأينا أول الوعرات قد ظهر ، وهي سبع وعرات كبيرة ، أصعبها الأولى والأخيرة ، بين كل وعرة فضاء وبعده عقلة في الطريق ، ويليها شفاء جبل هائل ومضيق ، ثم أنخنا الركاب ببندر الينبوع ، وهو أول بلاد الحجاز في الذهاب وآخرها في الرجوع ، به حدائق ونخيل ، وعيون بين زروع تسيح وتسيل ، وكان به سور ، منيع وجامع مفرد وسيع ، وبيوت فسحة الرحاب ، فآل أمرها إلى الخراب ، وبه الآن سوق الحجاج ، يأخذون منه الذخيرة عند الاحتياج ، وبه أفران وحيشان كبار ، وعشش تسقى فيها القهوة من أيدي الجوار ، قال الشاعر :
حبذا بندر ينبوع وما
 

في رباه من رياض وعيون
 
وسقاة من ملاح نهد
 

يصرّ عن الصب من نبل العيون
 
فارتحل عنهن واذهب وانتصح (2)
 

فإذا خالفت أذهبت العيون
 
__________________
(1) بياض في الرحلتين العياشية والناصرية وكذلك في ثلاث نسخ وفي نسخة معلومة بلا ضير والغالب على الظن أن هذه الزيادة من الناسخ.
(2) في ثلاث نسخ واتضح وفي الرحلة العياشية وانتظم.

وجميع تلك الأسواق خارجة عن المساكن ، ويعم نفعها الساكن والظاعن ، فنصبنا بهذا البندر الخيام ، وأقمنا به ثلاثة أيام ، ومدة المسير إليه سبع عشرة ساعة في العدد ، محررة في ميقاتها صحيحة السند ، انتهى كلام البكري.
ثم رحلنا من الينبع ومررنا على السقائف ودار الوقدة ثم كذلك من الرمل المشرف على بدر ثم كذلك إلى أن نزلنا بدرا وسمي هذا المنزل دار الوقدة لأنهم يوقدون فيه الشمع الكثير يستصحبه الناس معهم من مصر لذلك ويبيعونه في الركب ويجعلونه على اقتاب الجمال بالليل فترى الركاب كله كأنه من أعظم المساجد المسرجة مصابيحها في أحد المواسم.
قال أبو سالم وشاع عندهم أن الصحابة في غزوة بدر أوقدوا هناك نيرانا كثيرة فنحن نشتبه بهم وتلك غفلة منهم وخطاء من وجهين أحدهما أن وقوع الأمر بإيقاد النار الكثيرة إنما كان في غزوة الفتح بمر الظهران كما هو معروف في كتب السير وأما بدر فلم يقل فيها أحد بذلك وثانيها لو سلم أن ذلك وقع فيها فقد كان لإرهاب العدو وإظهار قوة المسلمين وكثرة عددهم فحيث لا ضرر فلا عدو له ولا شك أن الفرح بنصر الله أولياءه على أعدائه والاستبشار بالأماكن التي اعز الله فيها الإسلام أمر مطلوب مستحسن ما لم يؤد ذلك إلى محظور مثل اعتقاد أن الوقود سنة متبعة بل ربما ظن بعضه أنها من أفعال الحج فلتعظم بغير ذلك من فرح وسرور وصدقة وعبادة وأعلان بشكر وقد جاءني كثير ممن لا شمع عنده يستفتون ويقولون لا شمع عندنا فهل يلزمنا شراؤه ممن هو عنده ظانين أن ذلك من مناسك الحج وشعائره وكم مثلها من بدعة محدثة يرى الناس أنها من أعظم القربات نسأل الله أن يثبتنا على سنة النبي صلى الله عليه وسلم المستقيمة التي لا ترى فيها عوجا ولا أمتا انتهى.
ثم إن الركب يتوسط وتوسطنا بين الجبلين جبل الرمل الكبير المشرف على بدر

يسرى الطريق والجبل الآخر يمناه فإذا بالناس يشرعون يريدون (1) الصعود لجبل الرمل أفواجا رجاء أن يسمعوا ما يوثر هنالك من صوت الطبل وزعم كثير من الحجاج أنهم يسمعونه هنالك.
تتمة ذكر الإمام ابن مرزوق في شرحه على البردة ما نصه ومن الآيات ببدر الباقية ما كنت اسمعه من غير واحد من الحجاج أنهم إذا اجتازوا بذلك الموضع يسمعون كهيئة طبل الملوك الوقت ويرون أن ذلك لنصر أهل الإيمان قال وربما أنكرت ذلك وربما تأولته بأن الموضع لعله صلب فيستجيب فيه حواجر الدواب وكان يقال لي انه دهس رمل غير صلب وغالب ما يسيري هنالك الإبل وإخفاقها لا تصوت في الأرض الصلبة فكيف بالرمل قال ثم لما من الله تعالى بالوصول إلى ذلك الموضع المشرف نزلت عن الراحلة أمشي وبيدي عود طويل من شجر السعدان المسمى بام غيلان وقد نسيت ذلك الخبر الذي كنت أسمع فما راعني وأنا أسير في الهاجرة إلا واحد من عبيد الأعراب الجمالين الذين كانوا معنا يقولون أتسمعون الطبل فأخذتني لما سمعت كلامه قشعريرة بينة وتذكرت ما كنت أخبرت به وكان في الجو بعض ريح فسمعت صوت الطبل وأنا دهش مما أصابني من الفرح أو الهيبة أو ما الله اعلم به فشككت وقلت لعل الريح سكنت في هذا الذي في يدي وحدث مثل هذا الصوت وأنا حريص على طلب التحقيق بهذه الآية العظيمة فألقيت العود من يدي وجلست إلى الأرض أو وثبت قائما أو فعلت جميع ذلك فسمعت صوت الطبل سماعا محققا أو صوتا لا أشك انه صوت طبل وذلك من ناحية اليمن ونحن سائرون إلى مكة المشرفة فظللت أسمع ذلك الصوت يومي أجمع المرة بعد المرة ولقد أخبرت أن ذلك الصوت لا يسمعه جميع الناس انتهى.
__________________
(1) في الرحلة الناصرية يهرعون يتجشمون.

وقال الإمام المرجاني رحمه الله تعالى ولقد ضربت طبلخانة (1) النصر ببدر فهي تضرب إلى يوم القيامة نقله عنه السيد السمهودي في تاريخه الكبير والصغير.
قال شيخنا أبو سالم وقد كثر كلام الناس في هذه المسألة وإذا ذكر من يوثق به كابن مرزوق وغيره أنهم سمعوه فالصحيح أن بعض الناس يسمعه دون بعض وقد مررت ببدر سبع مرات وأنا في كلها ألقي البال لذلك فلم أسمع شيئا اتحققه وفي هذه المرة سمعنا بعد ما قربنا من البندر صوت طبل محقق فإذا هو طبل بعض أمراء الركب كان متأخرا وراءنا وتحققنا ذلك بجلوسنا مر بنا وكثير من الناس ممن لم يتحقق ذلك زعم أنه الطبلخانة المذكورة وقد سألت عن هذه المسألة محقق زمانه شيخنا أبا بكر السجستاني رضي الله عنه فقال لي كنت حريصا على تحقيق ذلك ولقد مررت ببدر نحوا من سبع وعشرين مرة فلم أسمع شيئا أتحققه والعلم عند الله.
قلت وهذه المسألة مثل ما شاع على ألسنة الحجاج أنهم يرون الأنوار مشرقة من يوم قربهم من الينبع ويقولون أن وادي النار اسمه وادي النور لأجل رؤيتها منه فحرف الناس التسمية وقد ألقيت البال لذلك فكلما قالوا أنهم رأوا الأنوار نظرنا فإذا هو بروق تخفق من بلاد بعيدة وتحققنا ذلك بظهروه مرات كثيرة في غير ناحية المدينة وتارة في ناحيتها ويتصل خفقانه حتى يقرب إلينا فنتحقق انه برق وتظهر أمارات أخر تحقق ذلك مثل رؤية غيم متراكم وأصوات رعد وأرض الحجاز معروفة بكثرة الرعد والبرق وكثير من الحجاج يصممون على أنها أنوار ولو ظهرت الأمارات ولو كان من غير ناحية المدينة.
قال وقد سألت شيخنا أبا بكر السجستاني رضي الله عنه عن هذا فقال لي كنت
__________________
(1) في غير الرحلتين العياشية والناصرية طبجانة.

أتأمل ذلك كثيرا فلم أر شيئا مما يزعمه الحجاج إلا البرق نعم قال لنا رضي الله عنه وأرضاه الذي لا يمتري فيه انه نور النبي صلى الله عليه وسلم حقيقة وإن كنت جميع الأنوار من نوره ما عايناه مرارا ونحن مجاورون بالمدينة المشرفة في الحرم الشريف فأنا نجلس أحيانا نهارا حتى يستفيض من ناحية الحجرة ما يخالف ضوء النهار فيغشي الحرم الشريف كله فيراه الناس.
قلت ولعل هذا الذي ذكر شيخنا رضي الله عنه أنه خاص أيضا به وبأمثاله ممن تنورت بصائرهم فاستنارت بها أبصارهم فيشاهدون الأنوار المعنوية محسوسة وإلا فكثير من الناس لا يشاهدون ذلك والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
وفي آخر المضيق الذي بين الرمل والجبل عريش إلى الآن يزعم الناس انه موضع العريش الذي بني لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر وإن ذلك موضع الواقعة وليس به.
ونزلنا بدرا بعيد المغرب وهي قرية حسنة ذات نخيل وماء عذب فيها بركة كبيرة تكفي الأركاب كلها ومادتها من عين هنالك وعلى ذلك البلد أنوار تلوح ، ورياح النصر تغدو وتروح ، وينشرح فيه الصدر والقلب ، ويتجلى فيه بصفة الجمال لكل مسلم الرب ، سبحانه وتعالى ، ومعالم النبوءة لا تخفى ، ومواطئ أقدام الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم لا تعفى ، وقد ظهرت على أهل هذا البلد بركة الرسول صلى الله عليه وسلم معلنين بذلك فأسعارها في الغالب أرخص من غيرها مع صغرها وانقطاعها عن البلاد وأهلها محفوظون آمنون مطمئنون مع سوء أخلاق عرب صبح المجاورين لهم وكان نزولنا خارج البلد.

غريبة وزرنا قبور الشهداء وعليهم جدار قصير محيط بقبورهم.
قال الإمام أبو سالم وبالقرب منهم قبور السادات الأشراف الزيدنية (1) من أهل اليمن نزل أسلافهم بهذا البلد ولهم إتباع في طريق القوم ومجلس ذكر قال وكبيرهم اليوم السيد أبو الغيث وزرنا أيضا المسجد المسمى بمسجد الغمامة وهو موضع العريش يوم الوقعة ببدر كما نص عليه غير واحد وانشرحت صدورنا بذلك ووجدنا به المصري ونزل علينا الشامي سحرا وأخذ المصري ساعتئذ في الرحيل ، وحثوا ركابهم بالرسيم والذميل ، وظعنا نحن بعد صلاة الظهر ومررنا على قبور الشهداء وموضع العريش مع الأخ سيدي محمد الأخصاصي وجدناه هنالك ينتظرنا إذ هو مجاور بالمدينة المشرفة وقبور الشهداء أسفل الوادي من جهة البزوة وليس بالموضع الذي تزعمه العوام تحت الكثيب على طريق القادم من مصر.
قال البكري ثم سرنا من ينبع إلى الدهناء في فضاء ورمال ، وآكام وجبال ، حتى وصلنا إلى الأبرقين ، وهي كناية عن جبلين متفرقين ، احدهما رمل صاعد ، والأخر من وعر وجلامد ، وبينهما تدق الطبول الحربية ، لنصرة خير البرية ، فيسمعها من كان أهلا للسماع ، ويحجب أهل الزيغ والابتداع ، ثم دخلنا قرية بدر وحنين ، التي حماها الله من كل شين ، وبها جسر طويل ، وعيون تجري بين حدائق ونخيل ، وبها مسجد العريش وقيل مسجد النعام ، وموضع حوض المصطفى عليه الصلاة والسلام ، ومحل النصرة لجيوش الإسلام ، على أهل الأنصاب والأزلام ، وهي الغزوة العظيمة المقدار ، التي بها شاهت وجوه الكفار ، فيا لها من غزوة قاتلت فيها الملائكة ، وضاقت بها على أعداء الدين المسالك ، وأخزى الله أهل الشرك والغواية ، واستشهد من
__________________
(1) كذا في الرحلة الناصرية وفي ثلاث نسخ وفي نسخة الزيدية وهو الأصوب وفي الرحلة العياشية الردينية.

المسلمين من سبقت له العناية ، وخرج فيها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم للجهاد ، وقتل فيها أبو جهل رأس أهل العناد ، فبلغت الشهداء من السعادة أوفر نصيب ، وقلبت أعداء الله في القليب ، ووجدوا ما وعدهم ربهم من العذاب الأليم ، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ، قال الشاعر :
يا أهل بدر لقد طابت مئاثركم
 

وقد علا قدركم في أرفع الدرج
 
فزتم بغفران أوزار وحسن ثنا
 

على المدى نشره من أطيب الأرج
 
يكفيكم في علاكم قول مادحكم
 

هم أهل بدر فلا يخشون من حرج
 
فيا لها من ليلة بت وقد أشرق بدرها ، وسما قدرها ، أذهبت عن العيون الهجوع ، لاشتغالها برؤية القناديل والشموع ، وأما الشموع فقد ملأت الأرجاء بالنور ، ومحت بضوئها ظلمة الديجور ، وقد دقت طبول الأفراح ، وزالت عن القلوب الأتراح ، وأحضر السكر الماد ، وأذيب في الماء للوراد ، ومليء به البواطي والحلل ، وسقي به جميع الطوائف وأهل العمل ، فشرب كل منهم أوفر نصيب ، فكانت ليلة من صفائها أقصر من جلسة الخطيب ، وقضينا الأوطار من مشاهدها المبتهجة ، وعدة المسير إليها ثمان ساعات واثنتا عشرة درجة ، انتهى كلام الشيخ البكري رضي الله عنه.
فسرنا نطوي المراحل ، وننضي الرواحل ، إلى أن رعت الغزالة نرجس الكواكب ، وصلى المكتوبة كل راجل وراكب ، إلى أن نزلنا بقاع.
البزوة والناس بقرب المزار في فرح ونشوة ، من رجال ونسوة ، وهو قاع لا يظفر غائصه بقاع ، ولا يرى المسافرون نظيرا له في البقاع ، ونزلنا بعيد المغرب ، ولا يرى من الناس إلا مضطرب ومطرب ، إلى أن تفجر ينبوع الفجر ، وقبض كل متهجد في مصلاه جائزة الأجر ، فشمرنا الذيل لقطع بسيط البزوة ، وكم فيه من غدوة وسروة ، فهو حقا قاع صفصف ، ومهمه نفنف ، لا ترى فيها عوجا ولا أمتا ، ولا تجد فيه إلا

السماء سمتا ، ولله در القائل :
قد سلكنا القاع المديد الذي م
 

أصحى مضافا دون (1) البقاع لبزوه
 
فهو قاع لا نبت فيه تراه
 

عين ساروكم لنا فيه سروه
 
فأعاننا الله على قطع مسافته ، وكان لنا في طري مراحله وإتمام مفازته ، فسرنا وبلغنا أول سبيل ، وقلنا مستظلين بظله الظليل ، حتى وصلنا الركب فسرنا وبتنا غربي مستورة ، حيث تراءت لنا بخلوة مشهورة ، فرأينا هلال ذي الحجة ، أبين وأصفى من الحجة ، ليلة السبت ثاني عشر يناير من شهور العجم وهي قرية وبها بئر كبيرة مطوية بالحجر المنحوت إلا أن الرمل قد غلب عليها وحولها عمارة قليلة وبها قبر يزار عليه بناء واسم صاحبه الشيخ يحيى قالوا انه شريف من أهل اليمن.
ثم ارتحلنا من منزلنا ذلك وخلفناه ، ووالينا المصاحبة غيره فعزلناه ، فجد بنا السير ، وكادت المطايا من سرعتها تحكي الطير ، حتى أوصلتنا قرب الظهر رابغ ، وكم لها علينا من فضل شائع سابغ ، ووجدنا بها الأركاب المصري والشامي قد خيموا ، فإذا الشاميون على الرحيل قد صمموا ، فنقضوا أخبيتهم ، وعانقوا أرديتهم ، فارتحلوا ملبين ، وللسير مزمعين ، ووجدنا واديه قريب من العهد بالسيلان ، وجلسنا للصلاة في ظل النخيل والفسلان ، وجاء ركبنا فاخذ الناس منازلهم ، فالتحقنا بأصحابنا وأناخوا رواحهم.
ورابغ قرية فيها نخيل وآبار كثيرة في واد يأتي إليه السيل من بعيد تزرع فيه مفاثي كثيرة ودخن وذرة وهو من أخصب أودية الحجاز ثم اشتغل الناس بغسل ثيابهم والاغتسال ، والتنظيف وشراء النعال ، توجد هناك معدة للمحرمين إلا أنها في
__________________
(1) في الرحلة الناصرية بين.

الغالب غالية.
ولما حان للشمس أفول ، شمر الركب المصري الذيول ، فقام وأرتحل ، وعن رابغ انتقل ، وبتنا هنالك وفي غد تهيأنا للإحرام ، فاغتسلنا وأزلنا ما في أزالته فضل ورغبة من الشعث ، وألقينا التفث ، وأخرنا الإحرام ، فارتحلنا ضحى الأحد ثاني الشهر إلى أن وازينا (1) مهيعة ، وتراءت أبنية الجحفة ، اتحفنا هدايانا بأكمل تحفة ، فقلدنا وأشعرنا ، وجللنا وتجردنا ، فركعنا وأحرمنا ملبين ، بالحج مفردين ، وللفرض الكفائي ناوين ، وحافظنا على استحضار النية ، وواصلنا الإحرام بالتلبية ، واتبعنا فيها السنة السنية ، وتابعنا السير بها ضارخين ، غير مفرطين ، ولا مفرطين ، مستبشرين آمين ، مسرورين مطمئنين ، ولبث الناس في ثياب إحرامهم ، كأنهم نشروا من قبورهم بأكفانهم ، يزفون (2) ويهرعون للموقف.
وسرنا كأموات لففنا جسومنا
 

بأكفاننا كل ذليل لمولاه
 
لعل يرى ذل العباد وكسرهم
 

فيرحمهم رب يرجون (3) رحماه
 
ينادونه لبيك لبيك ذا العلى
 

وسعديك كل الشرك عنك نفيناه
 
ولو كنت يا هذا تشاهد حالهم
 

لأبكاك ذاك الحال في حال مرآة
 
وجوههم غبر وشعث رؤسهم
 

فلا رأس إلا للإله كشفناه
 
لتزداد روعا من خضوع لربنا
 

وما كان من درع المعاصي خلعناه
 
وذاك قليل في كثير ذنوبنا
 

فقد طالما رب العباد عصيناه
 
إلى زمزم زمت ركاب مطايانا
 

ونحو الصفا عيس الوفود صففناه
 
__________________
(1) في نسخة ان رأينا.
(2) في نسخة يرفلون.
(3) في نسختين ويرجون.


نؤم مقاما للخليل معظما
 

إليه استبقنا والركاب حثثناه
 
ونحن نلبي في صعود ومهبط
 

كذا حالنا في كل مرقى رقيناه
 
فكم نشز (1) عال علته وفودنا
 

وتعلو لنا الأصوات حين علوناه
 
نحج لبيت حجه الرسل قبلنا
 

لنشهد نفعنا في الكتاب وعدناه
 
دعانا إليه الله عند بنائه
 

فقلنا له لبيك داع اجبناه
 
أتيناك لبيناك جئناك ربما
 

إليك هربنا والأنام تركناه
 
ووجهك نبغي أنت للقلب قبلة
 

إذا ما حججنا أنت بالحج رمناه
 
فما البيت ما الأركان ما الحجر ما الصفا
 

وما زمزم أنت الذي قد قصدناه
 
وأنت منانا أنت غاية سؤلنا
 

وأنت الذي دنيا وأخرى أردناه
 
إليك شددنا الرحل تخترق الفلا
 

فكم فدفد في السواد (2) خرقناه
 
كذلك ما زلنا نحاول سيرنا
 

نهارا وليلا عيسنا ما أرحناه
 
إلى أن بدا أحدى المعالم من منى
 

وهبت نسيم للوصال (3) نشقناه
 

ونادى بنا الحادي البشارة والهنآ
 

فهذا الحمى هذا تراه (4) غشيناه
 
وسرنا وجاوزنا الرمال ، التي تتيه فيه الأركاب كالجبال ، وأخذنا بطن هرشاء ونزلنا بعيد المغرب شرقي السيل وغربي قديد وهي قرية غالب أبنيتها حيشان وفيها قهاوي وفواكه تباع ولا ماء بها إلا ما يسقى من بعيد ثم ارتحلنا منه ومررنا وقد متع النهار بالمشلل ويسمى اليوم بعقبة السكر.
__________________
(1) في نسخة شرف.
(2) هكذا في الرحلة الناصرية وفي نسخة فكم فدفد صعب سواد وفي ثلاث نسخ فكم سدّ سدّ في السواد وهو أصوب.
(3) في نسخة وهبت لنا ريح الوصال وفي ثلاث نسخ وهبت ريحنها للوصال.
(4) في نسخة قتار وفي ثلاث نسخ أثاره.

قال الإمام أبو سالم وأكثر الناس خصوصا المصرية يجلبون السكر من مصر بالقصد ليشربوه هناك ويؤثرون في ذلك أثرا لا أصل له يزعمون أن رمل ذلك المحل انقلب للصحابة سكرا فشربوه وهي عقبة في جبل صغير فيها رمل يتعب الإبل [مع كثرة التلاحي وشدة التلاحم ، وإفراط التزاحم ، وعدم التعاطف والتراحم ، وفيها قيل :
كم جمل منتصب للشقا
 

ما جره الجمّال إلا انكسر
 
وكان في الركب يرى مبتدا
 

فما له من بعد هذا خبر](1)
 
وقد سوى البناء في جانبيها والتقطت أحجارها وبني مسجد صغير بأحد جانبيها وبينها وبين خليص نحو من ثلاثة أميال.
وذكر السيد السمهودي أن هناك بالمشلل مسجدا للنبي صلى الله عليه وسلم على يسار الذاهب إلى منى ولعله هو هذا المبنى هناك اليوم فقد دخلناه وزرناه وتبركنا بالآثار المضافة له صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم ومجد وعظم فبلغنا الكديد قبل الظهر ونزلنا في قبة عظيمة بإزاء بركة عظيمة تحت القرية وفي خليص هذا عين تجري وأبنية وقهاوي وسوق حافلة وقد سيق الماء في قنوات محكمات من العين يفجر عنها (2) ويبرز في مواضع للسقي والوضوء إلى أن خرج الماء إلى البركة المذكورة وكانت عميقة يغرق فيها من لا يحسن العوم ويخرج الماء من البركة إلى مزارع قريبة من البلد رجل حرثهم الدخن ويكثرون من المقاثي وماء هذه العين أحلى وأعذب إلا أنه سخن ونمنا هنيئة ريثما يحين وقت الصلاة فتوضأنا وصلينا الظهر وتلاحق الركب وسقى الناس واستقوا وركعنا بمسجد هناك فوق البركة
__________________
(1) ما بين القوسين ساقط من الرحلة العياشية.
(2) في نسختين يجري.

ينسب لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وقد تهدم وامتلأ أوساخا وصار إصطبلا للدواب فأنا لله وإنا إليه راجعون لقد ضعف الدين وقلت الرغبة في الخير حتى يكون بهذه المثابة المكان الذي دخله سيد الأولين والآخرين عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم وصلى فيه وكان من حقه أن يذهب ويفضض وقد أشرت بذلك لأمير الحج المصري ووعد بإصلاحه والله يوفقنا وإياه.
وسرنا في غيضة كبيرة ذات أشجار ملتفة من أثل وغيره وفي خلالها فدادين يزرع فيها المقاثي والدخن وغير ذلك ونزلنا بين العشاءين في بسيط من أشجار برية من السيال وغيره ثم منه قبيل الفجر ومررنا بالثنية التي يهبط منها إلى عسفان أسفارا والطريق فيها مبنية ملتقطة أحجارها كعقبة السكر إلا أن هذه أطول منها وأسهل وبأحد جانبيها مسجد فلما خرجنا من العقبة وصلنا عسفان ضحى وفيها سوق وآبار من جملتها البئر التي يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم تفل فيها وماؤها حلو غياة وشربنا منه تبركا بآثاره صلى الله عليه وسلم واستفاض ذلك على ألسنة العوام ولم أقف عليه في شيء من التواريخ التي بأيدينا وعثرنا عليها والله اعلم بحقيقته وبه مسجد ولم أدر ما أصله فسرنا وقطعنا تلك المفاوز كلها من أرض تسمى ببرقة وهي أرض طيبة ذات مزارع ووادي العميان إلى أن أنخنا بمر الظهران بعد العشاء ويسمى وادي فاطمة ووادي الشريف ووجدنا به الشامي والمصري خيما وبفور نزولنا رحل الشامي وتعبه المصري آخر الليل وهو واد كبير فيه قرى متعددة ذات نخيل وبساتين وعيون تجري وأعظمها القرية التي ينزل بها الحاج وفيها سوق وعين كبيرة وبساتين مؤنقة ، وجدنا بها الثمار مزهوة ، فالقلوب بالنظر لنضارتها من الأحزان مجلوة ، مع ما غمرها من السرور بقرب الديار ، ومشاهدة الآثار ، ففرح الناس ، وتزايد الإيناس ، وأعبق عليهم بأرجه الأريج ، وعرفه المتكاثر البهيج ، شجر

الكادي (1) ، باستنشاق (2) الحاضر والبادي ، فغمر عبيقه كل نادي ، ولما بلغنا عام تعسة هذا الوادي ، قلنا بعريش هنالك وجرى ذكر الكادي في النادي ، وسألنا عنه صاحب العريش وأخبر أن شجره كشجر النخل وبعث من أتانا بشيء من أوراقه وإذا فيها رائحة طيبة جدا وأوراقه عريضة ، وأنواره وميضة ، فسبحان من يخص من يشاء بما شاء.
تكملة قال الإمام البكري رحمه الله تعالى في عد المراحل من بدر إلى هنا ما نصه ثم سرنا من بدر إلى قاع البزوة وتسمى طرق النجحان ، ثم إلى عالج وجبل القرود ومكان يسمى ودّان ، ثم نزلنا بسبيل محسن المشهور ، وتنزهنا في خضرة أعشابه وسرحه المعطور ، قال الشاعر :
قد شكا لي بعض المحبين يوما
 

ظمأ الماء قلت ذا غير ممكن
 
كيف تشكو الظمأ وتجزع منه
 

وبهذا السبيل أحسن محسن
 
ومدة المسير منه ثمان عشرة من الساعات ، وعشرون درجة محررة بالميقات ، ثم سرنا منها إلى بستان القاضي ، ونسينا بقرب الديار تعب السير الماضي ، ثم نزلنا برابغ محل الميقات ، وتجردنا عن لبس المخيط بصدق النيات ، وأحرمنا بالعمرة والحج ، عملا بقوله الحج العج والثج (3) ، وأهللنا بالتلبية لعلام الغيوب ، وسألنا الله تعالى غفران الذنوب ، ورأينا حفائ ماء تنبع ، ومزارع بطيخ يتنوع ، ومسجدا قديم الأثر ، ويسمى ذا الجحفة كما ورد في الخبر ، وهو محل إحرام المصطفى ، صلى الله عليه وسلم زاده الله شرفا ، قال الشاعر :
__________________
(1) كذا في الرحلة الناصرية وفي أربع نسخ اليكادي ولعله الفادي.
(2) في الرحلة الناصرية باشراق استنشاق والأصوب فاستنشق.
(3) في نهاية ابن الأثير أفضل الحج العد والثج وفي الرحلة العياشية الحج والعمرة والثج.


تجرت لما أن وصلت لرابغ
 

ولبيت للمولى كما حصل الندا
 
وقلت إلهي عندك الفوز بالغنى
 

وأني فقير قد أتيت مجردا
 
ومدة المسير إليها ست عشرة ساعة بالتمام ، وعشرة (1) من الدرج ثابتة الأحكام ، ثم سرنا إلى الجرينات ونزلنا بطارق قديد ، الذي لا يحل في حرمه للمحرم الصيد ، وإرجاؤه واسعة المجال ، كثيرة الوعر والرمال ، إلا أنها تبشر بقرب البلاد ، وهي مواطن الأمجاد ، قال الشاعر :
قد نزلنا بطارق لقديد
 

ودخلنا حماك نرجو الحماية
 
فتفضل على عبيد وفود
 

منك يرجو دفع العنا والعناية
 
ومدة المسير إليها سبع عشرة من الساعات ، محررة بالميقات ، ثم سرنا إلى عقبة السويق ، وهي عقبة عالية الرمال في الطريق ، ثم منها إلى خليص الشهيرة ، وبعها فسقية من الماء كبيرة ، يخرج منها إلى الديسة ، ويحترز فيها من اللصوص أصحاب النفوس الخسيسة ، ثم خرجنا من مدرج عثمان ، إلى قرية عسفان ، وبها البئر التي تفل فهيا سيد البشر ، صلى الله عليه وسلم وهي بئر من يشرب من مائها زال عنه الضرر ، قال الشاعر :
أن عسفان تسامت رفعة
 

وعلت قدرا على كل القرى
 
وبها بئر النبي المصطفى
 

خير من صلى وصام وقرا
 
فإذا جئت لها كن محسنا
 

فعسى تحسب من أهل القرى
 
ومدة المسيرة إليها زاي في العدد ، معلومة في العدد ، ثم سرنا منها إلى جبل العميان ، الذي تجتمع فيه الفقراء بقصد الإحسان ، ونزلنا بالوادي ، وهو نهاية سير
__________________
(1) هكذا في الرحة الناصرية وجميع النسخ وفي الرحلة العياشية عشرون.

البوادي ، وهو واد خصيب ، يرى فيه طالب النزاهة أوفر نصيب ، أغصانه زاهية ، قطوفها دانية ، وأطياره ناطقة ، وجداوله دافقة ، ومزارعه تنبت من كل زوج بهيج ، ويفوح من أزهارها كل عرف أريج ، وهي زائدة الابتهاج ، وعلى كل حديقة سياج ، فلو رآه مصري من الناس ، نمي الروضة والمقياس ، به عشش تسكنها عرب البوادي ، وبأرضه ينبت شجر الكادي ، قال الشاعر :
يا حبذا واد فسيح الفضا
 

أريجه قد عطر النادي
 
كم فيه من باغية قد زكت
 

وفيه زهر الفل والكادي
 
وكم ثمار وزروع به
 

والماء فيه ينعش الصادي
 
قلت لخلي حين شاهدته
 

ولاح لي نور السنا بادي
 
هل دار ليلى (1) قد تدانت لنا
 

فقال لي أنك بالوادي
 
ووصوله خمس عشرة ساعة في السير ، وخمس من الدرج بالتحرير ، ثم سرنا إلى سبيل الجوخي المعروف ، ورأينا جنان مكة دانية القطوف ، ثم مررنا بمساجد ميمونة بالعمرة ، وقد اقترن لسماء سموها كوكب الثريا بالزهرة ، ولاحت لنا أعلام الديار ، ومشاهد المشاعر والآثار ، ووصلنا ثنية كدا ، وبعدها المعلى التي بها مشاهد أهل الهدى ، وكنا عند خروجنا من عدم الوصول خائفين ، حتى تلقتنا هواتف البشائر لتدخلن المسجد الحرام أن شاء الله آمنين ، فدخلنا من باب السلام ، وشاهدن البيت والمقام ، وطفنا طواف القدوم ، وذهبت عنا الهموم ، وجئنا إلى محل الصفا ، وسعينا في طلب الوفا ، ولما تم سعينا بالطواف ، وحفتنا من عناية الله الألطاف ، أقمنا بمكة بالإحرام ، إلى سابع ذي الحجة الحرام ، انتهى كلام البكري.
ولنرجع إلى تعداد مراحلنا ، وذكر منازلنا ، ولما اطمأن المنزل بنا بالوادي ،
__________________
(1) كذا في الرحلتين العياشية والناصرية وفي جميع النسخ هذه ليلى.

ولاحت لنا من أعلام القرب الهوادي ، رحلنا آخر الليل سحرا ، وما جعلنا سوى شد الحمولة وطرا ، فسرنا ونسمات الوصال تهب علينا ، وبشائر التلاقي تترادف إلينا ، وظفرنا بمسرة ما ظفر بها مسرور ، ولا طوى كشحه عليها مصرور ، وقلنا بالقلوب والقوالب ، الحمد لله الذي أدنانا وأنالنا المطالب ، وبلغنا جميع المئارب ، وبلغنا سرف (1) ضحى وبها قبر (2) أم المؤمنين ذات النقيبة الميمونة ، الهلالية السيدة ميمونة ، رضي الله عنها وأرضاها ، بمقاصير فراديس الجنان حباها ، توفيت بهذا الوادي ، وكان من غريب الأنفاق ، الذي ليس للأذهان إليه انسياق ، أن بهذا الوادي بنى بها سيدنا صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهما وكان تزوجها بمكة وهو محرم في عمرة القضاء وبنى بها بسرف في رجوعه وعلى قبرها بناء ، ومسجد فزرناها خارج البناء ، معظمين لرحمتها ، راجين حسن بركتها ، وزار من معنا من الحرم معظمات للحرم ، وركعنا في مصلى النبي صلى الله عليه وسلم هنالك ، وتجاوزنا نفري المسالك ، إلى أن جئنا التنعيم وقد متع النهار حيث المسجد المنسوب للسيدة عائشة رضي الله عنها بني في المكان الذي أحرمت منه بالعمرة مع أخيها عبد الرحمن رضي الله عنه بأمر من النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع ومن ذلك المكان يحرم الناس بالعمرة في المواسم وغيرها وهو أدنى الحل حتى صار يطلق على المكان اسم العمرة تسمية للشيء باسم ما يقع فيه فنمنا هنالك واسترحنا ، وطبنا واطمأننا ، وقمنا وتوضأنا ، وفي مصلاه صلى الله عليه وسلم ركعنا ، فسرنا وتجاوزنا المكان المسمى بالزاهر ويسمى جنان مكة وبه آبار وبه قبر يذكر انه قبر الصحابي الشهير الإمام المشهور أبي عبد الرحمن عبد الله بن عمر رضي الله عنها.
قال الإمام أبو سالم فقد صح انه مات بمكة بعد الحج فقيل أنه دفن خارجها
__________________
(1) كذا في الرحلة الناصرية وفي نسخة قوصلنا إلى العمرة وفي ثلاث نسخ بياض.
(2) في الرحلة الناصرية قبة.

بوصية منه كراهية أن يدفن في البلد الذي هاجر منه فمن قائل أنه بهذا الوادي ومن قائل أنه بالوادي الذي بطرف المحصب وهو الذي شهره كثير من الناس إلا أنه ليس هناك قبر ينسب إليه قال وقد زرناه في هذا المكان بحسن النية وأكثر الناس اغتسل بهذا المكان لدخول مكة اقتداء بمن قال إن هذا هو ذو طوى الذي بات به صلى الله عليه وسلم واغتسل فيه واستحب أكثر العلماء الاغتسال فيه والتحقيق ما عليه كثير من المؤرخين أن ذا طوى أمام هذا وليس بينه وبين مكة واد آخر هو الوادي الذي وراء قيقعان وبأسفله الموضع المسمى بالشبيكة حيث الثنية السفى التي يخرج منها الحاج فأعلى هذا الوادي هو ذو أطوى وأسفله هو الشبيكة انتهى ونزلنا ذا طوى ظهر الأربعاء خامس ذي الحجة الخامس والعشرين من يناير وبتنا به في مسرة أعظم بها من مسرة ، لم تدع من العناء ذرة ، ويا لها من مبرة ، نولت كل قلب قرارا وكل عين قرة ، فلما صلينا الصح اغتسلنا غسلا خفيفا كما هي سنة المحرم لدخول مكة بذي طوى وبللنا بذلك غلة الجوى ، فارتحلنا آمّين أم القرى ، ودخلنا من باب المعلى ، وهو الثنية العليا التي دخل منها المصطفى سيد الآخرة والأولى ، عليه أفضل الصلاة والسلام وإنما هما وأعطرهما وأزكى وهي المسماة بكدا بالفتح وقد بالغت الولاة في حفر هذه الثنية وتنقيتها من الأحجار حتى صارت كأحد الأزقة ومع ذلك ففيها صعوبة ومنها يشرف على مقبرة مكة المسماة بالحجون وهي أحدى المقابر التي تضيء لأهل المساء كما تضيء الكواكب لأهل الأرض كما ورد في الحديث.
انعطاف إلى ما كنا بصدده فلنرجع إلى تعداد مراحلنا من العقبة إلى مكة المشرفة ولما أن قربنا العقبة دخلناها بشرهة عظيمة ونزاهة كبيرة والحجاج قد شاك جمعيهم السلاح التام وقامت الصيحة والتنادي وارتفع حس البارود وصوت البنادق إلى أن دخلنا منزل العقبة فخيمنا فيه البيوت قرب الركب المصري إذ وجدناه هناك وأقمنا فيه ما كتب لنا في نشاط عظيم وتسوق قوي وفيها سوق لا يكاد أن يحصى ما فيها من

أنواع البز والثياب والأمتعة والأطعمة وأنواع الخير من كعك وخبز وأنواع الطبائخ بتابل وغيره من أبزار منوعة الأجناس ومفترقة الأصناف فناقص العقل إن دخل السوق كاد أن لا يرجع بدرهم عنده غير أن الله مكن العقول وأثبتها فلم تكترث بما هنالك لما غلب من شوق الحبيب ومحبته عليه الصلاة والسلام فلم تعتبر شيئا إلا الوصول إليه ومشاهدة أثره صلى الله عليه وسلم فخف عليها كل ما تشاهده من مشاق السفر ووعثه وكذا تغيب عما تشاهده من الملذوذات فطابت النفس بما قصدته وأرادته من التنقل في منازل القرب ومراتب الإشهاد ومقامات السعود والحضور والاستبداد بما فيه الغنيمة العظمى والفوز بحضرة العزيز الغفار لما به من الموبقات التي بها ل الإنسان يتعامى.
حاصله أننا أقمنا بها في عزة ومنع وسرور وجذل وفرح وهناء إذ أعظم شيء مذلة الأعراب الذين صدوا الحاج في العام الذي قبلنا وقد أصابه خزي وذل حتى إن الإنسان يأخذ بعض ما لهم فلا يستطيع أن يتكلم لما رأوا من شوكة الركب المغربي وقوته فجزاهم الله جزاء وفاقا لأنهم أخذوا ركب الحجاج الجزائري والطرابلسي بل أخذوا منهم كيت وكيت من الدراهم وبذلك خلوا سبيلهم ولو لا عطاؤهم ذلك وإقامة أمير مصر ما جاوزوا العقبة ولا مروا عليها بل فضل الله وجاه النبي صلى الله عليه وسلم انعطف عليهم وإلا لهلك كلهم أو جلهم فكل ما كان رحمة بهم فلما علم الحجاج أي ركبنا ما جاز عليهم أرعدوا وأبرقوا وترجوا واتعظوا فقاموا على ساق واحدة ورمية متحدة فما ملكت أنفسهم إلا القتال غير أن أعراب العقبة سكنت شوكتهم وطوي بساطهم وأنسد سبيلهم علما منهم أنهم لا يستطيعون مقاومة هذا الركب لا سيما وأن فيه أفاضل وصلحاء وعلماء فالحمد لله.
نعم أودع الناس في القصر ودائعهم وبضائعهم لوقت الرجوع فلما ظعن الركب

المصري وانفصل عن محله ظعنا في أثره بعد ملء سقايتنا فإن مياه العقبة بين بين إلا أن بعض الآبار فيه ماء عذب وهو بندر عظيم يكاد أن يكون في أسواقه مثل المدينة فيه يشبهها في الارتفاق به والاستعداد منه للزاد فترى الحاج كأنه جدد السفر لحصول الاستراحة فيه حسا فلا تعمل نفس ما فرق فيه من قرة أعين فيه ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأبصار فلا ترى فيه عوجا ولا أمتا يوم نزولها يتبع الداعي ما كتب له من الملذوذ والبز المتنوع وكذا الفواكه فيه صنوان وغير صنوان تساق من غزة وأطرافها من نواحي الشام فيشتري منها القانع والمعتر كل على حسب قدره وقوة زاده وضعفه على أن أهل الأموال في نزهة وتنعم فتجد أحدهم يشرب ماء النيل إلى مكة المشرفة وبعضهم إلى الرجوع.
وقد ذهبت أنا والفاضل الأخ سيدي أحمد الطيب الزواوي إلى الكخية أعني خليفة الأمير لأمر يتعلق بأمر أصحابنا بل بالركب جميعه لأن شيخنا الولي الصالح ، والقطب الواضح ، سلطان العارفين ، وخاتمة المحققين ، شيخ المريدين ، الشيخ محمد الحفناوي بعث معنا مزبورة ليكون مع الحجاج فلما وصلنا إليه قام إلينا وعظمنا غاية التعظيم ومع ذلك هو في رفعة عظيمة ومرتبة منيفة ومعه عسكر عظيم لا يصل إليه الضعيف إلا بعد شدة كبيرة وانتظار قوي وأما نحن والحمد لله فبنفس سماعه بنا لقينا وأدخلنا محله الخاص به وذلك المحل الذي هو فيه يخطف الأبصار فلا يكاد الضعيف يطمئن به ويسكن في محله لاختلاف الألوان وكثرة الأواني المزخرفة فجلسنا عنده ساعة إلا والطعام حضر قرب الاصفرار فأتوا بالأطعمة المختلفة والطبائخ المتنوعة في الموائد المستحسنة لا يكاد أن يحصى ما عليها من الأواني فأجلسنا عليها وألح علينا في أكلها.
حاصله هذا الأمر في السفر فكيف هو في الحضر نعم فما عندنا إلا الصبر وطلب

عوضه في الآخرة وهذا وأننا ظعنا منه على خير وعافية ومنة وفضل من الله قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون.
ولما انفصلنا عن بندر العقبة ووقفنا على الحصن الذي فيه العسكر نعم الأعراب دائرة بالحصن على عادتهم من اجتماعهم مع كونهم بسلاحهم تأمين للسلاح ينتظرون فرصة أو غفلة من الحاج يأخذون ما بدا لهم خلسة ومكرا أو تتخلف بعض الرواحل فيأتون إليها ظاهرين قهرا ونحن والحمد لله سلمنا من ذلك كله إذ الركب معه هيبة عظيمة لا يستطيعون ذلك فتخلفنا على العادة من التخلف شفقة على ضعفاء الركب أنا وسيدي محمد الشريف الطرابلسي ومن معه من أصحابه وكذا سيدي أحمد الطيب قل أن ينفرد عنا وذلك من توافق الطبائع ونحن كذلك من المشي بالتدريج على شاطئ البحر في آخر الركب فما علمنا أحدا من العرب وراءنا علما منهم لا قوة لهم بنا خفية أو ظاهرا إلى أن وصلنا شاطئ البحر قرب الزوال قبل وصولنا إلى ظهر الحمار فتوضأنا وصلينا الظهر ثم ركبنا بغالنا فسرنا ساعة وإذا ببعض الإجمال لأصحاب سيدي محمد الشريف المذكور وقفت من شدة السير وكثرة الحمل فذهبنا ساعة معها ثم خلفناها وأشرفنا على ظهر الحمار وفيه نخل على شاطئ البحر ولا بأس به وفي وسطه آبار طيبة الماء عذبة من أحسن المياه فسقت الناس إبلهم وملأت سقاياتهم فلم ننزل بطرف النخل وإنما ينزل فيها الحاج بعد الرجوع ووجدنا ثمت آخر المصري بل جميع الركب لم يستقيموا على المشي وإنما ينتظرون استقامة الأقطار ورجوع كل إلى موضعه ثم صعدنا العقبة التي بعد الآبار وفيها طريقان كما سبق وهي صعبة الصعود غير أنها ليست طويلة جدا والحمد لله وإلا لهلك جلسه أو بعضه فلما صعدنا بعد الظهر في حر عظيم نزلنا في وسع كثير ورحث قوي فوق العقبة لما علمت أن المغربي يمشي في النهار بخلاف المصري فانه يمشي ليلا.

وهذه المرحلة قصيرة ومع قصرها أنها شديدة الحر والخوف من الأعراب موجود فان شوكتهم هناك قوية إذ طريقة ضيقة وقد تنزل الأعراب في زمان الثمرة فيه فلما مر أكثر الليل وإذا بالركب ارتحل ليلا فسرنا بعض الليل إلى طلوع الفجر [فسق من كان على الخيل والبغال لنستعد لصلاة الصبح حسبما هو العادة منا فلما طلع الفجر](1) وتنفس الصبح صليناه ثم ركبنا إلى وقت الضحى ونزلنا إلى صلاة الضحى كذلك كل يوم ثم سرنا كذلك إلى أن وصلنا إلى الشرف وقد ذكر وصفه الشيخ أعني سيدي أحمد بن ناصر.
ويسمى هذا المحل الآن أم العظام نزلناه عند وقت العصر ثم بتنا فيه على خير وعافية ثم ظعنا آخر الليل والحمد لله ولم تكن مرحلة أطول منها فإن الإبل أكثرها يموت في هذه المرحلة لطولها وشدة تعبها فظعنا منها على خير وعافية فسرنا كذلك إلى أن وصلنا إلى مغار شعيب بعد الظهر وفيها نخل عظيم وغيضة كبيرة وماء جار فلا يجري ماء إلا هنا وفي عيون القصب في جميع مراحل الدرب وقد تقدم أخبار مدين فيما سبيق وفيها بعض الخصب للدواب وللإبل نعم الحجاج يتأنسون في هذا المنزل كأنهم حصلت لهم راحة وسرور فان خاصة من توجه إلى بيت الله الحرام يشاهد أنوار النبوءة والرسالة في أرض الحجاز فيتيسر عليه حمل بعض الأثقال فإذا تجلى ربه على قلبه سبحانك مما حصل لي في الخيال من بعض التوهمات في التجلي نعم نودي في سره يا موسى المحبة أني اصطفيتك على الناس برسالتي أي الإلهام إذ لم ينقطع بالنبي صلى الله عليه وسلم وإنما انقطع به رسالة الوحي وقال رسالة الإلهام أيضا في سره وأني اصطفيتك على الناس بكلامي أي نداء الحق يا أيها الحبيب ويا أيها العبد فخذ ما أتيتك من التوجه إلى الله وكن من الشاكرين حيث أسعدك التوفيق
__________________
(1) ما بين القوسين ساقط في نسخة.

للتوجه للأماكن الشريفة دون من يساويك في البشريات فإن الأواني تتشرف بما فيها من سر الملك والملكوت ، ونسيم الجبروت ، وكذا بالمعاني قال الشاعر :
قلب بذكر الله أضحى روضة
 

وواحد باللهو صار مزبله
 
ما منبت الورد كنبت غيره
 

ولا شذا المسك كريح البصله
 
لو سقي الحنظل شهدا دائما
 

ما أنبت الحنظل إلا حنظله
 
وقال أيضا :
ومن حضر السماع بغير قلب
 

ولم يتحرك فلا تلم المغني (1)
 
قلت هذه المنزلة شذاؤها طيب وأنوارها بينة فالعارف تجده فيها منشرح الصدر طيب الوقت منبسط الظاهر والباطن لأن آثار المحبوب حاصلة فيه إلا من أصابه زكام محبة الدنيا فهو لا يشم شيئا من هذه العواطر الإلهية والروائح النبوية وذلك معلوم في الشاهد ثم ظعنا منها ليلا أيضا على ما أسلفناه إلى أن وصلنا عيون القصب وفيها ماء حار عذب قريب من البحر وهو كثير القصب وذكر وصفه شيخنا سيدي أحمد بن ناصر وكذا ذكر المسجد الذي يزار هناك فنزلنا به عن صلاة العصر ونزلنا على أكمل الخير وأتم العافية وارتحلنا أيضا ليلا ثم كذلك على ما علم منا (2) من جد السير على شاطئ البحر إلى بلوغ بندر المويلح وقد نزلنا عند الظهر والله اعلم وهو بندر عظيم كثير الأرزاق ثم أن أسواقه تامة وفيها ما لا يحصى من أنواع النبات والأطعمة المختلفة والملابس المزخرفة والطبائخ المنوعة وعلف الدواب كثير وفيه مرسى قوية النفع وأن هذا البندر أعظم بنادر الدرب نفعنا وأسرعها لقضاء الحاجة
__________________
(1) كذا في ثلاث نسخ وفي واحدة لا يلم وعلى كل حال ففي الشطر خلل من جهة الوزن ولعل الرواية ولم يطرب بدل ولم يتحرك.
(2) في نسخة لنا.

فلا تعلم نفس ما يوجد فيه من منافع الخاصة والعامة فلا حرج إلا في قلة الفلوس وضعف اليقين وعدم الصدق في التوجه مع الحق ومع الخلق فالذي زلزلت أرضه بالبهتان والكذب والخيانة وعدم الحياء من الله ومن الناس قل أن تصحبه السلامة في دينه ودنياه نعم هذا البندر فيه آبار كثيرة ومياه عظيمة مفترقة وفيه نخل كثير وبساتين متعددة وكذا زروع لا تحصى وهو حصن قوي عامر بالعسكر وبالبيوت الكثيرة والديار المتعددة.
حاصله قد سكن فيه من شاء (1) بنية الإقامة وإن الحاج يضع فيه أمتعته إلى الرجوع من الحج يتزودون به إلى مصر وقد وضع أصحابنا ما فضل عنهم من الزاد وما لا يحتاجون إليه من الأمتعة وكل ذلك بأجرة ثم أقمنا فيه ما كتب في أكمل حال وأتمه وما معنا إلا البركة والحمد لله على ذلك وقد ظهر فضل الله علينا وعلى أصحابنا وتمت عندنا النعمة فلله الحمد لله والمنة نعم انفصلنا عنه في عافية فسرنا على شاطئ البحر ثم سرنا كذلك إلى أن وصلنا إلى آبار السلطان وهو محل عظيم ينشرح فيه الصدر وتلتذ به الأعين وتنبسط إليه النفس فلا ترى أحدا إلا اطمأن قلبه به غير أنه كثير السراق من متلصصي الأعراب فينبغي للإنسان أن يحتاط فيه بمزيد الحذر غاية جهده وهذا المحل كان لا ماء فيه وإنما حفر آباره الأمير إبراهيم إذ هو الذي تسبب فيه وكمل ذلك أخوه بوصية أخيه المذكور كما تقدم في كلام شيخنا المذكور ويسمى هذا الموضع دار أم السلطان وماؤه عذب سخن سريع الانفصال كما سبق ثم ظعنا منه سائرين ومررنا بالمضيق الموسوم (2) بشق العجوز وسرنا عن يميننا وعن يسارنا جبال سلمى وكفافة ومررنا بقبر الشيخ مرزوق المتبرك به دائما وعليه أعواد دليل عليه فيزوره من يعرفه ثم كذلك فنزلنا ببندر الأزلم بين الظهر والعصر وفيه ثلاث
__________________
(1) في أربع نسخ قد ساكن فيه ما شابه أن يكون مدينة.
(2) في نسختين المرسوم.

آبار كبار محكمة البناء وماؤها غزير إلا أنه مر يصلح للإبل فقط ولضرورية الناس من غسل ونحوه ولا يسيغه إلا المضطرون وبتنا في ذلك المحل في أكمل حال ثم ظعنا منه وسرنا بين جبلين في مضائق وعقبات صغار إلى أن وصلنا إسطبل عنتر قرب العصر وفيه ثلاث آبار وماؤها حلو إلا أنها قليلة الماء يستقيه الناس للشرب غير أنه لا يكفيهم فلا تكاد الإبل تطمع فيه ثم ظعنا منه ومررنا بوادي الأراك وهو واد واسع كثير الأراك الأخضر الناعم وبعده مضائق بين جبال صعودا إلى أن وصلنا بندر الوجه عند العصر والله أعلم وفيه حصن حصين في حرف واد كبير بين جبلين كبيرين والناس نازلون أطرافه إذا كان ليس الوقت وقت سيول وإلا ارتفعوا عنه وفيه آبار والتي فوق البندر أحسن من التي تحته وفيه داخل البندر بئر ماؤها عذب طيب [وفي أعلى الوادي ماء بين جبلين يسمى الزعفران إلا أنه قليل الماء كما تقدم عن شيخنا وماؤه طيب](1) غاية ثم ارتحلنا من الوجه صبيحة ونزلنا الأكره بين المغرب والعشاء على حرف الآبار فسقى الناس إبلهم ودوابهم ثم إن ماءه لا يكاد أحد يسيغه لحرافته مرارته إلا بعض الآبار فأني قد وجدت فيه ماء يكاد أن يكون عذبا من جهة المشرق وهو بئر قريب من الغيضة في وسط الوادي.
وقد حكى لنا بعض الناس من الركب انه وجد بئرا ماؤها عذب طيب وذلك يستغرب في هذا الموضع وهذا المنزل أشد منازل الدرب وأصعبها مرارته مائه وكثرة حره وسخونة ربحه فيشتد ذلك على الحجاج حتى يهلك كثير منه بالعطش وأن ماءه خبيث أخبث شيء في هذه المراحل فترك مائه متعين لأنه مضر فلله الحمد على سلامتنا منه.
ثم ارتحلنا إلى أن وصلنا إلى الدركين قرب العصر وهو منزل الحاج المصري
__________________
(1) ما بين القوسين ساقط في نسخة.

وسمي بذلك بئر درك أعراب مصر وأعراب الحجاز فان ما بعده من أعمال الحجاز إذ تتغير بعد ذلك البلدان ويتضح أمر الحجاز وتباين الجبال ما بعدها لما قبلها ويشتد شبهها لجبال مكة لسوادها.
وفي هذا المحل غياض من شجر الطلح وهي من أنواع الكلأ الذي ترعاه الإبل كثيرا إلا أنه لا تترك للرعي لأن المحل مخوف تغير فيه الأعراب إلخ ما ذكرناه آنفا.
ثم ظعنا منه إلى أن نزلنا الحوراء عند العصر وتفرق الناس في مياهها وهي حفائر على ساحل البحر يحيط بها ديس كثير وفيها ملوحة قوية وقريب العهد بالحفر أجود من غيره وهو مكثر للإسهال لا سيما مع الإكثار منه وهو مفرط في علة البطن كماء الاكر والأزلم وعجرود ومن أمثال الحجاج لا رجال إلا رجال الحوراء ولا جمال إلا جمال الدورة أي الرجعة من مكة وفيه الآن آبار قد حدثت أحدثها بعض الناس وهي بعيدة عن ساحل البحر وماؤها أطيب من القديمة وأجود وعليها ينزل المصري في عصرنا هذا وكذا سائر الأركاب وقد علمنا عذوبة مائها أن لم يطل جدا وإلا خبث كالقديم.
ثم ظعنا منه آخر الليل فصلينا الصبح مع جماعة الفضلاء في الوادي المضيق ثم سرنا في تلك المضائق إلى الوادي المسمى الآن بوادي العقيق بل تسميته بوادي العقوق أولى لتلصص أعرابه وجرأتهم على الناس بالسرقة ثم سرنا كذلك إلى أن وصلنا إلى النبط بين الظهر والعصر فيه آبار أربع محكمة البناء بالحجر والصخر وماؤها عذب حلو طيب غزير لا ينقطع مدده.
وفي هذا المنزل تنشرح النفس وتمرح فيه لطيب مائه وحلاوة مكانه وطلاوة منظره وقربه من الأماكن الشريفة والمآثر كالينبع ونحوه ثم أرتحلنا منه أيضا ليلا أي

آخره ثم سرنا كذلك إلى أن دخلنا وادي النار وهذا الوادي قد وافق فيه الاسم المسمى إذ لا يخلو من شدة تقع للحاج فيه من عطش وموت ومرض وهو واد كبير قد انطبق عليه الجبلان من النبط إلى الخضيرة فلا ينفذ فيه الهواء غالبا لأن الهواء إذا تحرك بالرياح انطبق عليه الجبلان فينعكس الريح إلى ما وراء وتحدث الحرارة والسموم في الهواء فينشأ الهلاك منه ولا ماء هناك من النبط إلى الينبع فإذا قبح الهواء مع الحرارة مات من الناس ألوف مؤلفة في أسرع مدة فيأخذ الرجل الماء فلا يضعه من يده حتى يموت وقد صار ذلك في رجوعنا.
نعم اشتد بنا العطش أنا وجماعة من الفضلاء كثيرا قرب وصولنا إلى النبط وإذا بأعرابي أتانا بقربة ماء عذب وأظنه من ماء المطر بارد كأنه من ماء الثلج وسقى جمعينا لوجه الله العظيم ولو طلب الدراهم لأخذ منها كثيرا لقرب الموت والهلاك منا فاستغربنا حال الرجل وما صدر منه إلينا من غير طلب شيء ولو دعوة خير إذ عادة الأعراب لا يعطون شربة الماء إلا بفلوس كثيرة لا سيما عند العطش ونحن والحمد لله قد وقع بنا فضل عظيم وجود كريم.
ثم سرنا كذلك إلى أن وصلنا الخضيرة أوان العصر وهذا المنزل لا ماء فيه أصلا وبتنا فيه على أحسن حال وأتمه وارتحلنا منه آخر الليل ثم كذلك إلى أن صلينا الصبح وقطعنا الأمكنة المسماة بسبع وعرات فخرجنا إلى متسع من الأرض وبلغنا إلى ينبع النخل بين الظهر والعصر في حر شديد ووجدنا المصري نازلا هناك فنزلنا حذاءه الفلالي والجزائري والفزاني فلما خيمنا البيوت تفرقت الناس على المياه وشراء علف الدواب وما يحتاجونه من الزاد إذ سوقه عظيم ونخله كريم واستبشر الناس بوصولهم إلى هذا المحل لأنه أول بلاد الحجاز بالعمارة وفيها قرى كثيرة ومزارع ونخل وعيون جارية وهو انتهاء موضع وصله صلى الله عليه وسلم وفيه أخبار

المدينة ومكة وغيرهما والحاج إذا وصل هناك كأنه وصل إلى مكة.
وهذا المحل تزهي فيه النفوس وهو روضة من رياض الله تعالى تصلح للمنقطعين وللغرباء والمساكين وهي باب من أبواب الله تعالى يتيسر فيها الذهاب إلى المشرق والمغرب لأنها مرسى وفيها أسواق كثيرة فلا تكاد تنعدم فيها الخيرات ، وتقضي فيها جميع الحاجات ، وفيها غالب الحبوب والثمرات ، وكذا الخزبز أعني الدلاع وجميع الأقوات ، والمشتهات فأقمنا فيها ما شاء الله ثم ارتحلنا منه مع المصري قرب الزوال إلى قرب الاصفرار فنزل الركب المغربي ومعه أهلنا وأنا قد وقع لي غيظ من أجل ظلم الحجاج بعضهم بعضا فأقسمت بالله أني لا أبيت معهم فسرت مع الركب المصري راكبا على بغلتي مع بعض أصحابنا وهو الحاج يوسف إلى أن شرفنا على بدر بعد صلاة الصبح وعند طلوع الشمس هبطنا بين الكديتين من الرمل ثم مر بنا على الحجارة المجتمعة التي يظنونها اليوم أنها قبور الشهداء وليست هي وإنما قبور الشهداء ناحية القرية فوق منزل الركب وقد زرناها والحمد لله فلما نزل الركب المصري ذهبت أنا وصاحبي الحاج يوسف الشيباني إلى قرب القرية لنستظل بظل جدار المدشر فجلسنا هناك ننتظر الركب المغربي إلى أن وصل ونزل أعلى الركب المصري قرب الجبل وبينما أنا كذلك وإذا بأخينا في الله سيدي محمد المحفوظي قد رآني عند السقائف التي تشرب فيها القهوة فأخذ بيدي وذهب بي إلى شيالة المصري ودخلت خيمته ففرح بي فرحا شديدا فقام فجعل لنا الغداء وتكرم علينا غاية وأخذت في القيلولة عندهم وكل ذلك أنا والحاج يوسف المذكور إلى أن صلينا الظهر وزال حر النهر فذهبنا إلى أصحابنا وأهلنا فنزلنا ذلك اليوم وأقمنا الذي بعده وزرنا فيه قبور الشهداء ضحى فاجتهدنا في الدعاء عندها إلى أن حصل لنا وجد عظيم تكاد النفس تزهق من شدة ما تجلى لها من الأنوار التي هي حاصلة منه صلى الله عليه وسلم ومن أصحابه الذين قاتلوا هناك رضي الله عنهم وأرضاهم.

وقد قيل أن صوت الطبل الذي وقع به النصر للنبي صلى الله عليه وسلم يضرب هنا ويسمعه من خصه الله بتلك المزية العظمى وقد سمعته في الحجة الأولى وفي الثانية وهذه على شك إلا أن بعضهم يقول هو حوافر الدواب تضرب بأرجلها فتسمع كالطبل وقال بعضهم الريح تهب وتلتقى مع بعض الأجرام الخاوية فيردها حائط الجرم فيسمع صوتها كالطبل وهذا من التأويل المرجوح استبعادا لأن يبقى صوت الطبل إلا الآن إعجازا لقدة الإله بل ذلك سائغ وواقع غير مستبعد وهو من معجزاته صلى الله عليه وسلم الباقية إلى الآن غير أن بعض الأكابر الثقات اعترفوا بها وصدقوا بذلك يقينا وبعضهم يقول إنما هو تخيل بعضهم ينكر أصله ويقول بنفيه بل الحق الذي اجتمع عليه أهل الخير قاطبة وأنه واقع قد سمعه خاصة كل ركب بل كاد أن يكون أجماعيا.
نعم قد سمعت ممن يوثق به أنه سمعه الناس في غير أبان الحج فلم يبق إلا تسليمه أو التصديق به.
نعم الذي يحتاط بنفي ذلك عن نفسه لا أنه يقول لا أصل له أو يؤول أن طبل الناس من المصري يتأخر في الطريق فيسمع صوته فيظن الناس أنه طبل القدرة ولو كان الأمر كذلك ما وجد صوته إلا يوم دخول الركب البندر وقد سمعناه يوم الإقامة بعده.
نعم الصوت شاهدناه في ذلك المحل قطعا كما شاهدنا الأنوار تبرق جهة المدينة المشرفة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام وإن قال بعضهم أنها أبراق تلمع لأن الحجاز تكثر فيها الرعود والإبراق غير أنه وان احتمل ذلك فالحق أن البرق والنور متباينان فلا يلتبس أحدهما بالآخر أصلا وفوق كل ذي علم عليم.

وبدر هذه قرية عظيمة حلوة طيبة روضة من رياض البلدان من رآها يتمتع بنظرها ويشاهد فيها أنوار الجلال ، ولوائح الجمال ، كأنه صلى الله عليه وسلم مستقر فيها لم يغب فصورته صلى الله عليه وسلم وصور أصحابه هناك تشاهد لدى المحبين فتنبسط النفس هنالك أتم انبساط فهي تمرح في تلك الرياض ، وتتردد في تلك الحياض ، فما زالت قائمة على أصول التجليات ، والمشاهدات ، لأثار النبوءة فتجد العارف بالله منشرح الصدر ، مستنير السريرة ، منور البصيرة ، عالي الهمة ، قوي المحبة ، تعلوه أنوار ، وتنفتح له أسرار ، وتنكشف له أمور فينسى كل قريب له ، ومحب لديه ، بما شاهد فكأنه عروس فبدر من أعياد العارفين ، ومواسم المقربين ، في ضيافة حبيبه صلى الله عليه وسلم ونزول في مقعد صدق عند مليك مقتدر يطمئن قلبه بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه وكيف لا وهو محل النصر من الله وأن ملائكته قد قابلت أعداء الله هنالك فلا تعلم نفس ما حصل لمحبيه صلى الله عليه وسلم.
وأن هذه القرية قد توطنها الأشراف ونزلوا بها من قديم الزمان وفيها أهل السنة وكذا الزيدية (1) أعني الخوارج الظاهرية وهم في الاعتقاد قدرية وفيها نخل كثير وبساتين وماؤها طيب حلو عذب وفيه أيضا بركة تكفي الأمصار العظيمة فضلا عن الأركاب وهي مستمدة من عين هناك وفي بدر توقد النيران الكثيرة والنزهة القوية وهي أزيد من كل بندر بشيء كثير ثم انفصلنا عن هذا المحل على خير وعافية ومنة وفضل عظيم بعد انفصال المصري عند الظهر ومررنا بواد ثم كذلك إلى وقت العصر فصلينا العصر بعد خروج ذلك الوادي فسرنا في أرض متسعة واسعة سهلة طيبة غير أن الهواء تقوى علينا ثم كذلك إلى بعد العشاء فنزلنا والبعض خيم
__________________
(1) في ثلاث نسخ الزيود.

البيوت والبعض إلى أن طلع الفجر وتنفس الصبح ارتحلنا في فرح وسرور ونشاط كبير فرحا بقرب الوصول والوصال ، إلى الأماكن الشريفة وحضرة الاتصال.
نعم تقوى علينا شذاء القرب من الرب الكريم فتشنفت الأحوال والنعوت ، فربحت تجارة الحاج بمجاورة اللهوت ، ثم كذلك إلى أن وصلنا قاع البزوة وهي محل نزول الركب عند الزوال فوجدنا المصري إذا راحلا وقد أدركنا آخره فلم ينزل ركبنا هناك بل جاوزنا سائرين آخر المصري ذاهبين معه إلى وقت المغرب فنزلا وبتنا والحمد لله في عافية وسرور بقربنا مكان الإحرام والمصري سائر على حاله إلى قرب طلوع الفجر فارتحلنا منه آخر الليل ثم كذلك مجدين السير إلى منزل يقال له مستورة وهي بلدة طيبة ووصفها كما ذكره شيخنا سيدي أحمد بن ناصر.
ثم ارتحلنا منها أيضا فجد بنا السير ليلا وسرنا في الليل إلى وقت الضحى فقربنا منزل رابغ نعم دخلنا وادي رابغ من جهة المغرب عند قوة حر النهار قرب الزوال [فدخلنا رابغ ووجدنا المصري قد خيم فيه ونزلنا فوقه قبل الزوال](1) وبعض الركب يستظل بالنخل والبعض بالبيوت إلى أن حان وقت الظهر فصلينا الظهر ثم أقمنا نستعد لأحوال الإحرام ، وكثير من الركب لا يعرف أحكام الإحرام ، فصار جميعنا معشر الطلبة نعلمهم فرائض الإحرام ، وسننه وشرائطه وموانعه والناس كلهم ذكور وإناث في غسل واغتسال ، وغسل ثيات وموانع الإحرام في انتقال ، حتى قرب وقت العصر فآن إحرام الكل فشمرنا عن ساعد الجد ، ليتأهب جميعنا لما فيه الكمال بالكد ، ورمينا ما كنا بصدده من مجاورة الضد ، ونبذنا ما كنا عليه من مجاوزة الحد ، بل طوينا مسافة الإعراض ، ومتابعة الدنيا وما فيها من الأغراض ، وسعينا لما فيه رضاه ، وفعلنا ما أمرنا به وارتضاه ، وأزلنا ثياب الحياة ، ولبسنا ثياب الممات ،
__________________
(1) ما بين القوسين ساقط في نسخة.

وحنطناها كالكفن ، وأيقظنا العيون والجفن ، وقصدنا بالإحرام الانسلاخ ، من طبائع الاجباح التي هي كالسباخ ، فوجهنا النفوس لعلام الغيوب ، وما مسنا في ذلك من لغوب ، ولبسنا الأزرار والردا ، وتركنا ما طغى منا واعتدى ، وأزلنا أيضا المخيط والمحيط ، ليتسع الوارد علينا وينبسط ، ويتحلى كلنا بالرضى وما به الإنسان يغتبط ، فالحج قصد للمولى ، وارتباط وترق لمراتب العلى ، بعد غسل القلب من الأدران ، ويطلب حينئذ المحرم غاية الغفران ، ويتهيأ للوصول إلى ما به الامتنان ، سمعا وطاعة لما فيه رضى الرحمان ، فصلى المحرم ركعتين ، على نوعي الكونين ، فبالتكبير لم يبق فيه قلبه أحد الثقلين ، فلما استوي قائما في حضرته ، قال لبيك اللهم لبيك وسعديك في فضله ورحمته ، فقال له الرب جل جلاله تفضل عليك الإله بمنته ، ثم تجلى بما هو أعلى فتدلى له ربه وهو في منصته ، فكان أقرب إليه ، من ريقه في فيه ، قربا من سطوته ، فصار محرما بإحرام البشر ، وهو في الحقيقة غيب نفسه عما لا يعتبر ، وعن الأكوان بمشاهدة المكون ولكنه الذات يعتمر ، فأناخ نفسه ليحمل عليها أعباء التكليف ، ويشد عليها أحمال الحقيقة مع الهودج من التعريف ، فجمع بين الذكر والتذكر ، والسعي والتفكر ، والمعرفة والشكر ، متوجها لبيت الله الحرام ، بالشوق والعشق وقوة الغرام ، فركب مركوب العز والتقوى ، ونال من الله الفوز والقرب والغاية القصوى ، حينئذ قد زالت بشريته ، وانبسطت عليه روحانيته ، فإذا نطق نطق به ، فيه يسمع ويبصر به ، هذا هو الإحرام على التحقيق ، وصاحبه معزول عن التعويق.
نعم هذا صاحب الإصابة والسعد والتوفيق وهذا رابغ ، مشتهر وسائغ ، ورضة العز والدنو والقرب ، وفيه المشاهدة والمجاهدة والحرب ، والإغاثة من كل شدة وكرب.
هذا وانه قرية عظيمة كثيرة المزارع والمقاثي والنخل والمياه وسوقها عظيمة

وفيها النعال الكثيرة مستعدة للبيع قبل أوانه ، مدخرة لزمانه ، غير أنها غالة الأثمان ، وبعد امتثال الناس أوامر الرحمان ، انفصلنا في غاية المنة والفضل والشكر لله تعالى لما وصلنا إلى ميقات الإحرام فلم يعقنا عائق ، ولا أرهقنا شيء مانع غير لائق ، فانفصل الكل بالتلبية والإحرام ، مع الخضوع والخشوع والدعاء لجميع الأنام ، بالتقشف والتذلل للرب الكريم شعثا غبرا منكثين الرءوس ، فرارا من غضب الله والمقت والباس والبوس ، يطلب جميعنا رحمة المنان ، والمغفرة والعفو من الرحمان ، قد أصابنا شدة الحر ، حتى انسلخ الجلد عن الرأس والظهر ، فما أرعوى أحد بذلك ، ولا رجع وانزجر بما هنالك ، لعل الله أن ينظر إلينا بعين الرحمة ، ويغمس جميعنا في بحر النعمة ، حشاه من كريم أن لا يمن على وفده بجنة الرضوان بذهابه وعوده ووقت انفصالنا عنه بعد صلاة العصر بمدة بل قبل الاصفرار سائرين فصلينا المغرب ثم كذلك إلى أن صلينا العشاء كذلك ساعة طويلة نزلنا فبتنا خير مبيت وأقمنا ليلا فارتحلنا في مدة من الليل ننتظر الصبح إلى أن صليناه ثم كذلك وكان ذلك اليوم يوم حر شديد بحيث لا يقدر الإنسان أن يقف للشمس حتى أصاب الحر كثيرا من الناس فحملهم ذلك على أن غطوا رؤوسهم لأن الدين يسير ولن يشادّ أحد هذا الدين إلا غلبه والله تعالى يقول : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) إلا جماعة الأفاضل فلم يغط أحد رأسه وهو الفاضل سيدي احمد الطيب ومثله سيدي أحمد بن حمود وسيد محمد الشريف الطرابلسي والفقيه سيدي أحمد عياض وسيدي محمد بن خثوش (1) رحمه الله وأصحاب الجميع كالأشراف منا وكذا أهل وطننا فلو غطينا رءوسنا ما بقي أحد إلا غطى رأسه وأما أمير الركب فقد غطى رآه وكذا جميع من كان معه من كبار الركب وبالجملة فلما اشتد الحر علينا غطى جل الناس رؤؤسهم لقيام العذر بل كاد أن يكون ما فعلناه من عدم التغطية أن يكون منهيا عنه نعم ثم سرنا كذلك في تلك
__________________
(1) كذا في نسخة وفي أخرى يخشوش وفي نسختين بوخثوش.

الرمال أول النهار غير أن فيها حرا عظيما من طلوع الشمس إلى غروبها إلى أن نزلنا قديد وهي قرية غالب أبنيتها حيشان وقهاوي وفواكه تباع ولا ماء فهيا إلا ما يسقى من بعيد نزلنا عند الظهر وما خرجنا من تلك الرمال القوية الواسعة التي تتيه فيه الأركاب بعض الأحيان إلا بمشقة عظيمة.
وقد بتنا في قديد ثم ارتحلنا منه آخر الليل سائرين إلى طلوع الفجر فصلينا الصبح في جماعة ثم ركبنا وسرنا كذلك إلى عقبة السكر فصعدناها وهي صعبة على الجمال والرجال لا سيما من صعدها في زمان الحر غير أن من علم قرب الوصول إلى مكة المشرفة هان عليه أمر ذلك وسهل عليه حالها وأشرفنا على الكدية التي بها البناء المعلوم وفيها أبنية كثيرة نعم من وصل هناك شم رائحة الجوار واستراح من التعب بل الإنسان يغيب عن حسه إذا وصل إلى ذلك الموضع ويتقوى عليه شذاء تلك الأماكن العالية والمواضع الطيبة فلا تجد أحدا إلا انبسط وجهه وانشرح صدره وتمكن قلبه واطمأن بالله صدره وطابت بذلك نفسه وبتجلي البيت انخشع (1) قلبه وتتزاحم الأركاب وتتلاحم حتى لا ينعطف بعضهم على بعض رحم الله الجميع بمنه وكرمه.
وقد زرنا ذلك المح وقد قيل فيه مسجد للنبي صلى الله عليه وسلم ولما هبطنا تلك العقبة سرنا في طريق ذات أحجار كثيرة وأوعار صعبة بينها وبين خليص ثلاثة أميال فسرنا غير بعيد إلى أن دخلنا على خليص وفيه عين جارية قوية ساقيتها مبنية محكمة البناء لا تجد أعظم منها بناء وفيها بركة عظيمة عميقة يعطب فيها من لا يحس السباح لعظمها ومنها تجري ساقية إلى أرض الحراثة وفيها مزارع ومقاثي وبساتين وأكثرها الدخن وفيها قرية حلوة طيبة لا يكاد الإنسان يحزن فيها بل داخلها منبسط
__________________
(1) كذا في نسخة وفي ثلاث نسخ ويتجلى البيت انخشع وفي أخرى يخشع.

على الدوام إذ يغلب آثاره صلى الله عليه وسلم فيها ويتقوى شهوده بتحقيق النظر فيها ما أعذبها من قرية وما أحلاها من منزلة وأسعده من موضع كأنه صلى الله عليه وسلم خيم هناك فترى الأنوار ساطعة واللوائح مشرقة ، ولوامع النبوءة منبلجة ، وسر الكائنات صلى الله عليه وسلم يلاقينا بالرحب والتكرمة والتحية الطيبة والأوصاف السنية صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم فقد زال الحجاب عن الخاصة من خلقه فشاهده محسوسا طالعا في فلك الأقبال ، وأزهى نوره في عوالم الوصال ، تغدر الحجاج خماصا وتورح بطانا بالتمتع بالنعيم الشريف ، الذي لا يكيف ، فلا يدرك إلا بذوق مثله وفي خليص تتنعم النفس برؤية من الكمال التام والشفاعة الكبرى صلى الله عليه وسلم وحينئذ ترى الوجوه تتلألأ نورا إذا هب عليها نسيم الوصل فيتعطر شذاء قرب المنزل فتكون النفس شائقة خافقة فيردها قفص البدن فيعصهما اللطيف القوي فيحنئذ ننظر الوعد الرباني ، والفتح الصمداني ، ساعئتذ أن لم يصبها وابل فطل.
وقد نزلنا خليص عند الضحى الأعلى إلى وقت الظهر فصلينا فيه جماعة وبين الظهر والعصر انفصلنا من خليص وارتحلنا منه إلى أن حان وقت العصر فصلينا جماعة ثم كذلك إلى قرب المغرب أشرفنا على العقبة التي يصعد منها إلى الثنية التي يهبط منها إلى عسفان عند المغرب والطريق فيها مبنية ملتقطا أحجارها كعقبة السكر إلا أن هذه أطول منها وأسهل وبأحد جانبيها مسجد.
فلما خرجنا العقبة وصلنا عسفان ومررنا كذلك عند العشاء سائرين غاية الناس أن بعضهم شرب من ماء عسفان تبركا بآثاره صلى الله عليه وسلم إذ قد قيل أن ماء بئرها كان مرا فتفل فيه صلى الله عليه وسلم فصار حلوا طيبا وماؤها عذب كماء خليص وان كان سخنا وهذه البئر التي تفل فيها صلى الله عليه وسلم سمعنا بها قبل

وليس ذلك من ألسنة العوام فقط كما قال شيخنا سيدي أحمد بن ناصر بل سمعناه من أهل العلم بل من كتب التاريخ نقلناه وفي خليص مسجد ولا أدري أنه للنبي صلى الله عليه وسلم أو لا وسرنا ليلا وقطعنا تلك المفاوز بل لم انفصلنا عن خليص في ليلة مقمرة بعد صلاة العشاء بأمد سمعنا النساء يصرخن ولهن صوت التولول كان عروسا تزف لزوجها وصوت البنادق والبارود وغير ذلك من أصوات الناس [التي تدل على الفرح فلما سألنا عن السبب قالوا نوره صلى الله عليه وسلم هو الذي يلوح ويلمع](1) فلما نظرنا أبصرنا نورا يلمع ويلوح جهة اليسار نحو المدينة المشرفة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام يلمع كالبرق وهو يخفض غير انه ليس كالبرق لأن له لونا يخالف سائر الألوان كأنه حديث عهد من ربنا طريء (2) النزول ، ليتم سرور الحاج ويستبشر بالقبول ، ويترقب كرامة النزول ، فلا أقل أنه من كرامة الحاج وان احتمل أن يكون من البرق لكثرة رعود أرض الحجاز نعم الرعد بين وعلامته ظاهرة وأثاره سحاب وتغير في الهواء بالتحرك وان لم يكن معه مطر.
وأما ما وقع هذه الليلة فلا رعد ولا ريح ولا حركة ولا تغير في الهواء بل ولا سحاب أصلا ولا غيم بل السماء صاحية وليس فيها شيء من السحاب أصلا وإنما هو النور الذي تواتر نقله عن الحجاج قديما وحديثا لا مجال لجحوده فهو من فضل الله الذي يجب الإقرار به إذ ليس خاصا بأحد حتى يقع للإنسان فيه شك أو طروق احتمال خوفا من الاستدراج أو تمكن به النفس الأمّارة وقد اتفقت كلمة الناس من القرون الماضية والعلماء السالفة والصلحاء الخالية والأولياء السابقة والعامة والخاصة أنهم يرونه وأنهم يعرفون حال البرق فلم يحصل لهم شك أنه ليس هو بل أطبقوا على أنه نوره صلى الله عليه وسلم فمن طرّق الاحتمال فيه فقد طرق الاحتمال
__________________
(1) ما بين القوسين ساقط في نسخة.
(2) في نسخة طوري.

فيما لا يخفى انه نور لأن البرق لا يلازم جهة المدينة المشرفة وإنما يختلف بحسب الجهات وهذا لا يرى إلا من جهة طيبة كما شاهدنا في غير هذه الحجة وهذا معلوم عند الحاج سابقا ولا حقا فلا يخفى أمره والله اعلم.
انعطاف إلى ما كنا بصدده ثم أعلم لما سرنا كذلك إلى مغيب القمر نزلنا وبتنا مفترقين وأننا تهنا أعني الركب شيئا قليلا عن الطريق غير أننا سبقنا أول الركب فلما قرب طلوع الفجر أرتحلنا وسرنا إلى أن صلينا الصبح في جماعة فقطعنا المفاوز وبعد الضحى الأعلى دخلنا الشجر القريب من الجبل المشرف على وادي فاطمة يسمى جبل العميان الذي يجتمع فيه الفقراء لقاصد الإحسان نزلنا بالوادي وهو نهاية سير البوادي عند الزوال بل قبله بقليل نعم الحر في ذلك النهار قوي عظيم كأن النار اضطرمت في الأرض واشتعلت فيها بحيث لا يستطيع أحد أن يصل إلى الماء وإلى السوق فلما تحرك نسيم الرواح ، [واستبشرت الناس بالأرواح ، أذهب علينا ريح التلاقي بالغدو والرواح](1) ، لم يبق لنا نص ولا تعب لما ذاقته الأرواح ، من لطائف الوصل بالمحبوب ، وقرب مشاهدة جوار (2) علام الغيوب ، لا خير في أوقات الحياة سوى وقت رؤية آثار المحبوب ، فتزاحمت الواردات الإلهية على القلوب ، فزال السدد عن أقفالها من غطاء الحجب ، فلا يسمع المحب حسبيسن اعتراض النفس ، وفي ذلك الوادي ما تشتهيه الأنفس ، وتلذ الأعين لا سيما فتوحات الجبار ، ترد هناك على الإنسان من غير اختيار ، فليس على مثله للإنسان اصبطار ، أن رحمة الله قريب من المحسنين بلا افتخار ، وفي هذا الوادي مياه كثيرة ، وعيون جارية ، وبساتين مشهورة ، ومزارع قوية وفواكه مختلفة ، نعم بقينا هناك إلى أن حان وقت العصر فصليناه جماعة ثم تأهبنا للرحيل فلما حان وقت العشاء ارتحلنا من الوادي بفرح وسرور بالوصول
__________________
(1) ما بين القوسين ساقط في نسخة.
(2) في نسخة بيت.

إلى بيت الله الحرام ، وكل ما أصابنا من تعب ونصب كطيف المنام ، فلما حصل المطلوب ، وبلغنا غاية المأمول والمرغوب ، استبشرنا برسوم الحرم وزوال الكروب ، بفضل الله قرب النائي والصعب ، إذ لو لا ذلك ما تيسر بالكد والحرب.
ثم سرنا كذلك بنية الخشوع (1) والإنابة ، والخشية والخضوع والمهابة ، إلى طلوع الفجر وصلينا الصبح جماعة ثم ركبنا وسرنا إلى أن وصلنا قبر السيدة ميمونة زوجة النبي صلى الله عليه وسلم وقد تزوجها في هذا الوادي كما سبق فزرناه بنية خالصة من غير دخول للروضة إذ أدب من يزور نساءه صلى الله عليه وسلم لا يدخل محل البناء بل يزورهن من خارج كأنهن حال حايتهن رضي الله عنهن وعلى قبرها بناء ومسجد فعظمناها من خارج وفي ذلك مصلى للنبي صلى الله عليه وسلم فمن وفق يركع فيه.
ثم سرنا كذلك إلى أن وصلنا إلى التنعيم صبيحة قبل الشروق وفيه مسجد لعائشة رضي الله عنها كما سبق ذكره وفي ذلك المكان يحرم الناس بالعمرة في المواسم وغيرها ثم سمي هذا المكان [باسم ما يقع فيه توسعا ومجازا (2) وهو أدنى الحل فيطلق عليه اسم العمرة لأن المحرم بالحج أو العمرة لابد أن يحرم من الحل وأدنى الحل هذا المكان](3) ثم سرنا فوصلنا إلى الزاهر وقد قيل انه ذو طوى فيغتسل فيه استجابا داخل مكة والحق إن ذا طوى هو القريب لمكة وليس بينه وبين مكة واد آخر وهو الوادي الذي وراء قعيقعان وبأسفله الموضع المسمى بالشبكة حيث الثنية السفلى الذي يخرج منه الحاج فأعلى الوادي هو ذو طوى فزرنا التنعيم ثم سرنا إلى أن وصلنا
__________________
(1) في ثلاث نسخ بإسقاط بنية الخشوع وفي واحدة كذلك بالإنابة.
(2) في ثلاث نسخ تمجزا.
(3) ما بين القوسين ساقط في نسخة.

ذا طوى وقت الضحى فقرّت (1) الناس على الاغتسال من غير نزول فخيم بعض الناس الخيام للستر في الغسل فخيمنا خيمة لا فاغتسلنا نحن والأصحاب غسلا من غير دلك خشية قتل بعض الدواب حسبما هو غسل المحرم فلما اغتسلنا ركعنا ركعتين للضحى ووظيفة الطهارة لما ورد عنه صلى الله عليه وسلم من أحدث ولم يتوضأ فقد جفاني ومن أحدث وتوضأ ولم يركع فقد جفاني ومن أحدث وتوضأ وركع ولم يدع فقد جفاني ومن أحدث وتوضأ وركع ودعا ولم أجبه فقد جفيته وأنا لست برب جاف فرك كل منا ركعتين من وظائف الوضوء ومنهم من صلى الضحى أعني الذي يلازمها فلما حصل كل فضيلة ذي طوى قام الركب على ساق الجد والحزم لدخول مكة المشرفة فركب من ركب ومشى من مسى فاستقبلنا جبل قيقعان وصعدنا إلى الثنية قاصدين أم القرى أعني مكة ودخلنا من باب المعلى.
وهي الثنية العليا التي دخل منها صلى الله عليه وسلم سيد الأولين والآخرين عليه أفضل الصلاة والسلام وإنماها وأعطرها وأزكى هي المسماة بكداء فتح الكاف.
وقد بالغ الولاة في حفر هذه الثنية وتنقيتها من الأحجار حتى صارت كأحد الأزقة ومع ذلك ففيها صعوبة ومنها يشرف الإنسان على مقبرة مكة المسماة بالحجون وهي إحدى المقابر التي تضيء لأهل السماء كما تضيء الكواكب لأهل الأرض كما ورد في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام.
__________________
(1) في ثلاث نسخ فتقرت. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مشاركة مميزة

بناء شخصية  الأطفال   ...