الخميس، 8 مارس 2018

كتاب التاريخ والجغرافيا :  للمؤلف عبد زكرياء بن محمّد بن محمود القزويني بعنوان  -  اثار البلاد واخبار العباد ( الجزء الخامس  من الكتابة )

فتعجّب من ذلك وقال : ما ظننت أن أحدا من العجم يوصل كلامه إلى هذا الحد! فبعث إليه خلعة سوداء فوصل إليه خلعة الخليفة بغتة فجأة ، فلبسها وعمل قصيدة طويلة في مدح الخليفة ، وبعثها إلى بغداد ، مطلعها :
ترتاح أندية النّدى والباس
 

في مدح مولانا أبي العبّاس
 
وحكي انّه سافر إلى همذان ، وكان ابن قاضي قزوين ورئيسها بهمذان ، فسمع أن تاجا الطرقي وصل ، فأحبّ أن يراه لأنّه كان مشهورا بالفضل ، فقيل انّه ذهب إلى دار الكتب ، فمشى إليه فوجده يطالع كتابا ، فسلّم عليه فقال :عليك السلام! وما تحرّك له ولا نظر إليه. وإنّه كان رجلا ذا هيئة وجثّة وغلمان ومماليك ، واشتغل بمطالعة الكتاب ، فتأذى الرجل من ذلك وقال من أذيته : تاج الدين ما تعرفني؟ قال : لا! قال : أنا رجل من أعيان قزوين ذو أمر ونهي وقطع ووصل ، فقال : مدينتكم لا يكون لها شحنة؟ قال : نعم.
قال : فلم لا يصلبنّك؟ فقام الرجل وقال : تسمع بالمعيدي خير من أن تراه!
وحكي انّه كان في دار وحده ، فقام في جنح الليل ينادي : اللّص! اللّص! فاجتمع الجيران ، فإذا الأبواب والاغلاق بحالها والدار فقالوا له : أين اللص؟فقال : إني سمعت أن اللصوص إذا دخلوا بيوت الناس شدّوا قطاع اللباد على أقدامهم لئلّا يسمع دبيبهم ، وإني لما انتبهت ما سمعت شيئا من الدبيب ، قلت :لعلّ اللصّ دخل ، وشدّ على رجله اللّباد! وله حكايات مثل هذه ، رحمه الله.
طرزك
قرية من قرى قزوين مشهورة. حكي أن بعض الصلحاء رأى في نومه أو في واقعة أن هناك صحابيّا ، وما كان بها قبر ولا عرف أحد ذلك ، فلمّا كشفوا إذا رجل طويل القامة عليه درع والدم ينزف من جراحته ، فبنوا عليه مشهدا واشتهر بين الناس أن الدعاء فيه مستجاب ، فصار مقصودا يقصده الناس من

الأطراف كلّها.
وحدّثني أبي ، رحمة الله عليه ، انّه ذهب إليه زائرا ، وقدام المشهد مسجد ، قال : فتركت الدابّة مع الغلام ودخلت المسجد أصلّي ، وفرشت مصلّاي في المحراب ، قال : فرفعت رأسي من السجود فرأيت على مصلّاي رمانة كبيرة طرية كأنّها قطعت من شجرها في الحال ، وشجرها لا ينبت بأرض قزوين ونواحيها ، وإنّما يجلب إليها من الري ، وكان الوقت صيفا لا يوجد الرمان في شيء من البلاد أصلا ، قال : فلمّا فرغت من الزيارة خرجت وقلت للغلام : هل دخل المسجد أحد؟ قال : لا. قلت : هل خرج منه أحد؟ قال : لا.
فتعجّبت والرمانة معي حتى وصلت إلى ضيعتنا ، وطروز كان على طريقي والرمانة بعد معي ، فعرضتها على أخي وجمع كانوا هناك ، فتعجّبوا منه فتركتها مع رحلي ومضيت لحاجة وعدت فما رأيتها ، فسألت غلامي عنها فقال : لا علم لي بها! ومرّ على ذلك مدّة حتى كنت في بعض أسفاري وحدي ، فإذا أنا برجل شيخ طويل القامة كثّ اللحية يناديني : يا محمّد! ما صنعت بتلك الرمانة؟فقصدت نحوه لأتبرك به ، فغاب عن عيني ولم أدر أين ذهب ، عليه رحمة الله.
طروز
قرية كبيرة من قرى قزوين ، غنّاء كثيرة المياه والأشجار والبساتين والثمار.
ولطيبها ونزاهتها اتّخذها أتراك العجم مماليك السلاطين مسكنا ، وبنوا بها قصورا وتوالدوا وتناسلوا هناك ، فمن دخلها تحيّر فيها من كثرة خيراتها وفواكهها وثمارها وحسن عمارتها وطيب هوائها وحسن صور أهلها فكأنّ فيها من أولاد الأتراك صورا مليحة ووجوها صبيحة ، فمن دخلها ما أراد الخروج عنها ، وكان الأمر على ذلك إلى ورود التتر.

طمغاج
مدينة مشهورة كبيرة من بلاد الترك ، ذات قرى كثيرة ، وقراها بين جبلين في مضيق لا سبيل إليها إلّا من ذلك المضيق ، ولا يمكن دخولها لو منع مانع فلا يتعرّض لها أحد من ملوك الترك ، لعلمهم بأن قصدها غير مفيد ، وسلطانها ذو قدر ومكانة عند ملوك الترك.
بها معادن الذهب فلذلك كثر الذهب عندهم حتى اتّخذوا منه الظروف والأواني. وأهلها زعر لا شعر على جسدهم ورجالهم ونساؤهم على السواء في ذلك. وفي نسائها خاصّيّة عجيبة ، وهي أنّهن يوجدن كلّ مرّة عند غشيانهن أبكارا. وحكى بعض التجّار أنّه اشترى جارية تركيّة وجدها كذلك.
وحكى الأمير أبو المؤيد بن النعمان أنّه بها عينان : إحداهما عذب والأخرى ملح ، وهما تنصبان إلى حوض وتمتزجان فيه ، ويمتدّ من الحوض ساقيتان : إحداهما عذب لا ملوحة فيه ، والأخرى ملح. وذكر انّه من كرامات رجل صالح اسمه مليح الملاح ، وصل إلى تلك الديار ودعا أهلها إلى الإسلام ، وظهر من كراماته أمر هذا الحوض والسواقي ، فأسلم بعض أهلها وهم على الإسلام إلى الآن.
طوس
مدينة بخراسان بقرب نيسابور مشهورة ، ذات قرى ومياه وأشجار ، والمدينة تشتمل على محلّتين ، يقال لإحداهما طابران ، والأخرى نوقان. وفي جبالها معادن الفيروزج ، وينحت منها القدور البرام وغيرها من الآلات والظروف حتى قال بعضهم : قد ألان الله لأهل طوس الحجر كما ألان لداود ، عليه السلام ، الحديد.
منها جمع عقم الزمان بمثلهم ممّن ينسب إليها الوزير نظام الملك الحسن

ابن عليّ بن إسحق ، لم ير وزير أرفع منه قدرا ولا أكثر منه خيرا ولا أثقب منه رأيا. وكان مؤيّدا من عند الله. حكي أن قيصر الروم جاء لقتال السلطان الب أرسلان فقال السلطان لنظام الملك : ماذا ترى؟ يقولون عسكره أكثر من عسكرنا! فقال نظام الملك : ليس النصر من الكثرة إنّما النصر من عند الله ، نحن نتوكّل على الله ونلتقيه يوم الجمعة وقت تقول الخطباء على المنابر : اللهمّ انصر جيوش المسلمين! ففعلوا ذلك فنصرهم الله.
وحكي أن السلطان الب أرسلان دخل مدينة نيسابور ، فاجتاز على باب مسجد فرأى جمعا من الفقهاء على باب ذلك المسجد في ثياب رثّة ، لا خدموا للسلطان ولا دعوا له ، فسأل السلطان نظام الملك عنهم فقال : هؤلاء طلبة العلم وهم أشرف الناس نفسا ، لا حظّ لهم من الدنيا ، ويشهد زيّهم على فقرهم.
فأحسّ بأن قلب السلطان لان لهم ، فعند ذلك قال : لو أذن السلطان بنيت لهم موضعا وأجريت لهم رزقا ليشتغلوا بطلب العلم ودعاء دولة السلطان! فأذن له ، فأمر نظام الملك ببناء المدارس في جميع مملكة السلطان ، وأن يصرف عشر مال السلطان الذي هو مختصّ بالوزير في بناء المدارس ، وهو أوّل من سنّ هذه السنّة الحسنة.
وحكى نظام الملك في كتابه سير الملوك أن بعض المفسدين قال للسلطان ملكشاه : ان في معيشك أربعمائة ألف فارس ، وأمر المملكة يتمشّى بسبعين ألفا ، فإن سبعين ألفا لم يغلبوا من القلّة ، فلو أسقطتهم امتلأت الخزانة من المال! ومال السلطان إلى قوله ، فلمّا عرفت ذلك قلت للسلطان : هذا قول من أراد اثارة الفتنة وفساد المملكة! إن ملكك خراسان وما وراء النهر إلى كاشغر وبلاد غور وخوارزم واللان وارّان وآذربيجان ، والجبال والعراق وفارس وكرمان والشام وارمن وأنطاكية ، وانّها إنّما تبقى محفوظة بهذه العساكر ، ولم يذكر أن دولة الخلفاء العظام والملوك الكبار قد خلت من خروج خارجي وظهور مخالف ، وهذه الدولة المباركة بسعادة السلطان سلمت عن الكدورات ،

فلو كانت العساكر ثمانمائة ألف لكانت السند والهند والصين ومصر والبربر والحبشة والروم أيضا في طاعتنا. ثمّ ان السلطان ان أثبت سبعين ألفا وأسقط ثلاثمائة وثلاثين ألفا ، فالساقطون ليسوا أصحاب حرف يشتغلون بصنعتهم ، يجتمعون على يد واحد ، ويدخلون تحت طاعته ، فنشأ من ذلك فساد عظيم ويكون الخصم في ثلاثمائة وثلاثين ألفا ونحن في سبعين ألفا ، فتمشي الأموال وتهلك ، ويكون ذلك نتيجة نصيحة هذا الناصح الذي ينصح بجمع الأموال وتفريق الرجال.
وحكي انّه كان شديد التعصّب على الباطنيّة ، وقد خرج من أصفهان وبه عقابيل المرض في العمارية. فلمّا وصل إلى قرية من قرى نهاوند يقال لها قيدسجان ، تعرّض له رجل ونادى : مظلوم! مظلوم! فقال الوزير : ابصروا ما ظلامته.
فقال : معي رقعة أريد أسلمها إلى الوزير! فلمّا دنا منه وثب عليه وضربه بالسكّين ، وكانت ليلة الجمعة الحادي والعشرين من رمضان سنة خمس وثمانين وأربعمائة ، فحمل إلى أصفهان ودفن في مدرسته.
وينسب إليها الإمام حجّة الإسلام أبو حامد محمّد بن محمّد بن محمّد الغزّالي.
لم تر العيون مثله لسانا وبيانا وخاطرا وذكاء وعلما وعملا. فاق أقرانه من تلامذة إمام الحرمين ، وصار في أيّام إمام الحرمين مفيدا مصنّفا ، وإمام الحرمين يظهر التبجّج به. وكان مجلس نظام الملك مجمع الفضلاء ، فوقع لأبي حامد في مجلسه ملاقاة الفحول ومناظرة الخصوم في فنون العلوم ، فأقبل نظام الملك عليه وانتشر ذكره في الآفاق ، فرسم له تدريس المدرسة النظامية ببغداد ، وصنّف كتبا لم يصنّف مثلها ، ثمّ حجّ وترك الدنيا واختار الزهد والعبادة ، وبالغ في تهذيب الأخلاق ودخل بلاد الشام ، وصنّف كتبا لم يسبق إلى مثلها كإحياء علوم الدين ، ثمّ عاد إلى خراسان مواظبا على العبادات إلى أن انتقل إلى جوار الحقّ بطوس سنة خمس وخمسمائة عن أربع وخمسين سنة. قيل : ان تصانيفه وزّعت على أيّام عمره فأصاب كلّ يوم كراس.

حكى الشيخ أبو الفتح عامر الساوي قال : كنت بمكّة سنة خمس وأربعين وخمسمائة ، فبينا أنا بين النوم واليقظة إذ رأيت عرضة عريضة فيها ناس كثيرون ، وفي يد كلّ واحد مجلّد يحلقون على شخص فقالوا : هذا رسول الله ، صلّى الله عليه وسلّم! وهؤلاء أصحاب المذاهب يعرضون مذاهبهم عليه. فبينا أنا كذلك إذ جاء واحد بيده كتاب قيل إنّه هو الشافعي ، فدخل وسط الحلقة وسلّم على رسول الله ، صلّى الله عليه وسلّم ، فردّ الجواب عليه وهو ، عليه السلام ، في ثياب بيض ، على زيّ أهل التصوّف ، فقعد الشافعي بين يديه وقرأ من كتاب مذهبه واعتقاده عليه ، ثمّ جاء بعده رجل آخر قالوا انّه أبو حنيفة ، وبيده كتاب ، فسلّم وقعد بجنب الشافعي وقرأ مذهبه واعتقاده ، ثمّ يأتي صاحب كلّ مذهب حتى لم يبق إلّا القليل ، وكلّ يقرأ ويقعد بجنب الآخر. ثمّ جاء واحد من الروافض وبيده كراريس غير مجلدة ، فيها مذهبهم واعتقادهم ، وهمّ أن يدخل الحلقة ، فخرج واحد ممّن كان عند رسول الله ، صلّى الله عليه وسلّم ، وأخذ الكراريس ورماها خارج الحلقة وطرده وأهانه. فلمّا رأيت أن القوم قد فرغوا قلت : يا رسول الله ، هذا الكتاب معتقدي ومعتقد أهل السنّة ، لو أذنت لي قرأت عليك. فقال ، صلّى الله عليه وسلّم : أي شيء ذلك؟
قلت : قواعد العقائد للغزالي. فأذن لي بالقراءة ، فقعدت وابتدأت : بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله المبدىء المعيد ، الفعّال لما يريد ، ذي العرش المجيد ، والبطش الشديد ، الهادي صفوة العبيد إلى النهج الرشيد ، والملك الشديد ، المنعم عليهم بعد شهادة التوحيد ، بحراسة عقائدهم من ظلمات التشكيك والترديد ، إلى أن وصلت إلى قوله : وانّه تعالى بعث الأمي القرشي محمّدا ، صلّى الله عليه وسلّم ، إلى العرب والعجم كافة من الجنّ والانس ، فرأيت البشاشة في وجه رسول الله ، صلّى الله عليه وسلّم ، فالتفت إليّ وقال : أين الغزالي؟ كأنّه كان واقفا في الحلقة! فقال : ها أنا ذا يا رسول الله! فقدم وسلّم على رسول الله ، عليه السلام ، فردّ عليه الجواب وناوله يده المباركة. فصار الغزالي يقبّل

يده المباركة ويضع خدّيه عليها تبرّكا بها ، فما رأيت رسول الله ، عليه السلام ، أكثر استبشارا بقراءة أحد مثل استبشاره بقراءتي ، فسأل الله تعالى أن يميتنا على عقيدة أهل الحقّ ، وأن يحشرنا مع الذين أنعم الله عليهم من النبيّين والصدّيقين والشهداء والصالحين ، قال الأبيوردي :
بكى على حجّة الإسلام حين ثوى
 

من كلّ حيّ عظيم القدر أشرفه
 
مضى وأعظم مفقود فجعت به
 

من لا نظير له في النّاس يخلفه
 
وينسب إليها ملك الابدال أحمد بن محمّد بن محمّد الغزالي. كان صاحب كرامات ظاهرة. كان أخوه حجّة الإسلام يقول : ما حصل لنا بطريق الاشتغال ما حصل لأحمد بطريق الرياضة. حكي أن الشيخ محمّدا كان يصلّي والشيخ أحمد حاضر ، فلمّا فرغ من صلاته قال له : أيّها الأخ قم أعد صلاتك ، لأنّك كنت في الصلاة تحاسب حساب البقال!
وحكي أن السلطان ملكشاه كان مريدا للشيخ أحمد ، فذهب ابنه سنجر إلى زيارة الشيخ ، وكان حسن الصورة جدّا ، فالشيخ قبّله في خدّه ، فكره الحاضرون ذلك وذكروه للسلطان فقال السلطان لابنه سنجر : الشيخ قبّل خدّك؟قال : نعم. قال : ملكت نصف الأرض ، ولو قبّل الجانب الآخر ملكت كلّها! وكان الأمر كذلك.
وحكي أن رجلا أراد أن يأخذ امرأة خاطئة ليلة بأجرة معلومة ، فالشيخ زاد في أجرتها وأخذها إلى بيته وأقعدها في زاوية من البيت ، واشتغل هو بالصلاة إلى الصباح. فلمّا كان النهار وقد أعطاها أجرتها قال لها : قومي واذهبي إلى حيث شئت! وغرضه دفع الزنا عنهما ، رحمة الله عليه ورضوانه.
وينسب إليها الحكيم الفردوسي. كان من دهاقين طوس له ملك في ضيعة يظلمه عامل الضيعة ، فذهب إلى باب السلطان محمود بن سبكتكين لدفع ظلم العامل ، وكان يطلب وسيلة. قيل له : الشعراء مقربون الآن لأن السلطان يريد

أن يجعلوا له تاريخ ملوك العجم منظوما ، وأقربهم إلى السلطان العنصري ، فطلبه الفردوسي فوجده في بستان ومعه الفرخي والعسجدي ، فذهب إليهم وسلّم وجلس عندهم فقالوا : نحن شعراء لا نجالس إلّا من كان مثلنا! فقال : أنا أيضا شاعر! فقالوا : أجز معنا هذا البيت :
قال العنصري :
جون روي تو خورشيذ نباشذ روشن
قال الفرخي :
مانند رخت كل نبود در كلشن
قال العسجدي :
مر كانت همي كذر كند بر جوشن
قال الفردوسي :
مانند سنان كيو در جنك بشن
فقالوا : ما أدراك بحال كيو وجنك بشن؟ قال : أنا عارف بوقائع ملوك العجم. فاستحسنوا ما أتى به الفردوسي ، وذكروه عند السلطان ، فأعطى السلطان لكلّ شاعر جزاء وأعطى للفردوسي أيضا جزاء. فرأوا شعر الفردوسي خيرا من شعرهم ، وكان شعر كلّ واحد لا يشابه شعر الآخر ، لأن شأنها كان فصيحا وشأنها كان ركيكا ، فقال : إني أتولّى نظم الكتاب كلّه ولا حاجة إلى غيري! فنظم الكتاب من أوّل زمان كيومرث ، وهو أوّل ملك ملك إلى زمان يزدجرد بن شهريار ، آخر ملوك العجم ، في سبعين ألف بيت مشتملا على الحكم والمواعظ والزواجر والترغيب والترهيب ، بعبارة فصيحة ، وحمل الكتاب إلى السلطان فأعجبه وأمر له بحمل فيل ذهبا. فقال الوزير : جائزة شاعر حمل فيل ذهبا كثير ، ألا حمل فيل فضة؟ وكان الفردوسي يطمع بمنصب رفيع

من المناصب مثل الوزارة ، فلمّا رأى حمل فيل فضّة اشترى به فقاعا وشربه ، وألحق بالكتاب هذه الأبيات الثلاثة :
برين سال بكذشت از سي وبنج
 

بدرويشي وناتواني ورنج
 
بذان تا بيري مرا بر دهذ
 

مرا شاه مر تخت واسفر دهذ
 
جو اندر نهاذش بزركي نبوذ
 

نيارست نام بزركان شنوذ
 
وحكي أن الشيخ قطب الدين أستاذ الغزالي اجتاز على قبر الفردوسي مع أصحابه ، فقال بعضهم : نزور الفردوسي! فقال الشيخ : دعه فإنّه صرف عمره في مدح المجوس! فرأى ذلك القائل الفردوسي في نومه يقول له : قل للشيخ لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربّي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق ، وكان الانسان قتورا.
طيب
بليدة بين واسط وخوزستان ، قال داود بن أحمد الطيبي : مدينة طيب من عمارة شيث بن آدم ، عليه السلام ، وما زال أهلها على ملّة شيث إلى أن جاء الإسلام. والمدينة قديمة ، أحدث القدماء بها أشياء وطلسمات ، منها ما زال ومنها ما بقي. وممّا زال قالوا : كان بها طلسم لدفع العقارب والحيّات ، وكان باقيا إلى قريب من زماننا.
ومن عجائبها الباقية أن لا يدخلها زنبور البتّة ، فإن دخلها مات ، ولا يدخلها غراب أبقع ولا عقعق.
طيزناباد
معناه عمارة الضراط. قرية بين الكوفة والقادسيّة على جادة الحاج من أنزه المواضع. وهي محفوفة بالكروم والأشجار والخانات والمعاصر. كانت أحد

المواضع المقصودة بالبطالة والآن خراب ، لم يبق بها إلّا قباب يسمّونها قباب أبي نواس ؛ قال أبو نواس :
قالوا : تنسّك بعد الحجّ؟ قلت لهم :
 

أرجو الإله وأخشى طيزنابادا
 
أخشى قضيّب كرم أن ينازعني
 

رأس الحطام إذا أسرعت إعدادا
 
فإن سلمت ، وما نفسي على ثقة
 

من السّلامة ، لم أسلم ببغدادا!
 
وقال محمّد بن عبد الله : قدمت من مكّة فلمّا صرت إلى طيزناباد ذكرت قول أبي نواس :
بطيزناباد كرم ما مررت به
 

إلّا تعجّبت ممّن يشرب الماء
 
فهتف هاتف أسمع صوته ولا أراه :
وفي الجحيم حميم ما تجرعه
 

خلق فأبقى له في البطن أمعاء!
 
عانة
بليدة بين هيت والرقّة ، يطوف بها خليج من الفرات. وهي كثيرة الأشجار والثمار والكروم ، ولها قلعة حصينة ، ولكثرة كرومها تنسب العرب إليها الخمر.
وأهل بغداد إذا شاهدوا ظلما قالوا : الخليفة إذا في عانة! لأن البساسيري استولى على بغداد وحمل التائم بأمر الله إلى عانة ، وخطب باسم خلفاء مصر سنة ، فجاء السلطان طغرلبك السلجوقي في سنة أربعين وأربعمائة وحارب البساسيري وقتله ، وجاء بالخليفة من عانة وردّه إلى مقرّه ومشى قدام مهده راجلا حتى خاطبه الخليفة بنفسه وقال : اركب يا ركن الدين! وهو أوّل سلاطين السلجوقية وأرفعهم قدرا ، وهو الذي انتزع الملك من سلاطين بني سبكتكين.

عبّادان
جزيرة تحت البصرة قرب البحر الملح ، فإن دجلة إذا قاربت البحر تفرّقت فرقتين عند قرية تسمّى المحرزي : فرقة تذهب إلى ناحية البحرين وهي اليمنى ، واليسرى تذهب إلى عبّادان وسيراف والجنّابة ، وعبادان في هذه الجزيرة وهي مثلثة الشكل ، وإنّما قالوا : «ليس وراء عبادان قرية» لأن وراءها بحرا.
ومن عجائبها أن لا زرع بها ولا ضرع ، وأهلها متوكّلون على الله يأتيهم الرزق من أطراف الأرض. وفيها مشاهد ورباطات وقوم مقيمون للعبادة منقطعون عن أمور الدنيا ، وأكثر موادهم من النذور.
عبد الله اباذ
قرية بين قزوين وهمذان. بها حمّة عجيبة ليس في شيء من البلاد مثلها ، وذلك ان الماء يفور منها فورانا شديدا قدر قامة وأكثر ، وإذا تركت البيضة على عمود الماء النابع تبقى عليها وتسلقها حرارة الماء. ويجتمع هذا الماء في حوض يأتيه أصحاب العاهات ويستحمّون به ، ينفعهم نفعا عظيما بيّنا.
العراق
ناحية مشهورة ، وهي من الموصل إلى عبّادان طولا ، ومن القادسية إلى حلوان عرضا. أرضها أعدل أرض الله هواء وأصحّها تربة وأعذبها ماء. وهي كواسطة القلادة من الاقليم ، وأهلها أصحاب الأبدان الصحيحة والأعضاء السليمة ، والعقول الوافرة والآراء الراجحة وأرباب البراعة في كلّ صناعة.
والغالب عليهم الغدر لكثرة الأشرار ومكر الليل والنهار. أقام بها عبد الله بن المبارك سبعة عشر يوما تصدّق بسبعة عشر درهما كفّارة لذلك. وأهلها مخصوصون ببغض الغرباء خصوصا العجم.

ويقال لأهل العراق نبط ؛ قالوا : نبط كان اسم رجل شرير كثرت جناياته في زمن سليمان بن داود ، عليه السلام ، فأمر بحبسه ، فاستغاث منه أهل الحبس إلى سليمان من كثرة سعايته ونميمته ، والقائه الشرّ بين أهل الحبس ، فأمر سليمان ، عليه السلام ، بتقييده وحمله إلى حبس الشياطين ، فاستغاث الشياطين وقالوا : يا نبيّ الله لا تجمع بين الحبس ومقاساة نبط! فرأى سليمان أن يأمره بشغل حتى يقلّ شرّه. وكان في الحبس امرأة مومسة ، قيل لنبط : نريد منك أن تغسل هذا الصوف الأسود وتبيّضه بالغسل ، وأن تروّح هذه المرأة حتى يلتحم فرجها بالترويح. فأمر بذلك ووكل به ، ففعل ذلك مدّة طويلة حتى ضجر ، ثمّ أراد أن يجرّب هل التحمت أم لا ، فباشرها ، فحملت منه وأتت بولد وصار له نسل بأرض العراق ، فلهذا ترى السعاية والنميمة والفجور في النبط كثيرا لأنّها شيمة أبيهم نبط!
وحكي أن عبد الله بن المبارك قيل له : كيف رأيت أهل العراق؟ قال : ما رأيت بها إلّا شرطيّا غضبان!
بها نهر دجلة ، مخرجه من جبل بقرب آمد عند حصن يعرف بحصن ذي القرنين ، وهي هناك ساقية كلّما امتدّ ينضمّ إليها مياه جبال ديار بكر ، ثمّ يمتدّ إلى ميافارقين وإلى حصن كيفا ، ثمّ إلى جزيرة ابن عمر ويحيط بها ثمّ إلى الموصل ثمّ إلى تكريت ، وقبل ذلك ينصبّ إليه الزابان ويعظم بهما ، ثمّ إلى بغداد ثمّ إلى واسط ثمّ البصرة ثمّ إلى عبّادان وينصبّ إلى البحر. وماء دجلة من أعذب المياه وأخفّها وأكثرها نفعا لأن مجراه من مخرجه إلى مصبّه في العمارات ، وفي آخر الصيف يستعملونه كلّه بواسط والبصرة.
وروي عن ابن عبّاس أن الله تعالى أوحى إلى دانيال ، عليه السلام ، أن فجّر لعبادي نهرين ، واجعل مصبّهما البحر ، فقد أمرت الأرض أن تطيعك.
فأخذ خشبة يجرّها في الأرض والماء يتبعه ، فكلّما مرّ بأرض يتيم أو أرملة أو شيخ ناشده الله فيحيد عنها ، فعواقيل دجلة والفرات من ذلك.

وبها نهر الفرات. مخرج الفرات من أرمينية ثمّ من قانيقلا ، ويدور بتلك الجبال حتى يدخل أرض الروم ، ويخرج إلى ملطية ثمّ إلى سميساط ثمّ إلى قلعة نجم ثمّ إلى الرقّة ثمّ إلى عانة ثمّ إلى هيت ، فيصير أنهارا تسقي زروع السواد وما فضل منها انصبّ في دجلة ، بعضه فوق واسط وبعضه بين واسط والبصرة ، فيصير الفرات ودجلة نهرا عظيما يصبّ في بحر فارس.
وروي أن أربعة أنهار من الجنّة : النيل والفرات وسيحان وجيحان. وروي عن عليّ ، رضي الله عنه ، انّه قال : يا أهل الكوفة ، إن نهركم هذا يصبّ إليه ميزابان من الجنّة.
وروي عن جعفر بن محمّد الصادق انّه شرب من الفرات فحمد الله وقال : ما أعظم بركته! لو علم الناس ما فيه من البركة لضربوا على حافتيه القباب! ولو لا ما يدخله من الخطّائين ما اغتمس فيه ذو عاهة إلّا برأ.
وحكى السدي أن الفرات مدّ في زمن عليّ بن أبي طالب ، كرم الله وجهه ، فألقى رمانة في غاية العظم فأخذت فكان فيها كرّ حبّ قسمها بين المسلمين ، فكانوا يرون أنّها من الجنّة. وهذا حديث مشهور في عدّة كتب للعلماء.
ينسب إليها هشام بن الحكم ، وكان معتزليّا يرجح عليّا ، فقال رجل : إني ألزمه أن يقول عند الخليفة إن عليّا كان ظالما! فلمّا حضر هشام عند الخليفة قال : أبا محمّد ، أنشدك بالله أما تعلم أن عليّا نازع العبّاس عند أبي بكر؟ قال : نعم. قال : فمن كان الظالم منهما؟ فكره أن يقول العبّاس خوفا من الخليفة ، وكره أن يقول عليّ خوفا من مخالفة اعتقاده ، فقال : ما منهما ظالم! فقال الرجل :كيف يتنازعان ولا يكون أحدهما ظالما؟ فقال : كما اختصم الملكان إلى داود ، عليه السلام ، وما منهما ظالم ، وغرضهما تنبيه داود على الخطيئة ؛ هكذا كان العبّاس وعليّ ، كان غرضهما تنبيه أبي بكر على خطيئته.
وينسب إليها يحيى بن معمر ، أحضره الحجّاج وقال : أنت الذي تقول الحسين بن عليّ من ذرية رسول الله؟ قال : نعم. قال : فوالله لتأتين بالمخرج

عمّا قلت أو لأضربنّ عنقك! فقال يحيى : إن جئت بالمخرج فأنا آمن؟ قال :نعم. قال : اقرأ «وتلك حجّتنا آتيناها إبراهيم» إلى قوله «ومن ذريته داود وسليمان» إلى قوله «وزكريا ويحيى وعيسى» فمن يعدّ عيسى من ذرية إبراهيم لا يعدّ الحسين من ذرية محمّد ، عليه السلام؟ فقال الحجّاج : والله كأني ما قرأت هذه الآية قطّ! فولّاه قضاء المدينة ، وكان قاضيها إلى أن مات.
وينسب إليها أبو محمّد سليمان بن مهران الأعمش. قال عيسى بن يونس :ما رأينا في زماننا مثل الأعمش ، فكان الأغنياء والملوك في مجلسه أحقر شيء ، وهو محتاج إلى درهم! حكي انّه يوم الشكّ من رمضان يأتيه الناس يستخبرون منه ، فضجر من ذلك وترك بين يديه رمّانة ، كلّ من دخل عليه قبل أن يستخبر منه أخذ حبّة رماها في فمه ، ليعلم أن اليوم ليس يوم صوم.
وحكي أن أبا حنيفة ذهب إليه فلمّا أراد الذهاب قال له : لا يكون ثقلت عليك! فقال : أنت في بيتك ثقبل عليّ فكيف في بيتي؟وحكي أبو بكر بن عياش قال : دخلت على الأعمش في مرض موته فقلت :أدعو لك طبيبا؟ فقال : ما أصنع به؟ والله لو كانت نفسي بيدي لطرحتها في الحشّ! لا تؤذينّ أحدا واطرحني في لحدي!
ولد الأعمش يوم قتل الحسين يوم عاشوراء سنة ستّين ، وتوفي في سنة ثمان وأربعين ومائة ، وهو ابن ثمان وثمانين سنة.
وينسب إليها أبو الحسين سمنون بن حمزة صحب السري السقطي. كان من أولياء الله ، ذكر انّه لمّا أنشد :
وليس لي في سواك حظّ
 

فكيفما شئت فاختبرني
 
أخذه الأسر من ساعته ، وكان يدور على المكاتب للصبيان ويقول : ادعوا لعمّكم الكاذب!
وحكى أبو أحمد المغازلي أنّه كان ببغداد رجل أنفق على الفقراء أربعين

ألف درهم فقال لي سمنون : يا أبا أحمد ، أما ترى هذا أنفق أربعين ألف درهم ونحن ما نجد شيئا؟ فامض بي إلى موضع كذا نصلّي بكلّ درهم أنفقه ركعة! فمضينا وصلّينا أربعين ألف ركعة!
وينسب إليها إبراهيم الآجرّي ، رحمه الله ، قال : أتاني يهوديّ له عليّ دين يتقاضاه ، وأنا عند الشاخورة أوقدت نارا تحت الآجر ، فقال : يا إبراهيم أرني آية أسلم! قلت : أو تفعل ذلك؟ قال : نعم. فأخذت ثيابه ولففتها في وسط ثيابي ورميتها في الشاخورة ، ثمّ دخلت الشاخورة وأخذت الثياب وخرجت من الباب الآخر ، فإذا ثيابه في وسط ثيابي صارت حراقا وثيابي بحالها. فلمّا رأى اليهوديّ ذلك أسلم!
وينسب إليها أبو الحسن عليّ بن الموفق ، كان يقول : اللهمّ إن كنت تعلم أني أعبدك خوفا من نارك فعذبني بها ، وإن كنت تعلم اني أعبدك حبّا لجنّتك فاحرمنيها ، وإن كنت تعلم أني أعبدك حبّا مني لك وشوقا إلى وجهك فالحنيه واصنع ما شئت!
وحكي أنّه وجد قرطاسا في الطريق ، قال : فأخذته ووضعته في كمّي وجلست أقرأه فإذا فيه : بسم الله الرحمن الرحيم ، يا عليّ بن الموفق تخاف الفقر وأنا ربّك؟وحكي انّه قال : تمّمت ستين حجّة فلمّا فرغت من الطواف قعدت تحت الميزاب ، فأنكرت في حالي عند الله تعالى وكثرة تردّدي إلى هذا المكان ، فغلبتني عيني فإذا قائل يقول : يا عليّ ، هل تدعو إلى بيتك إلّا من تحبّه؟ فسري عني ما كنت فيه.
حكى محمّد بن إسحق السرّاج قال : سمعت عليّ بن الموفق يقول : حججت نيفا وخمسين حجّة ، فنظرت إلى ضجيج أهل الموقف فقلت : اللهمّ إن كان فيهم واحد لم تقبل حجّه فقد وهبت حجّتي له! فرجعت إلى المزدلفة وبتّ فيها ، فرأيت في نومي ربّ العزّة تعالى ، فقال لي : يا عليّ بن الموفق أتتسخّى عليّ؟ قد غفرت لأهل الموقف ولأمثالهم وشفّعت كلّ واحد في أهل بيته وذريته

وعشيرته ، وإنّا أهل التقوى وأهل المغفرة. توفي عليّ بن الموفق سنة خمس وستّين ومائتين.
عزّان
مدينة كانت على الفرات للزّبّاء بنت مليح بن البراء. قتله جذيمة الأبرش صاحب الحيرة ، فلحقت الزباء بالروم وجمعت الرجال وبذلت الأموال ، وعادت إلى ملك أبيها وأزالت جذيمة عنها ، وبنت على طرف الفرات مدينتين متقابلتين من شرقيّ الفرات وغربيّه ، وجعلت بينهما نفقا تحت الفرات فكانت إذا رهقها الأعداء أوت إليه ، وجرت بينها وبين جذيمة مهادنة ؛ قال ابن الكلبي : لم يكن في نساء عصرها أجمل منها ، وكان اسمها فارغة ، وكانت تسحب شعرها وراءها إذا مشت وإذا نشرته جلّلها ، فسمّيت الزّبّاء. فأراد جذيمة أن يتزوّجها ويضمّ ملكها إلى ملكه ، فخطبها فأجابته على شرط أن يصير إليها. وكان لجذيمة وزير اسمه قصير. قال لجذيمة : لا تمش إلى هذه المرأة فإني لست آمنها عليك! فقال : لا يطاع لقصير أمر! فأرسلها مثلا. فلمّا دخل عليها أمرت جواريها فأخذن يده. قالت له : أيّ قتلة تريد أن أقتلك؟ فقال : إن كان لا بدّ فاقتليني قتلة كريمة! فأطعمته حتى شبع ، وسقته حتى ثمل ، وفصدت شريانه حتى نزف دمه ومات. فبلغ قصيرا خبره فجدع أنف نفسه وأظهر أنّه جدعه عمرو بن عدي ابن أخت جذيمة ، لأنّه أشار إليه بتزويج الزّبّاء. فراسل قصير الزّبّاء وأطمعها في ملك جذيمة ، فركبت إليه وصار قصير إليها بأمان ، وأخبرها بسعة التجارات ، فدفعت إليه مالا فأتاها بربح كثير ، ثمّ زادته في المال فأتاها بربح عظيم ، فأنست به وجعلته من بطانتها. وأخبرته : اني حفرت من قصري على الفرات هذا إلى القصر الآخر على الجانب الآخر من الفرات سربا تحت الماء ، وجعلت باب السرب تحت سريري هذا ومخرجه تحت سريري الآخر ، فإن راعني أمر خرجت إلى الجانب الآخر. فحفظه قصير ومضى بالمال وحصل ألفي رجل

في ألفي صندوق على ألف جمل ، وعلى الرجال الدروع ومعهم السيوف ، وأقبل بهم إلى الزّبّاء. فلمّا قرب من مدينتها صعدت الزّبّاء سور مدينتها تنظر إلى العير مثقلة فقالت :
ما للجمال مشيها وئيدا؟
 

أجندلا يحملن أم حديدا؟
 
أم صرفانا باردا شديدا؟
 

أم الرّجال جثّما قعودا؟
 
فجاء قصير بالعير ودخل المدينة فأناخ الجمال وثار الرجال من الصناديق بالسيوف وضربوا من أدركوه ، فلمّا علمت الزبّاء قصدت السرب لتدخل فيه ، فبادرها عمرو بن عدي ، وكان من رجال الصناديق ، وقف على باب السرب بالسيف فعلمت انّه قاتلها ، فمصّت سمّا تحت خاتمها وقالت : بيدي لا بيد عمرو! فأرسلته مثلا. ومن الأمثال : لأمر ما جدع قصير أنفه!
عقرقوف
قرية قديمة من قرى بغداد ؛ قالوا : بناها عقرقوف بن طهمورث ، وإلى جانب هذه القرية تلّ عظيم من تراب ، يرى من خمسة فراسخ كأنّه قلعة عظيمة. للناس فيه أقاويل كثيرة ، قال ابن قطيفة : ملك الروم كلّما رأى أحدا من أهل العراق سأله عن تلّ عقرقوف ، فإن قال : انّه بحاله ، يفرح ويقول : انّه لا بدّ أن نطأه.
غرشستان
ناحية واسعة كثيرة القرى ، الغور في شرقيها وهراة في غربيها ، ومرو الروذ في شمالها وغزنة في جنوبها. والغرش بلغتهم الجبال ومعناه قهستان.
والغالب على أرضها الجبال ، وبها دروب وأبواب لا يمكن دخولها إلّا بإذن الشار ، والشار اسم ملوكهم. وأهلها صلحاء مجبولون على الخير ، عندهم بقيّة من

عدل عمر.
قال الاصطخري : غرج الشار مدينتان ، يقال لإحداهما نشين وللأخرى سورمين ، وهما متقاربتان ولهما مياه كثيرة وبساتين. يحمل منهما الزيت والأرز إلى سائر البلاد.
وحكى بعض التجّار قال : مشيت إلى غرشستان فاتّفق لهم غرس ، فوضعوا دستا عاليا وجاء الزوج وجلس فيه ، وأسبلوا على وجهه سجفا سخيفا شبه وقاية ، وجاء المغني يغني بالدفوف وغيرها ، وتأتي نساء أقاربهم وجيرانهم يرقصن بين يدي الزوج فرادى ومثنى وجماعة ، والزوج يراهن ويتفرّج على رقصهن حتى لا تبقى واحدة إلّا رقصت ، ثمّ تأتي العروس في الآخر وترقص بين يديه أحسن رقص ، ثمّ خلوا بينها وبينه.
غريّان
بناءان كالصومعتين بظهر الكوفة قرب مشهد أمير المؤمنين عليّ. بناهما المنذر بن امرىء القيس بن ماء السماء ، وسببه انّه كان له نديمان من بني أسد ، فثملا فراجعا الملك ببعض كلامه ، فأمر وهو سكران أن يحفر لهما حفرتان ويدفنا فيهما حيّين. فلمّا أصبح استدعاهما فأخبر بما أمضى فيهما فغمّه ذلك ، وقصد حفرتيهما وأمر ببناء طربالين عليهما وقال : لا يمرّ وفود العرب إلّا بينهما! وجعل لهما في السنة يوم بؤس ويوم نعيم ، يذبح يوم بؤسه من يلقاه ويغري بدمه الطربالين ، فإن وقعت لهما الوحش طلبها بالخيل ، وإن وقع طائر أرسل عليه الجوارح. وفي يوم نعيمه يجيز من يلقاه ويخلع عليه. ولبث بذلك برهة من دهره ، فخرج يوما من أيّام بؤسه إذ طلع عبيد بن الأبرص الأسدي الشاعر ، جاء ممتدحا ، فلمّا رآه قال : هلا كان الذبح لغيرك يا عبيد؟ فقال بعض الحاضرين : أبيت اللعن! عنده من حسن القريض ما هو خير ممّا تريد منه! فاسمع فإن كان حسنا استزده وإن كان غير ذلك فالأمر بيدك. فأنزله حتى طعم وشرب وقال له :

أنشدني فقد كان يعجبني شعرك! فقال عبيد : حال الجريض دون القريض! فقال المنذر : أنشدني قولك اقفر من أهله ملحوب. فقال عبيد :
أقفر من أهله عبيد
 

فاليوم لا يبدي ولا يعيد
 
عنّت له منيّة نكود
 

وحان منه لهما ورود!
 
فقال المنذر : يا عبيد لا بدّ من الموت! ولقد علمت لو أن النعمان ابني عرض لي يوم بؤسي لا بدّ لي من ذبحه! واستدعى له الخمر فلمّا أخذت منه نفسه وطابت وقدم للقتل أنشد :
ألا أبلغ بنيّ وأعمامهم
 

بأنّ المنايا هي الوارده!
 
لها مدّة فنفوس العباد
 

إليها ، وإن كرهت ، قاصده
 
فلا تجزعوا لحمام دنا
 

فللموت ما تلد الوالده
 
فأمر به ففصد حتى نزف دمه وغرّى بدمه الغريّين.
وحكي أن في بعض أيّام بؤسه وقع رجل من طيّء يقال له حنظلة ، فقال له المنذر : لابدّ من قتلك! سل حاجتك. فقال : أجرني سنة حتى أرجع إلى أهلي وأفعل ما أريد ثمّ أصير إليك! فقال المنذر : ومن يكفلك أنّك تعود؟ فنظر إلى جلسائه فعرف شريك بن عمرو بن شراحيل الشيباني فقال :
يا شريك يا ابن عمرو
 

ويا أخا من لا أخا له
 
يا أخا المنذر فكّ
 

اليوم رهنا قد أنى له
 
إنّ شيبان قبيل
 

أكرم النّاس رجاله
 
وأبو الخيرات عمرو
 

وشراحيل الحماله
 
ورثاك اليوم في المجد
 

وفي حسن المقاله
 
فوثب شريك وقال : أبيت اللعن! يدي بيده ودمي بدمه! فأطلقه المنذر ،

فلمّا كان من القابل قعد المنذر ينتظر حنظلة فأبطأ ، فقدّم شريك ليقتل فلم يشعر إلّا براكب قد طلع ، فإذا هو حنظلة قد تكفّن وتحنّط وجاء بنادبته. فلمّا رآه المنذر عجب من وفائه فقال : ما حملك على قتل نفسك؟ فقال : إن لي دينا يمنعني من الغدر! قال له : ما دينك؟ قال : النصرانيّة! فاستحسن ذلك منه وأطلقهما معا ، وأطلق تلك السنّة.
وكان المنذر بنى الغريين على مثال ما بناهما ملوك مصر ، وقد مرّ ذكرهما في موضعهما. ونظر معن بن زائدة إلى الغريين وقد خرب أحدهما فقال :
لو أنّ شيئا مقيما لا يبيد على
 

طول الزّمان لما باد الغريّان
 
قد خرّب الدّهر بالتّصريف بينهما
 

فكلّ إلف إلى بين وهجران!
 
غزنة
ولاية واسعة في طرف خراسان بينها وبين بلاد الهند ، مخصوصة بصحة الهواء وعذوبة الماء وجودة التربة ، وهي جبليّة شماليّة بها خيرات واسعة إلّا أن البرد بها شديد جدّا.
ومن عجائبها العقبة المشهورة بها ، فإنّها إذا قطعها القاطع وقع في أرض دفئة شديدة الحرّ ، ومن هذا الجانب برد كالزمهرير ، ومن خواصّها أن الأعمار بها طويلة والأمراض قليلة ، وما ظنّك بأرض تنبت الذهب ولا تولد الحيّات والعقارب والحشرات المؤذية؟ وأكثر أهلها أجلاد وأنجاد.
وعجائبها أمر الصفّارين يعقوب وعمرو وظاهر وعليّ. كان يعقوب غلام صفّار وعمرو مكاريا ، صاروا ملوكا عظماء واستولوا على بلاد فارس وكرمان وسجستان وخراسان وبعض العراق ، يقال لهم بنو الليث الصفّار.
وبها تفّاح في غاية الحسن يقال له الأميري ، لم يوجد مثله في شيء من البلاد ، قال أبو منصور الثعالبي :


تفّاخ غزنة نفّاع ونفّاح
 

كأنّه الشّهد والرّيحان والرّاح!
 
أحبّه لصفات حازها قمر
 

في وجهه أبدا ورد وتفّاح!
 
وينسب إليها مجدود بن آدم السنائي. كان حكيما عارفا شاعرا تاركا للدنيا ، وله ديوان كبير كلّه حكم ومواعظ من حقّها أن تكتب بالذهب ، ليس فيها مدح أصلا. وكان يحبّ العزلة والانزواء عن الناس ، ويسكن الخرابات ويمشي حافيا ، وكان بعض الوزراء يرى له والسنائي يأتيه في أوقات ، فإذا جاءه يقوم الوزير ويجلسه مكانه في دسته ، وهو ربّما كانت رجله ملطّخة بالطين فقعد في مسند الوزير ، ومدّ رجليه لئلّا يتلطّخ المطرح بالطين. وحكي أن السنائي كان يمشي حافيا ولا يقبل من أحد شيئا ، فاشترى له بعض أصدقائه مداسا وألحّ عليه بالشفاعة أن يلبسه ففعل ، فاتّفق أنّه تلاقاه في اليوم الثاني وسلّم على السنائي فخلع المداس وردّه إليه ، فسئل عن ذلك فقال : سلامه في اليوم الثاني ما كان يشبه السلام الذي كان قبل ذلك ، وما كان له سبب إلّا المداس!
وبها عين إذا ألقي فيها شيء من القاذورات ، يتغيّر الهواء ويظهر البرد والريح العاصف والمطر في أوانه والثلج في أوانه ، وتبقى تلك الحالة إلى أن تنحّى عنها النجاسة. وحكي أن السلطان محمود بن سبكتكين لمّا أراد فتح غزنة كلّما قصدها بادر أهلها وألقوا شيئا من القاذورات في هذه العين ، ولم تمكن الإقامة عندهم للعسكر. وكان الأمر على ذلك حتى عرف السلطان ذلك منهم ، وتلك العين خارج المدينة بقربها ، فبعث أوّلا على العين حفّاظا ثمّ سار نحوها فلم ير شيئا ممّا كان قبل ذلك ، فافتتحها.
الغور
ولاية بين هراة وغزنة عامرة ، ذات عيون وبساتين كثيرة خصبة جدّا ، والجبال محتوية عليها من جميع جوانبها مثل الحظيرة ، ونهر هراة يقطعها ، يدخلها من جانب ويخرج من آخر. وإنّها شديدة البرد جدّا لا تنطوي على مدينة مشهورة.

وأكبر ما فيها قلعة يقال لها فيروزكوه ، وحكى الأمير عماد الدين والي بلخ أن بأرض الغور عينا يذهب الناس إليها في ليلة من السنة معلومة بقسيّ وسهام ، ويرمي كلّ واحد إليها نشّابة وعليها علامة ، فإذا أصبحوا وجدوا النشابات خارجة من العين ، وعلى نصل بعضها رؤوس الحيوانات من الذهب ، إمّا رأس طير أو سمك أو إوزّ أو حيوان آخر ، وبعض الناس لا يصيب على نشابه شيئا ، والله أعلم بصحّته في ذلك ، والعهدة على الراوي.
وبها السمندل ، وهو حيوان كالفأر يدخل النار ولا يحترق ، ويخرج والنار قد أزالت وسخه وصفّت لونه وزادته بريقا. يتّخذ من جلده مناديل الغمر للملوك ، فإذا توسّخت تلقى في النار ليزول وسخها.
ينسب إليها أبو الفتح محمّد بن سام الملقّب بغياث الدين. كان ملكا عالما عادلا مظفّرا في جميع وقائعه ، وحروبه كانت مع كفّار خطّاء. وكان كثير الصدقات جوادا شافعيّ المذهب ، وقد بنى مدارس ورباطات وكتب بخطّه المصاحف وقفها عليها. وكان من عادته إذا مات غريب في بلده لا يتعرّض لتركته حتى يأتي وارثه ويأخذها. وكان أوّل أمره كراميّ المذهب وفي خدمته أمير عالم عاقل ظريف شاعر ، يقال له مباركشاه الملقّب بعزّ الدين ، علم أن هذا الملك الجليل القدر على اعتقاد باطل ، وكان يأخذه الغبن لأنّه كان محسنا في حقّه ، وكان في ذلك الزمان رجل عالم فاضل ورع يقال له محمّد بن محمود المروروذي ، الملقّب بوحيد الدين ، عرّفه إلى الملك وبالغ في حسن أوصافه حتى صار الملك معتقدا فيه ، ثمّ ان الرجل العالم صرفه عن ذلك الاعتقاد الباطل وصار شافعي المذهب.
وينسب إليها أبو المظفّر محمّد بن سام الملقّب بشهاب الدين. كان ملكا عادلا حسن السيرة. كان يقعد حتى يفصل قاضيه الحكومات بحضوره. ومن مات أو قتل من مماليكه وعليه دين لا يقطع معيشته حتى يستوفى الدين. وحكي أن صبيّا علويّا لقيه في طريقه وقال له : إني منذ خمسة أيّام ما أكلت شيئا!

فغضب وحولق وعاد في الحال وأخذ الصبيّ معه ، وأطعمه أطيب الطعام وأعطاه من المال ما أغناه.
فراهان
قرية من قرى همذان مشهورة ، بها مملحة عجيبة ، وهي بحيرة أربعة فراسخ في أربعة ، فإذا كان أيّام الخريف واستغنى الناس من أهل تلك الناحية عن سقي المزارع والبساتين صوّبوها إلى تلك البحيرة. فإذا جاء الربيع والصيف واحتاج الناس إلى الماء انقطع عن البحيرة انصبابه ، فما بقي فيها يصير ملحا يأخذه الناس ويحملونه إلى البلاد.
ومن عجائبها أن الناس إن منعوا عنها لم تنعقد ملحا بل ينصبّ ولا يبقى له أثر ، وإن لم يمنع الناس عنها تصير ملحا ؛ قال ابن الكلبي : إنّه طلسم من عمل بليناس. وكان بفراهان سبخة يغوص فيها الراكب بفرسه والجمل بحمله ، فاتّخذ لذلك طلسما استراح الناس عنه.
فم الدبل
قرية من قرى واسط على شاطىء شعبة من دجلة ، منسوبة إلى الرفيعية ، وهم مشايخ تلك الناحية وبيتهم بيت مبارك. عادتهم ضيافة الناس وخدمة الصلحاء والفقراء المسافرين والقاطنين ، وفي فقرائهم جمع قالوا يأكلون الحيّات ، وقوم قالوا يدخلون النار ، وغير ذلك من الأمور العجيبة. وهم أقوام في زيّ الفقراء براء من التكلّف ، ولا أدب لهم إلّا خدمة الناس ولا يفرحون إلّا به.
فنك
قلعة حصينة على قلّة جبل عال بقرب جزيرة ابن عمر ، على فرسخين منها ، وعلى القلعة قلّة مرتفعة عنها ارتفاعا كثيرا من صخرة كبيرة ، وهي قلعة مستقلّة

بنفسها ، وإنّها بيد الأكراد البشنوية من ثلاثمائة سنة ، وهم قوم فيهم مروّة وعصبية ، يحمون من التجأ إليهم. وكانت هذه القلعة في شهور ستمائة بيد رجل اسمه إبراهيم ، وله أخ اسمه عيسى أراد أن ينتزعها من يد إبراهيم.
وكان إبراهيم مع خواصّه يسكن القلّة وباقي الأجناد في نفس القلعة ، فأطاع عيسى جمع من بطانة إبراهيم وفتح باب القلّة حتى صعدها نيف وعشرون رجلا ، وقبضوا على إبراهيم ومن عنده وحبسوا إبراهيم في بيت ، وحبست زوجته في بيت آخر. ولهذا البيت شباك إلى القلعة ، فملك أصحاب عيسى القلّة وينتظرون مجيء عيسى ، فقلعت زوجة إبراهيم الشباك ، وكان عندها ثياب خام فأوصلت بعضها ببعض ودلّتها إلى القلعة ، وجعلت تسعى الرجال ولا علم لأصحاب القلّة بها. فحضر عيسى وأصحابه تحت القلعة فرأوا الرجال يصعدون القلّة بالحبل ، فصاحوا إلى أصحاب القلّة ليعرفوا ذلك ، فكلّما صاح أصحاب عيسى صاح أصحاب القلعة معهم لتتزاحم الأصوات فلا يفهم أصحاب القلّة كلامهم ، حتى صعد بالحبل عشرون رجلا فأخرجوا إبراهيم من الحبس ، وفتحوا باب القلّة حتى صعد إليه أصحابه ، وأهلكوا قوم عيسى ورجع عيسى خائبا ، وبقيت القلعة إلى إبراهيم.
قاشان
مدينة بين قم وأصفهان. أهلها شيعة إماميّة غالية جدّا. وألّف أحمد بن عليّ ابن بابه القاشاني كتابا ذكر فيه فرق الشيعة ، فلمّا انتهى إلى الإمامية وذكر المنتظر قال : من العجب أن في بلادنا قوما ، وأنا شاهدتهم على هذا المذهب ، ينتظرون صباح كلّ يوم طلوع القائم عليهم ، ولا يقنعون بالانتظار بل يركبون خيلهم متوشّحين بالسيوف شاكين السلاح ، ويخرجون من مساكنهم إلى خارج البلد مستقبلين للإمام ، كأنّهم قد أتاهم بريد أخبرهم بوروده ، فإذا طلع النهار عادوا متأسّفين وقالوا : اليوم أيضا ما جاء!

ومنها الآلات الخزفيّة المدهونة ، ولهم في ذلك يد باسطة ليس في شيء من البلاد مثلهم. تحمل الآلات والظروف من قاشان إلى سائر البلاد.
بها مشمش طيّب جدّا يتّخذ منه المطوي المجفّف ، ويحمل للهدايا إلى سائر البلاد ، ليس في شيء من البلاد إلّا بها.
وبها من العقارب السود الكبار المنكرة ما ليس في غيرها.
قرميسين
بقرب كرمانشاهان ، بليد بين همذان وحلوان على جادة الحاج ، ذكر ابن الفقيه أن قباذ بن فيروز نظر في بلاده ، فلم يجد بين المدائن وبلخ موضعا أطيب هواء ولا أعذب ماء ولا أصحّ تربة من قرميسين ، فاختاره لسكناه وبنى به قصرا يقال له قصر اللصوص.
ومن عجائبه الدكّة التي كانت به مائة ذراع في مائة ذراع ، في ارتفاع عشرين ذراعا مربّعا. وحجارتها كانت مهندمة مسمّرة بمسامير الحديد لا تبين دروز الأحجار منها ، ويظنّ الناظر انّها حجر واحد. اجتمع عليها ملوك الأرض عند كسرى ابرويز وهم : فغفور ملك الصين وخاقان ملك الترك وداهر ملك الهند وقيصر ملك الروم. وكان في هذا القصر أبواب وجواسق وخزائن بالنقوش والتصاوير ، وكسرى أبرويز اتّخذه متصدّيا لطيب هوائه وحسن مكانه.
حكي أن مطبخ كسرى كان في موضع بينها وبين هذا الموضع أربعة فراسخ ، فإذا أراد أن يتغدّى اصطفّ الغلمان من القصر إلى المطبخ ، وتناول الغضائر والصحون بعضهم من بعض إلى محلّ جلوس الملك ، وهذا بعيد لأن الطبيخ لا يبقى حارّا إلى أن يحمل إلى فراسخ ، فلعلّه قد فعل ذلك مرّة ليذكر ذلك من قوّة ملكه.

قزوين
مدينة كبيرة مشهورة عامرة في فضاء من الأرض ، طيّبة التربة واسعة الرقعة كثيرة البساتين والأشجار نزهة النواحي والأقطار ، بنيت على وضع حسن لم يبن شيء من المدن مثلها. وهي مدينتان : إحداهما في وسط الأخرى ، والمدينة الصغرى تسمّى شهرستان ، لها سور وأبواب ، والمدينة الكبيرة محيطة بها. ولها أيضا سور وأبواب ، والكروم والبساتين محيطة بالمدينة العظمى من جميع الجوانب ، والمزارع محيطة بالبساتين ، ولها واديان : أحدهما وادي درج والآخر وادي اترك ، وهذه صورتها :

قال ابن الفقيه : أوّل من استحدث قزوين شابور ذو الأكتاف ، وبناء شابور في زماننا هذا يسمّى شهرستان. فلمّا اجتاز الرشيد بأرض الجبال قاصدا خراسان اعترضه أهل قزوين ، وأخبروه بمكانهم من أرض الديلم ، فسار إلى قزوين وبنى سور المدينة العظمى وجامعها سنة أربع وخمسين ومائتين. وأوّل من فتحها البراء ابن عازب الأنصاري ، وقد وقع النفير وقت كان الرشيد بها ، فرأى أهلها أغلقوا حوانيتهم وأخذوا أسلحتهم وخرجوا إلى وجه العدوّ مسرعين ، فأشفق عليهم وبنى لهم السور ، وحطّ عنهم خراجهم جاعلا إيّاه عشرة آلاف دينار في كلّ سنة ، وقد ورد في فضائل قزوين أحاديث كثيرة تتضمّن الحثّ على المقام بها لكونها ثغرا.

منها ما رواه عليّ بن أبي طالب ، عليه السلام ، عن رسول الله ، صلّى الله عليه وسلّم : عليكم بالإسكندريّة أو بقزوين فإنّهما ستفتحان على يد أمّتي ، وإنّهما بابان من أبواب الجنّة ، من رابط فيهما أو في إحداهما ليلة خرج عن ذنوبه كيوم ولدته أمّه! وعن سعيد بن المسيّب مرفوعا عن رسول الله ، صلّى الله عليه وسلّم : سادات الشهداء شهداء قزوين! وأمثال هذه كثيرة.
وبين قزوين وبين الديلم جبل كان ملوك الفرس يجعلون عليه رابطة إذا لم يكن بينهم هدنة ، وذلك الجبل هو الحاجز بين القزاونة والإسماعيليّة ، أحد جانبيه لهؤلاء والجانب الآخر لهؤلاء.
وبها مواضع يرجى فيها إجابة الدعاء ، منها مسجد شالكان ومسجد شهرستانك ومسجد دهك ومسجد باب المشبّك الملصق بالسور ، فإنّها مواضع يأتيها الابدال.
ومن عجائبها مقصورة الجامع التي بناها الأمير الزاهد خمارتاش ، مولى عماد الدولة صاحب قزوين ، فإن قبّتها في غاية الارتفاع على شكل بطيخ ، ليس مثلها في بلاد الإسلام ولا في بلاد الكفر أكبر منها ، ولا أحسن عمارة. وحكي أن الصّنّاع لمّا رفعوا قواعدها وأرادوا انضمام رأسها عجزوا عن ذلك لفرط سعتها وعمقها فلم يكن شيء من الاجذاع والسلاليم يفي بها ، فوقفت العمارة حتى مرّ بها صبيّ وقال : لو ملؤوها تبنا يمكنهم إتمامها! فتعجّب الصنّاع من حذقه

وقالوا : لا طريق لها إلّا ما ذكره الصبيّ! فملؤوها تبنا وتمّموها.
ومن عجائبها أمر باغاتها ، فإنّها لا تشرب في السنة إلّا مرّة واحدة وتأتي بفواكه غضّة طريّة ، وربّما لا تشرب في السنة وتأتي بعنب ضعيف.
ومن عجائبها مقابر اليهود ، فإنّها فضاء واسع ليس بها آثار القبور ، فإذا وجعت بطون دوابهم قادوها إليها وذهبوا بها في ذلك الفضاء يمنة ويسرة ، فإنّه يزول وجعها.
ومن عجائبها سوق الخيل بموضع يسمّى رستق الشعير. ذكروا أن كلّ فرس يحمل إليه للبيع ، فإن كان به حران يظهر في الحال.
ومن عجائبها مقبرة باب المشبك ، فإنّها مقبرة شريفة بها قبور العلماء والشهداء والصلحاء والزهاد. يأتيها الناس ليلة الجمعة فيرون بها أنوارا عجيبة تصعد من القبور وتنزل فيها ، وهذا أمر ظاهر يراه كلّ من يمشي إليها صالحا أو طالحا. ولقد رأيت في بعض الليالي عجيبا ، وهو انّه قد طلع من بعض القبور كرة قدر إبريق ، وصعدت نحو الهواء أكثر من غلوة سهم وأضاءت الجوانب من نورها ، ورآها غيري خلق كثير شرعوا في التكبير والتهليل ، وما كانت على لون النار بل كانت على لون القمر ضاربا على الخضرة ثمّ عادت إلى مكانها.
ينسب إليها الشيخ أبو بكر المعروف بشابان. كان شيخا عظيم الشأن يأتيه الابدال. كان له كرم وقطعة أرض وبقرة : يزرع قطعة الأرض حنطة ، ويأخذ عنب الكرم ولبن البقرة وانّها شيء يسير يضيف بها من زاره. استشهد على يد الفداية يوم الجمعة في جامع دمشق بعد الصلاة في ازدحام الناس سنة إحدى وستمائة عن اثنتين وتسعين سنة.
وينسب إليها أبو حاتم محمود بن الحسن القزويني. كان فقيها أصوليّا ، وكان من أصحاب القاضي أبي الطيب طاهر الطبري ، له كتاب في حيل الفقه مشهور.
وكان من أولاد أنس بن مالك وابن عمّي.
وينسب إليها الشيخ أبو القاسم بن هبة الله الكموني. كان عالما عابدا ورعا من

أولاد أنس بن مالك. حكي انّه جاء في زمانه وال إلى قزوين ، وبقزوين واديا ماء وهما من السيل ، وسقي كروم أهل قزوين من هذين الواديين وهما مباحان ، فأراد هذا الوالي أن يجعل عليهما خراجا ، فشكا أهل قزوين إلى الشيخ ، فذهب الشيخ إلى دار الوالي وقال لحاجبه : إن هذا الماء لم يزل مباحا لا يحل بيعه ، وأصحاب هذه الكروم أرامل وأيتام ، والكروم ضعيفة لها في السنة سقية واحدة ، حاصلها لا يفي بمال الخراج. فدخل الحاجب على الملك وقال : ههنا شيخ ما يخلي ان هذا الأمر يتمشّى! فغضب الملك وسلّ سيفه وخرج بسيفه المسلول وقال : من الذي يمنع من بيع هذا الماء؟ فقام الشيخ وقال : أنا! فعاد الملك إلى داخل وقال : افعلوا ما يقول هذا الشيخ! فإنّه لمّا قام رأيت على يمينه ويساره ثعبانين يقصدانني! فبطل ذلك العزم وذاك الماء مباح إلى الآن. وهذا الشيخ جدّي الخامس.
وينسب إليها أبو محمّد بن أحمد النجّار. كان عالما فاضلا أديبا فقيها أصوليّا ذا فهم مستقيم وذهن وقّاد ، وكان عديم المثل في زمانه مع كثرة فضلاء قزوين.
كان أبوه نجّارا وهو أيضا كان بالغا في صنعة النجارة ، وصاحب قزوين كان يرى له ، وبنوا له بقزوين مدرسة وأصابه في آخر عمره الفالج. وله تصانيف كثيرة كلّها حسن. وحكي أن صاحب قزوين أخذ قاصدا من الباطنية ومعه كتاب ، فلمّا فتحوا كان الكتاب أبيض ، فأخبر الشيخ أبو محمّد عن ذلك ، فأمر أن يعرض على النار ، فلمّا عرضوه على النار ظهر عليه كتابة كتبوها إلى رجل من أهل قها ، وطلبوا منه الإبل والحمام. وقها ناحية من أعمال الريّ.
فقال الملك : الإشكال بعد بحاله لأنّه ليس بقها الإبل ولا الحمام! فقال الشيخ أبو محمّد : طلبوا القسيّ والنبال. فقيل له : من أين قلت؟ فقال : أما سمعتم تشبيه الإبل بالقسيّ في قوله :
حوص كأشباح الحنايا ضمّر

وتشبيه النبل بالحمام في قوله :
وإذا رمت ترمي تموّت طائر
وينسب إليها الشيخ أبو القاسم محمّد بن عبد الكريم الرافعيّ. كان عالما فاضلا ورعا بالغا في النقليات كالتفسير والحديث والفقه والأدب. وله تصانيف كثيرة كلّها حسن. كان يعقد مجلس العلم في جامع قزوين كلّ يوم بعد العصر ، ويحضر عنده أكثر من مائتي نفس يذكر لهم تفسير القرآن. ومن عجيب أحواله انّه جاء ذات يوم على عادته ، فلمّا فرغ من وظيفته بكى وقال : يا قوم قد وقعت لي واقعة ما وقعت لي مثلها ، عاونوني بالهمّة! فضاقت صدور القوم وسأل بعضهم بعضا عن الواقعة فقالوا : ان تاجرا أودع عنده خمسمائة دينار وغاب مدّة طويلة ، والآن قد جاء وطلبها ، فذهب الشيخ إلى مكان الوديعة ما وجدها ، والذي أخذها أمين لطول المدّة ، فيخبر القوم حتى قال أحدهم : ان امرأة ضعيفة كانت خدامة لبيت الشيخ ، والآن ترى حالها أحسن ممّا كانت. فطلبوا منها فوجدوا عندها ، فجاء الشيخ في اليوم الثاني وأخبر القوم بأن همّتهم أثرت والواقعة اندفعت.
وحكي أن وزير خوارزمشاه كان معتقدا فيه ، فقبّل يده فقال له الشيخ :قبّلت يدا كتبت كذا وكذا مجلدا تصنيفا! فوقع من الدابّة وانكسرت يمناه ، وكان يقول : مدحت يدي فأبلاني الله تعالى بها! توفي سنة ثلاث وعشرين وستّمائة عن نيّف وستّين سنة.
وينسب إليها الشيخ أبو عليّ حسنويه بن أحمد بن حسنويه الزبيري ، الملقّب بمعين الدين. كان شيخا معتبرا من أعيان قزوين. ومن أعجب ما روي عنه أن أحدا إذا أصابه مس من الجنّ هو يحضر الجنّ ويشفع إليهم ويخلونه.
وينسب إليها الشجاع باك باز. كان صاحب آيات وعجائب ، وكان ذا هيبة.
من رآه يمتلىء من هيبته ، وكان الملك والفقير عنده سواء ، يخاطب هذا كما يخاطب

ذاك. وإذا رأى أحدا يقول : معك دنانير وزنها كذا ، اخرجها للفقراء! فيخرجها فيكون كما قال.
وحكي انّه طلب يوما من رجل تاجر شيئا ، وكان الرجل حنفيّا معتزليّا لا يقول بكرامات الأولياء ، فتخاشن في الجواب فحرد وشتم ، فقال له : المال الذي مع ابنك في السفر وقع عليه اللصوص الآن وأخذوه! فازداد الرجل غيظا وشتما. قال : وابنك قد قتل على يد الحرامية! فأرخوا ذلك فجاء الخبر بأخذ المال وقتل ابنه.
وحكي انّه كان في رباط اربل ، فجاء الشيخ شهاب الدين عمر السهروردي إلى اربل ، فاستقبله أهل اربل فجاء إلى الرباط ودخل بين الجماعة ، ووقف على المصلّى يصلّي ركعتين والخفّ في رجليه. فلمّا رأى باك باز ذلك قال : أيّها الشيخ ، كيف تقف مع الخفّ على مصلّى المشايخ؟ أليس هؤلاء القوم إذا رأوا منك ذلك اعتقدوا أنّه جائز في الطريقة؟ فوثب عليه الصوفية وهم تلامذة الشيخ وأسبغوه ضربا ومدّوه برجله إلى خارج الرباط. فلمّا عرف الشيخ ذلك أنكر على الصوفية وقال : انّه كان على الصواب ، مرّوا إليه واعتذروا منه! فمرّوا إليه فإذا هو قاعد في السوق على دكّة ، فاعتذروا مستغفرين فقال : ما جرى شيء يحتاج إلى العذر ، وإن جرى فأنتم في أوسع الحال. فقالوا : ارجع إلى الرباط إن أنت راض. فقال : إني كنت على عزم السفر وتوقّفي لإصلاح هذا المثقل لمداسي ، وإذا فرغ منه لبست وسافرت!
فعاد القوم إلى الرباط فعرف الحال الملك ، فأمر شيخ الرباط مع جميع الصوفيّة بالمشي إليه معتذرين ، فذهبوا وما أجابهم ، فقال الملك : أنا أمشي! فركب وجاء إلى السوق ، وهو قاعد على دكّة والمثقل يعمل في نعله ، فقال : إني قد جئت شفيعا ، فاسلك مع القوم مسلك التصوّف وعد إلى المكان راضيا منافسا! فقال :لا أرجع حتى تفعل ما أريده. فقال الملك : ما تريد؟ قال : أريد ثلاثمائة دينار! قال : لك ذلك! قال : احضره الآن! فأحضره وقال : أريد جوقتين من المغنين.

فأحضروا وقال : أريد أن يحملني فلان على رقبته ، والمغنون يغنون قدامي ، والقوم خلفي وقدامي يؤدّونني إلى الرباط على هذه الحال! ففعلوا ذلك كلّه ، فلمّا دخل الرباط والذهب معه قال : من الذي ضربني؟ فيقول كلّ واحد : أنا ما ضربت شيئا! فقال : من ضربني ضربة فله دينار ، ومن ضربني ثنتين فله ديناران ، ومن ضربني ثلاثا فله ثلاثة دنانير! فجاء كلّ واحد يقول : أنا لكمت كذا وكذا.
ففرّق الذهب عليهم وسافر. توفي في نيف وعشرين وستمائة.
قصران
اسم قرية من قرى الري. وهي قسمان : يقال لأحدهما قصران الداخل ، وللآخر قصران الخارج. قال صاحب تحفة الغرائب : بأرض الري قرية تسمّى قصران بيروني ، عند بابها الأعلى يرى كلّ ليلة سراج مشعل بحيث يبصره كلّ أحد من البعيد من جميع الجوانب ، وإذا دنا منه لا يبين شيء.
ينسب إليها القصراني المهندس. كان عالما بالهندسة ، وكان عديم المثل في زمانه ، وله كتب مصنفة في الهندسة مشهورة.
قصر شيرين
بين بغداد وهمذان في فضاء من الأرض على طرف نهر جار. بناها كسرى أبرويز لشيرين وهي خطيبة كانت له من أجمل خلق الله تعالى ، والفرس يقولون :كان لكسرى أبرويز ثلاثة أشياء لم تكن لملك قبله ولا بعده : خطيبته شيرين ، ومغنيه بلهبد ، وفرسه شبديز ، وقصر شيرين باق إلى الآن ، وهي أبنية عظيمة شاهقة وايوانات عالية وعقود وقصور وأروقة ومتشرّفات ، واختلفوا في سبب بنائه : ذكر في كتب العجم أن شيرين كانت من بنات بعض ملوك أرمن ، وكانت أجمل خلق الله صورة ، ذكرت لكسرى أبرويز وكان مشغوفا بالنساء ، بعث إليها من خدعها فهربت على ظهر شبديز. فلمّا وصلت إلى العراق وكان كسرى

غائبا ، فرأتها أزواج كسرى وولائده ، علمن أن كسرى يختارها عليهن ، فأخذهن من الغيرة ما يأخذ الضرّات ، فاخترن لها أرضا سبخة وهواء رديّا وقلن :ان الملك أمرنا أن نبني لك هاهنا قصرا. وهي موضع قصر شيرين على طرف نهر عذب الماء.
وحكي أن شيرين كانت تحبّ اللبن الحليب ، وكان القصر بعيدا عن مرعى المواشي ، فإلى أن حمل إلى القصر زالت سخونته ، فطلبوا الحيلة في ذلك فاتّفق رأيهم على أن يتّخذوا جدولا حجريّا من المرعى إلى القصر ، فطلبوا صانعا يعمل ذلك ، فدلّوا على صانع اسمه فرهاذ ، فطلبت اتّخاذ جدول مسافته فرسخان من المرعى إلى القصر على أن يأتي اللبن منها إلى القصر بسخونته ، وكان القصر على نشز من الأرض والمرعى في منحدر ، فاتّخذ حائطا طوله أكثر من فرسخين وارتفاعه عند المرعى عشرون ذراعا ، وعند القصر مساويا لأرضه ، وركب على الحائط جدولا حجريّا ، وغطّى رأسه بالصفائح الحجريّة ، واتّخذ عند المرعى حوضا كبيرا ، وفي القصر أيضا مثله ، وهذا كلّه باق إلى زماننا ، رأيته عند اجتيازي به لا شكّ في شيء منه.
وذكر محمّد الهمذاني انّه كان سبب بناء قصر شيرين ، وهو أحد عجائب الدنيا ، أن كسرى أبرويز ، وكان مقامه بقرميسين ، أمر أن يبنى له باغ فرسخين في فرسخين ، وأن يجعل فيه من الطيور والوحوش حتى تتناسل فيه ، ووكّل بذلك ألف رجل أجرى عليهم الرزق حتى عملوا فيه سبع سنين. فلمّا تمّ نظر إليه الملك وأعجبه ، وأمر للصنّاع بمال. فقال في بعض الأيّام لشيرين : سليني حاجة ، فقالت : أريد أن تبني لي قصرا في هذا البستان لم يكن في ملكك لأحد مثله ، وتجعل فيه نهرا من حجارة يجري فيه الخمر! فأجابها إلى ذلك ونسي ، ولم تجسر شيرين على أن تذكره به ، فقالت للبلهبد المار ذكره : حاجتي في غناء ، ولك ضيعتي التي بأصفهان! فأجابها إلى ذلك وعمل شعرا وصوتا في ذلك. فلمّا سمع كسرى قال له : لقد ذكرتني حاجة شيرين. فأمر ببناء القصر وعمل النهر ،

فبني على أحسن ما يكون وأتقنه ، ووفت شيرين للبلهبد بالضيعة فنقل إليها عياله ، وله نسل بأصفهان ينتمون إلى بلهبد.
ودخل بعض الشعراء قصر شيرين فرأى تلك العمارات الرفيعة ، ورأى ايوان شيرين وصورتها وصورة جواريها على الحائط فقال :
يا طالبي غرر الأماكن
 

حيّوا الدّيار ببرزماهن
 
وسلوا السّحاب تجودها
 

وتسحّ في تلك الأماكن
 
واها لشيرين التي
 

قرعت فؤادك بالمحاسن!
 
واها لمعصمها المليح وللسّوالف والمغابن!
في كفّها الورق الممسّك والمطيّب والمداهن
وزجاجة تدع الحكيم إذا انتشى في زيّ ماجن
وشغفت حين رأيتها
 

واهتاج مني كلّ ساكن
 
فسقى رباع الكسرويّة
 

بالجبال وبالمدائن
 
دان يسفّ ربابه وتناله أيدي الحواضن
قمّ
مدينة بأرض الجبال بين ساوة وأصفهان ، وهي كبيرة طيّبة خصبة مصّرت في زمن الحجّاج بن يوسف سنة ثلاث وثمانين. أهلها شيعة غالية جدّا والآن أكثرها خراب. ومياههم من الآبار أكثرها ملح ، فإذا أرادوا حفرها وسعوا في حفرها وبنوا من قعرها بالأحجار إلى شفيرها ، فإذا جاء الشتاء أجروا ماء واديهم ومياه الأمطار إليها ، فإذا استقوه بالصيف كان عذبا طيّبا.
وبها بساتين كثيرة على السواقي ، وفيها الفستق والبندق. بها ملّاحة طلسمها بليناس في صخرة ليدوم جريان مائها ، ولا ينقطع ما لم يخطر عليه ، وماء هذه العين ينعقد ملحا ويأخذه كلّ مجتاز.

أخبرني بعض الفقهاء أن بقرب قم معدن ملح ، من أخذ منه الملح ولم يترك هناك ثمنه يعرج حماره الذي حمل عليه ذلك الملح. وبها معدن الذهب والفضّة أخفوه عن الناس حتى لا يشتغلوا به ويتركوا الزراعة والفلاحة. وبها طلسم لدفع الحيّات والعقارب ، وكان أهل قم يلقون منها ضررا عظيما فانحازت إلى جبل هناك ، فإلى الآن لا يقدر أحد أن يجتاز بذلك الجبل من كثرة الحيّات والعقارب.
من عجائبها أن العود لا يكون له في هواء قم أثر كثير ، ولو كان من أذكى العود. وبها واد كثير الفهود. وحكي أنّه أتاهم في بعض الأوقات وال سنّي وقال لهم : بلغني أنّكم لشدّة بغضكم صحابة رسول الله ، صلّى الله عليه وسلّم ، لا تسمّون أولادكم بأسمائهم ، فإن لم تأتوني منكم بمن اسمه عمر أو كنيته أبو بكر لأفعلن بكم! فداروا في جميع المدينة وفتّشوا ، ثمّ أتوا بواحد أحول أقرع كريه اللقاء معوج الأعضاء ، وكان أبوه غريبا ساكن قم ، فكنّاه أبا بكر. فلمّا رآه الوالي غضب وشتمهم وقال : إنّكم إنّما كنيتموه بأبي بكر لأنّه أسمج خلق الله منظرا! وهذا دليل على بغضكم لصحابة رسول الله. فقال بعض الظرفاء منهم : أيّها الأمير ، اصنع ما شئت فإن تربة قم وهواءها لا يأتي بصورة أبي بكر أحسن من هذا! فضحك الوالي وعفا عنهم. ولقاضيها قال الصاحب ابن عبّاد :
أيّها القاضي بقم
 

قد عزلناك فقم
 
وكان القاضي يقول : أنا معزول السجع!
كران
بلدة بأرض الترك من ناحية تبت ؛ قال الحازمي : بها معدن الفضّة.
وبها عين ماء لا يغمس فيها شيء من الجواهر المنطبعة إلّا ذاب.

كرخ
قرية فوق بغداد على ميل منها. أهلها شيعة غالية ويهود. وبها دكاكين الكاغد والثياب الابريسمية.
ينسب إليها أبو محفوظ معروف بن فيروز الكرخي. وكان من المشايخ الكبار مستجاب الدعوة ، من موالي عليّ بن موسى الرضا. كان أستاذ السري السقطي ، فقال له يوما : إذا كان لك إلى الله حاجة فأقسم عليه بي! وأهل بغداد يقولون : قبر معروف ترياق مجرّب.
حكي أن زبيدة بنت جعفر عبرت على معروف مع مواليها وخدمها ، فدعا عليها بعض الحاضرين ، فقال له معروف : يا رجل كن عون رسول الرحمن ، ولا تكن عون رسول الشيطان ، إن رسول الرحمن يريد نجاة الخلق كلّهم.
قال الله تعالى : وما أرسلناك إلّا رحمة للعالمين. ورسول الشيطان يريد هلاك الخلق كلّهم. قال الله تعالى مخبرا عنه : بعزّتك لأغوينهم أجميعن! إن الذي أعطاهم الدنيا على هواهم قادر أن يعطيهم الآخرة على مناهم.
وحكى إبراهيم الأطروش انّه قال لمعروف : أبا محفوظ ، بلغني أنّك تمشي على الماء! فقال : ما مشيت على الماء ، ولكن إذا هممت بالعبور يجمع لي طرفها.
وحكى خليل الصيّاد قال : غاب ابني إلى الانبار فوجدت أمّه وجدا شديدا ، فذكرت ذلك لمعروف فقال : ما تريد؟ قلت : أن تدعو الله ليردّه علينا. فقال : اللهمّ إن السماء سماؤك والأرض أرضك وما بينهما لك فأت به! قال خليل : أتيت باب الشام فإذا ابني قائم منبهر يقول : الساعة كنت بالانبار.
وحكى محمّد بن صبيح انّه مرّ بمعروف رجل سقّاء ينادي : رحم الله من شرب! فشرب منه وكان صائما وقال : لعلّ الله أن يستجيب منه.
وحكى عبد الله بن سعيد الأنصاري أنّه رأى معروفا في النوم واقفا تحت العرش فيقول الله لملائكته : من هذا؟ فقالت الملائكة : أنت أعلم يا ربّنا ،

هذا معروف الكرخي قد سكر من حبّك لا يفيق إلّا بلقائك!
وحكى أحمد بن أبي الفتح قال : رأيت بشرا الحافي في المنام قاعدا في بستان وبين يديه مائدة يأكل منها ، فقلت : أبا نصر ما فعل الله بك؟ فقال : رحمي وغفر لي وأباحني الجنّة بأسرها وقال : كل من ثمرها ، واشرب من أنهارها ، وتمتّع بجميع ما فيها لما كنت تحرم نفسك شهوات الدنيا! قلت : أين أحمد بن حنبل؟ قال : قائم على باب الجنّة يشفع لأهل السنّة ممّن يقول القرآن كلام الله غير مخلوق! قلت : وما فعل معروف الكرخي؟ فحرّك رأسه وقال : هيهات! حالت بيننا وبينه الحجب ، إن معروفا ما كان يعبد الله شوقا إلى جنّته ولا خوفا من ناره ، وإنّما عبده شوقا إليه ، فرفعه الله إلى الرفيع الأعلى ، ووقعت الحجب بيننا وبينه ، ذاك الترياق المقدس المجرّب ، فمن كانت له إلى الله حاجة فليأت قبره وليدع ، فإنّه يستجاب له.
وحكي انّه قال : إذا متّ تصدّقوا بقميصي فإني أحبّ أن أخرج من الدنيا عريانا كما دخلتها. توفي سنة إحدى ومائتين.
كركان
قرية كانت بقرب قرميسين ؛ قال ابن الفقيه : كانت قرية كثيرة العقارب ، وكان يقوم بها سوق في كلّ سنة يتأذّى بها خلق كثير من لدغ العقارب ، فأمر بعض الأكاسرة بليناس الحكيم أن يدفع عنها العقارب بطلسم ، ففعل ذلك فلم يوجد بعد ذلك بها شيء من العقارب أصلا. ومن أخذ من ترابها وطيّن به حيطان داره في أيّ بلد كان لم ير في داره عقرب ، وإذا لدغت عقرب أحدا يؤخذ من تراب هذه القرية ويطرح في الماء ويشربه الملدوغ فيبرأ في الحال ، ومن أخذ من هذا التراب شيئا وأخذ العقرب بيده لا تضرّه.

كسكر
ناحية بين واسط والبصرة على طرف البطيحة. وهي نيف وثلاثون فرسخا في مثلها. وهذه البطيحة كانت قرى ومزارع في زمن الأكاسرة. وكان لها بثق ، ففي السنة التي قتل فيها كسرى اضطربت الأمور وتقاعدوا عن عمارة البثوق ، وظهر الماء على تلك المواضع فصارت بطيحة ، والآن منابت القصب ومصيد السمك وطير الماء ، يتولّد فيها أشكال من الطيور غريبة وصور غريبة لم يعرفها أحد ، ولا يراها الناس كما قال تعالى : ويخلق ما لا تعلمون. فأسفلها ميسان وأعلاها كسكر ، وربّما فصل المركب في هذه البطيحة شهرا أو أكثر ، وربّما يأخذه اللصوص.
ويجلب من كسكر الرزّ الجيّد والسمك الشبوط والجواميس والفراريج ، والجدي والبطوط والبقر والصحناة والربيثي ، فإن هذه الأشياء بكسكر فاقت أنواعها في غيرها.
كشم
قرية من رستاق بشت من أعمال نيسابور ، كانت بها سروة من غرس كشتاسب الملك ، لم ير مثلها في حسنها وطولها وعظمها ، وكانت من مفاخر خراسان. جرى ذكرها عند المتوكّل فأحبّ أن يراها ولم يقدّر له المسير إلى خراسان ، فكتب إلى طاهر بن عبد الله وأمره بقطعها ، وحمل قطاع جذعها وأغصانها إليه على الجمال لتنصب بين يديه حتى يبصرها ، فأنكر عليه ذلك وخوّف بالطيرة فلم تنفع السروة شفاعة الشافعين ، وحكي ان أهل الناحية اجتمعوا وتضرّعوا وقدّموا مالا على إعفائها ، فلم ينفع فقطعت وعظمت المصيبة لمن حولها ، وارتفع الصياح والبكاء عليها فلفّوها في اللباد وبعثوها إلى بغداد على الجمال ، فقال عليّ بن جهم :


قالوا : سرى لسبيله المتوكّل
 

فالسّرو يجري والمنيّة تنزل
 
ما سربلت إلّا لأنّ إمامنا
 

بالسّيف من أولاده متسربل
 
فقتل المتوكّل على يد مماليكه قبل وصول السرو ، والفأل على ما جرى.
كندر
قرية من قرى خراسان كثيرة الخيرات وافرة الغلّات ، ينسب إليها الوزير أبو نصر الكندري. كان وزيرا ذا رأي وعقل استوزره السلطان طغرلبك السلجوقي. ولمّا ملك الملوك السلجوقية خراسان وأخذوها من ملوك بني سبكتكين ، لم يجسر أحد أن يدخل معهم خوفا من سلاطين بني سبكتكين. فابتدأ أبو نصر الكندري فاستوزره طغرلبك ، وكان قد هجاه أبو الحسن الباخرزي بأبيات أوّلها :
أقبل من كندر مسخرة
 

للشّؤم في وجهه علامات
 
فطلب أبا الحسن وأحسن إليه وولّاه وقال : إني تفاءلت بشعرك ، كان أوله أقبل. إلّا أنّه كان شيعيّا غاليا متعصّبا ، وكان السلطان معتزليّا فأمر بلعن جميع المذاهب يوم الجمعة على المنبر ، فشقّ ذلك على المسلمين ، وفارق إمام الحرمين نيسابور وذهب إلى مكّة ، وكذلك الأستاذ أبو القاسم القشيري ، ودخل على الناس من ذلك أمر عظيم وأثار همّة صلحاء المسلمين. كانت أيّام طغرلبك أيّاما قلائل ، مات وقام مقامه ابن أخيه ألب أرسلان بن داود.
واستوزره نظام الملك الحسن بن عليّ بن إسحق ، وقبض على الكندري وقتله سنة ستّ وخمسين وأربعمائة ، وانقطع لعن المسلمين على رؤوس المنابر ، وعاد أرباب الدين إلى أماكنهم وشكروا الله تعالى.

كنكور
بليدة بين همذان وقرميسين في فضاء واسع ، طيّبة الهواء عذبة الماء صحيحة التربة كثيرة الخيرات والثمرات. ولذلك اتّخذها كسرى ابرويز مسكنا ، وأمر أن يبنى له قصر لا يكون لأحد من الملوك مثله. فاتّخذ للقصر أساسا مائة ذراع في مائة ذراع في ارتفاع عشرين ذراعا ، يراه الناظر كأنّه حجر واحد ، لا يظهر فيه أثر الدرز ، وبنى فيه ايوانات وجواسق وخزائن على اسطوانات حجريّة تحيّر الناظر في صنعته وحسن نقوشه.
قال صاحب عجائب الأخبار : إذا أردت أن ترى عجبا من العجائب فانظر إلى أسطوانات هذا القصر إلى رؤوسها وأسافلها ، وتعجّب من تسخير الحجر الصلد لهؤلاء الصنّاع.
وحكي انّه لمّا حضر عند كسرى فغفور ملك الصين وخاقان ملك الترك وداهر ملك الهند وقيصر ملك الروم أحضرهم في هذا القصر ليبصروا عجائبه وقوّة ملك بانيه ، وصنعة صنّاعه وعجزهم عن بناء مثله.
وذكر أن المسلمين لمّا وصلوا إليها في زمن أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب ، سرقت دوابّهم في ذلك المكان فسمّوه قصر اللصوص. وحكي انّه لمّا قتل كسرى ابرويز بقي من هذا القصر بقيّة ؛ قال الحاكي : نظرت إلى بعض أساطينها تحت أكثرها وهندم ، وبقي أقلّها على حاله ، فسألت عنها فذكروا انّه لمّا قتل ابرويز انصرف الصنّاع عنها وتركوها ثمّ طلبوهم لإتمامها ، فما كانت تعمل آلتهم فيها ، ولا اهتدت فكرتهم إليها ، فعلموا أن تيسير ذلك كان بهمّة كسرى ابرويز.

كوثى
قرية بسواد العراق قديمة. ينسب إليها إبراهيم الخليل ، عليه السلام ، وبها كان مولده وطرح في النار بها ، ولذلك قال أمير المؤمنين عليّ ، رضي الله عنه :من كان سائلا عن نسبنا فإنّا نبط من كوثى.
ومن الاتّفاقات العجيبة اتّفاق عامل كوثى. حكى بعض أهلها : انّه جاءنا عامل واشتدّ في المطالبات ، وكان للعرب عندنا مزارعة ، وكان العمّال الذين قبله يسامحونهم. فهذا العامل طالبهم وأهانهم بالضرب ، فانصرفوا إلى بني أعمامهم شاكين ، وتوافقوا على الكبس على العامل ليلا ، فورد الناحية عامل آخر صارفا للأوّل وطالبا بالبقايا ، فقبض عليه وقيّده وضربه بالخشب وحمله إلى قرية أخرى ، ووكّل به عشرة من الغلمان. فلمّا أصبح المصروف دخل عليه غلامه وقال له :أخرج رجلك حتى أكسر القيد! قال : أين الموكلون؟ قال : هربوا والعرب الذين أخذت منهم الخراج كبسوا البارحة دار العمالة ، وقتلوا العامل على أنّه أنت ، ولم يكن عندهم خبر صرفك. فقام الرجل وورد بغداد وذكر أن العامل الصارف أساء السيرة وأثار فتنة من العرب ، فأقرّ على حاله في الناحية وضمّ إليه جيشا ، فعاد إلى كوثى وأرعب العرب وأرهب ، وصالح ما بينه وبينهم واستقام أمره.
لنبان
قرية من قرى أصفهان ، ينسب إليها الأديب الفاضل البارع عبد العزيز الملقّب بالرفيع ، له أشعار في غاية الحسن وديوان ورسائل. ورد جمال الدين الخجندي قزوين ، وعقد مجلس الوعظ بالجامع ، وذكر هذه الأبيات على المنبر ، وذكر أنّها للرفيع :
بأبي أين أنت ألقاك؟
 

طال شوقي إلى محيّاك!
 



ورد الورد يدّعي سفها
 

أنّ ريّاه مثل ريّاك!
 
ووقاح الأقاح يوهمنا
 

أنّه افترّ عن ثناياك!
 
ضحك الورد هاتها عجلا
 

قهوة مثل عبرة الباك
 
لست أدري لفرط خمرتها
 

أمحيّاك أم حميّاك؟
 
هام قلبي بهذه وبذاك
 

آه من هذه ومن ذاك!
 
فهذه الأبيات حفظها أهل قزوين ، ويقولون هديّة جمال الدين الخجندي من أصفهان.
وحكي أن صدر الدين الخجندي عزل خازن دار كتبه ، فأراد الرفيع اللّنباني أن يكون مكانه ، فكتب إلى صدر الدين : سمع العبد أن خازن دار الكتب اختزل حتى اعتزل ، وخان حتى هان ، ولم يزالوا يحرّفون الكلم عن مواضعه ، ويستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير ، والعبد خير منه زكاة وأقرب رحما! وإن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه إنّا نراك من المحسنين.
وحكي أن الرفيع كان في خدمة الخجندية ، فلمّا وقع الخلاف بين السلطان طغرل وأولاد أتابك محمّد كان صدر الدين الخجندي مع السلطان ، فظفر أمير من أمراء أتابك محمّد بجمع من أصحاب صدر الدين الخجندي ، وكانوا يمشون من أصفهان إلى بغداد ، وعليهم الرفيع ، فظفر بهم قيماز الأتابكي فنهبهم وقتل الرفيع ، فلمّا عرف أنّه كان رجلا فاضلا من أهل العلم ندم ، والرفيع كان قد نظم هذين البيتين :
جون كشته بينم دولت كرده فران
 

واز جان تهي اين قالب برورده بنان
 
بر بالينم نشين ومي كوي بران
 

اي من تو بكشته ونشيمان شده بان
 
فكان الفأل على ما جرى.

ليخواست
قرية من قرى نهاوند. كان بها صورة فرس من حشيش يراه الناس أخضر في الشتاء والصيف ؛ قالوا : انّه كان طلسم الكلأ ، وكانت أكثر بلاد الله كلأ وحشيشا.
ماذران
موضع بأرض قومس ؛ قال مسعر بن مهلهل : بين سمنان والدامغان في بعض الجبال فلجة يخرج منها ريح شديدة في أوقات من السنة ، فلا تصيب حيوانا إلّا أتلفته ، ولو كان مشتملا بالوبر. وهذه الفلجة فرسخ واحد وفتحها نحو أربعمائة ذراع ، ومقدار ما ينال أذاها فرسخان ، لا تأتي على شيء إلّا جعلته كالرميم. يقال لهذه الفلجة وما يقرب منها ماذران ؛ قال مسعر بن مهلهل : كنت مجتازا بها في قفل فيه نحو مائتي إنسان ودواب ، فهبّت علينا الريح فما سلم منهم غيري ورجل آخر. كانت تحتنا دابّتان جيّدتان ، فوافتا بنا ازج صهريج كان في الطريق ، فاستكنّا بالازج وسدرنا ثلاثة أيّام بلياليهن ، ثمّ رجعنا إلى حالنا والدابتان نفقتا ، ومنّ الله علينا بالنجاة.
ماذروستان
موضع على مرحلتين من حلوان ، به ايوان عظيم وبين يديه دكّة عظيمة وأثر بستان يقولون إنّه بستان بهرام بن جور ، زعموا أن الثلج يقع على نصفه الذي من ناحية الجبال ، وأمّا النصف الذي يلي جانب العراق فلا يقع به الثلج أبدا ، والله الموفق.

ماهاباذ
قرية كبيرة قرب قاشان. أهلها شيعة اماميّة ، ينسب إليها الأستاذ الفاضل البارع الحسن بن عليّ بن أحمد ، الملقّب بافضل الماهاباذي. كان بالغا في علم الأدب عديم النظير في زمانه. وكان يقصده الناس من الأطراف للاشتغال.
وكان عنده حلقة من الأدباء ، وكان مخصوصا بلطافة الطبع مع وفور الذكاء وحسن الشعر ، ويوصي تلامذته بتحصيل العلم وتحقير المال. ومن شعره :
يا ساعيا وطلاب المال همّته ،
 

إني أراك ضعيف العقل والدّين!
 
عليك بالعلم لا تطلب به بدلا
 

واعلم بأنّك فيه غير مغبون
 
العلم يجدي ويبقى للفتى أبدا
 

والمال يفنى وإن أجدى إلى حين!
 
هذاك عزّ وذا ذلّ لصاحبه!
 

ماذا من البعد بين العزّ والهون؟
 
ماوشان
كورة من كور همذان في واد بسفح جبل أروند مسيرة أيّام ، كثيرة الأشجار والمياه والثمار ، ذكرها عين القضاة أبو المعالي عبد الله بن محمّد ، رحمه الله ، في رسالته فقال : وكأني بالركب العراقي يوافون همذان ، ويحطون رحالهم في محاني ماوشان ، وقد اخضرّت منها التلاع والوهاد ، وألبسها الربيع حبرة يحسدها عليها البلاد ، وهي تفوح كالمسك أزهارها ، ويجري بالماء الزلال أنهارها ، فنزلوا منها في رياض مؤنقة ، واستظلّوا بظلال أشجار مورقة ، فجعلوا يكرّرون إنشاد هذا البيت ، وهم يتنعمّون بنوح الحمام وتغريد الهزار :
حباك يا همذان الغيث من بلد
 

سقاك يا ماوشان القطر من وادي
 
ومن عادة أهل همذان الخروج إلى ماوشان في الصيف ، وقت إدراك المشمش ،

وأصحاب الأشجار لا يمنعون عنها أحدا ، ويمكثون هناك أيّام المشمش للتفرّج والتنزّه ويأكلون من ثمارها ، ويكسرون من أشجارها ولا يمنعهم مانع ، فإذا انتهت أيّام المشمش رجعوا ؛ وذكر أن صاحب ماوشان منع الناس عنها في بعض السنين ، فلمّا كان من القابل لم تثمر أشجارها شيئا ، فعادوا لإطلاق الناس فيها.
المدائن
كانت سبع مدن من بناء الأكاسرة على طرف دجلة ، وقيل : إنّها من بناء كسرى الخير أنوشروان. سكنها هو وملوك بني ساسان بعده إلى زمن عمر بن الخطّاب ، رضي الله عنه. وإنّما اختار هذا الموضع للطافة هوائه وطيب تربته وعذوبة مائه ؛ قال حمزة : هذا الموضع سمته العرب مدائن لأنّها كانت سبع مدن ، بين كلّ واحدة والأخرى مسافة ، وآثارها إلى الآن باقية وهي : اسفابور ، به اردشير ، هنبو سابور ، دوزبندان ، به از انديو خسرو ، نونياباذ ، كردافاذ.
فلمّا ملك العرب ديار الفرس واختطّت الكوفة والبصرة انتقل الناس إليهما ، ثمّ اختطّ الحجّاج واسطا وكانت دار الامارة فانتقل الناس إليها ، فلمّا اختطّ المنصور بغداد انتقل أكثر الناس إليها. فأمّا في وقتنا هذا فالمسمّى بالمدائن بليدة شبيهة بقرية في الجانب الغربي من دجلة. أهلها فلّاحون شيعة إماميّة. ومن عادتهم أن نساءهم لا يخرجن نهارا أصلا.
وبها مشهد رفيع البناء لأحد العلويّين ، وفي الجانب الشرقي منها مشهد سلمان الفارسي ، رضي الله عنه ، وله موسم في منتصف شعبان ، ومشهد حذيفة ابن اليمان مشير رسول الله ، صلّى الله عليه وسلّم.
وكان للأكاسرة هناك قصر اسمه أبيض ، كان باقيا إلى زمن المكتفي في حدود سنة تسعين ومائتين ، فأمر بنقضه وبنائه التاج الذي بدار الخلافة ببغداد ، وتركوا منه الإيوان المعروف بإيوان كسرى. ذكر أنّه من بناء انوشروان كسرى

الخير ، وانه تعاون على بنائه الملوك وهو من أعظم الأبنية وأعلاها ، والآن قد بقي منه طاق الإيوان وجناحات وازجة قد بنيت بآجرّ طوال عراض.
وحكي أن أنوشروان لمّا أراد بناء هذا القصر أمر بشري ما حوله ، وأرغب الناس في الثمن الوافر ، ومن جملتهم عجوز لها بيت صغير قالت : لست أبيع جوار الملك بالدنيا كلّها! فاستحسن أنوشروان منها هذا القول وأمر بترك ذلك البيت على حاله ، وإحكام عمارته ، وبناء الإيوان محيطا به. وإني رأيت الإيوان ، وفي جانب منه قبّة محكمة العمارة ، يعرفها أهل الناحية بقبّة العجوز. وكان على الإيوان نقوش وصور بالتزاويق ، وصورة مدينة أنطاكية وانوشروان يحاصرها ويحارب أهلها راكبا على فرس أصفر ، وعليه ثياب خضر وبين يديه صفوف الفرس والروم ، وكانت هذه النقوش على الإيوان باقية إلى زمان أبي عبادة البحتري ، فإنّه شاهدها وذكرها في قصيدته السينية :
حضرت رحلي الهموم فوجّه
 

ت إلى أبيض المدائن عنسي
 
أتسلّى عن الخطوب وآسى
 

لمحلّ من آل ساسان درس
 
حلل لم تكن كأطلال سعدى
 

في قفار من البسابس ملس
 
لو تراه علمت أنّ اللّيالي
 

جعلت فيه مأتما بعد عرس
 
فإذا ما رأيت صورة أنطا
 

كيّة ارتعت بين روم وفرس
 
والمنايا مواثل وأنوشر
 

وان يزجي الصّفوف تحت الدّرفس
 
في اخضرار من اللّباس على اص
 

فر يختال في صبيغة ورس
 
وعراك الرّجال بين يديه
 

في خفوت منهم وإغماض جرس
 
من مشيح يهوي بعامل رمح
 

ومليح من السّنان بترس
 
تصف العين أنّهم جدّ أحياء
 

لهم بينهم إشارة خرس
 
وكأنّ الإيوان من عجب الصّن
 

عة جوب في جنب أرعن جلس
 



لم يعبه أن بزّ من بسط الدّيبا
 

ج واستلّ من ستور الدّمقس
 
مشمخرّ تعلو له شرفات
 

رفعت من رؤوس رضوى وقدس
 
وحكي أن غلمان الدار شكوا إلى أنوشروان وقالوا : إن العجوز تدخن في بيتها ، ودخانها يفسد نقوش الإيوان! فقال : كلّما أفسدت أصلحوها ولا تمنعوها من التدخين!
وكان للعجوز بقرة تأتيها آخر النهار لتحلبها ، فإذا وصلت إلى الإيوان طووا فرشه لتمشي البقرة إلى باب قبّة العجوز ، فإذا فرغت من حلبها رجعت البقرة وسوّوا البساط. وكان هذا مذهبهم في العدل والرفق بالرعايا ، ولولا مخالفة النبوة التي شرفها الله تعالى وشرف بها عباده ، كانت معدلتهم تقتضي دوام دولتهم.
مرو الرّوذ
ناحية بين الغور وغزنة واسعة. ينسب إليها القاضي الإمام العالم الفاضل حسين المروروذي عديم النظير في العلم والورع :
عقرت حوامل أن يلدن نظيره
 

إنّ النّساء بمثله عقم
 
حكي أن رجلا جاء القاضي حسينا وقال له : إني حلفت بالطلاق ثلاثا ان ليس في هذا الزمان أعلم منك! فماذا تقول وقع طلاقي أم لا؟ فأطرق رأسه ساعة ثمّ رفع رأسه وبكى وقال : يا هذا لا يقع طلاقك ، وإنّما ذلك لعدم الرجال لا لوفور علمي!

مرو
من أشهر مدن خراسان وأقدمها وأكثرها خيرا ، وأحسنها منظرا وأطيبها مخبرا. بناها ذو القرنين ، وقهندزها أقدم منها. قيل : إنّه من بناء طهمورث. وروى بريدة بن الحصيب أن رسول الله ، صلّى الله عليه وسلّم ، قال : يا بريدة إنّه ستبعث من بعدي بعوث ، فإذا بعثت فكن في بعث المشرق ثم في بعث خراسان ثمّ في بعث أرض يقال لها مرو ، فإذا أتيتها فانزل مدينتها فإنّه بناها ذو القرنين وصلّى فيها عزيز ، وأنهارها تجري بالبركة ، على كلّ نقب منها ملك شاهر سيفه يدفع عن أهله السوء إلى يوم القيامة. فقدمها بريدة غازيا وأقام بها إلى أن مات.
حكي أن قهندزها عمارة عظيمة ، ولمّا أراد طهمورث الملك بناء قهندز مرو بني بألف رجل ، وأقام لها سوقا فيه ما يحتاجون إليه ، فكان إذا أمسى الرجل أعطي درهما فيشتري به ما يحتاج إليه فتعود الدراهم إلى أصحاب الملك ، حتى إذا تمّ لم يخرج على البناء إلّا ألف درهم.
وحكى أبو إسحق الطالقاني قال : كنت على الزربق في مسجد العرب عند عبد الله بن المبارك ، فانهار ركن من القهندز ، فسقطت منها جماجم ، فتناثرت من جمجمة أسنانها ، فوزنت سنّان منها فكان في كلّ واحدة منهما منوان ، فجعل عبد الله بن المبارك ينقلهما بيده ويتعجّب منهما ويقول : إذا كانت هذه سنّهم فكيف تكون بقيّة أعضائهم؟ وقال :
أتيت بسنّين قد قدما
 

من الحصن لمّا أثاروا الدّفينا
 
على وزن منوين إحداهما
 

لقد كان يا صاح سنّا رزينا
 
ثلاثون أخرى على قدرها
 

تباركت يا أحسن الخالقينا
 
فماذا يقوم بأفواهها
 

وما كان يملأ تلك البطونا؟
 
إذا ما تذكّرت أجسامهم
 

تصاغرت النّفس حتى تهونا
 



فكلّ على ذاك لاقى الرّدى
 

فبادوا جميعا وهم خامدونا
 
وأمّا المدينة فطيّبة كثيرة الخيرات وافرة الغلّات. في أهلها من الرفق ولين الجانب وحسن المعاشرة. وكانت كرسي ملك بني سلجوق لهم بها آثار خيرات ؛ حكى صاحب عجائب الأخبار انّه كان بمرو بيت كبير ، ارتفاعه قدر قامة ، وكان محمولا على صور أربع من الخشب في جوانبه الأربعة ، وكانت الصور تمثال رجلين وامرأتين ، فزعم قوم أن ذلك البيت بيت ملكهم ، فنقضوه وانتفعوا بأخشابه ، فأصاب مرو وقراها جوائح وآفات وقحط متواتر ، فعلموا أن ذلك البيت كان طلسما لدفع الآفات. وليس لهذه المدينة عيب إلّا ما يعتري أهلها من العرق المديني ، فإنّهم في شدّة عظيمة منه ، قلّ ما ينجو منهم أحد في كلّ عام.
ينسب إليها عبد الله بن المبارك الإمام العالم العابد ؛ حكي انّه كان بمرو قاض اسمه نوح بن مريم ، وكان رئيسها أيضا ، وكانت له بنت ذات جمال خطبها جماعة من الأعيان والأكابر ، وكان له غلام هندي ينطر بستانه ، فذهب القاضي يوما إلى البستان وطلب من غلامه شيئا من العنب ، فأتى بعنب حامض فقال له :هات عنبا حلوا! فأتى بحامض فقال له القاضي : ويحك! ما تعرف الحلو من الحامض؟ فقال : بلى ولكنّك أمرتني بحفظها وما أمرتني بأكلها ، ومن لم يأكل لم يعرف. فتعجّب القاضي من كلامه وقال : حفظ الله عليك أمانتك! وزوّج ابنته منه فولدت عبد الله بن المبارك المشهور بالعلم والورع. كان يحجّ في سنة ويغزو في أخرى.
وحكي انّه كان معاصرا لفضيل بن عياض ، وفضيل قد جاور مكّة وواظب على العبادة بمكّة والمدينة ، فقال عبد الله بن المبارك :
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا
 

لعلمت أنّك بالعبادة تلعب
 
من كان يخضب خدّه بدمائه
 

فنحورنا بدمائنا تتخضّب
 



وغبار خيل الله لّه في أنف امرىء
 

ودخان نار جهنّم لا يذهب
 
هذا كتاب الله يحكم بيننا
 

ليس الشّهيد كغيره ، لا تكذبوا
 
حكي عنه قال : خرجت للغزوة ، فلمّا تراءت الفتيان خرج من صفّ الترك فارس يدعو إلى البراز ، فخرجت إليه فإذا قد دخل وقت الصلاة ، قلت له : تنحّ عني حتى أصلّي ثمّ افرغ لك! فتنحّى فصلّيت ركعتين وذهبت إليه فقال لي :تنحّ عني حتى أصلّي أنا أيضا! فتنحّيت عنه ، فجعل يصلّي للشمس ، فلمّا خرّ ساجدا هممت أن أغدر به فإذا قائل يقول : اوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا. فتركت الغدر. فلمّا فرغ من صلاته قال لي : لم تحرّكت؟ قلت :أردت أن أغدر بك! فقال : لم تركته؟ قلت : لأني أمرت بتركه. قال : الذي أمرك بترك الغدر أمرني بالإيمان. وآمن والتحق بصفّ المسلمين.
وحكى الحسن بن الربيع انّه خرج ذات سنة مع جيوش المسلمين إلى الغزوة ، فلمّا تقاتل الصفّان خرج من صفّ الكفّار فارس يطلب القرن ، فذهب إليه فارس من المسلمين ، فما أمهل المسلم حتى قتله! فخرج إليه آخر فما أمهله حتى قتله ، ثمّ آخر فما أمهله ، فأحجم الناس عن مبادرته ودخل المسلمين منه حزن.
فإذا فارس خرج إليه من صفّ المسلمين وجال معه زمانا ثمّ رماه وحز رأسه ، فكبّر المسلمون وفرحوا ولم يكن يعرفه أحد ، فعاد إلى مكانه ودخل في غمار الناس! قال الحسن : فبذلت جهدي حتى دنوت منه وحلفته أن يرفع لثامه ، فإذا هو عبد الله بن المبارك ، فقلت له : يا إمام المسلمين كيف أخفيت نفسك مع هذا الفتح الذي يسر الله على يدك؟ فقال : الذي فعلت له لا يخفى عليه.
وحكي أن عبد الله بن المبارك عاد من مرو إلى الشام لعلم رآه معه بمرو صاحبه بالشام. ورئي سفيان الثوري في المنام بعد موته فقيل له : ما فعل الله بك؟ قال :رحمني! فقيل : ما حال عبد الله بن المبارك؟ قال : هو ممّن يدخل على ربّه كلّ يوم مرّتين. ولد سنة مائة وعشرين ، وتوفي سنة مائة وإحدى وثمانين.

وينسب إليها أبو زيد المروزي ، أستاذ أبي بكر القفّال المروزي ، حجّ سنة فعادله أبو بكر البزّاز النيسابوري من نيسابور إلى مكّة. قال : ما علمت أن الملك كتب عليك خطيئة. قال أبو زيد : فلمّا فرغت من الحجّ وعزمت الرجوع إلى خراسان قلت في نفسي : متى تنقطع هذه المسافة وقد طعنت في السنّ ، لا أحتمل مشقّتها! فرأيت النبيّ ، صلّى الله عليه وسلّم ، قاعدا في صحن المسجد الحرام ، وعن يمينه شابّ ، قلت : يا رسول الله عزمت على الرجوع إلى خراسان والمسافة بعيدة. فالتفت النبيّ ، عليه السلام ، إلى الشاب الذي بجنبه وقال : يا روح الله تصحبه إلى وطنه ؛ قال أبو زيد : فأريت انّه جبريل فانصرفت إلى مرو ، ولم أحسّ بشيء من مشقّة السفر.
وينسب إليها أبو بكر عبد الله بن أحمد بن عبد الله القفّال المروزي. كان وحيد زمانه فقها وعلما. رحل إليه الناس وصنّف كتبا كثيرة ، وانتشر علمه في الآفاق. حكي أن القفّال الشاشي صنع قفلا وفراشة ومفتاحا وزنها دانق ، فأعجب الناس ذلك وسار ذكره في البلاد ، فسمع به القفّال المروزي فصنع قفلا وزنه طسوج ، فاستحسنه الناس ولكن ما شاع ذكره ، فقال ذات يوم : كلّ شيء يحتاج إلى الحظّ! قفل الشاشي طنّت به البلاد ، وقفلي بقدر ربعه ما يذكره أحد! فقال له صديق له : إنّما الشاشي شاع بعلمه لا بقفله. فعند ذلك رغب في العلم ، وهو ابن أربعين سنة ، فجدّ في طلب العلم حتى وصل إلى ما وصل وعاش تسعين سنة : أربعين سنة قفّالا وخمسين سنة عالما ومتعلّما. ومات سنة سبع عشرة وأربعمائة. وينسب إليها أبو الحرث سريج المروزي. كان شيخا صالحا صدوقا.
جاء له ولد فذهب إلى بقّال بثلاثة دراهم : يريد بدرهم عسلا ، وبدرهم سمنا ، وبدرهم سويقا. فقال البقّال : ما عندي من ذلك شيء ، لكن احصله لك في الغد.
فقال للبقّال : فتّش لعلّك تجد قليلا! قال : فمشيت فوجدت البراني والجرار مملوءة ، فأعطيته منها شيئا كثيرا. فقال : أو ليس قلت ما عندي شيء منها؟قلت له : خذ واسكت. فقال : لا آخذ حتى تصدقني. فأخبره بالحال فقال :

لا تحدث به ما دمت حيّا.
وحكى أبو الحرث قال : رأيت في المنام كأنّ الناس وقوف بين يدي الله تعالى صفوفا ، وأنا في الصفّ الأخير ونحن ننظر إلى ربّ العزّة فقال : أي شيء تريدون أصنع بكم؟ فسكت الناس. قال أبو الحرث : فقلت في نفسي : ويحهم! قد أعطاهم كلّ ذا من نفسه وهم سكوت! فجعلت أمشي حتى جزت الصفوف إلى الأوّل فقال لي : أيّ شيء تريد؟ فقلت : يا رحمن إن أردت أن تعذّبنا فلم خلقتنا؟ فقال : خلقتكم ولا أعذبكم أبدا. ثمّ غاب في السماء.
المشان
بليدة قريبة من البصرة كثيرة التمر والفواكه. وجرى المثل فيها بعلّة الورشان تأكل رطب المشان ، قيل : ان بعض الملوك مرض فأمره الأطباء بلحم الورشان ، فأمر أن لا يمنع من يطلب له الوراشين في البساتين من النخيل ، وكان طالب الوراشين يمدّ يده إلى الاعذاق ، فقالوا : بعلّة الورشان تأكل رطب المشان ، وهي وخمة جدّا ، وممّا يحكي العوامّ : قيل للملك الموت أين نجدك؟ قال : عند قنطرة حلوان. قيل : فإن لم نجدك؟ قال : لا أبرح عن مشرعة المشان.
وإذا سخط ببغداد على أحد من أهل الفساد ينفى إلى المشان ، ليتأدب بالغربة ووخامة الهواء وملوحة الماء وكثرة المرض.
وينسب إليها أبو محمّد القاسم بن عليّ الحريري صاحب المقامات الحريريّة التي هي من الأعاجيب. ومن عجيب ما حكي عنه انّه كان مشغوفا بنتف اللحية ، وهو مرض من غلبة السوداء ، فوكل به شخص يمنعه من ذلك. فلمّا عرض المقامات على الوزير ، وأعجب الوزير صنعته ، سأله عن حاجته فقال :ملّكني لحيتي!

المطيرة
من قرى سامرّا أشبه أرض الله بالجنان من لطافة الهواء وعذوبة الماء وطيب التربة وكثرة الرياحين. وهي من متنزهات بغداد يأتيها أهل الخلاعة. وصفها بعض الشعراء فقال :
سقيا ورعيا للمطيرة موضعا!
 

أنوارها الخيريّ والمنشور
 
فيها البهار معانقا لبنفسج
 

فكأنّ ذلك زائر ومزور
 
وكأنّ نرجسه عيون كحلها
 

بالزّعفران ، جفونها الكافور
 
تحيا النّفوس بطيبها فكأنّها
 

وصل الحبيب يناله المهجور
 
الموصل
المدينة العظيمة المشهورة التي هي إحدى قواعد بلاد الإسلام ، رفيعة البناء ووسيعة الرقعة محطّ رحال الركبان. استحدثها راوند بن بيوراسف الازدهاق على طرف دجلة بالجانب الغربي. والآن لها سور وفصيل وخندق عميق وقهندز ، وحواليها بساتين. وهواؤها طيّب في الربيع ، أمّا في الصيف فأشبه شيء بالجحيم! فإن المدينة حجريّة جصّية تؤثر فيها حرارة الصيف ، تبقى كالشاخورة ، وخريفها كثير الحمّى تكون سنة سليمة والأخرى موبئة ، يموت فيها ما شاء الله. وشتاؤها كالزمهرير.
بها أبنية حسنة وقصور طيّبة على طرف دجلة. وفي نفس المدينة مشهد جرجيس النبيّ ، عليه السلام. وفي الجانب الشرقي منها تلّ التوبة ، وهو التلّ الذي اجتمع عليه قوم يونس لمّا عاينوا العذاب ، وتابوا وآمنوا فكشف الله تعالى عنهم العذاب. وعلى التلّ مشهد مقصود يقصده الناس كلّ ليلة جمعة وينذر له النذور.
وبها بساتين نزهة. وفيها جواسق في غاية الحسن والطيب. وأهل الموصل

انتفعوا بدجلة انتفاعا كثيرا مثل شقّ القناة منها ، ونصب النواعير على الماء يديرها الماء بنفسه ، ونصب العربات وهي الطواحين التي يديرها الماء في وسط دجلة في سفينة ، وتنقل من موضع إلى موضع ، وفي الجانب الشرقي عند انتقاص الماء يبقى على طرف دجلة ضحضاح على أرض ذات حصباء. يتّخذ الناس عليها سررا وقبابا من القصب في وسط الماء ، يسمّونها السواريق ويبيتون فيها ليالي الصيف. يكون هواؤها في غاية الطيب ، وإذا نقص الماء وظهرت الأرض زرعوا بها القثاء والخيار ، فتكون حول القباب مقثاة ويبقى ذلك إلى أوّل الشتاء.
وأهلها أهل الخير والمروءة والطباع اللطيفة في المعاشرة والظرافة ، والتدقيق في الصناعات ، وما فيهم إلّا من يحبّ المختطين ؛ قال الشاعر :
كتب العذار على صحيفة خدّه
 

سطرا يلوح لناظر المتأمّل
 
بالغت في استخراجه فوجدته
 

لا رأي إلّا رأي أهل الموصل
 
ينسب إليها جمال الدين الموصلي. كان من كرام الدنيا ، أصله من أصفهان.
توزّر من صاحب الموصل ، وكان يعطي أكثر من عبر الموصل ، فعرف الناس أن عنده علم الكيمياء ، وكلّ من سأله أعطاه. وحكي أنّ رجلا صوفيّا قال له :أنت الجمال الموصلي؟ قال : نعم. قال : اعطني شيئا! قال له : سل ما شئت.
فنزع طرطوره وقال : املأ هذا دراهم! فقال : اتركه عندي وارجع غدا خذه! فتركه عنده ، فلمّا عاد أعطاه إيّاه مملوءا من الدراهم ، فأخذه وخرج ثمّ عاد وقال :ما لي إلى هذا حاجة ، وإنّما أردت أن أجرّبك هل أنت أهل لهذه الصنعة أم لا ، فعرفت أنّك أهل ، وأنت ما تعرف إلّا عمل الفضّة ، أريد أن أعلّمك عمل الذهب أيضا. فعلّمه وذهب.
وحكي انّه استأذن من الخليفة أن يلبس الكعبة في بعض السنين ، فأذن له فأخذ للكعبة لباسا أخضر ، ونثر على الكعبة مالا كثيرا ، وأعطى أهل مكّة وضعفاء الحاجّ أموالا وسار ذكره في الآفاق.

وحكي أنّه كان بينه وبين بعض الأمراء صداقة ، فتعاهدا على أن من مات منهما أوّلا فصاحبه يحمله إلى البقيع ، فمات الجمال الموصلي أوّلا في سنة خمسين وخمسمائة. فاشترى ذلك الأمير جمالا كثيرة. وعيّن قوما من الصلحاء وأقواما من المقرئين ، وأموالا للصدقة عنه في كلّ منزل ، وقال : الجمال الموصلي لا يبعث إلى البقيع إلّا هكذا. ودفنه بالبقيع بهذا الاحترام.
وينسب إليها الشيخ كمال الدين بن يونس. كان جامعا لفنون العلوم عديم النظير في زمانه. في أيّ باحثته فكأنّه صاحب ذلك الفنّ من المنقول والمعقول.
وأمّا فنّ الرياضيّات فكان فيه منفردا. ومن عجيب ما رأيت منه أن الفرنج في زمن الملك الكامل بعثوا إلى الشام مسائل أرادوا جوابها : منها طبيّة ، ومنها حكميّة ، ومنها رياضيّة. أمّا الطبيّة والحكميّة فأجاب عنها أهل الشام ، والهندسيّة عجزوا عنها. والملك الكامل أراد أن يبعث جواب الكلّ ، فبعثوا إلى الموصل إلى المفضّل ابن عمر الأبهري أستاذنا ، وكان عديم النظير في علم الهندسة ، فأشكل الجواب عليه ، فعرضه على الشيخ ابن يونس ، فتفكّر فيه وأجاب عنه ، والمسألة هذه نريد أن تبيّن قوسا أخرجنا لها وترا ، والوتر أخرج من الدائرة عملنا عليه مربعا ، تكون مساحة المقوّس كمساحة المربع. هذه صورتها : فكتب برهانه المفضل وجعل رسالة بعث بها إلى الشام إلى الملك الكامل ، فلمّا مشيت إلى الشام رأيت فضلاء الشام يتعجّبون من تلك الرسالة ، ويثنون على استخراج ذلك البرهان ، فإنّه كان نادر الزمان.
وينسب إليها الشيخ فتح الموصلي. كان الغالب عليه الخوف والبكاء ، وفي أكثر أوقاته كان باكيا. فلمّا توفي رئي في المنام ، قيل له : ما فعل الله بك؟قال : أوقفني بين يديه وقال : ما الذي أبكاك؟ فقلت : يا ربّ الخجالة من ذنوبي! فقال : وعزّتي وجلالي ، أمرت ملك الذنوب أن لا يكتب عليك أربعين سنة لبكائك من هيبتي!

ميسان
كورة كثيرة القرى والنخيل بين البصرة وواسط ، أهلها شيعة طغاة ، بها مشهد عزيز النبي ، عليه السلام ، مشهور معمور يقوم بخدمته اليهود ، وعليه وقوف وتأتيه النذور.
وحكي أن النعمان بن عديّ كان من صلحاء الصحابة من مهاجرة الحبشة ، وكان عمر بن الخطّاب يولّي أحدا من بني النعمان لصلاحة ميسان ، فأراد النعمان أن يخرج معه زوجته فأبت ، فكتب النعمان إليها من ميسان ما يحرّضها على المجيء إلى زوجها :
ألا هل أتى الحسناء أنّ حليلها
 

بميسان يسقى من زجاج وحنتم؟
 
إذا شئت عنّيني دهاقين قرية
 

وصنّاجة يجثو على حرف ميسم
 
فإن كنت ندماني فبالأكبر اسقني
 

ولا تسقني بالأصغر المتثلّم
 
لعلّ أمير المؤمنين يسوءه
 

ينادمنا في الجوسق المتهدّم!
 
فبلغ ذلك عمر بن الخطّاب فكتب إليه : أمّا بعد فقد بلغني قولك لعلّ أمير المؤمنين يسوءه. وايم الله قد ساءني وعزلتك! فلمّا قدم وسأله عن ذلك قال : والله ما كان من ذلك شيء وما شربتها قطّ ، وإنّما كان ذلك فضل شعر! فقال عمر : أظنّ ذلك لكن لا تعمل لي عملا قطّ.
ناووس الظّبية
موضع بقرب همذان ؛ وقال ابن الفقيه : هذا الموضع عند قصر بهرام جور ، وهو على تلّ مشرف حوله عيون كثيرة وأنهار غزيرة ، ومن حديثه : انّه خرج بهرام جور ، وهو أحد الأكاسرة ، متصيّدا ، وكان حاذقا بالرمي ، وأخرج معه جارية من أحظى جواريه. فعنّ له سرب ظباء فقال لها : كيف تريدين أن أرمي

ظبية منها؟ فقالت : أريد أن تلصق ظلفها بأذنها! فتحيّر بهرام وقال في نفسه :إن لم أفعل قيل انّه شهّى جارية ولم يف بها. فأخذ الجلاهق وعيّن ظبية فرماها ببندقية فأصاب أذنها ، فرفعت رجلها تحكّ بها أذنها ، فانتزع سهما فرماها فخاط به ظلفها بأذنها ، ثمّ قتل الجارية ودفنها مع الظبية في ناووس واحد ، وبنى عليهما علما من حجارة وكتب عليها قصّتها وقال : إنّما قتلت الجارية لأنها قصدت تعجيزي وكادت تفضحني! قال ابن الفقيه : والموضع معروف إلى وقتنا بناووس الظبية.
نسا
مدينة بخراسان بقرب سرخس وابيورد ، بناها فيروز بن يزدجرد أحد الأكاسرة. وكان يقال لها شهر فيروز ، وهي مدينة طيّبة كثيرة الأنهار والأشجار إلّا أنّها وبئة ويكثر بها العرق المديني ، حتى انه في الصيف قلّ من ينجو منه.
بها رباط بناه رئيسها عماد الدين حمزة النّسوي ، وهو رباط عظيم خارج المدينة بين الباغات ، ليس في شيء من البلاد مثله في عظم العمارة وكثرة الخير.
حكي عنه انّه قال : كنت على عزم أن أبني موضعا لأهل الخير متردّدا في أن أجعله مدرسة أو خانقاها ، حتى رأيت في نومي أن قائلا يقول : من آتاه الله روحا فأعطه الخير! فأمر بعمارة بناء عظيم للفقهاء موضعا ، وللصوفية موضعا ، وللقدرية موضعا ، وللعلويين موضعا ، وللقفل السابلة موضعا ، ولدوابّهم موضعا.
وأجرى الخبز والمأكول على كلّ من له روح ، وجعل فيها حمّامات ولها بساتين. واشترى لها مماليك برسم الفرش والخدمة والطبخ وفلاحة البساتين ، فكلّ من نزل بها يمشي إلى مكانه ويقوم القوّام بخدمته. ولها قرّاء ومغنّون ، ولا تزال قدورها على النار ، فربّما نزل بهم قفل عظيم أو جيش كثيف ، فأخرجوا وظائفهم حتى لدوابهم وكلابهم. ومن أراد من أهل المدينة خرج إليها وتفرّج في بساتينها ، واستحمّ في حمامها وتغدى أو تعشّى فيها وعاد إلى مكانه.

وكان الأمر على ذلك إلى ورود التتر. والآن سألت بعض فقهاء خراسان عنها فذكر انّه بقي منها بقيّة.
نخشب
مدينة مشهورة بأرض خراسان. منها الأولياء والحكماء ، ينسب إليها الحكيم ابن المقفّع الذي أنشأ بنخشب بئرا يصعد منها قمر يراه الناس مثل القمر ، واشتهر ذلك في الآفاق ، والناس يقصدون نخشب لرؤيته ويتعجّبون منه ، وعوامّ الناس يحسبونه سحرا ، وما كان إلّا بطريق الهندسة وانعكاس شعاع القمر ، لأنّهم وجدوا في قعر البئر طاسا كبيرا مملوءا زئبقا ، وفي الجملة قد اهتدى إلى أمر عجيب سار في الآفاق ، واشتهر حتى ذكره الناس في الأشعار والأمثال ، وبقي ذكره بين الناس.
وينسب إليها أبو تراب عسكر بن الحصين النخشبي ، صاحب حاتم الأصمّ.
كان يقول : بيني وبين الله عهد أن لا أمدّ يدي إلى حرام إلّا وقد قصرت عنه ؛ حكي انّه دخل بادية البصرة يريد مكّة ، فسئل عن أكله بمكّة فقال : خرجت من البصرة فأكلت بالنباج ثمّ بذات عرق ومن ذات عرق إليك.
وحكي عنه انّه قال : كنت في بعض أسفاري فاشتهيت الخبز السميد مع بيض الدجاج ، فعدلت عن طريقي وقصدت قرية لتحصيل ذاك ، فإذا أنا في الطريق إذ تعلّق بي شخص وقال : هذا لصّ قاطع الطريق ، أخذ مني متاعي في الطريق! فحملوني إلى رئيس القرية فضربني سبعين خشبة ، فإذا رجل منهم عرفني وقال : هذا أبو تراب النخشبي ، ليس من شأنه ما تدّعون عليه ، فنزعني من يدهم وأدخلني بيته ، وجعل بين يديّ الخبز السميد وبيض الدجاج ، فقلت لنفسي : خذ شهوتك مع سبعين خشبة! وتبت أن أشتهي بعد ذلك. توفي سنة خمس وأربعين ومائتين.

نصراباذ
من قرى خراسان ، ينسب إليها أبو القاسم إبراهيم بن محمّد النصراباذي ، من مشايخ خراسان. صحب الشبلي وأبا علي الروذباري والمرتعش. حجّ ستّين حجّة ، قال : فلمّا تممت الستّين أراد الشيطان أن يلقي إليّ شيئا من العجب ، فقال : من مثلك وقد حججت ستّين حجّة؟ فقام على ملإ من الناس ونادى : أيّها الناس من عرفني فقد عرفني ، ومن لم يعرفني فأنا أبو القاسم النصراباذي ، حججت ستّين حجّة ، من يشتري ثوابها برغيفين؟ فقام واحد وقال : خذ ثمنها يا أبا القاسم. فأخذ منه ورماهما إلى كلب ، فسمع هاتف يقول : غفرنا لك يا أبا القاسم وأثبتنا ثواب الحجّ لك ولمن اشتراها ، وقبلنا حجّ كلّ من حجّ في هذه السنة لأجلك!
جاور مكّة سنة ستّ وثلاثين وثلاثمائة. وتوفي بها سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة.
نصيبين
مدينة عامرة من بلاد الجزيرة بقرب سنجار. وهي كثيرة المياه والأشجار والبساتين ، مسوّرة ولها قهندز. ذكر أن لها ولقراها أربعين ألف بستان ، ظاهرها في غاية النزاهة وباطنها يضادّ ظاهرها. وهي وخمة لكثرة مياهها وأشجارها مضرّة سيّما بالغرباء ، فإنّه قلّما تخطىء سهامها في الغرباء. وحكي أن بعض التجّار أراد دخول نصيبين ، وكان به عقابيل المرض وصفرة اللون ، فتمسّك بكمّه بعض ظرفاء نصيبين وقال : ما أخليك تدخل حتى تشهد على نفسك شاهدين عدلين انّك ما دخلت نصيبين إلّا على هذه الصفة ، كيلا يقال امرضته نصيبين!
وروي عن رسول الله ، صلّى الله عليه وسلّم ، انّه قال : رفعت لي ليلة أسري بي مدينة فأعجبتني فقلت لجبريل : ما هذه المدينة؟ فقال : نصيبين. قلت :اللهم عجل فتحها واجعل فيها بركة للمسلمين!

ومن خاصّية نصيبين أنّها لا تقبل العدل البتّة بل سوق الظلم بها قائم ، ولو كان واليها كسرى الخير ، ولهذا قال بعض الشعراء :
نصيب نصيبين من ربّها
 

ولاية كلّ ظلوم غشوم!
 
فباطنها منهم في لظى
 

وظاهرها من جنان النّعيم!
 
وعقارب نصيبين ممّا يضرب بها المثل ؛ حكى أحمد بن الطيّب السرخسي أن أنوشروان حاصر نصيبين ، فامتنع أهلها ولم يستطع فتحها ، فأشار إليه بعض الحكماء ان يحمل عقارب طيرانشاه ، وهي قرية من أعمال شهرزور كثيرة العقارب ، في جرار ، وتحمل إلى نصيبين وترمى إليها بالعرّادة ، ففعل ذلك فانتشرت العقارب في جميع المدينة ، ولدغت أهلها فأصابوا منها بلاء عظيما وتقاعدوا عن القتال ففتحها أنوشروان ، وذلك أصل عقارب نصيبين.
وحكي أن عامل معاوية بنصيبين كتب إلى معاوية أن جماعة كثيرة من المسلمين الذين كانوا معه أصيبوا بالعقارب ، فكتب إليه معاوية يأمره أن يوظّف على كلّ أهل خير من المدّة عدّة عقارب في كلّ ليلة ، ففعل ذلك ، فهم يأتون بها وهو يأمر بقتلها حتى قلّت.
نضيراباذ
قرية من قرى قزوين قريبة منها ، كثيرة الخيرات والغلّات ، وكانت ملكا لفخر المعالي بن نظام الملك. وكان شيخ القرية رجلا ظريفا وفخر المعالي أيضا كذلك ، كانا يتظارفان ؛ حكي أن شيخ القرية دخل على فخر المعالي فوجده يسرّح لحيته بمشط فقال : أيّها المولى ، لم تسرّح اللحية؟ فقال : لأنّه يزيل الغمّ. فقال : من كان له غمّ يسرّح لحيته فيزول غمّه؟ قال : نعم ، فقد اتّفق انّه جاء ذات مرّة عسكر وأكلوا زرع القرية ونهبوها ، فجاء شيخ القرية إلى فخر المعالي وقال : احضر المشط! قال : لم؟ قال : حتى أقول أنا وتسرّح أنت

فإني جئت بغمّ كثير.
وحكي أنه استقرض شيخ القرية من فخر المعالي شيئا من الحنطة ، فقال فخر المعالي : ابعث إليك. فبعث إليه أحمالا من البعر! فلمّا كان وقت النيروز وعادتهم ان الاكرة يحملون إلى الدهخدا هدايا ، من جملتها سلال فيها أقراص مدهونة وكليجات وجرادق ، فبعث شيخ القرية في السلال أقراصا من السرجين ، فلمّا رآها فخر المعالي غضب. قال له شيخ القرية : يا مولاي ، لا تغضب ، انها من الحنطة التي بعثتها إليّ! ولهم مثل هذا تظارف كثيرة يعرفها أهل قزوين وبهذا مقنع.
النّعمانيّة
بليدة بين بغداد وواسط ، كثيرة الخيرات وافرة الغلّات ، ولها قرى ورساتيق. بناها النعمان بن المنذر بن قيس بن ماء السماء. سكنها زمانا رافىء الحال فارغ البال في أيّام الأكاسرة إلى أن قضى الله تعالى ما شاء.
وصلت ذات مرّة إليها فنزلت في جامعها ، فاجتمع علينا من النمل الكبير الأسود شيء كثير ، فقال بعض أهلها : نصف البلد هكذا ، والنصف الآخر لا يوجد فيه شيء منها.
وحكي أن النعمان كان له صاحبان : أحدهما عديّ بن يزيد العبادي. والآخر الربيع بن زياد. والربيع كان أقرب إليه حتى كان يأكل معه في قصعة واحدة ، فحسدهما الحاسدون. أمّا الربيع فرموه بالبرص لأن النعمان كان شديد التنفّر من البرص. كتبوا إليه : يا ابن الملوك السادة الهبنقعه ، الضاربين الهام تحت الخيضعه ، مهلا أبيت اللعن لا تأكل معه! ان استه من برص ملمّعه ، وانّه يدخل فيه إصبعه. كأنّه يطلب شيئا ضيّعه! فأبعده النعمان وتنفّر منه أشدّ التنفّر ، فقال الربيع : أبيت اللعن! لا تسمع كلام الأعداء وقل لمن يبصرني ويجرّبني! فقال النعمان :


شرّد برجلك عنّا حيث شئت
 

ولا تكثر عليّ ودع عنك الأقاويلا
 
فقد رميت بداء لست غاسله
 

ما جاوز النّيل يوما شطّ ابلبلا
 
قد قيل ذلك إن حقّا وإن كذبا
 

فما اعتذارك عن قول إذا قيلا؟
 
وأمّا عديّ بن زيد فقد سعوا به حتى أبعده النعمان ، وكان ابنه زيد بن عديّ كاتبا لكسرى في المكاتبات العربيّة ، فذكر لكسرى حبس أبيه ، فبعث كسرى إلى النعمان يأمره بالإفراج ، فلمّا وصل الرسول بعث عديّ إلى الرسول يقول :أبصرني قبل أن تمشي إلى النعمان حتى لا يقول النعمان انّه مات! فقال الرسول :أخاف من مؤاخذة كسرى ، فإنّه ما بعثني إلّا إلى النعمان. فلمّا أدّى الرسول الرسالة قال النعمان : عدي من زمان مات! وأمر بقتله.
وعرف الحال زيد بن عدي فطلب فرصة لينتقم من النعمان ، وكان كسرى مشغوفا بالنساء ، أيّ امرأة حسناء ذكرت عنده يرسل إلى تحصيلها ، فكان يجري في مجلسه ذكر النساء. قال زيد بن عدي : ان لعبدك النعمان بنات في غاية الحسن والجمال ، إن اقتضى رأي الملك يبعثني إليه أخطب بناته للملك! فبعثه كسرى مع بعض خواصّه من العجم ، فقال النعمان : إن للملك في مها العجم لمندوحة عن سودان العرب! فقال زيد للعجمي : احفظ ما يقوله حتى تقول لكسرى! فلمّا عاد إلى كسرى قال : ما معنى هذا الكلام؟ قال زيد : يقول الملك له بقر العجم ، ما له ولكحلاوات العرب؟ فتأذى كسرى من هذا وبعث إليه يطلبه ، فهرب النعمان في البرية ، فما كان حيّ من الأحياء يحويه خوفا من كسرى.
وكلّما أتى عليه الوقت ذهب ماله وقلّ عدده ، فرأى أن يأتي كسرى تائبا.
فلمّا وصل أمر كسرى بنصب القباب وإخراج جميع جواريه يرقصن في غناء عجمّي معناه : من له كلّنا أيّ حاجة له إلى البقر؟ فلمّا دخل دهليز كسرى قبض عليه وأمر بإلقائه تحت أرجل الفيل ؛ قال الشاعر :
فأدخل بيتا سقفه صدر فيلة
 

بساباط والحيطان منه قوائمه
 


نهاوند
مدينة بقرب همذان قديمة ؛ قالوا : إنّها من بناء نوح ، عليه السلام ، واللفظ دلّ عليه وأصله نوح اوند أي نوح وضع. بها عجائب. بها موضع يقال له وازوان البلاعة ، به حجر كبير فيه ثقبة فتحها أكبر من شبر ، يفور منها الماء كلّ يوم مرّة ، فيخرج وله صوت عظيم يسقي أراضي كثيرة ، ثمّ يتراجع حتى يدخل ذلك الموضع الذي خرج منه.
وحكى ابن الكلبي أن هذا الحجر مطلسم ، لا يخرج الماء منه إلّا وقت الحاجة ، ويفور حتى يستغنى عنه ؛ قال : وهذا مشهور في تلك الناحية.
وبها صخرة عظيمة في جبلهم ، من غاب له غائب أو أبق له آبق أو مرض له مريض أو سرق منه شيء ، فيأتي تلك الصخرة ويبيت عندها ، فإنّه يرى في نومه حاصل ذلك الأمر من خير وشرّ ؛ قال صاحب تحفة الغرائب : بقرب نهاوند عين في شعب جبل ، من احتاج إلى الماء لسقي الأرض يمشي إليها ، ويدخل الشعب ويقول بصوت رفيع : إني محتاج إلى الماء. ثمّ يمشي نحو زرعه فالماء يمشي نحوه ، فإذا انقضت حاجته يرجع إلى الشعب نحو العين ويقول : قد كفاني الماء.
ويضرب برجله على الأرض فالماء ينقطع ؛ هذا كلام صاحب تحفة الغرائب.
ومن عجائبها ما ذكره ابن الفقيه من أمر قصب الذريرة ، فما دام بنهاوند أو شيء من رساتيقها فهو بمنزلة الخشب لا رائحة له ، فإذا حمل منها وجاوزوا به العقبة التي يقال لها عقبة الركاب فاحت رائحته ، فإن سلكوا به غير تلك العقبة يبقى بحاله لا يصلح إلّا للوقود.
ومن عجائبها طين أسود يوجد على حافات نهر نهاوند. له خواصّ كثيرة : زعم أهل الناحية أن ذلك الطين تخرجه السراطين من جوف النهر وتلقيه ، ولو حفروا جميع جوانب النهر وقراره لم يجدوا شيئا من ذلك الطين.
وحكى مسعر بن مهلهل أن على جبل نهاوند ثورا وسمكة منحوتة من الحجر

في أحسن صنعة ؛ قالوا : إنّهما طلسمان لآفات المدينة. ويكثر بنهاوند شجر الخلاف ما في شيء من البلاد بكثرتها ، تتّخذ منها الصوالج وتحمل إلى سائر البلاد.
النّهروان
كورة واسعة بين بغداد وواسط في شرقي دجلة ، كانت من أجمل نواحي بغداد وأكثرها دخلا ، وأحسنها منظرا وأبهاها فخرا. أصابتها عين الزمان فخربت بسبب الاختلاف بين الملوك السلجوقية وقتال بعضهم بعضا. وكانت ممرّ العساكر فجلا عنها أهلها واستمرّ خرابها ، والآن مدنها وقراها تلال والحيطان قائمة ، ثمّ بعد خرابها من شرع في عمارتها من الملوك مات قبل تمامها ، حتى اشتهر ذلك واستشعر الملوك من تجديد عمارتها وتطيروا بها إلى زمن المقتفي.
فأراد بهرور الخادم عمارتها فقالوا له : ما شرع في عمارتها أحد إلّا مات قبل تمام عمارتها! فشرع في عمارتها غير ملتفت إلى هذا القول ، فمات أيضا قبل تمامها ، فبقيت على حالها إلى زماننا هذا.
ينسب إليها القاضي أبو الفرج بن المعافى بن زكرياء النهرواني. كان عالما فاضلا مشهورا وحيد دهره. قال : حججت سنة فإذا أنا بمنى ينادي مناد يقول :يا أبا الفرج! قلت : يطلب غيري. ثمّ قال : يا أبا الفرج بن المعافى! قلت :لعلّ شخصا وافق اسمه واسم أبيه اسمي واسم أبي. ثمّ قال : يا أبا الفرج بن المعافى بن زكرياء! فما أجبت. ثمّ قال : يا أبا الفرج بن المعافى بن زكرياء النهرواني! فقلت : الآن اتّضح اني أنا المطلوب. فقلت : ها أنا ذا ، ماذا تريد؟فقال : لعلّك أنت من نهروان الشرق! قلت : نعم! قال : إني أريد من هو من نهروان الغرب.

نيسابور
مدينة من مدن خراسان ، ذات فضائل حسنة وعمارة ، كثيرة الخيرات والفواكه والثمرات ، جامعة لأنواع المسرّات ، وعتبة الشرق ، ولم يزل القفل ينزل بها. وانّها كانت مجمع العلماء ومعدن الفضلاء. وكان عمرو بن الليث الصفّار يقول : أقاتل على بلدة حشيشها الريباس ، وترابها البقل ، وحجرها الفيروزج.
وإنّما قال ذلك لأن بها ريباسا ليس في جميع الأرض مثله ، قد يكون واحدها خمسة أرطال وأكثرها رطلان أو ثلاثة. وهي صادقة البياض كأنّها الطلع ، وإنّما عنى بالبقل الطين المأكول الذي لا يوجد مثله في جميع الأرض. يحمل إلى أداني الأرض وأقاصيها لتحفة الملوك ، وربّما بيع رطل منه بمصر بدينار واحد ، وبالغ محمّد بن زكرياء في خواصّ هذا الطين ومنافعه. وقال أبو طالب المأموني :
خذ لي من البقل فذاك الذي
 

منها خلقنا وإليها نصير
 
كأنّه للعين لمّا بدا
 

أحجار كافور عليها عبير
 
وبها معادن الفيروزج. ذكروا أن تلك المعادن آبار ظهر فيها العقارب فامتنع الناس عنها ، ولمّا دخلها إسماعيل بن أحمد الساماني ، وكان ملكا عادلا ، قال : يا لها من مدينة لو لم يكن بها عيبان! قيل : ما هما؟ قال : كان ينبغي أن تكون مياهها التي في باطن الأرض على ظاهرها ، ومشايخها الذين على ظاهرها في باطنها.
وكانت نيسابور من أحسن بلاد الله وأطيبها. خرج الغزّ على السلطان سنجر ابن ملكشاه السلجوقي ، وكسروه وأسروه وبعثوا جمعا إلى مدينة نيسابور ، وذلك في سنة ثمان وأربعين وخمسمائة ، فقاتلهم أهل نيسابور أشدّ القتال لأنّهم كانوا كفّارا نصارى ، فجاءهم ملك الغزّ وحاصرهم حتى استخلصها عنوة ، وقتلوا كلّ من وجدوه وخربوها وأحرقوها ، فانتقل الناس إلى الشاذياخ وعمروها

وسوّروها حتى بقيت مدينة طيّبة أحسن من المدينة الأولى ، وصارت المدينة الأولى متروكة ، وصارت مجامع أهلها مكان الوحوش ومراتع البهائم ، فسبحان من لا يعتريه الزوال وكلّ ما سواه يتغيّر من حال إلى حال!
ينسب إليها الإمام العلّامة رضى الدين النيسابوري ، قدوة العلماء وأستاذ البشر. كان أصله من نيسابور ومسكنه بخارى ، وكان على مذهب الإمام أبي حنيفة ، وكان في حلقة درسه أربعمائة فقيه فضلاء ، وانّه سلك طريقا لم يسلكه من كان قبله. وكان علم المناظرة قبله غير مضبوط فأحدث له ضبطا وترتيبا ، وبذلك فاقت تلامذته جميع علماء زمانهم. وله على كلّ من يسمّى باسم الفقيه منّة ، لأن الفقهاء بعده على طريقه وترتيبه.
وينسب إليها الأستاذ قدوة المشايخ أبو القاسم القشيري صاحب الرسالة القشيرية ، كان وحيد دهره علما وورعا. حكي انّه إذا دخل على نظام الملك الحسن بن عليّ بن إسحق ، قام من مكانه وقعد بين يديه ، وإذا دخل عليه إمام الحرمين يقوم له ويقعده بجنبه ، فسئل نظام الملك عن ذلك فقال : لأن أبا القاسم القشيري إذا دخل عليّ يذمّني فيما أعمله. وأمّا إمام الحرمين فإنّه يمدحني فيما أعمله. فيا لله من شيخ إذا دخل على وزير المشرق والمغرب يذمّ أفعاله ولا يبالي بسلطنته! ويا لله من وزير من ذمّه في أفعاله أكرم عليه ممّن مدحه!
وحكي أن الملك لمّا صار لطغرلبك السلجوقي واستوزر أبا نصر الكندري ، كان السلطان معتزليّا والوزير شيعيّا ، أمرا بلعن جميع المذاهب يوم الجمعة على رؤوس المنابر. فعند ذلك فارق الأستاذ أبو القاسم مملكة طغرلبك وقال : لا أقيم في أرض يلعن بها المسلمون! وإمام الحرمين أيضا ذهب إلى أرض الحجاز.
وتوفي أبو القاسم سنة خمس وستّين وأربعمائة.
ينسب إليها من الحكماء عمر الخيّام. كان حكيما عارفا بجميع أنواع الحكمة سيما نوع الرياضيّات. وكان في عهد السلطان ملكشاه السلجوقي سلّم إليه مالا كثيرا ليشتري به آلات الرصد ويتّخذ رصد الكواكب ، فمات السلطان

وما تمّ ذلك.
وحكي انّه نزل ببعض الربط ، فوجد أهلها شاكين من كثرة الطير ووقوع ذرقها وتنجّس ثيابهم بها ، فاتّخذ تمثال الطير من الطين ونصبه على شرفة من شرفات الموضع فانقطع الطير عنها.
وحكي أن بعض الفقهاء كان يمشي إليه كلّ يوم قبل طلوع الشمس ، ويقرأ عليه درسا من الحكمة ، فإذا حضر عند الناس ذكره بالسوء ، فأمر عمر بإحضار جمع من الطبالين والبوقيين وجباهم في داره ، فلمّا جاء الفقيه على عادته لقراءة الدرس ، أمرهم بدقّ الطبول والنفخ في البوقات ، فجاءه الناس من كلّ صوب ، فقال عمر : يا أهل نيسابور هذا عالمكم يأتيني كلّ يوم في هذا الوقت ، ويأخذ مني العلم ، ويذكرني عندكم بما تعلموني ، فإن كنت أنا كما يقول فلأيّ شيء يأخذ علمي ، وإلّا فلأيّ شيء يذكر الأستاذ بالسوء؟
وينسب إليها أبو حمزة الخراساني. كان من أقران الجنيد وأبي تراب النّخشبي وأبي سعيد الخرّاز. قال : حججت في بعض السنين ، فبينما أنا أمشي في الطريق إذ وقعت في بئر ، فنازعتني نفسي أن أستغيث حتى يأتيني أحد ، فخالفت النفس وقلت : والله لا أستغيث ؛ فما استتمّت هذه الخطرة حتى أتى برأس البئر رجلان أحدهما يقول للآخر : تعال حتى نسدّ رأس هذه البئر كيلا يقع إنسان فيها. فأتيا بقصب وبارية وسدّا رأس البئر ، فهممت أن أصيح ثمّ قلت في نفسي : أصيح إلى من هو أقرب منهما. فسكتّ. فبينما أنا بعد ساعة إذ جاء شيء وكشف رأس البئر وأدلى رجليه فكأنّه يقول في همهمته : تعلّق بي! فتعلّقت به فأخرجني ، فإذا هو سبع ، فهتف بي هاتف : أليس هذا أحسن؟ نجيناك بالمتلف من التلف!
وينسب إليها أبو القاسم المنادي.
وينسب إليها أبو الطيب سهل الصعلوكي. تصدّر للقضاء والتدريس بنيسابور واجتمع عليه فقهاء خراسان ، ووضع في مجلسه خمسمائة محبرة عند إملائه.

قيل : جاء في الحديث عن رسول الله ، صلّى الله عليه وسلّم. أن الله تعالى على رأس كلّ مائة يبعث من يجدّد دينه. فذكر الأصحاب انّه على رأس المائة عمر ابن عبد العزيز ، وعلى المائتين محمّد بن ادريس الشافعي ، وعلى الثلاثمائة أبو العبّاس أحمد بن سريج ، ونظم هذا المعنى بعض أهل العلم فقال :
إثنان قد مضيا وبورك فيهما :
 

عمر الخليفة ثمّ خلف السّؤدد
 
الشّافعيّ الألمعيّ محمّد
 

إرث النّبوّة وابن عمّ محمّد
 
وابشر أبا العبّاس إنّك ثالث
 

من بعدهم ، سقيا لتربة أحمد
 
فقام رجل في مجلس أبي الطيب سهل الصعلوكي ، وأنشد تلك الأبيات وألحق بها :
والرّابع المشهور سهل بعدهم
 

أضحى إماما عند كلّ موحّد
 
لا زال فيما بيننا علم الهدى
 

للمذهب المختار خير مؤيّد
 
فسكت الشيخ وغمّه ذلك وتوفي في تلك السنة.
حكى أبو سعيد الشحامي قال : رأيت أبا الطيب الصعلوكي في النوم بعد وفاته فقلت : أيّها الشيخ! فقال : دع الشيخ! قلت : وتلك الأحوال التي شاهدتها؟قال : لم تغن عنّا شيئا! قلت : ما فعل الله بك؟ قال : غفر لي بمسائل كانت تسألها العجائز!
وينسب إليها أبو سعيد بن أبي عثمان الخركوشي. كان من مشاهير علماء خراسان بالعلم والزهد والورع وحسن الطريقة. صنّف كتبا كثيرة في العلوم الشرعيّة ، وبنى مدرسة ودار مرضى ، ووقف عليهما أملاكا كثيرة. وفي آخر عمره اختار الفقر ، وكان يأكل من كسب يده : يعمل القلانس ويبيعها خفية حتى لا يدرى أنّها عمله.
حكى أبو الفضل محمّد بن عبد الله الصرام قال : رأيت الأستاذ أبا سعيد

خرج مع القوم للاستسقاء وهو ينشد :
إليك جئنا حسبنا ربّنا
 

وليس ربّ سواك يغنينا
 
بابك رحب فناؤه كرم
 

إرحم على بابك المساكينا
 
ثمّ قال : اللهمّ اسقنا! فما أتمّ ثلاثا حتى سقينا كأفواه القرب.
وينسب إليها أبو محمّد عبد الله بن محمّد المرتعش. كان عظيم الشأن ، صحب الجنيد ، قيل له : إن فلانا يمشي على الماء! فقال : عندي من مكنة الله تعالى من مخالفة الهواء ما هو أعظم من المشي على الماء. توفي سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة.
نينوى
بلاد وقرى كانت بشرقي دجلة عند الموصل. في قديم الزمان بعث الله تعالى إليهم يونس النبي ، عليه السلام ، فدعاهم إلى الله تعالى فكذّبوه ، فخوّفهم بعذاب الله في وقت معين وفارقهم. فلمّا دنا ذلك الوقت وشاهدوا آثار عذاب الله خرجوا بالنساء والذراري إلى تلّ هناك في شرقي دجلة ، وكشفوا رؤوسهم وتابوا وآمنوا ، فكشف الله عنهم العذاب. والتلّ باق إلى الآن ويسمّى تلّ التوبة ، وعليه مشهد مقصود ينذر له ويقصده الناس كلّ ليلة جمعة.
حكى صاحب تحفة الغرائب انّه كان بها طاحونة جميع آلاتها من الحجر ، وكانت سبيلا ، فإذا أراد الطحّان وقوف الحجر قال : اسكن بحقّ يونس! فوقف الحجر والماء يجري على حاله ، ولا تدور الرحى حتى يفرغ الطحّان من شغله ، فإذا فرغ قال : إني فرغت من شغلي ، فشرع في الدوران.

واسط
مدينة بين الكوفة والبصرة من الجانب الغربي ، كثيرة الخيرات وافرة الغلّات.
تشقّها دجلة. وإنّها في فضاء من الأرض صحيحة الهواء عذبة الماء وكثيرا ما يفسد هواؤها باختلاف هواء البطائح بها فيفسده. وأمّا نفس المدينة فلا يرى أحسن منها صورة ، فإن كلّها قصور وبساتين ومياه ، وعيبها أن حاصلها يحمل إلى غيرها ، فلو كان حاصلها يبقى في يد أهلها لفاقت جميع البلاد.
بناها الحجّاج سنة أربع وثمانين ، وفرغ منها سنة ستّ وثمانين ، وسكنها إلى سنة خمس وتسعين وتوفي في هذه السنة.
وحكي عن سماك بن حرب انّه قال : استعملني الحجّاج على ناحية نادوربا ، فبينا أنا يوما على شاطىء دجلة إذا أنا برجل على فرس من الجانب الآخر ، فصاح باسمي واسم أبي ، فأجبت فقال : الويل لأهل مدينة تبنى ههنا! ليقتلن فيها ظلما سبعون ألفا! كرّر ذلك ثلاث مرّات ثمّ أقحم فرسه في دجلة وغاب في الماء.
فلمّا كان العام القابل ساقني القضاء إلى ذلك الموضع ، فإذا أنا برجل صاح بي كما صاح وقال كما قال وزاد : سيقتل ما حولها ما يستقلّ الحصى لعددهم! ثمّ أقحم فرسه في الماء وغاب.
فلمّا بنى الحجّاج واسطا أحصي في حبسه ثلاثة وثلاثون ألف إنسان ، لم يحبسوا في دم ولا دين ولا تبعة ، وأحصي من قتله صبرا فبلغوا مائة وعشرين ألف إنسان!
وحكي انّه كان يقرأ القرآن ، فانتهى إلى قوله تعالى : انّه عمل غير صالح.
فاشتبه عليه انّه قرأ اسما أو فعلا ، فبعث إلى بعض المقرئين وأمر بإحضاره ليسأل عنه ، فلمّا حضر المقرىء قام الحجّاج من مجلسه فقال الأعوان : كيف نعمل به وقد طلبه الحجّاج؟ فأوقفوه حتى يتبيّن أمره ، فبقي في الحبس ستّة أشهر إلى أن فرغ الحجّاج في النظر إلى المحبوسين ، فلمّا انتهى إلى اسمه سأل عن ذنبه

فقالوا : لا نعرف! فأمر بإحضاره وقال له : على أيّ شيء حبست؟ قال :على ذنب ابن نوح! فضحك الحجّاج وخلّى سبيله.
ينسب إليها جماعات من القرّاء ، يعرفون علم القراءة السبعة والعشرة والشواذّ ، منهم أبو العزّ القلانسي ، حكي انّه جاءه رجل وقال له : أنت القلانسي المقرىء؟ قال : نعم. قال : إني أريد أن أقرأ عليك قراءة القرآن.
قلت له : كيف اخترت هذه القراءة؟ قال : إني سمعتها في بعض أسفاري عن رجل فأعجبتني. فقلت له : على من قرأتها؟ قال : على القلانسي. فكان يأتيني كلّ يوم آخر النهار. قلت : ائتني أوّل النهار. فقال : أرضي شاسعة. فكنت أدخل داري وأغلق الباب وأصعد السطح ، فأراه داخل الدار فأقول له : كيف دخلت والباب مغلق؟ فيقول : ما كان مغلقا. فلمّا ختم قال لي : اكتب خطّك اني قرأت عليك. فقلت : ما لي عادة أكتب خطّي إلّا بخمسة عشر دينارا.
فجاءني بجدع من العود وقال : خذ هذا واكتب لي خطّك. فأخذت وكتبت والجدع كان يسوى حمله. وكان زمن الناصر لدين الله ، فأشهر هذا الحديث واشترى الجدع مني.
وينسب إليها أبو الحسين بنان بن محمّد بن حمدان الحمال. ذهب إلى مصر فأمر ابن طولون صاحب مصر بالمعروف ، فغضب عليه وأمر بإلقائه بين يدي السبع ، فكان السبع يشمّه ولا يضرّه. فلمّا أخرج من بين يدي السبع قالوا له : ما الذي كان في قلبك وقت يشمّك السبع؟ قال : كنت أتفكّر في سؤر السبع ولعابه أطاهر أم لا؟وحكى عمر بن محمّد بن عراك انّه كان لرجل على رجل مائة دينار بوثيقة ، فكان يطلب الوثيقة ولم يجدها ، فجاء إلى بنان الحمال أن يدعو له فقال له بنان : إني رجل شيخ أحبّ الحلاوى ، فاشتر لي رطل حلواء حتى أدعو لك! فذهب الرجل واشترى الحلواء وجعله في وسط القرطاس فجاء به ، فقال له بنان : افتح القرطاس. ففتحه فإذا القرطاس في وسطه الوثيقة. فقال : هذه وثيقتي! فقال له

بنان : خذ وثيقتك واطعم الحلاوى صبيانك. توفي بمصر سنة ستّ عشرة وثلاثمائة.
وحكي انّه احتاج إلى جارية تخدمه ، فانبسط مع إخوانه فجعلوا له ثمن جارية وقالوا : إذا جاء السّفر تكون معه جوار نشتري لك منهم جارية. فلمّا جاء السّفر ومعه جوار اجتمعوا على واحدة وقالوا : انّها صالحة له. فقالوا لصاحبها : بكم تبيعها؟ فقال : انّها ليست للبيع. فألحّوا عليه فقال : إنّها لبنان الحمال ، بعثتها له امرأة من سمرقند ، فحملت إلى بنان وذكرت له القصّة.
وينسب إليها يزيد بن هارون. كان عالما عابدا مقرئا محدّثا. قال : سافرت عن أهلي في طلب الحديث سنين كثيرة ، فلمّا عدت إلى بغداد سمعت أن بعسكر أحد التابعين ، فمشيت إليه فقال : حدّثني أنس بن مالك ، رضي الله عنه ، عن رسول الله ، صلّى الله عليه وسلّم : من ابتلاه الله ببلاء فليصبر ثمّ ليصبر ثمّ ليصبر! وقال : ما أحدّثك غير هذا. قال : فعدت إلى واسط ووصلت ليلا ، ووقفت على بابي ، كرهت دقّ الباب كراهة انزعاج القوم ، فعالجت فتح الباب ودخلتها. وكان أهلي على السطح فصعدت السطح فوجدت زوجتي نائمة وبجنبها شابّ ، فأخذت حجرا وقصدت أضرب به فتذكّرت الحديث الذي سمعت من العسكري ، ثمّ قصدت ثانيا وثالثا فتذكّرت الحديث ثانيا وثالثا ، فانتبهت زوجتي فلمّا رأتني أيقظت الشاب وقالت : قم إلى أبيك! إني تركتها حاملا فعلمت أن ذلك من بركة حديث العسكري.
وحكي أنّه رئي في النوم بعد موته فقيل له : ما فعل الله بك؟ قال : غفر لي.
قيل : بأيّ شيء؟ قال : بالقرآن والحديث ودعاء السحر. فقيل له : هل أخذ عليك شيئا؟ قال : نعم ، قال لي تروي الحديث عن حريز بن عثمان وهو يبغض عليّ بن أبي طالب. وأتاني الملكان وقالا : من ربّك؟ قلت : أنا يزيد بن هارون ، أما تريان هذه اللحية البيضاء؟ تسألاني عن الذي كنت أدعو الناس إليه سبعين سنة! فقالا : نم نومة العروس التي لا يوقظها إلّا من هو أحبّ إليها.

ورجند
قرية من أعمال همذان. من عجائبها أن من به علّة البواسير ، والأطباء عجزوا عن معالجتها ، يمشي إلى ورجند يعالجه أهلها فيبرأ بأيّام قلائل. قالوا : إنّ لأهلها في ذلك يدا باسطة ، من مشى إليها عالجوه ، وذلك برقية عندهم وحشيش يدخنونه بالحشيشة ، ويقرأون عليه الرقية فينتفع في أيّام قلائل. وهو مشهور عندهم.
هراة
مدينة عظيمة من مدن خراسان. ما كان بخراسان مدينة أجلّ ولا أعمر ، ولا أحصن ولا أكثر خيرا منها. بها بساتين كثيرة ومياه غزيرة. بناها الاسكندر ، ولمّا دخل بلاد الشرق ذاهبا إلى بلاد الصين أمر كلّ قوم ببناء سور يحصنهم عن الأعداء. وعلم أن أهل هراة قوم شماس عندهم قلّة القبول ، فعيّن لهم مدينة بطولها وعرضها وسمك حيطانها وعدد أبوابها ، ليوفّيهم أجورهم عند عوده.
فلمّا رجع قال : ما أمرت على هذه الهيئة ؛ وأظهر الكراهية وما أعطاهم شيئا.
ومن عجيب ما ذكر أن هراة كانت في يد سلاطين الغور بني سام ، فجاءها خوارزمشاه محمّد نزل عليها يحاصرها ، وكانت العجلة تمشي على سورها لفرط عرضه. فأمر خوارزمشاه بنصب المنجنيق عليها ، وأشار بمقرعته إلى برج من أبراجها ، فكما أشار إليه انهار ذلك البرج ، فاستخلصها من ذلك الموضع وعدّ ذلك من عجيب آثار دولته.
ومن عجائبها أرحية مبنيّة على الريح تديرها الريح بنفسها كما يديرها الماء ، ويحمل منها إلى سائر البلدان كلّ ظريف سيما الأواني الصفريّة المطعمة بالفضّة وأنواع الدبابيج والحواصل ، ومن المأكول الزبيب والمشمش ؛ قال الأديب الزوزني :
هراة أردت مقامي بها
 

لشتّى فضائلها الوافرة :
 



نسيم الشّمال وأعنابها
 

وأعين غزلانها السّاحره!
 
ولم تزل هراة من أحسن بلاد الله حتى أتاها عين الزمان عند ورود التتر ، فخربوها حتى أدخلوها في خبر كان ، وحكى من كان بها أن التتر لمّا نزلوا عليها راسلهم أحد أعيان المدينة أن يفتح لهم بابا من أبوابها ، على شرط أن يأمن هو وأهله ، فأجابوه إليه. فلمّا فتح لهم دفعوا إليه رجلا ليقف على باب داره ويمنع التتر من دخولها. وكان لصاحب الدار نسيب بعث إليه أن عجل إلى داري بأهلك فإنّها مأمن. فقال النسيب : ان حالوا بيننا وبينكم فأرسل الرجل التتري إلينا ليحملنا إليكم. فأرسله إليهم ، فلمّا غاب عن باب داره نزل عليها قوم من التتر وقتلوا كلّهم ، فلمّا جاء الرجل التتري بالنسيب وجد القوم قتلوا عن آخرهم ، فتركهم ومرّ على وجهه وقتل النسيب أيضا ، ولم ينج منهم أحد.
وينسب إليها إبراهيم ستنبه من البراهمة الأربعة الذين يشفع بهم إلى الله تعالى وهم : إبراهيم بن أدهم بمكّة ، وإبراهيم الخواص بالريّ ، وإبراهيم شيبان بقرميسين ، وإبراهيم ستنبه بقزوين.
حكى إبراهيم بن دوحة قال : دخلت مع إبراهيم ستنبه بادية مكّة ، وكان معي دينار ذهب فقال لي : اطرح ما معك ، فطرحته. ثمّ قال لي : اطرح ما معك ، فما كان معي إلّا شسع نعل فطرحته. فما احتجت في الطريق إلى شسع إلّا وجدته بين يديّ ، فقال : هكذا من يعامل الله صدقا!
وحكى بعضهم قال : كنّا عند مسجد أبي يزيد البسطامي فقال لنا : قوموا نستقبل وليّا من أولياء الله تعالى ، فمشينا فإذا هو إبراهيم ستنبه الهروي ، فقال له أبو يزيد : وقع في خاطري أن أستقبلك وأشفع لك إلى ربّي! فقال له إبراهيم :لو شفعت لجميع الخلق ما كان كثيرا ، فإنّهم كلّهم قطعة من طين ، فتحيّر أبو يزيد من حسن جواب إبراهيم وقال : اللهمّ ارفع درجاتهم وانفعنا بمحبّتهم ومحبّة أمثالهم!

همذان
مدينة مشهورة من مدن الجبال. قيل : بناها همذان بن فلوج بن سام بن نوح ، عليه السلام. ذكر علماء الفرس أنّها كانت أكبر مدينة بأرض الجبال ، وكانت أربعة فراسخ في مثلها فالآن لم تبق على تلك الهيئة ، لكنها مدينة عظيمة لها رقعة واسعة ، وهواء لطيف وماء عذب وتربة طيّبة ، ولم تزل محلّ سرير الملوك.
ولا حدّ لرخصها وكثرة الأشجار والفواكه بها. أهلها أعذب الناس كلاما وأحسنهم خلقا وألطفهم طبعا. ومن خصائصها ألّا يكون الإنسان بها حزينا ولو كان ذا مصائب. والغالب على أهلها اللهو والطرب لأن طالعها الثور ، وهو بيت الزهرة ، والغالب على أكثرهم البلاهة ، ولهذا قال قائلهم :
لا تلمني على ركاكة عقلي
 

إن تيقّنت أنّني همذاني!
 
وحكي أن دارا لمّا تأهّب لمحاربة الإسكندر أحكم عمارة همذان ، وجعل في وسطها حصنا لحرمه وخزانته ، ووكل بها اثني عشر ألف رجل من ثقاته لحفظها متى قصدها قاصد ، وذهب إلى قتال الإسكندر. فلمّا قتل دارا في القتال بعث الإسكندر إلى همذان قائدا اسمه صقلاب في جيش كثيف ، فحاصرها ، فلمّا عجز عنها أخبر الإسكندر بحصانة الموضع وعجزه عنه ، فكتب إليه الإسكندر أن صوّر المدينة بجبالها ومياهها وعيونها وابعث بالصورة إليّ ، وأقم هناك حتى يأتيك أمري. ففعل صقلاب ذلك فأرسلها الإسكندر إلى أستاذه أرسطاطاليس وقال له : دبّر لي فتح هذه المدينة.
فأمره أرسطاطاليس أن يحبس مياهها حتى يجتمع منها شيء كثير ثمّ يرسلها إلى المدينة. ففعل صقلاب ذلك كما قال ، فهدم سورها وحيطانها فدخلها صقلاب وسبى ونهب ، وبقيت المدينة تلّا ، وأمّا المدينة الموجودة في زماننا هذا فلا شكّ في أنّها أحسن البلاد وأنزهها وأطيبها ، ولهذا لم تزل محلّ الملوك ، ولكلّ ملك من ملوك الجبال بها قصر يأتيه فصل الربيع والصيف. فإنّها في هذين الفصلين تشبه الجنّة

في طيب هوائها وبرودة مائها ، وكثرة فواكهها وأنواع رياحينها ؛ قال محمّد ابن بشّار :
ولقد أقول تيامني وتشامي
 

وتواصلي ديما على همذان
 
فإذا تبجّست الثّلوج تبجّست
 

عن كوثر شبم وعن حيوان
 
بلد نبات الزّعفران ترابه
 

وشرابه عسل بماء قنان
 
فكسا الرّبيع بلادها من روضة
 

يفترّ عن نفل وعن حوذان
 
حتى تعانق من خزاماه الّذي
 

بالجلهتين شقائق النّعمان
 
بها ناحية ماوشان ، وهي كورة بقرب همذان. فراسخ في فراسخ يمشي إليها أهل همذان أوان الصيف وقت إدراك المشمش.
وحكي أن أعرابيّا أقام بهمذان سنين فسئل عن همذان فقال : أقمت بها سبعا كانوا يقولون الصيف يجيء وما جاء ، وذلك لأن الأعرابي رأى صيف الحجاز وصيف همذان يكون مثل شتاء الحجاز.
وحكى عبد القاهر بن حمزة الواسطي صفة همذان في الشتاء فقال : خصّ الله همذان في الشتاء من اللعن بأوفره ومن الطرد بأكثره ، فما أكدر هواءها وأشدّ بردها وأذاها وأكثر مؤونتها وأقلّ منفعتها! سلّط الله تعالى عليها الزمهرير الذي أعدّه للكفّار والعتاة من أهل النار ، فإذا هاجت الرياح العواصف وحدثت البروق والرعود القواصف وقعت الثلوج والدمق ، وعمّ الاضطراب والقلق ، وانقطعت السبل وعمّ طرقاتها الوحل ، فترى وجوه أهلهم متشقّقة وشعورهم من البرد متفتّقة ، وأنوفهم سائلة وحواسهم زائلة ، وأطرافهم خضرة وروائحهم قذرة ، ولحاهم دخانية وألوانهم باذنجانيّة. وهم في في شتائهم في الأليم من العذاب والوجيع من الحظّ والعقاب. وأيّ عذاب أشدّ من مقاساة العدوّ الحاصر والكلب الكلب الحاضر؟ قال أحمد بن بشّار يصف همذان :


لقد أتى همذان البرد فانطلق
 

وارحل على شعب شمل غير متّفق
 
أرض يعذّب أهلوها ثمانية
 

من الشّهور بأنواع من الوهق
 
فإن رضيت بثلث العمر فارض بها
 

وقد تعدّ إذا من أجهل الحمق
 
إذا ذوى البقل هاجت في بلادهم
 

من جربيائهم مشّاقة الورق
 
فالبرد يرمي سهاما ليس يمنعها
 

من المروق بلبس الدّرع والدّرق
 
حتّى تفاجئهم شهباء معضلة
 

تستوعب النّاس في سربالها اليقق
 
أمّا الغنيّ فمحصور يكابدها
 

طول الشّتاء مع اليربوع في نفق
 
والمملقون بها سبحان ربّهم
 

ممّا يقاسون من برد ومن أرق
 
فكلّ غاد بها أو رائح تعب
 

ممّا يكابد من برد ومن دمق
 
فالماء كالصّخر والأنهار جامدة
 

والأرض عضّاضة بالضرس في الطّرق
 
فإذا انتقلت الشمس إلى برج الحمل ، وقد امتلأت دروبهم من الثلج حتى سدّ عليهم الطرق ، جمعوا مياههم وأرسلوها إلى المدينة ، وحيطانها كلّها صخريّة ، فدخل الماء دروبهم ، ويحمل ما فيه من الثلج ويذهب به ، ويكون ذلك اليوم عيدا عظيما عندهم يسمّونه حمل بندان ، فصعدوا سطوحهم بالغناء والرقص في كلّ محلّة ، واتّخذوا من الثلوج شبه قلاع يرقصون عليها ، والماء يدخل عليهم ويرميهم ، وهم على تلّ الثلج ، فيقعون في وسط الماء والثلج ، فيدخل الماء دربا دربا حتى تنقى المدينة كلّها من الثلج.
ومن عجائبها أسد من صخر على باب المدينة عظيم جدّا. حكى الكيا شيرويه أن سليمان بن داود ، عليه السلام ، اجتاز بموضع همذان ، قال : ما بال هذا الموضع مع كثرة مائه وسعة ساحته لا تبنى به مدينة؟ قالوا : يا نبيّ الله إن ههنا لا يكون مقام الناس لأن البرد به شديد والثلج به يقع قدر قامة رمح. فقال ، عليه السلام ، لصخر الجني : هل من حيلة؟ فقال : نعم يا نبيّ الله ؛ فاتّخذ

أسدا من صخر ونصبه طلسما للبرد وبنى مدينة همذان.
وقال غيره : إنّه من عمل بليناس صاحب الطلسمات حين طلبه قباذ ليطلسم بلاده ، وكان الفارس يغرق في الثلج بهمذان ، فلمّا عمل هذا الأسد قلّ ثلجها.
وقالوا : عمل على يمين الأسد طلسما للحيّات فقلّت ، وآخر للعقارب فنقصت ، وآخر للبراغيث فهي قليلة بها جدّا ؛ قال ابن حاجب يذكر الأسد :
ألا أيّها اللّيث الطّويل مقامه
 

على نوب الأيّام والحدثان
 
أقمت فما تنوي البراح بحيلة
 

كأنّك بوّاب على همذان
 
أراك على الأيّام تزداد جدّة
 

كأنّك منها آخذ بأمان
 
أقبلك كان الدّهر أم كنت قبله
 

فنعلم أم ربّيتما بلبان؟
 
بقيت فما تفنى وآمنت عالما
 

سطا بهم موت بكلّ مكان
 
فلو كنت ذا نطق جلست محدّثا
 

تحدّثنا عن أهل كلّ زمان
 
ولو كنت ذا روح تطالب مأكلا
 

لأفنيت أكلا سائر الحيوان
 
أحبّبت شرّ الموت أم أنت منظر
 

وإبليس حتى يبعث الثّقلان؟
 
فلا هرما تخشى ولا الموت تتّقي
 

بمضرب سيف أو شباة سنان
 
وحكي انّه لمّا كان سنة تسع عشرة وثلاثمائة ، عصى أهل همذان على مرداويج الديلمي ، وكان صاحب الجبال ، فدخل همذان ونهبها ، وسأل عن الأسد فقيل : انّه طلسم لدفع الآفات عن المدينة. فأراد حمله إلى الري فلم يتمكّن من ذلك ، فأمر بكسر يديه بالفطّيس. وقيل : إنّما كسر يديه لأن الدوابّ كانت تنفر منه.
وحكي أن المكتفي بالله نظر إليه فاستحسنه ، فأمر بنقله على عجلة تجرّها الفيلة إلى بغداد ، فهمّ عامل البلد بذلك ، فاجتمع وجوه تلك البلاد وقالوا :هذا طلسم لبلدنا من آفات كثيرة. فكتب العامل بذلك إلى الخليفة وصعب عليه بعثه فعفا عنهم.

وحكي أن في زماننا عدا رجل في وسط همذان ويقول : يا قوم ادركوا الأسد فإني رأيته يهرب. فخرج من المدينة خلق كثير فرأوا الأسد بحاله ، فيقول بعضهم : عدا من ثمّ إلى ههنا. وهذا دليل على بلاهة القوم.
وينسب إليها أبو الفضل بديع الزمان. كان أديبا فاضلا ظريفا ، والمقامات التي جمعها دلّت على غزارة فضله وفصاحة كلامه ولطافة طبعه. ولهذا قال أبو القاسم الحريري : إن البديع سبّاق غايات وصاحب آيات.
وحكي أن صديقا له كتب إليه يشكو ويقول : إن الزمان قد فسد! فأجابه البديع : أتزعم أن الزمان قد فسد؟ ما تقول لي متى كان صالحا : أفي الدولة العبّاسيّة وقد رأينا آخرها وقد سمعنا أوّلها؟ أم في الأيّام المروانيّة وفي أخبارها ما يكسع الشول بأغبارها؟ أم في الأيّام الحربيّة والسيف يغمد في الطلى والرمح يركز في الكلى؟ أم في الأيّام الهاشميّة وعليّ ، عليه السلام ، يقول : ليت لي بعشرة منكم واحدا من بني فراس بن غنم؟ أم في أيّام عثمان وقد قام النفير بالحجاز وشخصت العيون من الإعجاز؟ أم في الخلافة العدوية وصاحبها يقول : بعد النزول إلى النزول؟ أم في الخلافة التيمية وأبو بكر يقول : طوبى لمن مات في نأنأة الاسلام؟ أم في عهد الرسالة وقد قيل فيه : اسكتي يا فلانة فقد ذهبت الأمانة؟ أم في الجاهلية ولبيد يقول :
ذهب الذين يعاش في أكنافهم
 

وبقيت في خلف كجلد الأجرب؟
 
أم قبل الجاهلية وأخو عاد يقول :
بلاد بها كنّا ، وكنّا نحبّها
 

إذ النّاس ناس والبلاد بلاد؟
 
أم قبل ذلك وقد روي عن أبينا آدم ، عليه السلام ، أنّه قال :
تغيّرت البلاد ومن عليها
 

ووجه الأرض مغبرّ قبيح؟
 
أم قبل خلق أبينا آدم وقد قالت الملائكة : أتجعل فيها من يفسد فيها؟ فاعلم

أن الزمان ما فسد لكن القياس قد اطرد. وقال البديع :
همذان لي بلد أقول بفضله
 

لكنّه من أقبح البلدان!
 
صبيانه في القبح مثل شيوخه
 

وشيوخه في العقل كالصّبيان!
 
توفي البديع سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة.
وأنشد عبد الله بن محمّد بن زنجويه لنفسه في بعض الصور المطلسمة ، وقد ذكرنا كلّ واحدة منها في موضعها بشرحها :
أأرقت للبرق اللّموع اللّائح
 

وحمائم فوق الغصون صوادح؟
 
بل قد ذهلت بليث غاب دائبا
 

مذ كان عن همذان ليس بنازح
 
موف على صمّ الصّخور كأنّه
 

يبغي الوثوب على الغزال السّانح
 
تمضي الدّهور وما تروم فريسة
 

نعل الطّمرّ الكسرويّ القارح
 
شبديز إذ هو واقف في طاقه
 

يعلوه برويز بحسن واضح
 
برويز عن شبديز ليس برائح
 

واللّيث عن همذان ليس بنازح
 
وكذا بتدمر صورتان تناهتا
 

في الحسن شبّهتا ببدر لائح
 
لا يسأمان عن القيام ، وطالما
 

صبرا على صرف الزّمان الكالح
 
وبأرض عاد فارس يسقيهم
 

بالعين عذبا كالفرات السّائح
 
في الأشهر الحرم العظيمة حقّها
 

يغنون عن شرب الزّعاق المالح
 
فإذا انقضى الشّهر الحرام تطفّحت
 

تلك الحياض بماء عين الدّافح
 
وبأرض وادي الرّمل بين مهامه
 

يلقاك قبل الحتف نصح النّاصح
 
طرف هنالك باسط بيمينه
 

أن ليس بعدي مسلك للسّائح
 
خذها إليك مقالة من صادق
 

فيها عجائب من صحيح قرائح
 


يل
ضيعة من ضياع قزوين على ثلاثة فراسخ منها.
بها جبل يقال له يله بشم ؛ حدّثني من صعد هذا الجبل قال : رأيت عليها صور حيوانات مسخها الله تعالى حجرا صلدا : منها راع متكىء على عصاه يرعى غنمه ، وامرأة تحلب بقرة ، وغير ذلك من صور الإنسان والبهائم ، مسخ الله تعالى كلّها حجرا ؛ وهذا شيء يعرفه جميع أهل قزوين.
وبها عين تخرج من شعب جبل ، وماؤها غزير حارّ جدّا يجتمع في حوض هناك ، يقصدها الزمنى والجربى وغيرهم من أصحاب العاهات ، ينفعهم نفعا بيّنا. وأهل تلك البلاد يسمّونها يله كرماب.
يمكان
مدينة حصينة في وسط الجبال بقرب بذخشان ، لا قدرة لأحد عليها ، قهرت الصعوبة مسلكها.
بها معادن الفضّة والبلخش الذي يشبه اللعل ؛ حكى الأمير حسام الدين أبو المؤيد بن النعمان أن الحكيم الناصر خسرو تحصّن بها ، وكان ملكا لبلخ ، فخرج عليه أهل بلخ ، فانتقل إلى يمكان لحصانتها ، واتّخذ بها عمارات عجيبة من القصور والبساتين والحمامات. وذكر انّه نزل في بعض تلك القصور فرأى في إيوان عظيم صورا وتماثيل تتحرّك ، فمنعه أهل القصر أن ينظر إليها. وذكروا أن من ينظر إليها يصاب في عقله أو بدنه. وقال : كان صغار مماليك ينظرون إليها يخبرون بأشياء تأباها العقول! وقال : رأيت خلف ذلك القصر بستانا كنت طول الليل أسمع منه أصواتا عجيبة ، لا تشبه أصوات الحيوانات المعهودة ، منها ما كان طيّبا ومنها ما كان كريها.
وحكي أن بها حمّاما من عجائب الدنيا من بناء ناصر خسرو ، لا يدرى

كيف بناؤه ، ولا يصدق السامع وصفها حتى يراها. وهي باقية في زماننا ، وصفتها أن من دخل مسلخها رأى بيتا مربعا منقّشا بصور حيوانات لا يرى باب الحمام ، لكن يرى على حيطانها أربعا وعشرين حلقة مغلقة ، فيسأل الحمامي عن باب الحمام فيقول : أي حلقة جذبتها ينفتح لك باب الحمام. فيجذب إحداها فينفتح باب وتنكسر صورة الحيوان التي على الباب لأن بعضها على الباب وبعضها على الجدار ؛ فلهذا لا يعرف الغريب باب الحمام ، فإذا دخل من باب من تلك الأبواب أيّها كان ، ينتهي إلى قبّة على مثال المسلخ إلّا أن حلقها سبع عشرة ، فأيّ حلقة يجذب يفتح له باب ، فإذا دخله يفضي به إلى قبّة أخرى على مثال ما قبلها ، إلّا أن حلقها اثنتا عشرة ، فأيّ حلقة منها يجذب يفضي إلى قبّة على مثال ما تقدّم ، إلا أن فيها تسع حلق ، فأي حلقة منها يجذب يفضي إلى قبّة إلى مثال ما قبلها ، إلّا أن حلقها سبع حلق ، وهي القبّة الأخيرة ، أحد أبوابها يفضي إلى الحمام وذلك يعرفه الحمامي : فإن فتح غيره يرى نفسه في المسلخ وهو البيت الأوّل المربّع.
وذكر الأمير أبو المؤيد أنّه شاهد هذا الحمام مرارا على هذه الهيئة ، وأنّه أشهر شيء بخراسان وهو باق إلى زماننا. وإنّما صار أمر هذا الحمام مشهورا بخراسان لأنّه عامّ لا يمنع أن يدخله أحد ويستحمّ به ، فيدخله كلّ أحد للاستحمام ومشاهدة العجب ولا يؤخذ ممّن دخله أجرة الحمام. وله آلات من السطول والطاسات والمآزر والطين والأمشاط والمناشف ، وجميع ما يحتاج إليه المستحمّ.
فإذا استحمّ وخرج يؤتى له بجلاب ومأكول على قدره ، ولا يقبلون من المستحمّ شيئا وإن أصرّ على ذلك ، بل له أوقاف كثيرة وانّها بيد أحفاد الناصر خسرو.
ومن عجائبها أمر آخر وهو أن ثلاثين بيتا منها يضيء بجام واحد ، ولا يمكنون أحدا أن يرى سطحها البتّة ، ولا يهتدي أحد إلى كيفيّة بنائها إلّا من عرف ذلك بحقيقة.
والله المستعان وعليه التكلان.

الاقليم الخامس
أوّله حيث يكون الظلّ نصف النهار ، إذا استوى الليل والنهار ، خمسة أقدام وثلاثة أخماس قدم وسدس خمس قدم ، وآخره حيث يكون الظلّ نصف النهار شرقا أو غربا ستّة أقدام ، ونصف عشر وسدس عشر قدم. ويبتدىء من أرض الترك المشرقين ويمرّ على أجناس الترك المعروفين إلى كاشغر وفرغانة وسمرقند وخوارزم وبحر الخزر إلى باب الأبواب وبرذعة وإلى ميّافارقين وارمينية وبلاد الروم.
وأطول نهار هؤلاء في أوّل الإقليم أربع عشرة ساعة ونصف وربع ، وفي أوسطه خمس عشرة ساعة ، وفي آخره خمس عشرة ساعة وربع. وطول وسطه من المشرق إلى المغرب سبعة آلاف ميل وستمائة وسبعون ميلا وبضع عشرة دقيقة ، وعرضه مائتان وأربعة وخمسون ميلا وثلاثون دقيقة ، ومساحتها مكسر ألف ألف وثمانية وأربعون ألفا وخمسمائة وأربعة وثمانون ميلا واثنتا عشرة دقيقة ، ولنذكر أحوال بعض المدن الواقعة فيه مرتبة على حروف المعجم :
آمد
مدينة حصينة مبنية بالحجارة من بلاد الجزيرة على نشز من الأرض ، ودجلة محيطة بها من جوانبها إلّا من جهة واحدة على شكل الهلال. وفي وسطها عيون وآبار عمقها ذراعان. وإنّها كثيرة الأشجار والبساتين والثمار والزروع.
من عجائبها ما ذكره ابن الفقيه أن بأرض آمد جبلا من بعض شعابه صدع فيه سيف ، من أدخل يده في ذلك الصدع وقبض على قائم ذلك السيف ، اضطرب

السيف في يده وارتعد هو ، وان كان من أشدّ الناس. وذكر أن هذا السيف يجذب الحديد أكثر من جذب المغناطيس ، فإذا حكّ به سيف أو سكين جذبه ، وحجارة ذلك الصدع ما يجذب ؛ هذا ما ذكره ابن الفقيه ولست أعرف انّه باق إلى الآن أم لا.
ومن العجب أن في سنة سبع وعشرين وستمائة انهزم جلال الدين خوارزمشاه عن التتر ، فانتهى إلى آمد فجاءه من أخبره بأن التتر خلفك قريب منك. فقال : إن هذا المخبر من عند صاحب آمد يريد إبعادنا من أرضه. فما أصبح إلّا والتتر محيط بهم ، فانصبّوا إلى آمد هاربين من التتر فقتلهم أهل آمد من السور ، وفي تلك الواقعة قتل جلال الدين خوارزمشاه. فلمّا رجع التتر جاء الملك الكامل بعساكره وحاصرها ، وأخذها من صاحبها ، وزال ملك صاحبها بشؤم ما عمل بالهاربين من التتر اللائذين به.
أبروق
موضع ببلاد الروم يزار من الآفاق ؛ قال الهروي : بلغني أمره فقصدته فوجدته في لحف جبل يدخل إليه من باب ، ويمشي الداخل تحت الأرض إلى أن ينتهي إلى موضع مكشوف واسع تبين فيه السماء من فوقه ، وفي وسطه بحيرة حولها بيوت الفلّاحين ومزروعهم خارج الموضع. وهناك مسجد وبيعة ، فإن جاءهم مسلم يمشي إلى المسجد ، وإن جاءهم نصراني يمشي إلى البيعة. والزوّار يأتون إلى هذا الموضع كثيرا ، ويدخلون إلى بهو فيه جماعة مقتولون ، فيهم آثار طعن الأسنة وضرب السيوف ، ومنهم من فقدت بعض أعضائه ، وعليهم ثياب من القطن لم تتغيّر!
وهناك أيضا امرأة على صدرها طفل حلمة ثديها في فيه ، وخمسة أنفس قيام ظهورهم على حائط الموضع ، وهناك أيضا موضع عال عليه سرير ، وعلى السرير اثنا عشر رجلا فيهم صيّ مخضوب اليدين والرجلين بالحنّاء ، فالروم

يزعمون أنّهم منهم ، والمسلمون يقولون انّهم من الغزاة استشهدوا في أيّام عمر بن الخطّاب ، رضي الله عنه.
أرّان
ناحية بين آذربيجان وأرمينية وبلاد ابخاز. بها مدن كثيرة وقرى. قصبتها جنزة وشروان وبيلقان. بها نهر الكرّ وهو نهر بين أرمينية وأرّان ، يبدأ من بلاد خزران ثمّ يمرّ ببلاد الأبخاز من ناحية اللان ، فيمرّ بمدينة تفليس يشقّها ، ثمّ بجنزة وشمكور ويجري على باب برذعة ، ثمّ يختلط بالرسّ ، والرس أصغر منه وينصبّ في بحر الخزر على ثلاثة فراسخ من برذعة ، موضع الشور ماهيج الذي يحمل إلى الآفاق مملّحا. وهو نوع من السمك طيّب مختصّ بذلك الموضع.
وزعموا أن الكرّ نهر سليم أكثر ما يقع فيه من الحيوان يسلم. ومن ذلك ما حكى بعض فقهاء نقجوان قال : وجدنا غريقا من الكرّ يجري به الماء ، فبادر القوم إلى إمساكه فأدركوه وقد بقي فيه رمق ، فحملوه إلى اليبس فاستقرّ نفسه وسكن جاشه. قال لنا : أي موضع هذا؟ قالوا : نقجوان. قال : إني وقعت في الماء في موضع كذا ، وكان بينه وبين نقجوان مسيرة خمسة أيّام أو ستّة ، وطلب طعاما فذهبوا لإحضار الطعام فانقضّ عليه الجدار الذي كان قاعدا تحته ، فتعجّب القوم من مسامحة النهر وتعدّي الجدار!
أرزنجان
بلدة من بلاد أرمينية آهلة طيّبة كثيرة الخيرات ، أهلها مسلمون ونصارى ، وبها جبل فيه غار ينزل الماء من سقفه ، ويصير ذلك الماء حجرا صلدا.

أرزن الروم
مدينة مشهورة من مدن ارمينية بقرب خلاط قديمة البناء. بينها وبين خلاط موضع يسمّى ياسي جمن ، به عين يفور الماء منها فورانا شديدا ، يسمع صوته من بعيد ، فإذا دنا الحيوان منها يموت في الحال. وحولها من الحيوانات الموتى ما شاء الله ، وقد وكّلوا بها من يمنع الغريب من الدنو منها.
بها عين الفرات وهي عين مباركة مشهورة. زعموا أن من اغتسل بمائها في الربيع يأمن من أمراض تلك السنة.
ارطانة
من قرى بلنسية. بها عين ارطانة ، وهي عين ينبع ماؤها من غار على فمه حوض ، يظهر في ذلك الحوض أنّه يكثر تارة ويقلّ أخرى كالمدّ والجزر ، وذلك يرى في كلّ يوم مرارا.
أرميّة
بلدة كبيرة من بلاد آذربيجان ، كثيرة الخيرات وافرة الغلّات. بقربها بحيرة تعرف ببحيرة أرميّة ، وإنّها كريهة الرائحة لا نبات عليها ولا سمك فيها.
استدارتها خمسون فرسخا ، مادتها من أودية من جبال تلك البلاد ، وفي وسط البحيرة جزيرة ، وعلى تلك الجزيرة قلعة حصينة ، وحواليها قرى ورساتيق ومزارع. وفي أكثر الأوقات كان صاحب تلك القلعة عاصيا على ولاة آذربيجان ، إذ لا سبيل إليها قهرا. ويخرج من هذه البحيرة ملح بحلو شبه التوتيا ، وعلى ساحلها ممّا يلي الشرق عيون ينبع ماؤها ويستحجر إذا أصابها الهواء ، وفيها حيوان يقال له كلب الماء.
وينسب إليها الشيخ أبو أحمد الملقّب بتاج الدين الأرموي ، كان عديم المثل

في زمانه بالأصول والفقه والحكمة والأدب ، ذا عبارة فصيحة وتقرير حسن وطبع لطيف وكلام ظريف. كان الاجتماع به سببا للذّات النفس من كثرة حكاياته الطيّبة والأمثال اللطيفة ، والتشبيهات الغريبة والمبالغات العجيبة. وكثيرا ما كان يقول : ان دفع التتر عن هذه البلاد لكثرة صدقات الخليفة المستنصر بالله فإن الصدقة تدفع البلاء ، ولولا ذلك لكان من دفع العساكر الخوارزمشاهية كيف يقف له عسكر العراق؟ وكان الأمر كما قال. فلمّا مضى المستنصر وقلّت الصدقة جاؤوا وظفروا.
وحكي أن الشيخ دخل يوما على ابن الوزير القمّي ، وكان ابن الوزير دقيق النظر كثير المآخذ ، قال للشيخ : أراك تقتني المماليك المرد وليس هذا طريقة المشايخ! قال الشيخ : لا. قعودي بين يديك من طريقة
المشايخ ، وإنّما هذا لذلك لولا ميلي إلى شيء من زينة الدنيا ما قعدت بين يديك.
أرمينية
ناحية بين آذربيجان والروم ، ذات مدن وقلاع وقرى كثيرة. أكثر أهلها نصارى. بها عجائب كثيرة ذكر أكثرها عند مدنها وقراها. والذي نزيده ههنا : بها جبل الحارث والحويرث ، لا يقدر أحد على ارتقائهما ؛ قالوا : إنّهما مقبرة ملوك أرمينية ومعهم أموالهم وذخائرهم. بليناس الحكيم طلسمها لئلّا يظفر بها أحد.
وحكى ابن الفقيه انّه كان على نهر الرسّ بأرمينية ألف مدينة ، فبعث الله تعالى إليهم نبيّا اسمه موسى ، وليس بموسى بن عمران ، فدعاهم إلى الله تعالى فكذّبوه وعصوا أمره ، فدعا عليهم فحوّل الله تعالى الحارث والحويرث من الطائف وأرسلهما عليهم ، فيقال إن أهل الرسّ تحت هذين الجبلين.
وبها البحيرة ؛ قال مسعر بن مهلهل : هذه البحيرة منتنة قليلة المنافع ، عليها قلاع حصينة وجانب من هذه البحيرة يأخذ إلى موضع يقال له وادي الكرد. فيه

طرائف من الأحجار وعليه ممّا يلي سيماس جمّة يقال لها عين زراوند ، وهي جمّة شريفة جليلة القدر كثيرة المنفعة ، وذلك لأن الإنسان أو الدابة إذا ألقي فيها وبه كلوم وقروح يندمل ويلتحم ، وإن كان فيها عظام موهّنة مرضّضة كامنة وشظايا غامضة ، تتفجّر أفواهها وينقّيها عن كلّ وسخ ويلحمها. قال مسعر ابن مهلهل : عهدي بمن تولّيت حمله إليها وبه علل من جرب وسلع وقولنج وحزاز ، وضربان في الساقين واسترخاء في العصب ، وفيه سهم قد نبت اللحم على نصله كنّا نتوقّع موته ساعة فساعة ، فأقام بها ثلاثا فخرج النصل من خاصرته وعوفي من بقيّة العلل. قال : ومن شرف هذه الجمّة أن الإنسان إذا شرب منها أمن الخوانيق وأسهل السوداء من غير مشقّة.
وحكى صاحب تحفة الغرائب أن بأرض أرمينية بيت نار ، له سطح من الصاروج وميزاب من النحاس ، وتحت الميزاب حوض كبير من الرخام ، وفي البيت مجاورون كلّما قلّ المطر بتلك الناحية أوقدوا نارهم ، وغسلوا سطح البيت بماء نجس حتى ينصبّ من الميزاب إلى الحوض ، ثمّ يرشون البيت بذلك الماء النجس ، فعند ذلك تستر السماء بالغمام وتمطر حتى يغسل السطح والميزاب والحوض ، ويمتلىء من الماء الطاهر.
الأشبونة
مدينة بالأندلس بقرب باجة طيّبة. بها أنواع الثمرات وضروب صيد البر والبحر. وهي على ضفة البحر تضرب أمواج البحر حائط سورها ؛ قال أحمد ابن عمر العذري ، وهو صاحب الممالك والمسالك الأندلسيّة : على أحد أبواب الأشبونة المعروف بباب الجمّة جمّة قريبة من البحر ، يجري بماء حارّ وماء بارد ، فإذا فار البحر واراها. وقال أيضا : بقرب الأشبونة غار عظيم تدخل أمواج البحر فيه ، وعلى فم الغار جبل عال ، فإذا ترادفت أمواج البحر في الغار ترى الجبل يتحرّك بتحرّك الموج ، فمن نظر إليه رآه مرّة يرتفع ومرّة ينخفض.

وبقربها جبل يوجد فيه حجر البرادي ، وهو حجر يضيء بالليل كالمصباح.
قال : أخبر من صعد هذا الجبل ليلا قال كان هذا الحجر فيه يضيء كالمصباح.
قال : وهذا الجبل معدن الجزع.
اشبيلية
مدينة بالأندلس بقرب لبلة كبيرة. تباينت بلاد الأندلس بكلّ فضيلة وامتازت عنها بكلّ مزية من طيب الهواء وعذوبة الماء ، وصحّة التربة والزرع والضرع وكثرة الثمرات من كلّ نوع وصيد البرّ والبحر ، بها زيتون أخضر يبقى مدّة لا يتغيّر به حال ولا يعروه اختلال ، وقد أخذ في الأرض طولا وعرضا فراسخ في فراسخ ، ويبقى زيته بعذوبته أعواما. وكذلك بها عسل كثير جدّا وتين يابس.
ينسب إليها الشيخ الفاضل محمّد بن العربي الملقّب بمحيي الدين. رأيته بدمشق سنة ثلاثين وستمائة. وكان شيخا فاضلا أديبا حكيما شاعرا عارفا زاهدا.
سمعت أنّه يكتب كراريس فيها أشياء عجيبة. سمعت أنّه كتب كتابا في خواصّ قوارع القرآن.
ومن حكاياته العجيبة ما حكى انّه كان بمدينة اشبيلية نخلة في بعض طرقانها ، فمالت إلى نحو الطريق حتى سدّت الطريق على المارّين ، فتحدّث الناس في قطعها حتى عزموا أن يقطعوها من الغد ؛ قال : فرأيت رسول الله ، صلّى الله عليه وسلّم ، تلك الليلة في نومي عند النخلة ، وهي تشكو إليه وتقول : يا رسول الله ان القوم يريدون قطعي لأني منعتهم المرور! فمسح رسول الله ، عليه السلام ، بيده المباركة النخلة فاستقامت ، فلمّا أصبحت ذهبت إلى النخلة فوجدتها مستقيمة ، فذكرت أمرها للناس فتعجّبوا منها واتّخذوها مزارا متبرّكا به!

أفرنجة
بلدة عظيمة ومملكة عريضة في بلاد النصارى ، بردها شديد جدّا وهواؤها غليظ لفرط البرد. وإنّها كثيرة الخيرات والفواكه والغلّات ، غزيرة الأنهار كثيرة الثمار ، ذات زرع وضرع وشجر وعسل ، صيودها كثيرة الأنواع.
بها معادن الفضّة ، وتضرب بها سيوف قطاعة جدّا ، وسيوف افرنجة أمضى من سيوف الهند.
وأهلها نصارى. ولهم ملك ذو بأس وعدد كثير وقوّة ملك ، له مدينتان أو ثلاث على ساحل البحر من هذا الجانب في وسط بلاد الإسلام ، وهو يحميها من ذلك الجانب ، كلّما بعث المسلمون إليها من يفتحها يبعث هو من ذلك الجانب من يحميها. وعساكره ذوو بأس شديد لا يرون الفرار أصلا عند اللقاء ، ويرون الموت دون ذلك ، لا ترى أقذر منهم وهم أهل غدر ودناءة أخلاق ، لا يتنظّفون ولا يغتسلون في العام إلّا مرّة أو مرّتين بالماء البارد ، ولا يغسلون ثيابهم منذ لبسوها إلى أن تتقطّع. ويحلقون لحاهم وإنّما تنبت بعد الحلق خشنة مستكرهة.
سئل واحد عن حلق اللحى فقال : الشعر فضلة أنتم تزيلونها عن سوءاتكم فكيف نتركها نحن على وجوهنا؟
أفسوس
مدينة مشهورة بأرض الروم ، وهي مدينة دقيانوس الجبّار الذي هرب منه أصحاب الكهف ، وبين الكهف والمدينة مقدار فرسخين ، والكهف مستقبل بنات نعش لا تدخله الشمس ، فيه رجال موتى لم يتغيّروا وعددهم سبعة : ستّة منهم نيام على ظهورهم ، وواحد منهم في آخر الكهف مضطجع على يمينه ، وظهره إلى جدار الكهف ، وعند أرجلهم كلب ميت لم يسقط من أعضائه شيء ، وهو باسط ذراعيه بالوصيد كافتراش السباع ، وعلى الكهف مسجد يستجاب

فيه الدعاء ، يقصده الناس ، وأهل المدينة يرون بالليل على الكهف نورا عظيما ، ويعرفون أن ذلك النور من سكان الكهف.
وكان من بداية أمرهم ما حكى وهب بن منبّه أن سليمان بن داود ، عليه السلام ، لمّا قبض ، ارتدّ ملك الروم إلى عبادة الأصنام ، ودقيانوس أحد قواده رجع أيضا معه ، ومن خالفه عذّبه بالقتل والحرق والصلب. فاتّفق أن بعض الفتيان من أولاد البطارقة خرجوا ذات يوم لينظروا إلى المعذّبين من الموحّدين ، فقدر الله هدايتهم وفتح أبصارهم ، فكانوا يرون الرجل الموحّد إذا قتل هبطت إليه الملائكة من السماء وعرجوا بروحه ، فآمنوا ومكثوا على ذلك حتى ظهر أمر إسلامهم. فأرسل الملك إلى آبائهم وعتب عليهم بسبب إسلام أولادهم ، فقالوا : أيّها الملك ، نحن تبرّأنا منهم شأنك وشأنهم! فأحضرهم الملك وقال لهم : لكم المهل ثلاثة أيّام ، وإني شاخص في هذه الأيّام من البلد ، فإن وجدتكم في اليوم الرابع عند رجوعي مخالفين لطاعتي عذبتكم عذاب من خالفني ؛ فلمّا كان اليوم الثالث اجتمع الفتية وقالوا : إنّما يومنا هذا هو وليلته ، وعزموا على الهرب في تلك الليلة ، فلمّا جنّهم الليل حمل كلّ واحد شيئا من مال أبيه وخرجوا من المدينة يمشون ، فمرّوا براعي غنم لبعض آبائهم فعرفهم فقال : ما شأنكم يا سادتي؟ فأظهروا أمرهم للراعي ودعوه إلى التوحيد ، فأجابهم فأخذوه معهم.
وتبع الراعي كلبه ، فساروا ليلتهم وأصبحوا على باب كهف دخلوا فيه وقالوا للراعي : خذ شيئا من الورق وانطلق إلى المدينة ، واشتر لنا طعاما فإن القوم لا علم لهم بخروجك معنا. فأخذ الدراهم ومضى نحو المدينة وتبعه كلبه ، وكان على باب المدينة صنم لا يدخل أحد المدينة إلّا بدأ بالسجود لذلك الصنم قبل دخوله ، فبقي الراعي متفكّرا في السجود للصنم ، فألهم الله الكلب ان عدا بين يديه حتى دخل المدينة ، وجعل الراعي يعدو خلفه ويقول : خذوه خذوه! حتى جاوز الصنم ولم يسجد. فلمّا انتهى إلى السوق واشترى بعض حوائجه

سمع قائلا يقول : ان راعي فلان أيضا تبعهم. فلمّا سمع ذلك فزع وترك استتمام ما أراد شراءه ، وخرج من المدينة مبادرا حتى وافى أصحابه فأخبرهم بما كان من أمره. فأكلوا طعامهم وأخذوا مضاجعهم فضرب الله على آذانهم.
فلمّا رجع الملك أخبروه بهربهم ، فخرج يقفو آثارهم حتى انتهى إلى باب الكهف ووقف على أمرهم فقال : يكفيهم من العذاب أن ماتوا جوعا! فأهلك الله دقيانوس وأنزل على باب الكهف صخرة وبعث إلى أهل ذلك العصر ثلاثة عشر نبيّا ، فدعوا الناس إلى التوحيد ، فأجابهم إلى ذلك خلق كثير ، وكان الملك الذي أحيا الله الفتية في أيّامه موحّدا. فلمّا كانت السنة التي أراد الله فيها احياء الفتية ، انطلق رجل من أهل المدينة وأقام بذلك المكان يرعى غنمه ، فأراد أن يتّخذ لغنمه حظيرة فأمر أعوانه بتنحية الصخرة التي كانت على باب الكهف ، فعند ذلك قام الفتية كمن يبيت ليلة صافية الألوان نقية الثياب ، ورأوا كلبهم باسطا ذراعيه بالوصيد ، وكان ذلك بعد ثلاثمائة سنة بحساب الروم ، وزيادة تسع بحساب العرب ، لأن حساب الروم شمسيّة وحساب العرب قمريّة ، يتفاوت في كلّ مائة سنة ثلاث سنين.
وكان انتباههم آخر النهار ودخولهم أوّل النهار ، فقال بعضهم لبعض : كم لبثتم؟
قالوا : لبثنا يوما أو بعض يوم! لأنّهم رأوا الشمس غير غاربة فقالوا بعض يوم ، فلمّا نظروا إلى طول شعورهم وأظافيرهم قالوا : ربّكم اعلم بما لبثتم. فقالوا للراعي : إنّك أتيت البارحة بطعام قليل لم يكفنا ، فخذ شيئا من هذا الورق وانطلق إلى المدينة واشتر لنا طعاما! فانطلق خائفا حتى أتى باب المدينة وقد أزيل عنه الصنم ، ثمّ دخل المدينة وجعل يتصفّح وجوه الناس فما كان يعرف أحدا.
فانتهى إلى سوق الطعام ودفع إليه الورق فردّه عليه وقال : هذا عتيق لا يروح اليوم! فناوله ما كان معه وقال : خذ حاجتك منها. فلمّا رأى صاحب الطعام ذلك همس إلى جاره وقال : احسب ان هذا قد وجد كنزا! فلمّا رآهما يتهامسان ظنّ أنّهما عرفاه فترك الدراهم وولى هاربا ، فصاح به الناس أن خذوه فإنّه

وجد كنزا ، فأخذوه وانطلقوا به إلى الملك فأخبروا الملك بأمره والدراهم ، فتركه الملك حتى سكنت روعته ثمّ قال : ما شأنك يا فتى؟ أخبرني بأمرك ولا بأس عليك! فقال الفتى : ما اسم هذه المدينة؟ قالوا : افسوس. قال : وما فعل دقيانوس؟ قالوا : أهلكه الله منذ ثلاثمائة سنة! فأخبرهم بقصّته وقصّة أصحابه.
فقال الملك : أرى في عقل هذا الرجل نقصانا ؛ قال الراعي : إن أردت تحقيق ما أقول انطلق معي إلى أصحابي لتراهم في الكهف!
فركب الملك وعامّة أهل المدينة فقال الراعي : إن أصحابي إذا سمعوا جلبة الناس خافوا ، فأذن لي أيّها الملك حتى أتقدّم وأبشّرهم. فأذن له فتقدّم حتى انتهى إلى باب الكهف ، فدخل عليهم وأخبرهم بهلاك دقيانوس وظهور الإسلام ، وأن القوم في ولاية ملك صالح ، وها هو قد أقبل إليكم ومعه عامّة أهل المدينة.
فلمّا سمعوا ذلك كبّروا وحمدوا الله ، ووافاهم الملك وأهل المدينة. والملك سلّم عليهم وسألهم عن حالهم وعانقهم. وعامة الناس سلّموا عليهم ، فبادروا بذكر قصّتهم حتى إذا فرغوا من ذلك خرّوا موتى. فبنوا على الكهف مسجدا ، واتّخذوا ذلك اليوم عيدا ، وانّهم على حالهم إلى زماننا هذا.
أفلوغونيا
مدينة كبيرة من نواحي أرمينية ، أهلها نصارى. من خواصّها إسراع الجذام إلى أهلها لأن أكثر أكلهم الكرنب والغدد فيهم طبع ، وفيهم خدمة للضيف وقرى ، وحسن الطاعة لرهبانهم ، والرهابين يلعبون بعقولهم. حكي انّه إذا مرض أحدهم أحضر الراهب ودفع مالا إليه ليستغفر له. ويحضر القس وانّه يبسط كساء ويعترف المريض بذنب ذنب ممّا عمله ، والقسّ قاعد يضمّ كفّيه ، كلّما فرغ المذنب ينفض كفّيه في الكساء إلى أن فرغ من تمام ذنوبه. وبعد فراغه يضمّ القسّ أطراف الكساء ويخرج بها وينفض في الصحراء ، فيظنّون أن الذنوب قد انمحت بالصدقة ودعاء القسّ.

وحكي أن فيهم من إذا تزوّج ببكر يريد أن يفترعها الراهب ، لتكون مباركة على زوجها ببركة الراهب.
إلبيرة
مدينة بالأندلس بقرب قرطبة. من أكرم المدن وأطيبها شديدة الشبه بغوطة دمشق في غزارة الأنهار والتفاف الأشجار وكثرة الثمار.
في ساحلها شجر الموز ، ويحسن بها نبت قصب السكر ، وبها معادن الذهب والفضّة والحديد والنحاس والرصاص والصفر ، ومعدن التوتيا ومقطع الرخام ، وتحمل هذه الأشياء منها إلى سائر بلاد الأندلس.
وحكى أحمد بن عمر العذري : من أعمال البيرة موضع يسمّى لوشة ، فيه غار يصعد إليه أربعة أذرع ثمّ ينزل في غار نحو قامتين ، يرى أربعة رجال موتى لا يعرف الناس حالهم ، ألفوهم كذلك قديما والملوك يتبرّكون بهم ويبعثون إليهم الأكفان ، ولا ريب أنّهم من الصلحاء لأن بقاءهم على حالهم مدّة طويلة ، بخلاف سائر الموتى ، لا يكون إلّا لأمر ؛ قال العذري : حدّثني من دخل عليهم وكشف عن وجه أحدهم فرأى درّاعة على وجهه وقال : نقرت بإصبعي على بطنه فصوّت كالجلد اليابس.
ألش
مدينة بالأندلس بقرب تدمير. من خواصّها أن النخل لا ينجح بجميع بلاد الأندلس إلّا بها. ويوجد بها زبيب ليس في جميع البلاد مثله ، يحمل منها إلى سائر بلاد الأندلس. وبها صنّاع البسط الفاخرة وليس مثلهم في شيء من بلاد الأندلس.

الأندلس
جزيرة كبيرة بالمغرب فيها عامر وغامر. طولها دون الشهر في عرض نيف وعشرين مرحلة ، ودورها أكثر من ثلاثة أشهر. ليس فيها ما يتّصل بالبرّ إلّا مسيرة يومين ، والحاجز بين بلاد الأندلس وافرنجة جبل.
قال أحمد بن عمر العذري صاحب المسالك والممالك الأندلسيّة : إن الأندلس وقعت متوسّطة بين الأرض كما هي متوسّطة بين الأقاليم ، فبعضها في الإقليم الرابع ، وبعضها في الإقليم الخامس. وبها مدن كثيرة وقرى وأنهار وأشجار ، وبها الرخص والسعة.
وبها معادن الذهب والفضّة والرصاص والحديد في كلّ ناحية ، ومعدن الزئبق والكبريت الأحمر والأصفر والزنجفر الجيد والتوتيا ، والشبوب على أجناسها والكحل المشبه بالأصفهاني. وبها من الأحجار الياقوت والبلور والجزع واللازورد والمغناطيس والشادنج ، والحجر الذي يقطع الدم والحجر اليهودي والمرقشيثا وحجر الطلق. وبها أصناف الرياحين حتى سنبل الطيب والقسط والاشقاقل ، وبها الانبرباريس والعود.
حكى العذري أن بعض الولاة ولّى ناحية بشرة فشمّ رائحة العود ، فوجدوا من دار رجل ضعيف ووجدوا عنده عودا كثيرا يتّقد به ، فرأوه فإذا هو ذكي من عود الهند ، فسئل عن موضع احتطابه فحملهم إلى جبل من جبال وفر ، فحفروا وأخرجوا بقيّته واشتهر بين الناس.
وأهل الأندلس زهاد وعبّاد والغالب عليهم علم الحديث ، ويقع في بلاد الأندلس من الخدم والجواري المثمنات على غير صناعة بل على حسنهم بألف دينار. ولأهلها إتقان في جميع ما يصنعونه إلّا أنّ الغالب عليهم سوء الخلق.
ومن عجائب الدنيا أمران : أحدهما المملكة الإسلاميّة بالأندلس مع إحاطة الفرنج من جميع الجوانب والبحر بينهما وبين المدد من المسلمين ، والآخر المملكة

النصرانيّة بساحل الشام مع إحاطة المسلمين من جميع الجوانب والبحر بينهما وبين المدد من الإفرنج.
قال العذري في وصف الأندلس : إنّها شامية في طيبها وهوائها ، يمانية في اعتدالها واستوائها ، هندية في أفاويهها وذكائها ، اهوازية في عظم اجتنائها ، صنفية في جواهرها ، عدنيّة في سواحلها.
بها آثار عجيبة وخواصّ غريبة تذكر في مواضعها.
وبها البحر الأسود الذي يقال له بحر الظلمات ، محيط بغربي الأندلس وشماليه ، وفي آخر الأندلس مجمع البحرين الذي ذكره الله في القرآن. وعرض مجمع البحرين ثلاثة فراسخ ، وطوله خمسة وعشرون فرسخا ، وفيه يظهر المدّ والجزر ، في كلّ يوم وليلة مدّان وجزران ، وذلك ان البحر الأسود عند طلوع الشمس يعلو ويفيض في مجمع البحرين ، ويدخل في بحر الروم ، وهو قبلى الأندلس وشرقيها ، ولونها أخضر ولون البحر أسود كالبحر. وإذا أخذته في الإناء لا ترى فيه السواد ، فلا يزال البحر الأسود يصبّ في البحر الأخضر إلى الزوال ، فإذا زالت الشمس عاد الأمر معكوسا فيصبّ البحر الأخضر في البحر الأسود إلى مغيب الشمس ، ثمّ يعلو البحر الأسود ويفيض في البحر الأخضر إلى نصف الليل ، ثمّ ينعكس الأمر فيعلو البحر الأخضر ويصبّ في البحر الأسود إلى طلوع الشمس ، وهكذا على التواتر ، ذلك تقدير العزيز العليم ؛ وسئل رسول الله ، صلّى الله عليه وسلّم ، عن ذلك فقال : ملك على قاموس البحر إذا وضع رجله فيه فاض وإذا رفعها غاض.
وبها جبل فيه غار لا يرى أحد فيه النار ، وإذا أخذت فتيلة مدهونة وشدّت على رأس خشبة طويلة وأدخلت الغار ، اشتعلت الفتيلة وتخرج مشتعلة.
وبها جبل بقرب الجبل الذي سبق ذكره ، ترى على قلّته النار مشتعلة بالليل ، وبالنهار يصعد منه دخان عظيم.
وبها جبل عليه عينان بينهما مقدار شبرين ، ينبع من إحداهما ماء حارّ ومن

الأخرى ماء بارد. ذكرهما صاحب تحفة الغرائب وقال : أمّا الحار فلو رميت فيه اللحم ينطبخ ، وأمّا البارد فيصعب شربه لغاية برودته.
وبها جبل شلير لا يفارقه الثلج صيفا ولا شتاء ، وهو يرى من اكثر بلاد الأندلس لارتفاعه وشموخه ، وفيه أصناف الفواكه من التفّاح والعنب والتوت والجوز والبندق وغير ذلك ، والبرد به شديد جدّا ؛ قال بعض المغاربة وقد اجتاز بشلير فوجد ألم البرد :
يحلّ لنا ترك الصّلاة بأرضكم
 

وشرب الحميّا وهي شيء محرّم
 
فرارا إلى نار الجحيم ، فإنّها
 

أخفّ علينا من شلير وأرحم!
 
إذا هبّت الرّيح الشّمال بأرضكم
 

فطوبى لعبد في اللّظى يتنعّم
 
أقول ولا الحى على ما أقوله
 

كما قال قبلي شاعر متقدّم :
 
فإن كنت يوما في جهنّم مدخلي
 

ففي مثل ذاك اليوم طاب جهنّم!
 
وبها جبل الكحل. إنّه بقرب مدينة بسطة ؛ قالوا : إذا كان أوّل الشهر أخذ الكحل يخرج من نفس الجبل ، وهو كحل أسود لا يزال كذلك إلى نصف الشهر ، فإذا زاد على النصف نقص الكحل ، ولا يزال الذي خرج يرجع إلى تمام الشهر.
وبها نهر ابره ؛ قال أحمد بن عمر العذري صاحب المسالك والممالك الأندلسية : مخرج هذا النهر من عين يقال لها فونت ايبرهي ، ومصبّه في البحر الشامي بناحية طرطوشة ، وامتداده مائتا ميل وعشرة أميال ، يوجد فيه صنف من السمك عجيب يقال له الترحته لا يوجد في غيره البتّة ، وهو سمك أبيض ليس له إلّا شوكة واحدة ؛ كلّ ذلك عن العذري صاحب الممالك والمسالك الأندلسيّة.
وبها نهر أنّه. مخرجه من موضع يعرف بفجّ العروس ، ثمّ يغيض بحيث لا يبقى له أثر على وجه الأرض ، ويحرج بقرية من قرى قلعة رباح يقال لها أنّه ، ثمّ يغيض ويجري تحت الأرض ، ثمّ يبدو هكذا مرارا في مواضع شتى إلى أن

يغيض بين ماردة وبطليوس ، ثمّ يبدو وينصبّ في البحر المحيط. وامتداده ثلاثمائة وعشرون ميلا ؛ كلّ ذلك عن العذري.
أنقرة
مدينة مشهورة بأرض الروم ، تقول العجم انكورية ، غزاها الرشيد وفتحها ؛ قال بسيل الترجمان : كنت مع الرشيد لمّا فتحها. رأيت على باب الحصن كتابة باليونانيّة ، فجعلت أنقلها والرشيد ينظر إليّ ، فإذا هي : بسم الله الرحمن الرحيم ، الملك الحقّ المبين. يا ابن آدم غافص الفرصة عند إمكانها ، وكل الأمور إلى واليها ، ولا يحملنّك إفراط السرور على ما تمّ ، ولا تحملنّ على نفسك همّ يوم لم يأتك ، فإنّه إن لم يأت من أجلك يأت الله برزقك فيه ، ولا تكن أسوة للمغرورين في جمع المال ، فكم قد رأينا من جمع لبعل حليلته ، على أن يعتبر المرء على نفسه توفير الخوان غيرة.
وحكي أن في زمن المعتصم تعدّوا على رجل من أهل العراق بأرض أنقرة ينادي يا معتصماه! فقالوا : اصبر حتى يأتي المعتصم على الابلق ينصرك! فوصل هذا القول إلى المعتصم ، فأمر بشري كلّ فرس أبلق فى مملكته. وذهب إلى الروم ونهب أنقرة ، وكان على باب مدينتها مصراعان من الحديد مفرطا الطول والعرض ، حملهما إلى بغداد وهما الآن على باب العامة ، باب من أبواب حرم الخلافة.
باب الابواب
مدينة عجيبة على ضفة بحر الخزر ، مبنية بالصخور ، وهي مستطيلة يصيب ماء البحر حائطها. طولها مقدار ثلثي فرسخ وعرضها غلوة سهم. عليها أبواب من الحديد ، ولها أبراج كثيرة ، على كلّ برج مسجد للمجاورين والمشتغلين بالعلوم الدينيّة ، وعلى السور حرّاس تحرس من العدوّ.

بناها أنوشروان كسرى الخير ، وهي أحد الثغور العظيمة لأنّها كثيرة الأعداء من الذين حفّوا بها من أمم شتّى ، وإلى جانب المدينة جبل أرعن يعرف بالذنب ، يجمع على قلّته كلّ سنة حطب كثير ليشعلوا فيه النار ، إذا احتاجوا إلى إنذار أهل ارّان وآذربيجان وأرمينية بمجيء العدوّ. وكانت الأكاسرة شديدة الاهتمام بهذا المكان لعظم خطره وشدّة خوفه.
وحكى أبو العبّاس الطوسي أن الخزر كانت تعبر على ملك فارس حتى وصلوا إلى همذان والموصل. فلمّا ملك أنوشروان بعث إلى ملك الخزر ، وخطب إليه ابنته على أن يزوّجه ابنته ويتفرّغا لأعدائهما. فأجابه إلى ذلك ، فعمد أنوشروان إلى جارية من جواريه نفيسة فوجّه بها إلى ملك الخزر على أنّها ابنته ، وحمل معها ما يحمل مع بنات الملوك. وأهدى خاقان ملك الخزر إلى أنوشروان ابنته ، فلمّا وصلت إليه كتب إلى خاقان : لو التقينا أوجبنا المودّة بيننا! فأجابه إلى ذلك فالتقيا وأقاما أيّاما. وأنوشروان أمر قائدا من قواده يختار ثلاثمائة رجل من أشدّاء أصحابه ، فإذا هدأت العيون أغار على عسكر الخزر يحرق ويعقر ويرجع إلى مكانه ، ففعل.
فلمّا أصبح بعث خاقان إلى أنوشروان أن أتيت عسكري البارحة.
فبعث إليه أنوشروان انّه لم يأت من قبلنا فابحث وانظر. ففعل ولم يقف على شيء ثمّ أمهله أيّاما وعاد لمثلها حتى فعل ثلاث مرّات ، وفي كلّها يعتذر ، فدعا خاقان قائدا من قواده وأمره بمثل ما أمر به أنوشروان. فلمّا فعل أرسل أنوشروان : ما هذا؟ استبيح عسكري الليلة! فأرسل إليه خاقان يقول : ما أسرع ما ضجرت! فقد عمل مثل هذا بعسكري ثلاث مرّات ، وإنّما فعل بك مرّة واحدة. فبعث إليه أنوشروان يقول : إن هذا عمل قوم يريدون إفساد ما بيننا! وعندي رأي ان قبلته وهو أن تدعني أبني بيني وبينك حائطا وأجعل عليه أبوابا ، فلا يدخل بلادك إلّا من تريد ، ولا يدخل بلادي إلّا من أريد. فأجابه إلى ذلك ، وانصرف خاقان إلى مملكته.

وأقام أنوشروان وشرع في بناء حائط من الصخر والرصاص ، وجعل عرضه ثلاثمائة ذراع وعلاه حتى ألحقه برؤوس الجبال ثمّ قاده في البحر. فيقال : انّه نفخ في الزقاق وبنى عليها حتى استقرّت على الأرض ، ثمّ رفع البناء حتى استوى مع الذي على الأرض في عرضه وارتفاعه ، فجعل أحد طرفيه في البحر وأحكمه ، وقد مدّة سبعة فراسخ إلى موضع أشب ، وهو جبل وعر لا يتهيّأ سلوكه ، وبنى بالحجارة المهندمة نقل أصغرها خمسون رجلا وأحكمها بالرصاص والمسامير ، وجعل في هذه السبعة فراسخ سبعة مسالك ، على كلّ مسلك مدينة ، ورتّب فيها قوما من مقاتلة الفرس على كلّ مدينة مائة رجل يحرسونها ، بعد أن كان محتاجا إلى مائة ألف رجل. ثمّ نصب سريره على القيد الذي صنعه على البحر ، وسجد شكرا لله على ما تمّ على يده وكفاه شرّ الترك وهجومهم ، واستلقى على ظهره وقال : الآن استرحت. ومدينة باب الأبواب من تلك المدن. والعجم يسمّونه دربند.
وبها صور مطلسمة لدفع الترك ، وكانت عساكر الترك لا تزال تأتي من تلك الجهة وتنهب بلاد إيران ، فلمّا بنى أنوشروان ذلك السدّ وطلسيمه ، لم يذكر أن دخل الترك من تلك الجهة بلاد إيران ، منها صورة أسدين على حائط باب الجهاد ، فوق أسطوانتين من حجر وأسفل منهما حجران ، على كلّ حجر تمثال لبوءتين ، وبقرب الباب صورة رجل بين رجليه صورة ثعلب ، في فمه عنقود عنب لعلّه لدفع الثعلب عن أعنابهم! وإلى جانب المدينة صهريج له درجات ، ينزل بها إلى الصهريج إذا قلّ ماؤه ، وعلى جنبي الدرجة صورتا أسدين من حجارة ، يقولون : إنّهما طلسم اتّخذ للسور ما دام باقيا لا يصيب المدينة من الترك آفة.
وخارج المدينة تلّ عليه مسجد ، في محرابه سيف يقولون : إنّه سيف مسلمة ابن عبد الملك بن مروان. يزوره الناس ، لا يزار إلّا في ثياب بيض ، فمن قصده في ثياب مصبوغة جاءت الأمطار والرياح وكاد يهلك ما حول التلّ. وعليه حفّاظ

يمنعون من يذهب إليه بالثياب المصبوغة. وبقرب هذا التلّ عين يخرج الناس إليها كلّ ليلة جمعة ، فيرون في بعض ناشئة الليل في تلك العين ضياء ونورا ، حتى يتبيّن لهم الحصى والحجر ، ويسمّون تلك العين الثواب.
بتّم
حصن منيع بناحية فرغانة. به معدن الذهب والفضّة والنوشاذر الذي يحمل إلى سائر البلاد. وهو في جبل شبه غار قد بني عليه بيت يستوثق من بابه وكواه يرتفع منه بخار شبيه بالدخان في النهار وبالنار في الليل ، فإذا تلبّد هذا البخار يكون منه النوشاذر ، ولا يتهيّأ لأحد أن يدخل هذا البيت من شدّة حرّه ، إلّا أن يلبس لبودا يرطبها بالماء ، ثمّ يدخله كالمختلس فيأخذ ما يقدر عليه ويسرع الخروج.
بجّانة
مدينة بالأندلس بقرب المرية. بها جمّة غزيرة الماء يقصدها الزمنى ويسكنون بها ، وأكثر من يواظب عليها يبرأ من زمانته. وبها فنادق مبنية بالحجارة لسكان قاصدي تلك الجمّة ، وربّما لم يوجد بها المسكن لكثرة قاصديها. وعلى الجمّة بيتان : أحدهما للرجال وهو على الجمّة نفسها ، والآخر للنساء يدخله الماء من بيت الرجال. وقد بني بيت ثالث مفروش بالرخام الأبيض ، يأتيه الماء من قناة ويختلط بماء الجمّة حتى يصير فاترا ، ويدخله من لا يستطيع دخول ماء الجمّة ، وتخرج فضلتها تسقي الزروع والأشجار.
بخارى
مدينة عظيمة مشهورة بما وراء النهر قديمة طيّبة. قال صاحب كتاب الصور :لم أر ولا بلغني أن في جميع بلاد الإسلام مدينة أحسن خارجا من بخارى.

بينها وبين سمرقند سبعة أيّام وسبعة وثلاثون فرسخا ، هي بلاد الصغد ، أحد متنزّهات الدنيا. ويحيط ببناء المدينة والقصور والبساتين والقرى المتّصلة بها سور يكون اثني عشر فرسخا في مثلها ، بجميع الأبنية والقصور والقرى والقصبة فلا يرى في خلال ذلك قفار ولا خراب ، ومن دون ذلك السور على خاص القصبة ، وما يتّصل بها من القصور والمحالّ والبساتين التي تعدّ من القصبة ، ويسكنها أهل القصبة شتاء وصيفا ، سور آخر نحو فرسخ في مثله ، ولها مدينة داخل هذا السور يحيط بها سور حصين.
روى حذيفة بن اليمان عن رسول الله ، صلّى الله عليه وسلّم : ستفتح مدينة خلف نهر يقال له جيحون ، يقال لها بخارى ، محفوفة بالرحمة ملفوفة بالملائكة ، منصور أهلها ، النائم فيها على الفراش كالشاهر سيفه في سبيل الله.
وخلفها مدينة يقال لها سمرقند ، فيها عين من عيون الجنّة ، وقبر من قبور الأنبياء ، وروضة من رياض الجنّة ، يحشر موتاها يوم القيامة مع الشهداء.
وفي الحديث : أن جبريل ، عليه السلام ، ذكر مدينة يقال لها فاخرة وهي بخارى ، فقال ، صلّى الله عليه وسلّم : لم سمّيت فاخرة؟ فقال : لأنّها تفخر يوم القيامة على المدن بكثرة شهدائها. ثمّ قال : اللهم بارك في فاخرة وطهّر قلوبهم بالتقوى ، واجعلهم رحماء على أمّتي! فلهذا يقال : ليس على وجه الأرض أرحم للغرباء منهم.
ولم تزل بخارى مجمع الفقهاء ومعدن الفضلاء ومنشأ علوم النظر. وكانت الرئاسة في بيت مبارك يقال لرئيسها خواجه إمام أجلّ. وإلى الآن نسلهم باق ونسبهم ينتهي إلى عمر بن عبد العزيز بن مروان ، وتوارثوا تربية العلم والعلماء كابرا عن كابر ، يرتبون وظيفة أربعة آلاف فقيه ، ولم تر مدينة كان أهلها أشدّ احتراما لأهل العلم من بخارى.
ينسب إليها الشيخ الإمام قدوة المشايخ محمّد بن إسماعيل البخاري صاحب الصحيح الذي هو أقدم كتب الأحاديث. كان وحيد عصره وفريد دهره.

حكي انّه لمّا جمع هذا الكتاب بحسنه وصحّته أراد أن يسمع منه أحد حتى يروي عنه بعد موته ، فما كان أحد يوافقه أن يسمع منه ذلك ، حتى ذهب إلى شخص يعمل طول نهاره على بقر فقال له : أنا أقرأ هذا الكتاب وأنت تسمعه مني فلعلّه ينفعك بعد ذلك! وكان الشيخ يقرأ كتاب الصحيح والبقر يعمل والفربري يسمع منه حتى أسمعه جميع الكتاب. فلهذا ترى كلّ من يروي صحيح البخاري تكون روايته عن الفربري.
وينسب إليها أبو خالد يزيد بن هارون. كان أصله من بخارى ومقامه بواسط العراق. حكى عاصم بن عليّ أن يزيد بن هارون كان إذا صلّى العشاء لا يزال قائما حتى يصلّي الغداة بذلك الوضوء ، وداوم على ذلك نيفا وأربعين سنة. وحكى أبو نافع ابن بنت يزيد بن هارون قال : كنت عند أحمد بن حنبل ، وكان عنده رجل قال : رأيت يزيد بن هارون فقلت : يا أبا خالد ما فعل الله بك؟
قال : غفر لي وشفعني وعاتبني! فقلت له : فيم عاتبك؟ قال : قال لي يا يزيد أتحدث عن جرير بن عثمان؟ فقلت : يا ربّ ما علمت منه إلّا خيرا! فقال : إنّه كان يبغض أبا الحسن عليّ بن أبي طالب ، رضي الله عنه.
وحكى آخر قال : رأيت ابن هارون في المنام فقلت له : هل أتاك منكر ونكير؟ قال : إي والله! وسألاني : من ربّك وما دينك ومن نبيّك؟ فقلت : ألمثلي يقال هذا وأنا يزيد بن هارون اعلّم الناس هذا سبعين سنة؟ فقال : صدقت ، نم نومة العروس! توفي يزيد بن هارون بواسط سنة ستّ ومائتين عن سبع وثمانين سنة.
بذّ
كورة بين أرّان وآذربيجان ، كثيرة الضباب قلّما تصحو السماء بها ، منها كان مخرج بابك الخرّمي في أيّام المعتصم بالله. بها موقف رجل لا يقوم أحد فيه يدعو الله تعالى إلّا استجيب له. ومنها يتوقّعون خروج المهدي ، وذكر أن تحتها نهرا عظيما ، إن اغتسل فيه صاحب الحمّى العتيقة ذهبت حمّاه.

برذعة
مدينة كبيرة بأرّان أكثر من فرسخ في فرسخ. أنشأها قباذ الملك ، وهي خصبة نزهة كثيرة الثمار. وبها القرنفل والبندق والشاهبلوط ، وبها صنف من الفواكه يقال له الدرقال على قدر الغبيراء حلو الطعم ، لا يوجد في شيء من غير هذا الموضع.
وبقربها نهر الكرّ يصاد منه الشورماهيج ، ويحمل منها إلى سائر البلاد.
وبها بغال فاقت بغال جميع النواحي في حسنها وصحة قوائمها. وبها سوق الكركي ، يقام كلّ يوم أحد على باب الأكراد مقدار فرسخ في فرسخ ، يجتمع الناس إليه من كلّ وجه وأوب للتجارة ، وهذه كانت صفتها القديمة ، وأمّا الآن فاستولى عليها الخراب إلّا أن آثار الخير بها كثيرة. وبأهلها صعلكة ظاهرة ومثل هذا يذكر للاعتبار. فسبحان من يحيل ولا يحال ، ويزيل ولا يزال.
بسطة
مدينة بالأندلس بقرب جيان ، كثيرة الخيرات. بها بركة تعرف بالهوتة ، فيها ما بين وجه الماء إلى الأرض نحو قامة ، لا يعرف لهذه البركة قعر أصلا.
قال أحمد بن عمر العذري : بين بسطة وبياسة غار يسمّى بالشيمة لا يوجد قعره. وبناحية بسطة جبل يعرف بجبل الكحل ، إذا كان أوّل الشهر برز من نفس الجبل كحل أسود ، ولا يزال كذلك إلى منتصف الشهر ، فإذا زاد على النصف نقص الكحل ، ولا يزال يرجع إلى آخر الشهر.
بلقوار
قرية من قرى تدمير بأرض الأندلس. بها حمّة شريفة حسنة ، عليها ديماس للرجال وآخر للنساء ، وأصل العين في ديماس الرجال ، يخرج منها ماء غزير يفضل عن حاجة الديماسين ، ويسقي زرع القرية.

بلنسية
مدينة قديمة بأرض الأندلس ، ذات خطّة فسيحة ، جمعت خيرات البرّ والبحر والزرع والضرع ، طيّبة التربة ينبت بها الزعفران ويزكو بها ، ولا ينبت في جميع أرض الأندلس إلّا بها كأرض روذراور بأرض الجبال.
بيضاء
مدينة بالأندلس متقنة البناء بالحجر الأبيض المهندم ؛ قالوا :إنّها من بناء الجنّ ، بنوها لسليمان بن داود ، عليه السلام ، من عجائبها أن لا يرى بها حيّة ولا عقرب ، ولا شيء من الهوام المؤذية. حكى محمّد بن عبد الرحمن الغرناطي أنّ برستاقها صنفا من العنب ، وزن الحبّة منه عشرة مثاقيل.
بيلقان
مدينة كبيرة مشهورة ببلاد أرّان ، حصينة ذات سور عال ، بناها قباذ الملك ؛ قالوا : ليس بها ولا في حواليها حجر واحد. ولمّا قصدها التتر ورأوا حصانة سورها أرادوا خرابه بالمنجنيق ، فما وجدوا حجرا يرمى به الحائط.
ورأوا أشجارا من الدلب عظاما قطعوها بالمناشير ، وتركوا قطاعها في المنجنيق ، ورموا بها السور حتى خرّبوا سورها ، ونهبوا وقتلوا والآن عادت إلى عمارتها.
ينسب إليها مجير البيلقاني. كان رجلا فاضلا شاعرا ، وصل إلى أصفهان ، وذكر في شعر له أن أهل أصفهان عمي ، فسمع رئيس أصفهان ذلك وأمر لكلّ شاعر في أصفهان أن يقول فيه شيئا ، ففعلوا فجمعها في مجلد وبعثه إليه.

تركستان
اسم جامع لجميع بلاد الترك ، وحدّها من الإقليم الأوّل ضاربا في المشرق عرضا إلى الإقليم السابع ، وأكثرهم أهل الخيام ، ومنهم أهل القرى ، وسنذكر بلادهم وقبائلهم في الإقليم السادس إن شاء الله تعالى ، وإنّهم سكّان شرقي الأقاليم كلّها من الجنوب إلى الشمال ، ممتازة عن جميع الأمم بكثرة العدد ، وزيادة الشجاعة والجلادة وصورة السباع ، عراض الوجوه فطس الأنوف عبل السواعد ضيقو الأخلاق ، والغالب عليهم الغضب والظلم والقهر وأكل لحوم الحيوانات ، لا يريدون لها بدلا ، ولا يراعون فيها نضجا ، ولا يرون إلّا ما كان اغتصابا كما هي عادة السباع. وليس عيشهم إلّا شنّ غارة أو طلب ظبي نافر أو طير طائر ، حتى إذا ظنّ بهم الكلال رأيتهم على نشاطهم الأوّل في ركض الخيل ، وتسنّم الجبال. وحسبك ما ترى من كبر همّتهم أن أحدهم إذا سبى لا يرضى أن يكون زعيما أو متقدّما لعسكر سيّده ، بل يريد انتزاع الملك من سيّده والقيام مقامه.
حكى بعض التجّار قال : خرج من خوارزم قفل عظيم ، فلمّا ذهبوا أيّاما وبعدوا عن خوارزم ساروا ذات يوم ، فلمّا نزل القوم رأوا مماليكهم الترك خرجوا عن وسط القوم ، وكان عددهم أكثر من عدد التجّار يرمون القوم بالنشاب. قالوا : ما شأنكم؟ قالوا : نريد نقتلكم ونأخذ هذه الأموال ، نشتري منها الخيل والسلاح ، ونمشي إلى خدمة السلطان! فقال القوم لهم : أنتم لا تحسنون بيع هذا القماش فاتركوه معنا حتى نحسن نشتري لكم منها الخيل والسلاح ، ونجعل أحدكم أميرا ، وتمشون إلى خدمة السلطان! فخدعوهم وبعثوا إلى خوارزم من يخبر شحنة خوارزم بالحال ، فما كان إلّا أيّام قلائل حتى وصل الشحنة.
قبض على المماليك ، وردّ القفل إلى خوارزم ، وصلب المماليك ، ونادى في خوارزم أن لا يشتري من التجّار أحد مملوكا رجلا!

وحسبك من غلبتهم في الأمور وصعوبة جانبهم قوله ، صلّى الله عليه وسلّم : اتركوا الترك ما تركوكم! والترك ليسوا من الديانات في شيء ، فمنهم عبدة الكواكب ، ومنهم عبدة النيران ، ومنهم من على مذهب النصارى ، ومنهم مانوية ، ومنهم ثنوية ، ومنهم سحرة ، وصنعتهم الحرب والطعن والضرب الذي هو صنعة المريخ فإنّه صاحبهم.
وحكي أن هشام بن عبد الملك بعث رسولا إلى ملك الترك يدعوه إلى الإسلام ؛ قال الرسول : دخلت عليه وهو يتّخذ بيده سرجا. قال للترجمان : من هذا؟فقال : إنّه رسول ملك العرب. فأمرني إلى بيت كثير اللحم قليل الخبز ثمّ بعد أيّام استدعاني وقال : ما بغيتك؟ فتلطّفت له وقلت : إن صاحبي يريد نصيحتك ، ويرى أنّك في ضلال يريد أن تدخل في دين الإسلام! فقال : ما الإسلام؟ فأخبرته بأركانه وشرائطه وحلاله وحرامه ، فتركني أيّاما ثمّ ركب ذات يوم مع عشرة أنفس ، ومع كلّ واحد لواء وحملني معه ، فمضينا حتى صعدنا تلّا وحول التلّ غيضة. فلمّا طلعت الشمس أمر واحدا من أولئك أن ينشر لواءه ففعل ، فوافى عشرة آلاف فارس متسلّحين ثمّ أمر غيره ، فما زال واحد بعد واحد ينشر لواءه ويأتي عشرة آلاف حتى صار تحت التلّ مائة ألف مدجّج.
ثمّ قال للترجمان : قل لهذا الرسول ارجع إلى صاحبك وأخبره أن هؤلاء ليس فيهم إسكاف ولا حجّام ولا خيّاط ، فإذا أسلموا والتزموا الشرائط للإسلام فمن أين مأكلهم؟
وحكى داود بن منصور الباذغيسي ، وكان رجلا صالحا ، قال : اجتمعت بابن ملك الغزّ فوجدته رجلا ذا فهم وعقل وذكاء ، واسمه لقيق بن جثومة ، وقلت له : بلغنا أن الترك يجلبون المطر والثلج متى شاءوا ، كيف سبيلهم إلى ذلك؟ فقال : الترك أحقر وأذلّ عند الله تعالى من أن يستطيعوا هذا الأمر ، والذي بلغك حقّ ، وأنا أحدّثك به : بلغني أن بعض أجدادي راغم أباه وكان أبوه ملكا ، فاتّخذ لنفسه أصحابا وموالي وغلمانا ، وسار نحو المشرق يغير

على الناس ويصيد ما ظهر له ، فانتهى به المسير إلى موضع ذكر أهله أن لا مسير له بعده ، وكان عندهم جبل تطلع الشمس من ورائه ، وتحرق كلّ شيء وقعت عليه ، وكان سكّانها في الأسراب تحت الأرض والغيران في الجبال بالنهار. وأمّا الوحش فتلتقط حصى هناك قد ألهمها الله تعالى معرفتها ، فتأخذ كلّ وحشيّة حصاة في فيها وترفع رأسها إلى السماء ، فتظلّها غمامة عند ذلك تحجب بينها وبين الشمس ، قال : فقصد أصحاب جدّي حتى عرفوا ذلك الحجر ، فحملوا منه معهم ما قدروا إلى بلادنا ، فهو معهم إلى الآن. فإذا أرادوا المطر حركوا منه شيئا فينشأ الغيم ويوافي المطر ، وإن أرادوا الثلج زادوا في تحريكها فيوافيهم الثلج والبرد ؛ فهذه قصّة المطر والحجر ، وليس ذلك من حيلة الترك بل من قدرة الله تعالى!
وحكى إسماعيل بن أحمد الساماني ، وكان ملكا عادلا غازيا ، قال : غزوت الترك ذات مرّة في عشرين ألف فارس من المسلمين ، فخرج عليّ منهم ستّون ألفا في السلاح الشاك ، فواقعتهم أيّاما ، وإني ليوما في قتالهم إذ جاءني قوم من مماليكي الأتراك وقالوا : إن لنا في معسكر الكفّار قرابات ، وقد أنذرونا بموافاة فلان وأنّه ينشىء السحاب والمطر والثلج والبرد ، وقد عزم أن يمطر علينا غدا بردا عظيما لا يصيب الإنسان ألّا يقتله ، فانتهرتهم وقلت : هل يستطيع هذا أحد من البشر؟
فلمّا كان الغد وارتفع النهار نشأت سحابة عظيمة من جبل كنت مستندا إليه بعسكري ، ولم تزل تتنشّر حتى أظلّت عسكري ، فهالني سوادها وما رأيت فيها من الهول ، وما سمعت من الأصوات المزعجة ، فعلمت أنّها فتنة ، فنزلت عن دابّتي وصلّيت ركعتين والعسكر يموج بعضهم في بعض ، ثمّ دعوت الله تعالى معفّرا وجهي بالتراب وقلت : اللهم أغثنا فإن عبادك يضعفون عن محنتك! وإني أعلم أن القدرة لك ، وان النفع والضرّ لا يملكهما إلّا أنت! اللهم إن هذه السحابة إن أمطرت علينا كانت فتنة للمؤمنين وسطوة للمشركين ، فاصرف عنّا

شرّها بحولك وقوّتك ، يا ذا الحول والقوّة!
قال : وأكثرت من الدعاء رغبة ورهبة إلى الله تعالى ووجهي على التراب ، فبينا أنا كذلك إذ بادر إليّ الغلمان يبشروني بالسلامة ، وأخذوا بعضدي ينهضوني.
وكنت ثقيلا من عدّة الحديد ، فرفعت رأسي فإذا السحابة قد زالت عن عسكري.
وقصدت عسكر الترك وأمطرت بردا عظيما ، فإذا هم يموجون وتنفر دوابّهم ، وما وقعت بردة على أحد إلّا أوهنته أو قتلته. فقال أصحابي : نحمل عليهم؟ فقلت : لا فإن عذاب الله أدهى وأمرّ! فمات منهم خلق كثير ولم يفلت إلّا القليل. فلمّا كان من الغد دخلنا معسكرهم فوجدنا من الغنائم ما شاء الله ، فحملناها وحمدنا الله تعالى على السلامة.
بها جبل زانك ؛ قال صاحب تحفة الغرائب : بأرض تركستان جبل به جمع من أهل بيت يقال لهم زانك ، وهم أناس ليس لهم زرع ولا ضرع ، وفي جبالهم معدن الذهب والفضّة ، فربّما توجد قطعة كرأس شاة ، فمن أخذ القطاع الصغار تمتّع بها ، ومن أخذ من الكبار يفشو الموت في كلّ بيت فيه تلك القطعة. فإن ردّها إلى مكانها ينقطع عنهم الموت ، ولو أخذها الغريب لا يضرّه شيء.
وبها جبل النار ؛ هذا الجبل بأرض تركستان فيه غار شبه بيت كبير ، كلّ دابّة تدخله تموت في الحال لشدّة وهج النار في ذلك البيت.
وبها جبل كيلسيان ؛ ذكر صاحب تحفة الغرائب أن بهذا الجبل موضعا ، كلّ طير طار مسامتا له يقع في الحال ميتا ، فيرى حوله من الحيوانات الميتة ما شاء الله.
وبها جبل ذكره أبو الريحان الخوارزمي في كتابه المسمّى بالآثار الباقية : إن بأرض الترك جبلا إذا اجتاز عليه الغنم شدّت أرجلها بالصوف لئلّا تصطكّ حجارة فيعقبها المطر.
وبها معدن البلحش ومعدن اللازورد والبيجاذق ؛ من خصائصها المسك الذكي الرائحة ، والسنجاب والسمور والقاقم والفنك والثعالب السود والأرانب

البيض ، والبزاة الشهب والحجر اليشب والخيل الهماليج والرقيق الروقة.
وحكى بعض التجّار أن بأرض الترك موضعا يزرع فيه نوع من الحبّ ، فيأتي بثمرة كالبطّيخ ، فإذا ظهرت ثمرته يزرع حولها شيء من الحشيش اللين حتى يكون عند إدراك الثمرة الحشيش موجودا ، فعند ذلك تنشق الثمرة ويخرج منها رأس حمل ، ويجعل يرعى من ذلك الحشيش الذي بقربه أيّاما حتى يقوى ويخرج من ذلك القشر ، وقد حدّث من رأى من هذا الغنم وقال : انّه لا يخالف الغنم إلّا بطول القوائم وفقد الألية ، فإن عند أليتها شبه ذنب ، وتحدّث به كثير من التجار الذين أسفارهم إلى أرض الترك. والله الموفق.
تفليس
مدينة حصينة لا إسلام وراءها. بناها كسرى أنوشروان وحصّنها إسحق ابن إسماعيل ، مولى بني أميّة. يشقّها نهر الكرّ. أهلها مسلمون ونصارى : من أحد جانبي الكرّ يؤذنون ، ومن الجانب الآخر يضربون بالناقوس ، وذكروا أن المدينة كانت مسقّفة بالصنوبر ، فلمّا أرسل المتوكّل إليها بغا لقتال إسحق بن إسماعيل خرج إسحق لمحاربة بغا ، فأمر بغا النفاطين فرموا المدينة بالنار وأحرقوها فاحترقت المدينة كلّها ، لأنّها كانت من خشب الصنوبر ، وهلك خمسون ألف إنسان.
ومن عجائبها حمّام شديد الحرارة لا يوقد ولا يستقى له ماء ، لأنّه بني على عين حارّة. وذكر بعض التجّار أن هذا الحمّام يختصّ بالمسلمين لا يدخله كافر البتّة.
والملّة النصرانيّة بها ظاهرة والمدينة في إيالتهم ، وبها من الصوامع والبيع والدينار الذي يسمّونه بربره ، وهو دينار حسن مفروغ مقعّر عليه كتابة سريانية وصورة الأصنام ، كلّ دينار مثقال ذهب جيد لا يقدر أحد على التلبيس به ، وإنّه نقد بلاد الابخاز وضرب ملوكهم.

ويجلب من تفليس الزئبق والخلنج والعبيد والدواب الفرّه ، وأنواع اللبود والأكسية والبسط الرقيقة والفرش ، والصوف الرفيع والخزّ وما شابه ذلك.
جرجانيّة
قصبة ناحية خوارزم. مدينة عظيمة مشهورة على شاطىء جيحون ، من أمهات المدن جامعة لأشتات الخيرات وأنواع المسرّات. جاء في فضائلها ما ذكره الزمخشري في كتابه ربيع الأبرار عن ابن مسعود ، عن النبيّ ، صلّى الله عليه وسلّم ، أنّه قال : ليلة أسري بي رأيت على السماء الرابعة قصرا مزخرفا ، حواليه قناديل من نور. قلت : يا جبريل ما هذا القصر المزخرف؟ قال :هذا رباط ستفتحه أمّتك بأرض خراسان حول جيحون. قلت : وما جيحون؟قال : نهر بأرض خراسان ، من مات حول ذلك النهر على فراشه قام يوم القيامة شهيدا. قلت : يا جبريل ولم ذاك؟ قال : لهم عدوّ يقال له الترك شديد كلبهم قليل سلبهم ، من وقع في قلبه فزعة منهم قام شهيدا يوم القيامة من قبره مع الشهداء.
وعن الحسن : مدينة بالمشرق يقال لها خوارزم على شاطىء نهر يقال له جيحون ملعون الجانبين ، ألا وإن تلك المدينة محفوفة مكفوفة بالملائكة ، تهدى إلى الجنّة كما تهدى العروس إلى بيت زوجها ، يبعث الله تعالى منها مائة شهيد ، كلّ شهيد منهم يعدل شهيد بدر.
وجرجانية مدينة عظيمة كثيرة الأهل. وأهلها كلّهم أجناد حتى البقّال والقصّاب والخبّاز والحائك.
وحكي أن السلطان محمّد بن تكش أوقع به الخطأ في بعض وقائعه وقتلوا من المسلمين مقتلة عظيمة ، وما أفلت منهم إلّا السلطان في نفر يسير ، فدخل البلد ليلا لئلّا يرى الناس قلّة عدده ، وركب أوّل النهار بثلاثين ألف فارس وذهب إلى وجه العدو.

وأهل جرجانية كلّهم معتزلة ، والغالب عليهم ممارسة علم الكلام حتى في الأسواق والدروب يناظرون من غير تعصّب بارد في علم الكلام. وإذا رأوا من أحد التعصّب أنكروا عليه كلّهم وقالوا : ليس لك إلّا الغلبة بالحجّة ، وإيّاك وفعل الجهّال!
وأهلها أهل الصناعات الدقيقة كالحدّاد والنجّار وغيرهما ، فإنّهم يبالغون في التدقيق في صناعاتهم ، والسكاكون يعملون الآلات من العاج والآبنوس ، لا يعمل في غير خوارزم إلّا بقرية يقال لها طرق من أعمال أصفهان. ونساؤها يعملون بالإبرة صناعات مليحة كالخياطة والتطريز والأعمال الدقيقة.
وحكي أن السبب في بناء هذه المدينة أن بعض الملوك غضب على جمع من أصحاب مملكته ، فأمر بنفيهم إلى موضع بعيد عن العمارات ، فنفوهم إلى هذا المكان وتركوهم ، وكان موضعا منقطعا عن البلاد لا زرع به ولا ضرع. فلمّا كان بعد مدّة جرى ذكرهم عند الملك ، فأمر بكشف خبرهم فجاؤوا إليهم فوجدوهم قد بنوا أكواخا ويتقوّتون بصيد السمك ، وكان عندهم حطب كثير فقالوا لهم : كيف حالكم؟ قالوا : لنا هذا السمك وهذا الحطب. فسمّي الموضع خوارزم لأن بلغتهم خوار اللحم ورزم الحطب ، فبعث الملك إليهم أربعمائة جارية من سبي الترك على عدد الرجال المنفيين ، فتوالدوا وتناسلوا فلهذا ترى صورهم صور الأتراك وطباعهم طباع الترك. وفيهم جلادة وقوّة فعمروا ذلك الموضع حتى صار من أحسن بلاد الله تعالى وأكثرها عمارة ، حتى لم ير بها خراب ، فإنّها مع ما هي عليه من سباخة أرضها وكثرة برودها متّصلة العمارة متقاربة القرى ، كثيرة القصور والبيوت ، وقلّما يقع النظر في رستاقها على أرض لا عمارة فيها ، هذا مع كثرة الأشجار.
والغالب عليها التوت والخلاف لأجل دود القزّ ، فإن لهم يدا باسطة في تربيتها ، والخلاف لأجل العمارات ، فإن عماراتهم من الاخصاص والخلاف لأن أرضها كثيرة النزوز لا تحتمل البناء الثقيل ، فإن الماء ينبع إذا حفرت ذراعين.

وبها زحمة وغلبة شديدة من كثرة الناس ، حتى لا فرق بين أسواقها ورستاقها على المارّين.
وأمّا البرد فإنّه شديد عندهم جدّا حتى ان الإنسان إذا أراد إكرام غيره يقول : بت عندنا فإن عندنا نارا طيّبة! وقد لطف الله تعالى بهم برخص الحطب ، يكون حمل عجلة بدرهمين. والغريب إذا خرج من بيته أوّل النهار مكشوف الوجه يضرب البرد وجهه فيسقط أنفه! وأمّا أهل المدينة فقد عرفوا ذلك فلا يخرجون إلّا مستوري الوجه.
ومن عجائبها زراعة البطيخ ، فإن المدينة تحيط بها رمال سائلة ثمانون فرسخا في ثمانين فرسخا ، شبه الرمال التي دون ديار مصر ، تنبت شوكا طويل الإبر يقال له بالعجميّة اشترغاز ، وهو الشوك الذي يقع عليه الترنجبين بأرض خراسان ، فإذا كان أوان زرع البطيخ يذهب أهل خوارزم إليها ، ويحجّر كلّ أحد قطعة من الأرض أيّ مقدار شاء لا ملك لأحد فيها ، ويشقّ أصول هذا الشوك وقضبانه ، ويدع فيها بزر البطيخ ويتركها ؛ فإن البزر ينبت فيها بنداوة الشوك ، ولا يحتاج أصحابها إلى السقي ولا إلى شيء من أعمال الزراعة. فإذا كان أوان البطيخ ذهبوا إليها ورأوا وجه الأرض ممتلئا من البطيخ الذي لا يوجد مثله في شيء من البلاد حلاوة وطيبا ، ويكون رخيصا جدّا لكثرته وقلّة مؤونته ، وقد يقدّد ويحمل إلى البلاد للهدايا.
جنبذق
قرية من أعمال المراغة ، بينها وبين قلعة روين دز فرسخ. بها بئر عجيبة يخرج منها حمام كثير ، فنصب على رأس البئر شبكة يقع فيها من الحمام ما شاء الله ، وهي بئر لا يدرى قعرها ؛ حكى بعض فقهاء المراغة أنّهم أرسلوا فيها رجلا ليعرف حال الحمام ، فنزل حتى زادت الحبال على خمسمائة ذراع ، ثمّ خرج فأخبر أنّه لم ير شيئا ، وأحسّ بهواء قويّ ، ورأى في آخرها ضوءا وشيئا كثيرا من الحيوانات الموتى.

جنزة
بلدة حصينة قديمة من بلاد أرّان من ثغور المسلمين لقربها من الكرج ، وهي مدينة كثيرة الخيرات وافرة الغلّات. أهلها أهل السّنّة والجماعة أهل الصلاح والخير والديانة ، ولا يتركون أحدا يسكن بلدهم إذا لم يكن على مذهبهم واعتقادهم حتى لا يشوش عليهم مذهبهم واعتقادهم. والعالب عليهم ممارسة السلاح واستعمال آلات الحرب لكونهم في الثغر بقرب أرض الكفّار.
بها نهر قردقاس مجيئه من حاجين ولاية الكرج ، يجري ستّة أشهر وينقطع ستّة أشهر ، ومجيئه وقت معلوم وانقطاعه كذلك. ولأهلها يد باسطة في تربية دود القزّ وعمل الابريسم ، وابريسم جنزة يفوق ما لغيرها من البلاد حسنا.
وفي نفس المدينة قناة ينزل إليها من طريقين : أحدهما موضع يعرف بباب المقبرة ، والآخر بباب البردعة. يؤخذ الماء من باب المقبرة ويجذب به الابريسم ، تزيد قيمته على الابريسم الذي يجذب بماء باب البردعة ، وإن حملوا ماء باب المقبرة إلى باب البردعة لا يفيد شيئا ، وإن حملوا ماء باب البردعة إلى باب المقبرة يفيد ويخرج ابريسمه جيّدا.
وبها قلعة هرك على مرحلة منها. حولها رياض ومياه وأشجار. هواؤها في الصيف طيّب ، يقصدها أهل جنزة في الصيف. لكلّ أهل بيت فيها موضع يقيم فيه حتى تنكسر سورة الحرّ ، ولأعيان جنزة بها دور حسنة.
وإنّها على نهر يقال له دروران ، والنهر ينزل من جبل يسمّى مرا ، ولا يزال عليه الضباب وهو شامخ جدّا. وذكروا أن كلّ من علا القلعة يرى الجبل ، ومن علا الجبل لا يرى القلعة ، وعلى هذا الجبل شجرة لها ثمرة يقال لها الموز ، ليس في جميع الدنيا إلّا بها ، وهي شبيهة بالتوت الشامي ، إلّا أنّها مدوّرة تنفع من أمراض الكبد. وعلى طرف دروران صخرة عظيمة مدوّرة شبه قلعة تسمّى سنك نيم دانك ، تصيبها نداؤة مثل الصدإ تخضب بها الأطراف تفعل فعل الحنّاء ،

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مشاركة مميزة

بناء شخصية  الأطفال   ...