الخميس، 8 مارس 2018

كتاب التاريخ والجغرافيا :  للمؤلف عبد زكرياء بن محمّد بن محمود القزويني بعنوان  -  اثار البلاد واخبار العباد ( الجزء السادس  من الكتابة)

ومن العجب أن هذه النداوة لا تعمل هذا العمل إلّا إذا كان المختضب جالسا عليها ، فإن حمل إلى موضع آخر لم يفد شيئا. وذكر أن الناس يحملون العرائس إليها إذا أرادوا أن يخضبوا أطرافهن.
ويجلب من جنزة إلى سائر البلاد الابريسم الجيّد والأطلس والثياب التي يقال لها الكنجي ، والعجم يسمّونها القطني والعمائم الخزّ ونحوها.
ينسب إليها أبو محمّد النظامي. كان شاعرا مفلقا عارفا حكيما. له ديوان حسن وأكثر شعره إلهيّات ومواعظ وحكم ورموز العارفين وكناياتهم. وله داستان خسرو وشيرين ، وله داستان ليلى ومجنون ، وله مخزن الأسرار وهفت بيكر. ولما نظرم فخري الجرجاني داستان ويس ورامين للسلطان طغرلبك السلجوقي ، وإنّه في غاية الحسن ، شعره كالماء الجاري كأنّه يتكلّم بلا تعسّف وتكلّف ، أراد النظامي داستان خسرو وشيرين على ذلك المنوال ، وأكثر فيها من الإلهيّات والحكم والمواعظ والأمثال والحكايات الطيّبة ، وجعله للسلطان طغرل ابن أرسلان السلجوقي ، وكان السلطان مائلا إلى الشعر والشعراء ، فوقع عنده موقعا عظيما ، واشتهر بين الناس وكثرت نسخه.
وأمّا داستان ليلى ومجنون فطلب منه صاحب شروان فقد نظمها له ، وكان في فنّه عديم النظير. توفي بقرب تسعين وخمسمائة.
ختلان
مدينة بأرض الترك مشهورة. حكي أن بها شعبا بين جبلين ؛ قال صاحب تحفة الغرائب : يأتي في كلّ سنة ثلاثة أيّام من ذلك الشعب في وقت معلوم صيد كثير ، فإذا كانت تلك الأيّام تمتلىء دورهم وسطوحهم من الصيد ثمّ ينقطع إلى سنة أخرى ؛ هكذا ذكره.
ويجلب منها خيل هماليج ليس في شيء من النواحي مثلها.


خلاط
مدينة كبيرة مشهورة قصبة بلاد أرمينية ، ذات خيرات واسعة وثمرات يانعة ، بها المياه الغزيرة والأشجار الكثيرة. وأهلها مسلمون ونصارى. وكلام أهلها العجمية والأرمنية والتركية. ذات سور حصين ، قصدها الكرج في زمن الملك الكامل الأوحد ونزلوا عليها يحاصرونها ، وكان خارج المدينة نهر عليه قنطرة ، فأهل خلاط نقضوها وستروها بشيء من الحشيش ، ليقع فيها من يجتاز عليها من الكرج ، وجلسوا تحت القنطرة منتظرين لمن يقع فيها حتى يأخذوه. وكان لملك الكرج ، ويقال له الإيواني ، منجّم فاضل جرّبه مرارا كان ذا حكم صحيح ؛ قال للإيواني : اركب الآن وحارب فإنّك في آخر النهار تكون جالسا على سرير خلاط. فقام وركب وهو سكران ، فأوّل من اجتاز في القنطرة كان الإيواني وقع في القنطرة. اجتمعوا عليه وأخذوه ؛ قال : لا تقتلوني فإني أنا الإيواني ، فحملوه إلى خلاط وأجلسوه على السرير فقال لهم : إن كنتم تخلّصونني فافعلوا سريعا قبل أن يمشي الخبر إلى الكرج ويقيموا مقامي أحدا ، ولكم كلّ ما سألتم. فطلبوا منه فكّ أسارى المسلمين كلّهم ومالا عظيما عمروا به سور خلاط وعاهدوا بالمهادنة سنين كثيرة وخلّصوه. ومن عجائبها بحيرتها التي يجلب منها السمك الطريخ إلى جميع البلاد ؛ قال ابن الكلبي : بحيرة خلاط من عجائب الدنيا ، فإنّها عشرة أشهر لا ترى فيها سمكة ولا ضفدعة ، وشهران في السنة تكثر بها حتى تقبض باليد ، وتحمل إلى سائر البلاد حتى إلى بلاد الهند ؛ قيل : إنّه لطلسم عمله بليناس الحكيم لقباذ الملك ، وأمّا أهل خلاط فالفسق عندهم ظاهر ، وصنّاعها يعملون أقفالا ما في شيء من البلاد مثلها.


خوارزم
ناحية مشهورة ذات مدن وقرى كثيرة ، وسيعة الرقعة فسيحة البقعة ، جامعة لأشتات الخيرات وأنواع المسرّات ؛ قال جار الله الزمخشري : «بخوارزم فضائل لا توجد في غيرها من سائر الأقطار ، وخصال محمودة لا تتّفق في غيرها من الأمصار ، قد اكتنفها أهل الشرك ، وأطافت بها قبائل الترك ، فغزو أهلها معهم دائم ، والقتال فيما بينهم قائم ، وقد أخلصوا في ذلك نياتهم ، وأمحضوا فيه طوياتهم ، وقد تكفّل الله بنصرهم في عامة الأوقات ، ومنحهم الغلبة في جميع الوقعات ، وقد خصّها بجيحون واد عسر المعبر بعيد المسالك ، غزير الماء كثير المهالك. وأهلها أصحاب قلوب جريّة ، ونفوس أبيّة ، ولهم السداد والديانة ، والوفاء والأمانة ، ودينهم محبّة الأخيار ، ومقت الأشرار ، والإحسان إلى الغرباء ، والتعطّف على الضعفاء. وممّا اختصّت به خوارزم أنواع الرقيق الروقة والخيل الهماليج الفرّهة ، وضروب الضواري من البزاة والصقور ، وأجناس الوبر وألوان الثياب ، وثمارها أطيب الثمار وأشهاها وألذّها وأحلاها وأنماها وأمراها ، وهواؤها أصحّ هواء ، وماؤها أعذب ماء ، وناهيك ببطّيخها الذي لا يوجد مثله.» انتهى كلام الزمخشري.
بها نهر جيحون ؛ قال الأعمود : نهر جيحون يعرف بجريان يخرج من حدود بذخشان ، وينضمّ إليها أنهار في حدود الختل ووحش فتصير نهرا عظيما ، وترتفع إليها أنهار البتم وأنهار صغانيان ، وماء وحشاب الذي يخرج من بلاد الترك ، ويصير في أرض وحش في جبل هناك حتى يعبر قنطرة ، ولا يعلم في الدنيا ماء في كثرته يضيق مثل ضيقه في هذا الموضع ، وهذه القنطرة هي الحدّ بين الختل وواشجرد ، ثمّ يمرّ على مدن كثيرة حتى يصل إلى خوارزم ، ولا ينتفع شيء من البلاد به إلّا خوارزم ، فإنّها تستقلّ عنه ثمّ ينحدر عن خوارزم وينصبّ في بحيرة تسمّى بحيرة خوارزم ، بينها وبين خوارزم ستّة أيّام.


وحكي أن جيحون مع كثرة مائه يجمد في الشتاء ، وكيفيّة جموده أنّه إذا اشتدّ البرد وقوي كلبه جمد أوّلا قطعا ، ثمّ تسري تلك القطع على وجه الماء ، وكلّما ماسّت قطعة من تلك القطاع أخرى التصقت بها ، ولا تزال تنضمّ حتى صار جيحون كلّه سطحا واحدا ، ثمّ يثخن ويصير ثخنه في أكثر الأوقات خمسة أشبار ؛ قال ابن فضلان في رسالته : رأيت جيحون وقد جمد سبعة عشر شبرا. والله أعلم بصحّته. ثمّ يبقى باقي الماء تحته جاريا فيحفر أهل خوارزم فيه آبارا بالمعاول حتى يخرقوه إلى الماء ، ثمّ يسقون منها كما يسقى من البئر لشربهم ، ويحملونه في الجرار. وإذا استحكم جمود هذا النهر عبرت عليه القوافل والعجل الموقرة بالبقر ، ولا يبقى بينه وبين الأرض فرق ، ويتظاهر عليه الغبار كما يكون في البوادي ، ويبقى على ذلك نحو شهرين. فإذا انكسرت سورة البرد عاد ينقطع قطعا كما بدا في أوّل أمره إلى أن يعود إلى حاله الأولى. وهو نهر قتّال قلّما ينجو غريقه.
وبها جبل على ثمانية فراسخ من المدينة ؛ قال أبو حامد الأندلسي : هذا الجبل فيه شعب كبير ، وفي الشعب تلّ عال ، وعلى التلّ شبه مسجد عليه قبّة له أربعة أبواب آزاج كبار ، ويتراءى للناظر كأن بنيان ذلك المسجد من الذهب ظاهره وباطنه ، وحوله ماء محيط بالتلّ راكد لا مادّة له إلّا من ماء المطر والثلج زمان الشتاء. وإن ذلك الماء ينقص ويزيد ذراعا في الصيف والشتاء في رؤية العين.
والماء ماء عفن نتن عليه طحلب لا يستطيع أحد أن يخوضه ، ومن دخل في ذلك استلبه الماء ولا يظهر أثره البتّة ، ولا يدرى أين ذهب. وعرض الماء مقدار مائة ذراع.
وحكي أن السلطان محمود بن سبكتكين وصل إلى هذا الموضع وأقام به زمانا وألقى فيه الزوارق فغاصت فيه ، فأمر السلطان جميع عساكره بحمل التراب والخشب ونفضها في ذلك الماء ، فكلّ شيء ألقي فيه غاص ولم يظهر له أثر.
وقالوا : إن ذلك الماء إذا وقع فيه حيوان لم يقدر أحد على إخراجه البتّة ، وان


كان مشدودا بالحبال وجرّه الرجال. وكلّ من سافر من خوارزم في طريق سخسين يرى ذلك الماء في طريقه ، ولا حيلة في ذلك إلّا ما شاء الله وانّه من عجائب الدنيا.
وبقرب خوارزم على ستّ مراحل منها بحيرة تستمدّ من جيحون. يخرج منها حجر على صورة البطيخ يعرف بالحجر اليهودي. لهذا الحجر فوائد كثيرة ذكرت في كتاب الخواص ، وأشهرها ما يستعمله الأطبّاء لوجع الحصاة في المثانة ، نعوذ بالله منه ، وهو نوعان : ذكر وأنثى ، فالذكر للرجال والأنثى للنساء.
خويّ
مدينة معمورة من مدن آذربيجان ، ذات سور حصين ومياه وأشجار ، كثيرة الخيرات وافرة الغلّات ، كثيرة الأهل. وأهلها أهل السنّة والجماعات على مذهب واحد ، ليس بينهم اختلاف المذاهب. يعمل بها الديباج الذي يسمّونه الجولخ.
بها عين كنكلة ؛ حدّثني بعض فقهاء خويّ أن هذه العين ينبع منها ماء كثير جدّا بارد في الصيف حارّ في الشتاء.
ينسب إليها القاضي شمس الدين الخوي. كان عالما فاضلا ذا فنون من العلم شرعياته وعقلياته ، ذا تصانيف حسنة. فلمّا كان هجوم التتر هرب من خراسان وذهب إلى الشام ، وما عرفوا قدره ، رتّبوه معيدا في مدرسة دمشق.
حكي أن ابن الجوزي بعث رسولا إلى الملك المعظم من دار الخلافة ، فلمّا وصل إلى دمشق التمس أن يستدلّ بين يدي الملك المعظم ، وكان الملك فقيها حنفيّا ، فجمع له أعيان دمشق ، وكان ابن الجوزي واعظا فصيحا قادرا على الكلام ، وما كان في القوم من يناقش بالمنوع الدقيقة. فلمّا قام قال : هذه مدينة حسنة ليس فيها فقيه! فتأذّى الملك المعظم من ذلك وقال : ان هذا يعتقد انّه قال شيئا!


فقالوا له : ههنا فقيه عجميّ جمع بينهما وتفرّج عليهما. فلمّا حضر ابن الجوزي طلبوا شمس الدين ، فأراد تمشية مقدمة معه فما قدر ، ثمّ ان شمس الدين أخذ مقدماته وقلبها عليه ثمّ عارضه في المقدمات وفي الحكم حتى جعله مبهوتا. فقال ابن الجوزي : هذا الفقيه في أيّ شيء شغل؟ قالوا : ما هو في شيء من الأشغال.
فقال : مثل هذا يترك عاطلا؟ فولّاه قضاء دمشق وتدريس العادلية. توفي قريبا من أربعين وستمائة شابّا ، رحمة الله عليه.
خيوق
قرية من قرى خوارزم. ينسب إليها الشيخ الإمام قدوة المشايخ أبو الجناب ، أحمد بن عمر بن محمّد الخيوقيّ المعروف بكبرى. كان أستاذ الوقت وشيخ الطائفة وفريد العصر. له رسالة الهائم الخائف من لومة اللائم ، من حقّها أن تكتب بالذهب ، ما صنّف مثلها في الطريقة. ومن عجائبها ما ذكر أن للشيطان لطائف عجيبة في اضلال الناس ، فيضلّ كلّ واحد حسبما يليق بحاله : أمّا الجهال فيضلّهم بجهلهم ، وأمّا العلماء فيقول اشتغل بتحصيل العلوم ، أما عرفت قول النبيّ ، صلّى الله عليه وسلّم : لفقيه واحد أشدّ على الشيطان من ألف عابد؟ فاصرف عمرك في تحصيل العلوم ، فإذا كان آخر عمرك اشتغل بالعمل ؛ فيأتيه الموت يعبه فجأة ، فيكون له علم بلا عمل.
وحكى ، رحمه الله ، أنّه كان يجاهد نفسه ، فجاء الشيطان ليوسوس عليه الحال فقال : إنّك رجل عالم تتبع آثار النبيّ ، صلّى الله عليه وسلّم ، فاشتغل بسمع أحاديث النبيّ وآثار المشايخ الكبار الحفّاظ ، فإنّك إن اشتغلت بمجاهدة النفس فإن عليك إدراك المشايخ الكبار والأستاذ العالي ، وأمّا المجاهدة فلا تفوتك فيما بعد! فكدت أعمل بوسوسته فهتف بي هاتف :
ومن يسمع الأخبار من غير واسط
 

حرام عليه سمعها بوسائط!
 



فعرفت أن ذلك الخاطر من وساوسه فتركته. توفي الشيخ قريبا من سنة عشر وستمائة.
وينسب إليها الشيخ الفاضل العالم شهاب الدين الخيوقي. كان نائب السلطان خوارزمشاه في جميع مملكته ، والقضاة والمدرّسون والمفتون في جميع مملكة السلطان نوّابه ، فإذا دخل مدينة كان المدرّسون والقضاة والعلماء يحضرون درسه ، وكان شافعي المذهب متعصّبا لأصحابه ، وكان من عادته انّه إذا دخل مدينة ذهب إليه الفقهاء وقرأوا عليه محفوظهم ، وكان الشيخ يولّيهم الأشغال من كان صالحا لها.
دير برصوما
على قلّة جبل ببلاد الروم بقرب ملطية. وهذا دير معتبر عند النصارى ، فإنّهم يقولون ان برصوما كان من الحواريّين ، وهو الدير الذي ينادى بطلب نذره في بلاد الروم وديار بكر وربيعة والشام. فيه رهبان كثير يؤدّون كلّ عام إلى صاحب الروم عشرة آلاف دينار من نذره.
حكى العفيف مرجى التاجر الواسطي قال : اجتزت بهذا الدير قاصدا بلاد الروم ، فسمعت كثرة ما ينذرون له ، وان النذر له لا يخطىء ، فألقى الله على لساني ان قلت : هذا القماش الذي معي مشتراه خمسة آلاف درهم ، فإن بعته بسبعة آلاف درهم فلبرصوما من خالص مالي خمسون درهما! فدخلت ملطية وبعته بسبعة آلاف درهم ، فلمّا رجعت سلّمت إلى رهبانه خمسين درهما ، وسألته عن برصوما فذكر أنّه مسجى على سرير وأن أظافيره تطول كلّ عام ، وانّهم يقلّمونها ويحملونها إلى صاحب الروم مع ما له عليهم من القطيعة.


الرّوم
بلاد واسعة من أنزه النواحي وأخصبها وأكثرها خيرا وعجائب ذكرت في مواضعها. مياهها أعذب المياه وأخفّها ، وهواؤها أصحّ الأهوية وأطيبها ، وترابها أطيب الأتربة وأصحّها. ومن خواصّها نتاج الدوابّ والنعم. وليس في شيء من البلاد مثل مائها يحمل منها إلى سائر الآفاق ، وكذلك أصناف الرقيق من الترك والروم.
وأهلها مسلمون ونصارى. وشتاؤها يضرب المثل به حتى وصفه بعضهم فقال : الشتاء بالروم بلاء وعذاب وعناء! يغلظ فيها الهواء ويستحجر الماء ، تذوي الوجوه وتعمش العيون وتسيل الأنوف وتغيّر الألوان وتقشف الأبدان ، وتميت كثيرا من الحيوان. أرضها كالقوارير اللامعة وهواؤها كالزنابير اللاسعة ، وليلها يحول بين الكلب وهريره والأسد وزئيره ، والطير وصفيره ، والماء وخريره ، ويتمنّى أهلها من البرد الأليم دخول حرّ الجحيم!
وبلاد الروم بلاد واسعة ومملكة عظيمة ، ولبعدها عن بلاد الإسلام وقوّة ملكها بقيت على كفرها كما كانت ، وانّه أحد معجزات رسول الله ، صلّى الله عليه وسلّم ، انّه قال : أمّا فارس فلا نطحة أو نطحتان ثمّ لا فارس بعدها! وأمّا الروم فإنّها ذات قرون كلما مرّ قرن يخلفه قرن آخر!
وأهل الروم سكّان غربي الإقليم الخامس والسادس ، ولبرد بلادهم ودخولها في الشمال ترى الغالب على ألوانهم البياض ، وعلى شعورهم الشقرة ، وعلى أبدانهم الصلابة. والغالب على طبعهم مباشرة اللهو والطرب ، لأنّ المنجّمين زعموا ان الروم تتعلّق بالزهرة.
وحكي أن أهل الروم كانوا لا يملّكون إلّا من كان أكثرهم عقلا وأوفرهم علما وأصحّهم بدنا ، وإذا اختلّ منه شيء من هذه ملّكوا غيره وعزلوه ، وكانوا على هذا إلى أن أصاب ملكهم آفّة فهمّوا بعزله ، فقال الملك : اصبروا


عليّ زمانا فإن داويت مرضي فأنا أولى من غيري ، وإلّا فافعلوا ما شئتم! فذهب إلى بلاد الشام ليتداوى بحمة كانت بها ، فرأى الملّة النصرانيّة قد ظهرت بها ، فأخذ جمعا من القسوس والرهابين ورجع بهم إلى الروم ، ودعا الناس إلى الملّة النصرانيّة ولم يزل يجيب قوم بعد قوم حتى صاروا أمّة واحدة.
وحكي عن أهل الروم أنّهم يتّخذون صور الملوك والحكماء والرهابين يستأنسون بها بعد موتهم. ولهم في التصوير يد باسطة حتى يصوّرون صورة الإنسان ضاحكا وباكيا ، وصورته مسرورا وصورته حزينا.
وحكي أن مصوّرا دخل بلدا ليلا ونزل بقوم فضيّفوه ، فلمّا سكر قال : إني صاحب مال ومعي كذا وكذا دينارا ، فسقوه حتى طفح وأخذوا ما كان معه وحملوه إلى موضع بعيد منهم. فلمّا أصبح ، وكان غريبا لم يعرف القوم ولا المكان ، ذهب إلى والي المدينة وشكا فقال له الوالي : هل تعرف القوم؟ قال : لا. قال : هل تعرف المكان؟ قال : لا. قال : فكيف السبيل إلى ذلك؟ فقال الرجل : إني أصوّر صورة الرجل وصورة أهله فاعرضها على الناس لعلّ أحدا يعرفهم! ففعل ذلك وعرض الوالي على الناس ، فقالوا : انّها صورة فلان الحمامي وأهله.
فأمر بإحضاره فإذا هو صاحبه فاستردّ منه المال.
ويقام بالروم سوق كلّ سنة أوّل الربيع أربعين يوما يقال لذلك السوق «بيله» يأتيها الناس من الأطراف البعيدة من الشرق والغرب والجنوب والشمال.
والتجار يجهدون غاية جهدهم حتى يدركوا ذلك السوق ، فمتاع أهل الشرق يشتريه أهل المغرب وبالعكس ، ومتاع أهل الشمال يشتريه أهل الجنوب وبالعكس.
ويقع فيه من المماليك والجواري التركية والرومية ، ومن الخيل والبغال الحسنة ، ومن الثياب الأطلس ، ومن السقلّاط ومن الفراء الفندر وكلب الماء والبرطاس ، ويدلسون تدليسات عجيبة. ومن عادة هذا السوق ان من اشترى شيئا فلا يردّه البتّة ؛ وحكي أن بعض التجّار اشترى مملوكا حسن الصورة بثمن بالغ ، فلمّا غاب عنه بائعه وجده جارية مستحسنة!


وبها الخانات على طرق القوافل على كلّ فرسخ خان ، بنتها بنات السلاطين للثواب ، فإن البرد بالروم ثمانية أشهر والثلج كثير ، والقفل لا ينقطع في الثلج ، فيمشون كلّ يوم فرسخا وينزلون في خان من الخانات ، ويكون فيه من الطعام والشعير والتبن والحطب والبزر والاكاف والنعال والمنقل ، وانّها خير عظيم لم يبن مثلها في شيء من البلاد.
ومن خواصّ الروم أن الإبل لا تتولّد بها ، وإذا حملت إليها تسوء حالها وتتلف.
بها جبل أولستان. في وسط هذا الجبل شبه درب فيه دوران ، من اجتاز فيه وفي حال اجتيازه يأكل الخبز بالجبن ، ويدخل من أوّله ويخرج من آخره لا يضرّه عضّة الكلب الكلب ، وإن عضّ إنسانا غيره فعبر من بين رجلي المجتاز يأمن أيضا غائلته. وهذا حديث مشهور بالروم.
وبها عين النار بين أقشهر وانطاكية ، إذا غمست فيه قصبة احترقت.
حدّثني من شاهدها أنه قد ذكر ذلك للسلطان علاء الدين كيخسرو عند اجتيازه بها ، فوقف عليها وأمر بتجربتها ، فكان الأمر كما قالوا.
رندة
مدينة حصينة بأرض الأندلس من أعمال تاكرنا قديما. استجلب إليها المياه من ناحية المشرق وناحية المغرب فتوافي المياه داخلها.
بها نهر رندة ، وهو نهر يتوارى في غار لا يرى جريه أميالا ، ثمّ يخرج إلى وجه الأرض ويجري.
وبها نهر البرّادة ، وهو نهر يجري في أوّل الربيع إلى آخر الصيف ، فإذا دخل الخريف يبس إلى أوّل الربيع من القابل ، وهو على فرسخين من رندة.


روين دز
قلعة في غاية الحصانة على ثلاثة فراسخ من المراغة في فضاء من الأرض.
ضرب بحصانتها وإحكامها المثل. وهي بين رياض على يمينها نهر وعلى يسارها نهر. وعلى القلعة بستان يسمّى عميداباذ ، ومصنع بئر الماء من تحتها. وفيها عين في صخرة صمّاء ينبع منها ماء يسير. وبحذاء القلعة جبل ، وفي ذلك الجبل عين غزيرة الماء ينزل عن الجبل ويصعد القلعة بطريق الفوارات بصنعة عجيبة ، ومنها شرب أهل القلعة ، والقلعة لغاية حصانتها في أكثر الأوقات لا يعطي صاحبها الطاعة لصاحب المراغة.
زمخشر
قرية من قرى خوارزم. ينسب إليها العالم الفاضل أبو القاسم محمود بن عمر جار الله الزمخشري. كان بالغا في علم العربيّة وعلم البيان ، وله تصانيف حسنة ليس لأحد مثلها في فصاحة الألفاظ وبلاغة المعاني مع إيجاز اللفظ ، حتى لو أن أحدا أراد أن ينقص من كلامه حرفا أو يزيد فيه بان الخلل. ذهب إلى مكّة وجاور بها مدّة فسمّي جار الله ، وصنّف بمكّة كتاب الكشّاف في الحرم الشريف حتى وقع التأويل حيث وجد التنزيل ، وإنّه كتاب في غاية الحسن لولا التعصّبات الباردة على وقف الاعتزال ، وانّه كان من أهل العلم والفضل. هذا منه عجيب.
سبتة
مدينة من بلاد الأندلس على شاطىء مجمع البحرين ؛ قال محمّد بن عبد الرحيم الغرناطي : مدينة سبتة مدينة عظيمة كثيرة الأهل حصينة مبنية بالحجر وفيها خلق كثير من أهل العلم ، وعندها كانت الصخرة التي قال يوشع لموسى ،


عليه السلام : أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت واتّخذ سبيله في البحر عجبا. وهو الحوت الذي أكلا نصفه والنصف الآخر أحياه الله تعالى ، فوثب في البحر وارتفعت المياه كالقنطرة ، والحوت يمشي تحتها ، فلهذا قال : واتّخذ سبيله في البحر عجبا.
ولها نسل في ذلك الموضع إلى الآن ، وهي سمكة أطول من ذراع وعرضها شبر نصفها عظام وشوك ، عليها غطاء رقيق يحفظ أحشاءها. ومن رآها من ذلك الجانب يحسب انّها ميتة مأكولة ، والنصف الآخر صحيح كما يكون السمك الصحيح ، والناس يتبرّكون بها ويهدونها إلى المحتشمين. وأمّا اليهود فإنّهم يشترونها ويقدّدونها ويهدونها إلى البلاد البعيدة.
سبرى حصار
قلعة حصينة بالروم مشهورة على مرحلتين من قونية ، بها بيعة كمنانوس.
حدّثني بعض الفقهاء من أهلها أن الدابّة إذا احتبس ماؤها يطاف بها حول هذه البيعة سبعا فينفتح ماؤها ، وذلك أمر مشهور يعرفه أهل تلك البلاد كلّهم.
سرقسطة
مدينة كبيرة من أطيب بلاد الأندلس بقعة ، وأحسنها بنيانا وأكثرها ثمارا وأغزرها مياها. حكى أحمد بن عمر العذري أنّها لا يدخلها حنش ولا يعيش بها.
ومن أعمالها قرية يقال لها بلطش ؛ قال العذري : بها عين يابسة العام كلّه ، فإذا كان أوّل ليلة من شهر اغشت انبعثت بالماء تلك الليلة ، ومن الغد إلى وقت الزوال ، فعند ذلك يبدو فيها النقصان وإلى أوّل الليل يجفّ ، ويبقى كذلك إلى تلك الليلة من العام القابل. وسرقسطة بيد الإفرنج ، ملكوها سنة اثنتي عشرة وخمسمائة.


سمرقند
مدينة مشهورة بما وراء النهر قصبة الصغد ؛ قالوا : أوّل من أسّسها كيكاوس ابن كيقباذ ، وليس على وجه الأرض مدينة أطيب ولا أنزه ولا أحسن من سمرقند.
عن أنس بن مالك أنّه قال : مدينة خلف نهر جيحون تدعى بسمرقند ، لا تقولوا لها سمرقند ولكن قولوا المدينة المحفوظة. فقالوا : يا أبا حمزة وما حفظها؟ قال : أخبرني رسول الله ، صلّى الله عليه وسلّم ، أن مدينة خلف النهر تسمّى المحفوظة لها أبواب ، على كلّ باب خمسة آلاف ملك يحفظونها ، وخلف المدينة روضة من رياض الجنّة ، وخارج المدينة ماء حلو عذب من شرب منه شرب من ماء الجنّة ، ومن اغتسل به خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمّه ، ومن تعبّد فيها ليلة يقبل منه عبادة ستّين سنة ، ومن صام فيها يوما فكأنّما صام الدهر ، ومن أطعم فيها مسكينا لا يدخل الفقر منزله أبدا.
حكي أن شمر بن افريقيش بن أبرهة جمع جنوده خمسمائة ألف رجل ، وسار نحو بلاد الصين ، فلمّا وصل إلى الصغد عصى عليه أهل تلك البلاد ، وتحصّنوا بسمرقند ، فأحاط بها من جميع الجهات وحاصرها ، فلم يظفر بها. وسمع أن ملكها أحمق وله ابنة تدبّر أمر الملك ، فأرسل إليها هدية عظيمة وقال : إني إنّما قدمت هذه البلاد لأتزوّج بك ، ومعي أربعة آلاف صندوق ذهبا وفضّة أدفعها إليك وأمضي إلى الصين ، فإن ملكت كنت امرأتي وإن هلكت فالمال لك! فأجابته إلى ذلك فأرسل إليها أربعة آلاف صندوق فيها أربعة آلاف رجل ، ولسمرقند أربعة أبواب إلى كلّ باب ألف صندوق ، وجعل العلامة بينهم ضرب الجرس. فلمّا دخلوا باب المدينة ضربوا الجرس ، فخرج الرجال وملكوا الأبواب حتى اتّصل بهم جنود شمر وملكوا المدينة ونهبوها ، وقتلوا وهدموا فسمّيت شمركند ، فعرّبته العرب وقالوا : سمرقند. ثمّ سار شمر نحو الصين


فمات في الطريق هو وأصحابه عطشا.
فلمّا هلك تبّع بن أبي مالك أراد أن يأخذ بثأر جدّه ، فسار نحو الصين ، فلمّا وصل إلى سمرقند وجدها خرابا فأمر بعمارتها وردّها إلى ما كانت وأحسن منها. فلمّا كان زمن الإسكندر وجدها موضعا شريفا فبالغ في عمارتها ، وبنى لها سورا محيطا بها استدارته اثنا عشر فرسخا ، فيها بساتين ومزارع وارحاء ، ولها اثنا عشر بابا من الباب إلى الباب فرسخ ، وعلى أعلى السور آزاج وأبرجة للحرب. وإذا جزت المزارع جزت إلى الربض وفيه أبنية وأسواق.
وبها الجامع والقهندز ومسكن السلطان. وفي المدينة الداخلة نهر من رصاص يجري على مسنّاة عالية من حجر ، ويدخل المدينة من باب كشّ ، وأكثر دروبها ودورها فيها الماء الجاري ، ولا تخلو دار من بستان حتى لو صعدت قهندزها لا ترى أبنية المدينة لاستتارها بالبساتين والأشجار. وأمّا داخل سور المدينة الكبيرة ففيه أودية وأنهار وعيون وجبال. وبسمرقند أشياء ظريفة تنقل إلى سائر البلاد : منها الكاغد السمرقندي الذي لا يوجد مثله إلّا بالصين ؛ وحكى صاحب الممالك والمسالك انّه دفع من الصين إلى سمرقند سبي ، وكان فيهم من يعرف صنعة الكاغد ، فاتّخذها ثمّ كثرت حتى صارت متجرا لأهل سمرقند ، فمنها تحمل إلى سائر البلاد.
بها جبل قال صاحب تحفة الغرائب : في هذا الجبل غار يتقاطر منه الماء في الصيف ، ينعقد من ذلك الماء الجمد ، وفي الشتاء من غمس يده فيه يحترق.
ينسب إليها الإمام الفاضل البارع ركن الدين العميدي أعجوبة الزمان ، انتشر صيته في الآفاق وفاق كلّ مناظر بالطبع السليم والذهن المستقيم. قال أستاذنا أثير الدين المفضل بن عمر الأبهري : ما رأيت مناظرا مثل العميدي في فصاحة الكلام وبلاغة المعاني ، وحسن التقرير وتنقيح البيان!
وحكي أن زين الدين عبد الرحمن الكشّي ، وكان من فحول العلماء ، استدلّ في محفل ، وكان العميدي حاضرا فصبّ عليه من الملازمات حتى بهره فقال الكشّيّ :


قل واحدا واحدا واسمع جوابه! فلمّا شرع الكشّيّ في الجواب كان العميدي يزيد على الجواب أيضا. فلمّا أظهر القدرة خلّاه حتى تمّمه. وإذا حضر العميدي مدينة حضر جميع الفقهاء عنده ، واغتنموا حضوره وقرأوا تصانيفه.
وعزم الذهاب إلى بلاد العراق فقالوا للسلطان : إن هذا رجل عديم المثل زينة لهذه البلاد ؛ فمنعه من مفارقة تلك البلاد. فلمّا وصل إلى نيسابور قالوا له :إن كان لك التماس من السلطان فالتمس ولا تخرج عن مملكته.
وحكي أنّه كان يباحث أحدا فنقل نقلا فأنكر المباحث ذلك النقل ، فقام ودخل البيت حتى يأتي بالكتاب الذي فيه النقل فأبطأ الخروج فدخلوا عليه فإذا هو مفارق. وكان ذلك قريبا من سنة عشر وستمائة.
سيواس
مدينة بأرض الروم مشهورة خصينة كثيرة الأهل والخيرات والثمرات.
أهلها مسلمون ونصارى ، والمسلمون تركمان وعوام طلاب الدنيا وأصحاب التجارات ، وعلى مذهب الإمام أبي حنيفة ، وأسباب الفسق والبطالة عندهم ظاهرة.
وحكى بعض الغرباء قال : دخلت سيواس فسألت عن مسجد آوي إليه ، فدلّوني على بعضها فدخلته فإذا فيه دنان فيها خمور ، فحولقت وأردت أن أريقها فقلت : أنا رجل غريب ، هذا على يد المحتسب أولى. فسألت عن دار المحتسب وسألت عنه قالوا : إنّه سكران نائم! فعجبت من هذا أيضا أن المحتسب يكون سكران ، فصبرت حتى استيقظ وقلت له ما رأيت في المسجد ، فقال : هذا مسجد لا وقف له ، وأثّر فيه الخراب فأكريناه من بعض الخمّارين وأخذنا الأجرة سلفا ، وعمرنا المسجد بها! فقلت : ما أنت رجل مسلم؟ قال : بلى. قلت له :اراقة الخمر واجب عليك فكيف تركت الواجب؟ فقال : يا هذا أريق خمور النصارى حتى يضمّنوني قيمتها؟ قلت : قالوا لي انّك سكران نائم فكيف يكون المحتسب سكران؟ فقال : إن القوم لقلّة ديانتهم يمزجون الماء بالنبيذ ويبيعونه ،


وأنا أذوق منه وأزجر من يفعل ذلك.
وحكي أن بسيواس وقفا على علف الطيور شتاء ، وذلك عند وقوع الثلج عمّ جميع وجه الأرض ، فعند ذلك ينتقل صغار الطيور من الصحراء إلى العمران ، فتشترى الحبوب بحاصل هذا الوقف وتنثر على السطوح لتلتقطها الطيور الضعاف.
شاش
ناحية من وراء نهر سيحون متاخمة لبلاد الترك. كانت أكبر ثغر في وجه الترك ، وكانت من أنزه بلاد الله وأكثرها خيرا. وكانت عامّة دورهم يجري فيها الماء وكلّها مستترة بالخضرة ، فخربت في زمن السلطان محمّد خوارزمشاه ، بسبب اختلاف عساكره وعساكر خطا ، فقتل ملوكها وجلا أهلها عنها لعجزه عن ضبطها ، فبقيت تلك الديار والأنهار والأشجار والأزهار خاوية على عروشها ، وذلك قبل ورود التتر.
ينسب إليها أبو بكر محمّد بن عليّ بن إسماعيل القفّال الشاشي. كان عالما فقيها ذا تصانيف كثيرة. درس على أبي العبّاس بن سريج ، وهو الذي أنشأ علم المناظرة وأظهر مذهب الشافعي ببلاد ما وراء النهر. وكان أوّل أمره قفّالا ، عمل قفلا وزنه دانق مع الفراشة والمفتاح ، فتعجّب الناس من حذقه. واختار مذهب الشافعي وعاد إلى ما وراء النهر ، وانتشر فقه الشافعي بما وراء النهر مع غلبة الحنفية هناك. وكان علّامة في التفسير والفقه والأدب والجدل والأصول.
وبها جبل اسبرة ؛ قال الاصطخري : هي جبال يخرج منها النفط ، وانّها معدن الفيروزج والحديد والصفر والانك والذهب. ومنها جبل حجارته سود يحترق مثل الفحم ، يباع منه وقر أو وقران بدرهم ، فإذا احترق اشتدّ بياض رماده فيستعمل في تبييض الثياب ، ولا يعرف مثله في شيء من البلاد ، وفي الطبيعة عجائب لا يعلم سرّها إلّا الله.


شاطبة
مدينة كبيرة قديمة في شرقي الأندلس ، يذكر أهلها بالشرّ والظلم والتعدي ؛ قال صفوان بن ادريس المرسي في وصف شاطبة :
شاطبة الشّرق شرّ دار
 

ليس بسكّانها فلاح
 
الظّلم عند الورى حرام
 

وإنّه عندهم مباح!
 
ينسب إليها المقرئ الشاطبي. عمل قصيدة طويلة لأميّة ، وذكر القراءات فيها وأسماء القرّاء بالحروف المرموزة ، ولم يقصّر في جميع ذلك ونظمه.
شاشين
جزيرة توازي حدّ الأندلس ، طولها مسيرة عشرين يوما. وهي كثيرة الخيرات آهلة كثيرة المواشي جدّا ، وغنمها بيض كلّها ، لا يكاد يوجد بها شاة سوداء. وأهلها أكثر الناس تحلّيا بالذهب ، فيكون الوضيع والشريف يطوّق بالذهب ، ولأشرافهم أسورة الذهب في زنودهم ، وملوكهم يركّبون صفائح الذهب على دروز الخياطة من الثياب.
بها نوع من الصوف في غاية الحسن ، لا يوجد مثلها في شيء من البلاد ؛ قالوا سبب ذلك أن نساءها يدهنّ الصوف بشحم الخنزير ، فيجوّد عملها ولونها أبيض أو فيروزجيّ وانّها في غاية الحسن.
وبها عجب ليس في جميع الدنيا ، وهو أن على شاطئ بحرهم شجرا فربّما انهارت الأجراف ووقعت الشجرة في البحر ، فيضطرب من الأمواج حتى يصير عليه طخاء أبيض ، فلا يزال كذلك ويصير الطخاء زائدا حتى يصير فى خلقه بيضة ، ثمّ تخطط البيضة على خلقة طائر فلا يحتبس إلّا رجلاه ومنقاره ، فإذا أراد الله نفخ الروح فيه يخلق ريشه وينفصل الرجلان والمنقار من العود فيصير


طائرا يسعى في البحر على سطح الماء ، ولا يوجد حيّا أبدا ، فإذا مدّ البحر حمله الماء إلى السواحل فيوجد ميتا. وهو طائر أسود يشبه الطائر الذي يقال له الغطاسة.
وحكى أحمد بن عمر العذري أن بعض الناس أتى بعود ، وقد تخلّق فيه حمل من البيض إلى بعض الملوك ، فأمر الملك أن يبنى عليه قبّة شبه قفص ويترك في الماء ، فلم يزل على الضفة حتى تبرأت الطيور من العود داخل القبّة.
شبليّة
قرية من كور أسروشنة بما وراء النهر من أعمال بخارى. ينسب إليها أبو بكر دلف بن جعفر الشبلي الزاهد العارف ، أعجوبة الدهر وصاحب الحالات العجيبة ؛ كان أبوه حاجب الموفق فورث منه ستّين ألف دينار ، فحضر مجلس جبر النسّاج وأنفق ذلك المال على الفقراء ، وذهب إلى ناحية دماوند وقال لأهلها :اجعلوني في حلّ ، فإني كنت والي بلدكم ، وقد فرطت مني فرطات. وحكى أبو عليّ الدقاق انّه كان للشبلي في بدء أمره مجاهدات شديدة حتى انّه كان يكتحل بالثلج والملح حتى لا ينام ، وكان في آخره يقول :
وكم من موضع لوّمت فيه
 

لكنت به نكالا في العشيره
 
وحكي أن الشبلي سئل عن العارف والمحبّ ، فقال : العارف إن تكلّم هلك ، والمحبّ إن سكت هلك. ثمّ أنشد :
يا أيّها السّيّد الكريم ،
 

حبّك بين الحشا مقيم
 
يا دافع النّوم عن جفوني
 

أنت بما حلّ بي عليم!
 
وكان بين يديه مرآة ينظر فيها كلّ ساعة ويقول : بيني وبين الله عهد ان ملت عنه عاقبني ، وأنا أنظر كلّ ساعة في المرآة لأعرف هل اسودّ وجهي أم لا.
وكان إذا اشتدّ به الوجد يقول :



أنت سؤلي ومنيتي
 

دلّني كيف حيلتي؟
 
قد تعشّقت وافتضح
 

ت وقامت قيامتي!
 
محنتي فيك أنّني
 

لا أبالي بمحنتي
 
يا شفائي من السّقام
 

وإن كنت علّتي
 
تعبي فيك دائم
 

فمتى وقت راحتي؟
 
وحكي انّه كان محبوسا في المارستان ، فدخل عليه جماعة فقال : من أنتم؟فقالوا : أحبابك جئناك زائرين! فأخذ يرميهم بالحجارة فأخذوا يهربون فقال : لو كنتم أحبابي لصبرتم على بلائي! توفي الشبلي سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة عن سبع وثمانين سنة.
شغنسة
مدينة بالأندلس بقرب وادي الحجارة ؛ قال العذري : من عجائبها الجبل الذي هو مطلّ عليها ، إذا كسر حجره يخرج من كسره زفت أسود شبه القار ، ومن أراد يجمع منه ما شاء. وليس للهوامّ بها كثير فعل.
شلب
مدينة بالأندلس بقرب باجة ؛ قال العذري : لها بسيط يتّسع وبطائح تنفسح ، وبها جبل عظيم منيف كثير المسارح والمياه.
من عجائبها ما ذكره خلق لا يحصى عددهم أنّه قلّ أن يرى من أهل شلب من لا يقول شعرا ولا يتعانى الأدب ، ولو مررت بالحرّاث خلف فدّانه وسألته الشعر لقرض في ساعته أي معنى اقترحت عليه ، وأيّ معنى طلبت منه صحيحا!


شنترة
مدينة بالأندلس بقرب الأشبونة على ساحل البحر ، وعليها ضبابة دائمة لا تنقشع. من عجائبها تفّاحها ، فإنّ بها تفّاحا دورة واحدة منها ثلاثة أشبار ، وهي الآن بيد الفرنج. ملكوها سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة.
شنترين
مدينة بالأندلس بقرب باجة على ساحل البحر. أرضها في غاية الكرم. مبنيّة على نهر باجة ، وللنهر فيض في بطائحها كفيض النيل بمصر. زرع أهلها على نداوته في مواضع فيضه بعد فوات أوان الزرع في غيرها من البلاد ، فيدرك بالعاجل.
وبها يوجد العنبر الجيّد الذي يقذفه البحر إلى ساحله في بعض الأوقات ، يحمل منها إلى سائر البلاد.
ومن عجائبها ما ذكر أن دابّة تخرج من البحر هناك وتحتك بحجارة على ساحل البحر فيسقط منها وبرة على لون الذهب ولين الخزّ وهي قليلة عزيزة جدّا فيجمعها الناس وينسج منها الثياب فيحجر عليها ملوكهم ولا تنقل من بلادهم إلّا بالخفية ، وتزيد قيمة الثوب منها على ألف دينار لحسنه وعزّته.
شنت مريّة
مدينة قديمة بالأندلس. ومعنى شنت مرية بلغة الفرنج مدينة مريم. وبها كنيسة ؛ قال أحمد بن عمر العذري : انّها بناء رفيع وسوار عظيمة من فضّة ، لم ير الراؤون مثلها في طول مفرط وعرض لم يحزم الإنسان بذراعيه واحدة منها.
وبها عين ماء إذا رآها الناظر من البعد لا يشكّ في أنّها جارية ، فإذا قرب منها ووقع البصر على منبعها لم يرها جارية أصلا ، فإذا تباعد عنها رآها جارية!


وهذا أمر مشهور عنها لا يكاد يخفى على أحد من تلك البلاد أو على من دخلها ، قال عبد الله البطليوسي النحوي يهجوها :
أناخت بنا في أرض شنت مريّة
 

هواجس ظنّ خان والظنّ خوّان
 
رحلنا سوام الحمد عنها لغيرها
 

فلا ماؤها صاد ولا النّبت سعدان
 
شنقنيرة
أرض بالأندلس من أعمال لورقة. خصّها الله تعالى بالبركة وقوّة لم توجد في غيرها من الأراضي. وهي ما ذكره الغرناطي الأنصاري أنّها حسنة المنظر والمخبر ، كثيرة الريع طيّبة المرتع ، الحبّة من زرعها تتفرّع إلى ثلاثمائة قصبة ، ومسافة هذه الأرض أربعون ميلا من قرطاجنة إلى لورقة ، يرتفع من المكوك من بذره مائة مكوك. ليست هذه الخاصيّة لشيء من أراضي غيرها.
صغد
كورة بين بخارى وسمرقند ، إحدى جنان الدنيا ؛ قالوا : جنان الدنيا أربع :صغد سمرقند ، وغوطة دمشق ، وشعب بوّان ، وأبلّة البصرة. أمّا صغد سمرقند فإنّها قرى متّصلة ، خلال الأشجار والبساتين ، من سمرقند إلى قريب من بخارى ، لا يتبيّن القرية حتى يأتيها لا لتحاف الأشجار بها. وهي أطيب أرض الله ، كثيرة الأشجار متجاوبة الأطيار غزيرة الأنهار ، وزادت على غيرها من الجنان بلطافة الهواء وعذوبة الماء. وليس بصغد سمرقند مكان إذا علاه الناظر يقع بصره على صحراء غبراء أو جبال خالية غير شجراء.
وإنّها على واد يمينا وشمالا ، ومقدارها في المسافة خمسة أيّام تشتبك الخضرة والبساتين والرياض ، وقد حفّت بالأنهار الدائم جريها ، والحياض في صدور رياضها ، وخضرة الأشجار والزروع ممتدّة على حافتي واديها ، من وراء الخضرة من الجوانب المزارع تكتنفها ، ومن وراء المزارع مراعي سوائمها.


وفي كلّ مدينة وقرية قصورها وقهندزها تلوح في أوساطها كالثوب الديباج الأخضر وقد طرّز بمجاري مياهها ، وزيّنت بتبييض قصورها. وهي أزكى بلاد الله وأحسنها أشجارا وأثمارا ، وفي عامة مساكن أهلها البساتين والمياه الجارية.
ومساحة الصغد ستة وثلاثون فرسخا في ستة وأربعين فرسخا. قصبتها سمرقند.
طراز
مدينة في أقصى بلاد الشاش ممّا يلي تركستان. وهي حدّ بلاد الإسلام لأنّك إذا جزتها دخلت في خرقاهات الخرلخية. وطراز مدينة طيّبة التربة عذبة الماء لطيفة الهواء كثيرة الخيرات ، أشبه شيء بالجنّة لأن أهلها في غاية حسن الصورة ليس في تلك النواحي أحسن منهم صورة ، رجالهم ونساؤهم إلى حدّ يضرب بحسن صورتهم المثل ؛ قال أبو الحسن بن زيد البيهقي :
ظبي أباح دمي وأسهر ناظري
 

من نسل ترك من ظباء طراز
 
للحسن ديباج على وجناته
 

وعذاره المسكيّ مثل طراز
 
مع طوق قمريّ ونغمة بلبل
 

وجمال طاووس وهمّة باز
 
طرطوشة
مدينة قديمة بالأندلس بقرب مدينة بلنسية مشتركة على نهر ابره. وهي برية وبحريّة ، وهي مدينة داخلة في مدينة ، من عجائب المدينة الداخلة ما حكاه العذري أنّها لا يدخلها جيش أصلا. وذكر أيضا أن البعوض ما كان يدخلها فيما مضى من الزمان ، حتى ان الواقع على سورها إذا أخرج يده عن السور وقع عليها البعوض ، وإذا ضمّها سقط البعوض عنها.
وبها موضع يعرف بمغراوة به نار مستكنّة في الأرض غير بادية للعيون ، لكنه يبدو على الموضع اواد ، فمن أراد أن يحقّقه أدخل في الموضع عودا ، فإنّه يحترق في ساعة ويصير جمرة.


وبها جبل كثير الخير والبركة ، وهو جبل منيف به جميع أنواع الثمار ، وفي أعلاه مروج كثيرة المياه والمراعي ، وبه شجر يشبه خشبه خشب الساج تتّخذ منه الآلات والظروف.
وبها معدن الكحل الطيب الذي هو غاية ومعدن الزجاج. وفي واديها الحوت الطيب من البوري والشوري الذي يكون في الواحد قنطار ، ويخرج منه السمور وفيه أرحاء في الغوارب يكون بيت الرحا في الغارب ، والدولاب يدور خارج الغارب بالماء ، فإن شاء صاحبها ينقل الغارب من موضع إلى موضع. ومثل هذا بالموصل كثير في دجلة ، وهم يسمّونه الغربة.
طرّكونة
مدينة عظيمة قديمة بالأندلس ، على شاطىء البحر الشامي بقرب طرطوشة ؛ قال العذري : تحت مدينة طرّكونة سراديب واسعة ، وفيها بنيان كثيرة ، قال : حدّثني شيخ مسنّ يقال له ابن زيدان انّه نزل في هذه البنيان ، فضلّ فيها هو وأصحابه ثلاثة أيّام ، فوجد فيها بيوتا مملوءة قمحا وشعيرا من الزمان الأوّل ، وقد تغيّر لونها ، ولولا ضوء رأوه في اليوم الثالث ما خرجوا أبدا ، والمدينة الآن مع الافرنج.
طلبيرة
مدينة قديمة بقرب طليطلة ، مبنية على قلّة جبل عظيم ، من عجائبها عين ينبع منها ماء كثير ، يدور عليه عشرون رحا.
طليطلة
مدينة كبيرة بالأندلس ، من أجلّ مدنها قدرا وأكثرها خيرا ، تسمّى مدينة الملوك. ومن طيب تربتها ولطافة هوائها تبقى الغلات في مطاميرها سبعين سنة


لا تتغيّر.
وبها القنطرة العجيبة التي وصفها الواصفون أنّها قوس واحد من أحد طرفي الوادي إلى الطرف الآخر ، لم ير على وجه الأرض قوس قنطرة أعظم منها إلّا قنطرة صور ؛ قال محمّد بن عبد الرحيم الغرناطي : بقرب طليطلة نهر عظيم ، بنت الجنّ على ذلك قنطرة من الصخر عالية من الجبل إلى الجبل كأنّها قوس قزح ، كلّ صخرة منها مثل بيت كبير ، وقد شدّت تلك الحجارة بجذوع من حديد ، وأذيب عليه الرصاص الأسود وهي أزج واحد ، يتعجّب الناظرون منها لجودة بنائها ، وماء ذلك النهر لا ينقطع أبدا.
وبها حجر المطر ، وهو ما أخبر به بعض المغاربة أن بقرب طليطلة حجرا إذا أراد القوم المطر أقاموه فلا يزال يأتي المطر إلى أن يلقوه. وكلّما أرادوا المطر فعلوا ذلك.
وبها صورة ثورين من حجر صلد ؛ قال العذري : ان طارقا لمّا غزا طليطلة ركب على الثيران ، وكان ذلك الموضع معسكره ، فلعلّ ذلك شيء من الطلسمات.
وكان بها بيت الملوك. كلّ من مات من ملوكها ترك تاجه في ذلك البيت ، وكتب عليه عمر صاحبه ومدّة ولايته ، وكان بها بيت آخر من ملك من ملوكها قفل عليه قفلا ، ووصّى لمن يكون بعده أن لا يفتح ذلك البيت ، حتى انتهى الملك إلى رجل اسمه لذريق ، دخل البيت الأوّل فوجد فيه أربعة وعشرين تاجا على عدد ملوكهم ، ووجد على باب البيت الآخر أربعة وعشرين قفلا ، ظنّ أن فيه مالا فأراد فتحه فاجتمعت الأساقفة والشمامسة وعظموا ذلك ، وسألوه أن يسلك مسلك الملوك الذين كانوا قبله ، فأبى إلّا فتحه ، فقالوا له : أيّها الملك ، انظر فيما يخطر ببالك من مال تراه فيه لندفعه إليك ولا تفتحه. فأبى إلّا فتحه.
فلمّا فتحه إذا في البيت صور العرب على خيولهم بعمائمهم ونعالهم ، وإذا فيه مكتوب : الملك فينا ما دام هذا البيت مقفلا ، فإذا فتح فقد ذهب الملك! فندم لذريق على فتح الباب ، فدخلت العرب بلدهم في السنة التي فتح فيها


الباب في أيّام الوليد بن عبد الملك. ولمّا فتحوها وجدوا بها مائدة سليمان بن داود ، عليه السلام ، من ذهب ، فلم يمكن نقلها لعظمها. فأمر الوليد أن يضرب منها حلي الكعبة وميزابها ففعل ، وما زالت بيد المسلمين إلى أن استولى عليها الفرنج في شهور سنة سبع وسبعين وأربعمائة ، وإلى الآن بيدهم.
غرناطة
مدينة بالأندلس قديمة بقرب البيرة ، من أحسن مدن بلاد الأندلس وأحصنها ، ومعناها الرمانة بلغة الأندلسيّين ، يشقّها نهر يعرف بنهر قلوم ، وهو النهر المشهور الذي يلفظ من مجراه برادة الذهب الخالص.
بها جبل الثلج مطلّ عليها ، على ذروته توجد أيّام الصيف صنوف الرياحين والرياض المونقة ، وأجناس الأفاويه وضروب العقاقير. وبها شجرة الزيتون التي هي من عجائب الدنيا ؛ قال أبو حامد الأندلسي : بقرب غرناطة بالأندلس كنيسة عندها عين ماء وشجرة زيتون ، والناس يقصدونها في يوم معلوم من السنة ، فإذا طلعت الشمس ذلك اليوم أخذت تلك العين بإفاضة الماء ، ففاضت ماء كثيرا ، ويظهر على الشجرة زهر الزيتون ثمّ ينعقد زيتونا ، ويكبر ويسودّ في يومه ذلك اليوم ، فيأخذ من ذلك الزيتون من قدر على أخذه ، ومن ذلك الماء للتداوي.
وقال محمّد بن عبد الرحيم الغرناطي إنّها بغرناطة. وحدّثني الفقيه سعيد بن عبد الرحمن الأندلسي انّها بسقورة. وقال العذري : انّها بلورقة. والقائلون كلّهم أندلسيون ، والمواضع المذكورة كلّها من أرض الأندلس ، فجاز ان كلّ واحد منهم اضافه إلى موضع قريب منه.
غنجرة
مدينة في داخل الروم. بها نهر يسمّى المقلوب لأنه آخذ من الجنوب إلى الشمال بخلاف سائر الأنهار. حكي عنها انّه وقعت بها في سنة اثنتين وأربعين


وأربعمائة ليلة الاثنين الخامس من آب زلزلة هائلة ، وتتابعت إلى اليوم. سقط منها أبنية كثيرة ، وخسف هناك حصن وكنيسة حتى لم يبق لهما أثر ، وتبع من ذلك الخسف ماء حارّ كثير شديد الحرارة ، حتى غرق منه سبعون ضيعة ، وهرب خلق كثير من أهل تلك الضياع إلى رؤوس الجبال ، وبقي ذلك الماء على وجه الأرض تسعة أيّام ثمّ نضب.
فاراب
مدينة من بلاد ما وراء النهر. ينسب إليها الحكيم الأفضل أبو نصر بن طرخان الفارابي ، وهو أوّل حكيم نشأ في الإسلام. فهم كلام أرسطاطاليس ونقله إلى اللغة العربيّة ، وقد خصّه الله تعالى بمزيد فطانة حتى أحكم أنواع الحكمة حتى علم الموسيقى والكيمياء ، فكان يمشي في البلاد متنكّرا من خوف الملوك ، فإنّهم كانوا يطلبونه ، فإذا وصل إلى مدينة وأعجبته تلك المدينة سكنها مدّة ، ويشتري بها دارا وبستانا وجواري وعبيدا ، فإذا ملّ عنها زوّج الجواري من العبيد ووهب الأملاك لهم وفارقها ، ولا يرجع إليها أبدا.
وكان معاصرا للصاحب بن عبّاد ، وزير مجد الدولة بن بويه ، وكان الصاحب شديد الطلب له ؛ حكي أن الصاحب أو غيره ظفر به ذات مرّة ، وقد عرفوه واحترموا جانبه وأبو نصر انبسط معهم ، وكان حاذقا بعلم الموسيقى فأخذ في بعض مجالسهم شيئا من الملاهي ، وضرب ضربا فضحك القوم كلّهم ، ثمّ ضرب ضربا فبكى القوم كلّهم ، ثمّ ضرب ضربا فنام القوم كلّهم ، ثمّ قام وفارقهم وهرب.
وقيل : ان الصاحب بن عبّاد كان بالري ، فدخل عليه أبو نصر متنكّرا فما عرفه. وحكي أن أبا نصر كان في قفل يمشي في بلاد الشام ، فوقع عليهم اللصوص فسلّم إليهم ماله وخيله فأبوا إلّا قتله ، فنزل عن الدابّة وتستّر بالمجن ، وكان حاذقا في الرمي ، فقاتل حتى قتل في سنة أربعين وثلاثمائة.


فبرة
مدينة قديمة بأرض الأندلس بقرب قرطبة ، قال العذري : بها مغارة عجيبة لا يعرف قدرها البتّة يقال لها باب الرياح ، إذا وقفت عليه وعلقت فيه ثوبا رفعته الريح في الجوّ. وقال أيضا : إن بعض ملوك بني أميّة أمر أن يردم ذلك الغار بالتبن ، فحشدوا أهل الناحية وأمروهم بذلك حتى استوى الردم إلى أعلى الغار ، وقعد الناس على فم الغار فتحرّك بهم الردم وساخ من ساعته ، ونجا الناس. ولم يعلم أين ذهب ذلك التبن ، إلّا أنّهم رأوا بعض منابع ذلك الجبل أخرج منه بعض ذلك التبن.
فراغة
مدينة بالأندلس بقرب لاردة. وهي مدينة حسنة البنيان ذات مياه وبساتين كثيرة. وإنّها حسنة المنظر طيبة المخبر. بها سراديب تحت الأرض كثيرة ، وهي عندهم ملجأ من العدوّ إذا طرقهم. وصفتها أنّها بئر ضيّقة الرأس واسعة الأسفل ، وفي أسفلها أزقّة كثيرة مختلفة كنافقاء اليربوع ، فلا يوصل إليها من أعلى الأرض ولا يجسر الطالب على دخولها ، وإن انتشر فيها الدخان دخلوا في الأزقّة وسدّوا أبوابها حتى يرجع الدخان عنهم ، وإن طمّوها يكون لها باب آخر خرجوا منه ، وتسمّى هذه السراديب عندهم الفجوج ، ويخرج في عملها الأموال بالوصية وغيرها. وإن ذلك عندهم من أبواب البرّ.
فرمنتيرة
جزيرة في البحر المحيط ، طولها عشرون ميلا وعرضها ثلاثة أميال ، وانّها في وسط البحر. وهواؤها طيّب وتربتها كريمة ومياه آبارها عذبة. وبها عمارات ومزارع. ولطيب هوائها وتربتها لا يوجد فيها شيء من الهوام أصلا ، لأن


الهوامّ والحشرات تولدها من العفونات ، ولا عفونة بها. وحكي أن بها منبت الزعفران الجيّد الغاية الذي لا يوجد في موضع خير منه.
فهمين
قلعة بأرض الأندلس بقرب طليطلة حصينة جدّا. بها بئر شرب أهل القلعة منها ، ولم يعرف فيها علق أصلا ، فكثر فيها الطين بطول زمان. فاحتاجوا إلى كسحها فأخرجوا منها طينا كثيرا ، فكثر ماؤها إلّا انّه تولّد فيها علق كثير تعذر معه شرب مائها ، لأن العلق كان ينشب بحلق شارب الماء ، فوجدوا في وسط الطين المخرج منها علقا من النحاس ، فرموه في البئر فانقطع العلق منها.
قادس
جزيرة بقرب الأندلس ، طولها اثنا عشر ميلا. بها آبار مياهها عذبة ، وفيها آثار قديمة غيّرها الزمان : منها الطلسم المشهور الذي عمل لدفع البربر عن جزيرة الأندلس ، وهو ما حكي أن صاحب هذه الجزيرة كان من ملوك الروم قبل الإسلام ، وكانت له بنت ذات جمال ، فخطبها ملوك تلك النواحي فقالت البنت : لا أتزوّج إلّا بمن يعمل في جزيرتي طلسما يمنع البربر من دخولها أو يسوق الماء إليها من البرّ بحيث يدور الرحا عليها! فشرع ملكان أحدهما في عمل الطلسم والآخر في سوق الماء إليها من البرّ ، فقيل لها : بمن تتزوّجين؟ فقالت : أتزوّج بالسابق منهما!
أمّا صاحب الماء فقد اتّخذ في وسط البحر بناء محكما ، وثقه بالحجارة والرصاص بحيث لا يشرب شيئا من ماء البحر ، وسرّح الماء إليه من نهر من البرّ حتى وصل إلى جزيرة قادس ، وأثره في البحر إلى الآن ظاهر لكنّه مهدوم بطول المدّة.
وأمّا صاحب الطلسم فقد اتّخذ تمثالا من الحديد مخلوطا بالصفر على صورة


رجل بربري ، له لحية متلحّف بوشاح ورداء مذهّب قد تعلّق من منكبه إلى أنصاف ساقيه ، وقد جمع فضلتيه بيده اليسرى منضمة إلى صدره ، ويده اليمنى ممدودة بمفتاح قفل في يده ، قابض عليه مشيرا إلى البحر كأنّه يقول : لا عبور! وهو قائم على رأس بناء عال ، طوله نيف وستون ذراعا ، وطول الصورة قدر ستّة أذرع ، وذكر أن البحر الذي تجاه الصورة ، ويسمّى الابلاية ، لم ير ساكنا ولا تجري فيه السفن بعد ذلك.
وحكي أن صاحب سوق الماء سبق صاحب الطلسم فقال صاحب الجزيرة : لا تظهروا سبقه حتى لا يبطل علينا عمل الطلسم. فلمّا فرغ الصانع من الطلسم قيل له : قد سبقت! فالقى نفسه من أعلى الموضع الذي عليه الطلسم فمات.
فحصل لصاحب الجزيرة الماء والطلسم فما زال الأمر على ذلك. كان البحر مضطربا والجزيرة محفوظة إلى سنة أربعمائة ، فوقع المفتاح من يد الصورة ، فحمل إلى صاحب مدينة سبتة فوزنه ، فكان فيه ثلاثة أرطال ، فسكن البحر حينئذ وعبرت السفن فيه. وذكر أيضا أن الطلسم هدم في سنة أربعين وخمسمائة ، هدموه رجاء أن يوجد تحته شيء من المال ، فلم يوجد شيء فيه.
قاليقلا
مدينة بأرمينية تنسب إلى امرأة اسمها قالي ، فكأنّه قال قالي بنت ، كما يقال دارابجرد ، وصوّرت صورة نفسها على باب المدينة.
يجلب منها البسط والزلالي التي يقال لها قالي. ولأهلها يد باسطة في صنعتها ، ومنها تحمل إلى سائر البلاد.
بها بيعة الشعانين ؛ قال ابن الفقيه : انّها بيعة للنصارى فيها بيت كبير مخزن مصاحفهم وصلبانهم ، فإذا كانت ليلة الشعانين يفتح باب في ذلك الموضع معروف ، يخرج منه تراب أبيض فلا يزال يخرج ليلته إلى الصباح فينقطع حينئذ ، فيأخذه الراهب ويدفعه إلى الناس. وخاصيته دفع السموم ولدغ العقارب والحيات ،


يداف منه وزن دانق في ماء فيشربه الملسوع فيسكن في الوقت ألمه.
وفيه أعجوبة أخرى ، وذلك انّه ان بيع منه شيء لم ينتفع به صاحبه ، ويبطل عمله.
قرطبة
مدينة عظيمة في وسط بلاد الأندلس. كانت سرير ملك بني أميّة ، دورتها أربعة عشر ميلا وعرضها ميلان ، على النهر الأكبر الذي يعرف بوادي الكبير وعليه جسران.
ومسجدها الجامع من أكبر مساجد الإسلام وأجمعها لمحاسن العمد والبنيان ، طوله أربعمائة ذراع وعرضه ثلاثمائة ، وعمده ورخام بنيانه بفسيفساء وذهب ، وبحذائه سقايات وحياض فيها من الماء الرضراض.
وبها كنيسة الأسرى ، وهي مقصودة معتبرة عند النصارى ؛ قال العذري : إن المسلمين همّوا بفتح قرطبة فأسروا راعيا من رعاتها وسألوه عنها ، فذكر أنّها حصينة جدّا إلّا أن فيها ثغرة فوق باب القنطرة. فلمّا جنّهم الليل ذهبوا إلى تلك الثغرة ودخلوا منها ، وجاؤوا إلى باب المدينة الذي يقال له باب القنطرة ، وقتلوا الحراس وفتحوا الباب ودخلوا المدينة. فلمّا علم صاحب قرطبة أن المسلمين دخلوا خرج مع وجوه المدينة وتحصّن بهذه الكنيسة ، فحاصرهم المسلمون ثلاثة أيّام. فبينا هم كذلك إذ خرج العلج على فرس أصفر هاربا حتى أتى خندق المدينة ، فتبعه أمير المسلمين واسمه مغيث. فلمّا رأى مغيثا حرّك فرسه فسقط واندقّت رقبته فأسره مغيث ورجع إلى بقيّة العلوج فأسرهم وقتلهم ، فسميّت الكنيسة كنيسة الأسرى.
وبها جبال معدن الفضّة ومعدن الشادنج ، وهو حجر يقطع الدم ، ومعدن حجر التوتيا ومعدن الشبوب ، وتجلب من قرطبة بغال قيمة واحد منها تبلغ خمسمائة دينار لحسن شكلها وألوانها ، وعلوّها وصحّة قوائمها.


قسطلونة
مدينة قديمة بالأندلس بقرب بسطة. بها جبل فيه غار يتقاطر الماء من أعلاه في حفيرة تحته لطيفة نقطة نقطة ، ويجتمع في تلك الحفيرة بذوبانها ولا يغيض ، فإن شرب من ماء تلك الحفيرة عدد كثير لم ينقص ؛ قال العذري : أخبرني بهذا جماعة شاهدوها ، وهذا أمر شائع مستفيض في ذلك الموضع ؛ قال : وفي هذا الغار ميت لا يغيّره طول الأزمنة ولم يعرف له خبر.
قلعة اللّان
إنّها قلعة في غاية الحصانة بأرض اللان على قلّة جبل. وهي من القلاع الموصوفة بالحصانة ، تسمّى باب اللان ؛ قالوا : لو أن رجلا واحدا يمنع جميع ملوك الأرض عنها يصحّ له ذلك ، لتعلّقها بالجوّ وعسر الطريق. ولها قنطرة عجيبة البناء عظيمة ، وعجبها ممّا يبصر لا ممّا يذكر ، فإن اللفظ لا يعطي معنى.
عجبها بناها سندباذ بن كشتاسف بن لهراسف ، والقلعة على صخرة صمّاء بها عين ينبع الماء العذب من الصخرة الصمّاء. بها عجيبان : القنطرة والعين في وسط القلعة من الصخرة الصمّاء.
قيصريّة
مدينة عظيمة في بلاد الروم ، بناها ملك الروم من الحجارة ، وهي كثيرة الأهل عظيمة العمارة ، والآن هي كرسي ملك بني سلجوق وهم ملوك مسلمون.
بها آثار قديمة يزورها الناس. وبها موضع يقولون انّه حبيس محمّد بن الحنفية.
وبها جامع أبي محمّد البطّال ، وكان بها حمام بناه بليناس الحكيم لقيصر ملك الروم من عجائب الدنيا. كان يحمى بسراج.
وبها موضع بين قيصرية واقصرا يشبه بيدرا مسخ حجرا ، فصبرة الحنطة


انقلبت حجرا أحمر ، وصبرة التبن انقلبت حجرا أبيض اللون. وحولها تماثيل حجريّة تشبه تماثيل الحيوانات من الإنسان والهائم ، لكنها تغيّرت وفنيت بطول الوقت ، وبقرب قيصرية جبل فيه من الحيات ما لا يحصى ، إلّا أنّها لا تخرج منه لطلسم عمله الحكماء ، فلا يخرج منه شيء البتّة.
كشّ
مدينة بقرب سمرقند حصينة. لها قهندز وربض ؛ قال الاصطخري : مدينة كش ثلاثة فراسخ في مثلها جرومية تدرك بها الثمار أسرع من سائر بلاد ماوراء النهر ، غير أنّها وبيئة ، وعماراتها حسنة جدّا.
وفي عامة دورها الماء الجاري والبستان. بها شوك الترنجبين يحمل منها إلى البلاد كلّها. وفي جبالها العقاقير الكثيرة. ومنها يرتفع الملح المستحجر.
ومن مفاخرها أبو إسحق الكشّيّ المشهور بالجود والكرم. ومن العجائب ما حكي عنه أنّ بعض أصدقائه شكا إليه سوء حاله وكثرة ديونه ، فسأله أبو إسحق عن مقدار دينه ووزن في الحال وقال : اصرف هذا في دينك! ثمّ وزن مثلها وقال : اصرف هذا في مصالحة شأنك! وجعل يعتذر إليه اعتذار المذنب.
فلمّا ذهب الرجل بكى بكاء شديدا ، فسئل عن بكائه فقال : بكائي على غفلتي عن حال صديقي حتى افتقر إلى رفع الحال إليّ والوقوف موقف السؤال.
كند
من قرى خجند بما وراء النهر ، يقال لها كند باذام ، وباذام هو اللوز لأن بها لوزا كثيرا. بها اللوز الفريك ، وهو لوز عجيب ينقشر إذا فرك باليد.


لبلة
مدينة بالأندلس قديمة بقرب اشبيلية ، كثيرة الخيرات فائضة البركات ، بها آثار قديمة ، بها نهر لهشر ، وبهذا النهر ثلاث عيون : إحداها عين لهشر وهي أغزرها ماء وأعذبها ، والثانية عين الشبّ فإنّها تنبعث بالشبّ ، والثالثة عين الزاج فإنّها تنبعث بالزاج ، فإذا غلبت عين ماء لهشر صار الماء عذبا ، وإذا غلبت عين الشبّ أو الزاج حال طعم الماء.
قال العذري : سور المدينة قد عقد بناؤه على تصاوير أربعة : صنم يسمّى درديا وعليه صنم آخر ، وصنم يسمّى مكيخا وعليه صنم آخر. والمدينة مبنية على هذه الأصنام وما علا من البناء موضوع على أعناقها. ومدينة لبلة انفردت بهذه البنية على سائر المدن.
وبها صيد البرّ والبحر جميعا. ويجلب منها العصفر الجيد ، والعنّاب الذي لا نظير له في الآفاق ، ويعمل بها الأديم الجيد الذي يحاكي الطائفي.
لشبونة
مدينة بالأندلس قديمة في غربي قرطبة قريبة إلى البحر. بها جبال فيها أوكار البزاة الخلّص ، ولا تكون في غيرها. ولعسلها فضل على كلّ عسل بالأندلس يشبه السكر ، إذا لفّ في خرقة لا يلوثها.
وبها معدن التبر الخالص ، ويوجد بساحلها العنبر الفائق ، ملكها الفرنج سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة ، وهي إلى الآن بيدهم.
لورقة
مدينة كبيرة بالأندلس ، قاعدة كورة تدمير. هي أكرم بقاع الأندلس وأكثرها خيرا سيما الفواكه ، فإن بها من أصناف الفواكه ما لا يوجد في غيرها


حسنا وكثرة ، سيما الكمثرى والرمان والسفرجل. ومن قوّة أرضها ما ذكره العذري أن بها عنبا وزن العنقود منه خمسون رطلا بالبغدادي ، وان الحبّة من الحنطة تصيب هناك مائة حبّة.
وبأرض لورقة يسقي نهر كنيل مصر ، يبسط على الأرض فإذا غاض يزرع عليه ، ويبقى طعامها في المطامير خمسين سنة وأكثر ولا يتغيّر ، وكثيرا ما تصيبها آفة الجراد. وحكي انّه كانت في بعض كنائسها جرادة من ذهب ، وكانت لورقة آمنة من جائحة الجراد ، فسرقت تلك الجرادة فظهر الجراد في ذلك العام ، ولم يفقد بعد ذلك. وأيضا لم توجد بها علّة البقر التي تسمّى اللقيس إلى أن وجد في بعض الأساس ثوران من صفر ، أحدهما قدام الآخر ، يلتفت إليه.
فلمّا أخذ من ذلك الموضع وقعت اللقيس في ذلك العام.
ومن عجائبها شجرة زيتونة في كنيسة في حومة جبل ، في كلّ سنة في وقت معلوم تنوّر وتعقد وتسودّ وتطيب في يوم آخر ، وهي مشهورة عرفها الناس ؛ حكى العذري أن هذه الشجرة قطعها أصحابها ، وهم نصارى ، وإنّما فعلوا ذلك لكثرة الواردة عليهم بسببها وتزاحم الناس ، فبقيت مقطوعة زمانا ثمّ لقحت بعد ذلك ، وهي الآن باقية ؛ كذا ذكره العذري في شهور سنة خمسين وأربعمائة.
وقال أيضا : أخبرني إبراهيم بن أحمد الطرطوشي قال : سمعت ملك الروم يقول إني أريد أن أرسل إلى أمير المؤمنين بالأندلس هدية ، فإن من أعظم حوائجي عنده انّه صحّ عندي أن في الفاتحة الكريمة كنيسة ، وفي الدار منها زيتونة إذا كانت ليلة الميلاد تورّقت وعقدت وأطعمت من نهارها. اعلم أن لشهيدها محلّا عظيما عند الله ، فأتضرّع إلى معاليه في تسلية أهل تلك الكنيسة ومداراتهم حتى يسمحوا بعظام ذلك الشهيد ، فإن حصل لي هذا كان أجلّ من كلّ نعمة.
وبها وادي الثمرات ؛ ذكر العذري أن هناك أرضا تعرف بوادي الثمرات يرد إليه ماء واد هناك يسقيه ، فينبت التفاح والكمثرى والتين والزيتون ونحوها سوى شجر التوت من غير غرس أصل ؛ لقد حدّث بذلك جماعة من ثقات الناس.


مالطة
جزيرة بقرب جزيرة الأندلس ، عظيمة الخيرات كثيرة البركات ، طولها نحو ثلاثين ميلا ، وهي آهلة وبها مدن وقرى وأشجار وأثمار ، غزاها الروم بعد الأربعين والأربعمائة. حاربوهم وطلبوا منهم الأموال والنساء ، فاجتمع المسلمون وعدّوا أنفسهم وكان عدد عبيدهم أكثر من عدد الأحرار ، فقالوا لعبيدهم : حاربوا معنا فإن ظفرتم فأنتم أحرار وما لنا لكم ، وإن توانيتم قتلنا وقتلتم! فلمّا وافى الروم حملوا عليهم حملة رجل واحد ، ونصرهم الله فهزموهم ، وقتلوا من الروم خلقا كثيرا ، ولحق العبيد بالأحرار ، واشتدّت شوكتهم فلم تغزهم الروم بعد ذلك أبدا.
ينسب إليها ابن السمنطي الشاعر المالطي. كان آية في نظم الشعر على البديهة ؛ قال أبو القاسم بن رمضان المالطي : اتّخذ بعض المهندسين بمالطة لملكها صورة تعرف بها أوقات ساعات النهار ، وكانت ترمي بنادق على الصناج ، فقلت لعبد الله ابن السمنطي : اجز هذا المصراع : جارية ترمي الضنج ؛ فقال :
بها القلوب تبتهج

كأنّ من أحكمها إلى السّماء قد عرج
 

وطالع الأفلاك عن سرّ البروج والدّرج
 
كأنّه يقرأها من حفظه.
ما وراء النهر
يراد به ما وراء نهر جيحون. من أنزه النواحي وأخصبها وأكثرها خيرا.
وليس بها موضع خال عن العمارة من مدينة أو قرى أو مزارع أو مراع. هواؤها أصحّ الأهوية ومياهها أعذب المياه وأخفّها ، والمياه العذبة عمّت جميع جبالها وضواحيها ، وترابها أطيب الأتربة ، وبلادها بخارى وسمرقند وجند وخجند.


وأهلها أهل الخير والصلاح في الدين والعلم والسماحة ، فإن الناس في أكثر ما وراء النهر كأنّهم في دار
واحدة ، وما ينزل أحد بأحد إلّا كأنّه نزل بدار نفسه من غريب وبلدي. وهمّة كلّ امرىء منهم على الجود والسماح فيما ملكت يده من غير سابقة معرفة أو توقع مكافأة.
حكى الاصطخري انّه نزل منزلا بالصغد ، فرأى دارا ضربت الأوتاد على بابها ، فقالوا : إن ذلك الباب لم يغلق منذ زيادة على مائة سنة ، ولم يمنع من دخوله واصل ليلا ولا نهارا! والغالب عليهم بناء الرباطات وعمارة الطرق ، والوقف على سبيل الجهاد وأهل العلم ، وليس بها قرية ولا منهل ولا مفازة إلّا وبها من الرباطات ما يفضل عن نزول من طرقه. وقال : بلغني أن بما وراء النهر أكثر من عشرة آلاف رباط ، في أكثرها إذا نزل الناس به طعام لهم وعلف لدوابّهم إن احتاجوا.
وجميع ما وراء النهر ثغر من حدود خوارزم إلى اسبيجاب ، وهناك الترك الغزّية من اسبيجاب إلى فرغانة الترك الخلخية ، ولم يزل ما وراء النهر على هذه الصفة إلى أن ملكها خوارزم شاه محمّد بن تكش سنة ستمائة ، وطرد الخطاة عنها وقتل ملوك ما وراء النهر المعروفين بالخانية ، وكان في كلّ قطر ملك يحفظ جانبه ، فلمّا استولى على جميع النواحي عجز عن ضبطها ، فسلّط عليها عساكره حتى نهبوها وأجلى الناس عنها ، فبقيت تلك الديار التي وصفت بالجنان لحسنها خاوية على عروشها ، ومياهها مندفقة معطلة ، وقد ورد عقيب ذلك عساكر التتر في سنة سبع عشرة وستمائة وخرّبوا بقاياها. والآن بقي بعض ما كان عليها. فسبحان من لا يعتريه التغيّر والزوال ، وكلّ شيء سواه يتغيّر من حال إلى حال!
مدينة النّحاس
ويقال لها أيضا مدينة الصفر. لها قصّة عجيبة مخالفة للعادة جدّا ، ولكني رأيت جماعة كتبوها في كتب معدودة كتبتها أيضا ومع ذلك فإنّها مدينة


مشهورة الذكر.
قال ابن الفقيه : ذهب العلماء الأقدمون إلى أن مدينة النحاس بناها ذو القرنين وأودعها كنوزه وطلسمها ، فلا يقف عليها أحد ، وجعل في داخلها حجر البهتة وهو مغناطيس الناس ، فإن الإنسان إذا وقف حذاءه جذبه كما يجذب المغناطيس الحديد ، ولا ينفصل عنه حتى يموت ، وانّه في مفاوز الأندلس.
ولمّا بلغ عبد الملك بن مروان خبر مدينة النحاس وخبر ما فيها من الكنوز ، وان إلى جانبها بحيرة فيها كنوز كثيرة وأموال عظيمة ، كتب إلى موسى بن نصير عامل المغرب ، وأمره بالمصير إليه والحرص على دخولها ، وان يعرفه حالها ، ودفع الكتاب إلى طالب بن مدرك ، فحمله إلى موسى وهو بالقيروان ، فلمّا قرأه تجهز وسار في ألف فارس نحوها ، فلمّا رجع كتب إلى عبد الملك : بسم الله الرحمن الرحيم. أصلح الله الأمير صلاحا يبلغ به خير الدنيا والآخرة. أخبرك يا أمير المؤمنين أني تجهّزت لأربعة أشهر وسرت في مفاوز الأندلس ، ومعي ألف رجل ، حتى أو غلت في طرق قد انطمست ومناهل قد اندرست ، وعفت فيها الآثار وانقطعت عنها الأخبار ، فسرت ثلاثة وأربعين يوما أحاول مدينة لم ير الراؤون مثلها ، ولم يسمع السامعون بنظيرها. فلاح لنا بريق شرفها من مسيرة ثلاثة أيّام ، فأفزعنا منظرها الهائل وامتلأت قلوبنا رعبا من عظمها وبعد أقطارها. فلمّا قربنا منها إذا أمرها عجيب ومنظرها هائل ، فنزلنا عند ركنها الشرقي ثمّ وجهت رجلا من أصحابي في مائة فارس وأمرته أن يدور حول سورها ليعرف بابها ، فغاب عنّا يومين ثمّ وافى اليوم الثالث فأخبرني انّه ما وجد لها بابا ولا رأى إليها مسلكا ، فجمعت أمتعة أصحابي إلى جانب سورها وجعلت بعضها على بعض لأنظر من يصعد إليها فيأتيني بخبر ما فيها ، فلم تبلغ أمتعتنا ربع الحائط لارتفاعه ، فأمرت عند ذلك باتّخاذ السلالم وشدّ بعضها إلى بعض بالحبال ، ونصبتها إلى الحائط ، وجعلت لمن يصعد إليها ويأتيني بخبر ما فيها عشرة آلاف درهم ، فانتدب لذلك رجل من أصحابي يتسنّم ويقرأ ويتعوّذ. فلمّا صار على سورها


وأشرف على ما فيها قهقه ضاحكا ونزل إليها ، فناديناه أن أخبرنا بما فيها وبما رأيته فلم يجبنا. فجعلت لمن يصعد ويأتيني بخبر ما فيها وخبر الرجل ألف دينار ، فانتدب رجل من حمير وأخذ الدنانير ثمّ صعد. فلمّا استوى على السور قهقه ضاحكا ثمّ نزل إليها ، فناديناه أن أخبرنا بما ترى فلم يجبنا. فصعد ثالث وكان حاله مثل حال الرجلين ، فامتنع أصحابي بعد ذلك من الصعود ، فلمّا أيست عنها رحلت نحو البحيرة وسرت مع سور المدينة ، فانتهيت إلى مكان من السور فيه كتابة بالحميرية فأمرت بانتساخها فكانت :
ليعلم المرء ذو العزّ المنيع ومن
 

يرجو الخلود وما حيّ بمخلود!
 
لو انّ حيّا ينال الخلد في مهل
 

لنال ذاك سليمان بن داود
 
سالت له العين عين القطر فائضة
 

فيه عطاء جزيل غير مصرود
 
وقال للجنّ أنشوا فيه لي أثرا
 

يبقى إلى الحشر لا يبلى ولا يودي
 
فصيّروه صفاحا ثمّ ميل به
 

إلى البناء بإحكام وتجويد
 
وأفرغوا القطر فوق السّور منحدرا
 

فصار صلبا شديدا مثل صيخود
 
وصبّ فيه كنوز الأرض قاطبة
 

وسوف تظهر يوما غير محدود
 
لم يبق من بعدها في الأرض سابغة
 

حتى تضمّن رمسا بطن أخدود
 
وصار في قعر بطن الأرض مضطجعا
 

مضمّنا بطوابيق الجلاميد
 
هذا ليعلم أنّ الملك منقطع
 

إلّا من الله ذي التقوى وذي الجود
 
قال : ثمّ سرت حتى وافيت البحيرة عند غروب الشمس ، فإذا هي مقدار ميل في ميل ، كثيرة الأمواج ، فإذا رجل قائم فوق الماء فناديناه : من أنت؟فقال : أنا رجل من الجنّ! كان سليمان بن داود حبسه والذي في هذه البحيرة.
فأتيته لأنظر ما حاله ، قلنا له : فما بالك قائما فوق الماء؟ قال : سمعت صوتا فظننته صوت رجل يأتي هذه البحيرة في كلّ عام مرّة ، وهذا أوان مجيئه ، فيصلي


على شاطئهلا أيّاما ، ويهلّل الله ويمجّده. قلنا : من تظنّه؟ قال : أظنّه الخضر ، عليه السلام. فغاب عنّا فلم ندر كيف أخذ. قال : وكنت أخرجت معي عدة من الغوّاصين فغاصوا في الماء ، فرأوا حبّا من صفر مطبقا رأسه مختوما برصاص ، فأمرت به ففتح ، فخرج منه رحل من صفر على فرس بيده رمح مطرد من صفر ، فطار في الهواء وهو يقول : يا نبيّ الله لا أعود! ثمّ غاصوا ثانية وثالثة فأخرجوا مثل هذا ، فضجّوا خوفا من قطع الزاد. فأخذت الطريق التي سلكتها أوّلا حتى عدت إلى قيروان ، والحمد لله الذي حفظ لأمير المؤمنين أموره وسلم له جنوده والسلام.
قال : فلمّا قرأ عبد الملك كتاب موسى ، وكان عنده الزهري ، قال له :ما تظنّ بأولئك الذين صعدوا السور؟ قال الزهري : يا أمير المؤمنين لأن لتلك المدينة جنّا قد وكلوا بها! قال : فمن أولئك الذين يخرجون من الحباب ويطيرون؟قال : أولئك مردة الجنّ الذين حبسهم سليمان بن داود ، عليه السلام ، في البحار ؛ هذا ما رواه ابن الفقيه.
وقال أبو حامد الأندلسي : دور مدينة النحاس أربعون فرسخا وعلوّ سورها خمسمائة ذراع فيما يقال. ولها كتاب مشهور في كتابها أن ذا القرنين بناها ، والصحيح أن سليمان بن داود ، عليه السلام ، بناها. وليس لها باب ظاهر وأساسها راسخ ، وانّ موسى بن نصير وصل إليها في جنوده ، وبنى إلى جانب السور بناء عاليا متّصلا به ، وجعل عليه سلّما من الخشب متّصلا بأعلى السور ، وندب إليه من أعطاه مالا كثيرا. وأن ذلك الرجل لمّا رأى داخل المدينة ضحك وألقى نفسه في داخل المدينة ، وسمعوا من داخل المدينة أصواتا هائلة ، ثمّ ندب إليه آخر وأعطاه مالا كثيرا وأخذ عليه العهد أن لا يدخل المدينة ويخبرهم بما يرى ، فلمّا صعد وعاين المدينة ضحك وألقى نفسه فيها ، وسمعوا من داخلها أصواتا هائلة أيضا ، ثمّ ندب إليه رجلا شجاعا وشدّ في وسطه حبلا قويّا ، فلمّا عاين المدينة ألقى نفسه فيها فجذبوه حتى انقطع الرجل من وسطه. فعلم أن


في المدينة جنّا يجرّون من علا على السور فأيسوا منها وتركوها.
وذكر أبو حامد الأندلسي في وصف مدينة النحاس قصيدة منها :
وتقبّل الملكوت ربعي حيث ما
 

فلك البروج يجرّ في سجداته
 
أرض بحيرة التي دانت بها
 

جنّ الفلا والطّير في غدواته
 
والرّيح يحمله الرّخاء فإنّما
 

شهرين مطلعها إلى روحاته
 
كالطّود مبهمة بأسّ راسخ
 

أعيا البريّة من جميع جهاته
 
والقطر سال بها فصاغ مدينة
 

عجبا يحار الوهم دون صفاته
 
حصن النّحاس أحاط من جنباتها
 

وعلى غلوّ السّهم في غلواته
 
فيها ذخائره وجلّ كنوزه
 

والله يكلأها إلى ميقاته
 
في الأرض آيات فلا تك منكرا
 

فعجائب الأشياء من آياته
 
مراغة
مدينة كبيرة مشهورة من بلاد آذربيجان قصبتها. وهي كثيرة الأهل عظيمة القدر غزيرة الأنهار كثيرة الأشجار وافرة الثمار. بها آثار قديمة للمجوس ومدارس وخانقاهات حسنة.
حدّثني بعض أهلها أن بها بستانا يسمّى قيامتاباذ ، فرسخ في فرسخ ، وأن أربابه لا يقدرون على تحصيل ثمرتها من الكثرة ، فتتناثر من الأشجار. وبقرب قيامتاباذ جمّة يفور الماء الحارّ عنها ، يأتيها أصحاب العاهات يستحمّون بها وتنفعهم. وهي عيون عدّة أكثر ما يأتيها الزمنى والجربى. فإذا انفصل هذا الماء عن الجمّة ، ويجري على وجه الأرض ، يصير حجرا صلدا.
وخارج المدينة غار يدخله الإنسان ، يرى فيه شبه البيوت والغرف ، فإذا أمعن يرى فيه شيئا صليبا لا يقرب منه أحد إلّا هلك ، يزعمون أنّه طلسم على كنز ، والله أعلم.


وبها جبل زنجقان ، وهو جبل بقرب مراغة به عين ماء عذب ، يعجن به الدقيق فيربو كثيرا ، ويحسن خبزه والخبّازون يخمّرون أدقّتهم به ، ويصير هذا الماء حجرا ينعقد منه صخور ضخام يستعملها الناس في أبنيتهم.
ومن مفاخرها القاضي صدر الدين المعروف بالجود والكرم ، وفنون الخيرات وصنوف المبرّات ، من خيراته سور مدينة قزوين الذي عجز عن مثله أعظم ملوك زماننا ، فإنّه بنى أبواب المدينة بالآجرّ في غاية العلوّ ، وبقيّة السور بالطين ، وشرفاتها بالآجرّ ، والمدينة في غاية السعة.
وحكي أنّه أراد أن يتّخذ لنفسه قبرا بقرب حجرة رسول الله ، صلّى الله عليه وسلّم ، فبعث إلى أمير المدينة وأعلمه ذلك ، فشرط أن يبعث إليه ملء جراب ذهبا. فقال القاضي : ابعث إليّ الجراب حتى أملأه ذهبا! فلمّا رأى أمير المدينة كبر همّته وسماحة نفسه بعث إليه اذن عناق ، ومكنه من ذلك. فلمّا توفي دفن في المدينة ، وموضع رأسه قريب من قدم رسول الله ، صلّى الله عليه وسلّم.
وحكى الشيخ نور الدين محمّد بن خالد الجيلي ، وكان من الابدال ، في كتاب صنّفه في كراماته وعجائب حالاته قال : رأيت فوجا من الملائكة لا يدرك عددهم ومعهم تحف وهدايا ، فسألت : إلى من هذه الهدايا؟ قالوا : إلى قاضي مراغة. قلت : ما هو إلّا عبد مكرم! قالوا : ان هذه له لكرامته رسول الله ، صلّى الله عليه وسلّم.
مربيطر
مدينة بالأندلس بقرب بلنسية ، قال صاحب معجم البلدان : إن فيها الملعب ذا العجائب ، لست أعرف كيف يكون ذلك ، وذاك أن الإنسان إذا نزل فيه صعد ، وإذا صعد عليه نزل ، إن صحّ ذلك فإنّه ذو العجائب جدّا.


المستطيلة
قال أبو القاسم الجهاني : إنّها بلاد بأرض الروم على ساحل البحر. المطر بها دائم صيفا وشتاء بحيث أهلها لا يقدرون على دياس بيادرهم ، وإنّما يجمعونها في السنابل ويفركونها في بيوتهم. بها بزاة كثيرة عدد الغربان عند غيرهم ، لكنها ضعيفة رخوة لا تقدر على أخذ الدجاج وأمثالها.
المصّيصة
مدينة بأرض الروم على ساحل جيحان. كانت من ثغور الإسلام ، وهي الآن بيد أولاد ليون ، سمّيت بالمصّيصة بن الروم بن اليقن بن سام بن نوح ، عليه السلام ؛ قال المهلبي : من خاصيّة هذه المدينة الفراء المصيصية التي لا يتولّد فيها القمل ، وإذا غسلتها لم تتغيّر عن حالها وتحمل إلى سائر البلدان ، وربّما بلغت قيمة الفروة منها ثلاثين دينارا.
ملطية
مدينة بأرض الروم مشهورة. بها جبل فيه عين ؛ حدّثني بعض التجار أن هذه العين يخرج منها ماء عذب ضارب إلى البياض ، يشربه الإنسان لا يضرّه شيئا ، فإذا جرى مسافة يسيرة يصير حجرا صلدا.
موغان
ولاية واسعة بها قرى ومروج بآذربيجان ، على يمين القاصد من اردبيل إلى تبريز ، وهي جروم وآذربيجان كلّها صرود كانت منازل التركمان لسعة رفغها وكثرة عشبها ، والآن اتّخذها التتر مشتاة وجلا عنها تركمانها ؛ قال أبو حامد الأندلسي : رأيت بها قلعة عظيمة لها رساتيق كثيرة ، وقد هرب عنها أهلها


لكثرة ما بها من الثعابين والحيّات ، وقال : رأيت عند اجتيازي بها شجاعا عظيما ففزعت منه.
ميّافارقين
مدينة مشهورة بديار بكر ، كانت بها بيعة من عهد المسيح ، عليه السلام ، وبقي حائطها إلى وقتنا هذا. حكي أن ولاية هذه البلاد كانت لرجل حكيم اسمه مرّوثا من قبل قسطنطين الملك صاحب رومية الكبرى ، فمرضت لشابور ذي الأكتاف بنت ، وعجز أطباء الفرس عن علاجها ، فأشار بعض أصحابه باستدعاء مرّوثا لعلاجها. فبعث إلى قسطنطين يسأله فبعثه إليه فعالجها مرّوثا ، ففرح بذلك شابور وقال له : سل حاجتك! فسأل مرّوثا الهدّنة بينه وبين قسطنطين ، فأجابه إلى ذلك ، وكان يجري بينهما محاربات شديدة ، ولمّا أراد الانصراف قال له شابور : سل حاجة أخرى! فقال : إنّك قتلت خلقا كثيرا من النصارى ، فأسألك أن تأمر بجمع عظامهم لي! فأمر له بذلك ، فجمعوا من عظام النصارى شيئا كثيرا ، فأخذها معه إلى بلاده وأخبر قسطنطين بالهدنة وجمع العظام ، فسرّ بذلك وقال له : سل حاجتك! فقال : أريد أن يساعدني الملك على بناء موضع في بلادي. فكتب قسطنطين إلى كلّ من يجاوره المساعدة بالمال والرجال ، فعاد إلى مكانه وبنى مدينة عظيمة ، وجعل في وسط حائط سورها عظام شهداء النصارى التي جمعها من بلاد الفرس ، وسمّى المدينة مدور صالا ، معناه مدينة الشهداء ، واختار لبنائها وقتا صالحا لا تؤخذ عنوة ، وجعل لها ثمانية أبواب :منها باب يسمّى باب الشهوة ، له خاصيّة في هيجان الشهوة أو إزالتها ، لم يتحقّق عند الناقل ولا ان هذه الخاصية للدخول أو الخروج. وباب آخر يسمّى باب الفرح والغم بصورتين منقوشتين على الحجر. أمّا صورة الفرح فرجل يلعب بيده ، وأمّا صورة الغم فرجل قائم على رأسه صخرة فلا يرى بميّافارقين مغموم إلّا نادرا.
وفي برج يعرف ببرج عليّ بن وهب في الركن الغربي القبلي في أعلاه صليب منقور


كبير ، يقال إنّه يقابل البيت المقدس ، وعلى بيعة قمامة بالبيت المقدس صليب مثله ، قيل إن صانعهما واحد ، وبنى بيعة في وسط البلد على اسم بطرس وبولس ، وهي باقية إلى زماننا في المحلّة المعروفة بزقاق اليهود ، فيها جرن من رخام أسود فيه منطقة الزجاج ، فيها دم يوشع بن نون ، عليه السلام ، وهو شفاء من كلّ داء ، وإذا طلي به البرص أزاله ، قيل : ان مرّوثا جاء به من رومية الكبرى ، أعطاه إيّاه قسطنطين عند عوده.
هرقلة
مدينة عظيمة بالروم ، كرسي ملك القياصرة ، بناها هرقل أحد القياصرة.
غزاها الرشيد سنة إحدى وتسعين ومائة. نزل عليها يحاصرها ، فإذا رجل خرج من أهلها شاكي السلاح ونادى : يا معشر العرب ، ليخرج منكم العشرة والعشرون مبارزة! فلم يخرج إليه أحد لأنّهم انتظروا إذن الرشيد ، وكان الرشيد نائما ، فعاد الرومي إلى حصنه ، فلمّا أخبر الرشيد بذلك تأسّف ولام خدمه على تركهم إيقاظه.
فلمّا كان الغد خرج الفارس وأعاد القول فقال الرشيد : من له؟ فابتدر جلّة القوّاد ، وكان عند الرشيد مخلد بن الحسين وإبراهيم الفزاري ، قالا : يا أمير المؤمنين إن قوادك مشهورون بالبأس والنجدة ، ومن قتل منهم هذا العلج لم يكن فعلا كبيرا ، وإن قتله العلج كانت وصمة على العسكر كبيرة ، فإن رأى الأمير أن يأذن لنا حتى نختار له رجلا فعل. فاستصوب الرشيد ذلك ، فأشاروا إلى رجل يعرف بابن الجزري ، وكان من المتطوّعة ، معروف بالتجارب مشهور في الثغور بالنجدة ، فقال له الرشيد : أتخرج إليه؟ فقال : نعم ، وأستعين بالله عليه.
فأدناه الرشيد وودّعه واتبعه وخرج معه عشرون من المتطوّعة. فقال لهم العلج وهو يعدّهم واحدا واحدا : كان الشرط عشرين وقد ازددتم رجلا ، ولكن لا بأس! فنادوه : ليس يخرج إليك إلّا واحد. فلمّا فصل منهم ابن الجزري


تأمّله العلج وقال له : أتصدقني فيما أسألك؟ قال : نعم. قال : بالله أنت ابن الجزري؟ قال : نعم. فقال : ملأ كفؤ! ثمّ أخذا في شأنهما حتى طال الأمر بينهما ، وكاد الفرسان ينفقان تحتهما ، وزجّا برمحيهما وانتضيا بسيفيهما ، وقد اشتدّ الحرّ ، فلمّا أيس كلّ واحد منهما عن الظفر بصاحبه ولّى ابن الجزري ، فدخل المسلمين كآبة وغطغط الكفّار ، فاتبعه العلج فتمكّن ابن الجزري منه ، فرماه بوهق واستلبه عن ظهر فرسه ثمّ عطف عليه ، فما وصل إلى الأرض حتى فارقه رأسه ، فكبّر المسلمون تكبيرا وانخذل المشركون وبادروا إلى الحصن ، وأغلقوا الأبواب ، فصبّت الأموال على ابن الجزري فلم يقبل منها شيئا ، وسأل أن يعفى ويترك بمكانه. وأقام الرشيد عليها حتى استخلصها وسبى أهلها وخربها ، وبعث فيسقوس الجزية عن رأسه أربعة دنانير ، وعن كلّ واحد من البطارقة دينارين.
هزار اسب
مدينة كبيرة وقلعة حصينة بأرض خوارزم. الماء محيط بها وهي كالجزيرة ليس إليها إلّا طريق واحد.
تنسب إليها رحمة بنت إبراهيم الهزار اسبية المشهورة بأنّها ما تناولت ثلاثين سنة طعاما. وحكى أبو العباس عيسى المروزي أنّها إذا شمّت رائحة الطعام تأذّت ، وذكرت أن بطنها لا صق بظهرها ، فأخذت كيسا فيه حبّ القطن ، وشدّته على بطنها لئلّا يقصف ظهرها. وبقيت إلى سنة ثمان وستين ومائتين.
وادي الحجارة
ناحية بقرب طليطلة ؛ قال العذري : لا يدخلها أحد من غير أهلها بصبي ابنا له ويعيش فيها ، هذا قول العذري. وجاز أن يكون مراده أن الصبي لا يعيش وجاز أن يكون مراده أن الأب لا يعيش ، والله أعلم بصحة ذلك.


وشلة
قرية بآذربيجان من قرى خويّ. بها عين من شرب من مائها يسهل في الحال جميع ما في بطنه ، حتى لو تناول شيئا من الحبوب وشرب من ذلك الماء عليه يخرج في الحال.
والوطة
مدينة بجزيرة ميورقة ، كبيرة حصينة طيبة الأرض ، رخيصة الأسعار.
بها مياه غزيرة وأشجار كثيرة ؛ قال العذري : بها أرحية عجيبة وذاك أن المياه إذا قلّت لا تدير الرحا ، فعمدوا إلى عود غلظ دورته نحو عشرة أشبار ، وطوله سبعة أذرع ، وشقّوه بنصفين ويحفرون وسط الشقّين إلّا نصف ذراع من آخره ، ويضمّون أحدهما إلى الآخر ، ويفتحون في آخره كوّة مقدار حافر حمار ثمّ ينصبونه على الساقية ، ويقومونه على الدولاب ، فيخرج الماء من الثقبة التي في العود بالقوّة ، ويضرب أمشاط الدولاب ويدوّر الرحا.
وبقرب والوطة فتق كأنّه بئر ينزل الناس فيه بالمصابيح إلى أسفله ، فيجدون فيه ساقية ماء وبعدها ظلمة تأخذ بالنفس ولا يبقى فيها المصباح ، وإذا ألقي في تلك الساقية شيء يخرج إلى البحر ويوجد فيه.
ياسي جمن
موضع بين خلاط وارزن الروم. به عين يفور منها الماء فورانا شديدا ، يسمع صوته من بعيد ، وإذا دنا منه شيء من الحيوان يموت في الحال ، فيرى حولها من الطيور والوحوش الموتى ما شاء الله. وقد وكلوا بها من يمنع الغريب من الدنوّ منها.


يونان
موضع كان بأرض الروم. به مدن وقرى كثيرة ، وإنّها منشأ الحكماء اليونانيّين ، والآن استولى عليها الماء. من عجائبها أن من حفظ شيئا في تلك الأرض لا ينساه أو يبقى معه زمانا طويلا. وحكى التجار أنّهم إذا ركبوا البحر ووصلوا إلى ذلك الموضع يذكرون ما غاب عنهم. ولهذا نشأ بهذه الأرض الحكماء الفضلاء الذين لم يوجد أمتالهم في أرض أخرى إلّا نادرا.
ينسب إليها سقراط أستاذ أفلاطون ، وكان حكيما زاهدا في الدنيا ونعيمها راغبا في الآخرة وسعادتها. دعا الناس إلى ذلك فأجابه جمع من أولاد الملوك وأكابر الناس ، فاجتمعوا عليه يأخذون منه غرائب حكمته ونوادر كلامه. فحسده جمع فاتّهموه بمحبّة الصبيان ، وذكروا أنّه يتهاون بعبادة الأصنام ، ويدعو الناس إلى ذلك ، وسعوا به إلى الملك وشهد عليه جمع بالزور عند قاضيهم ، وحكم قاضيهم عليه بالقتل فحبس ، وعنده في الحبس سبعون فيلسوفا من موافق ومخالف يناظرونه في بقاء النفس بعد مفارقة البدن ، فصحّح رأيه في بقاء النفس. فقالوا له : هل لك أن نخلّصك عن القتل بفداء أو هرب؟ فقال : أخاف أن يقال لي لم هربت من حكمنا يا سقراط؟ فقالوا : تقول لأني كنت مظلوما! فقال : أرأيتم أن يقال ان ظلّمك القاضي والعدول فكان من الواجب أن تظلمنا وتفرّ من حكمنا ، فماذا يكون جوابي؟ وذاك أن القوم كان في شريعتهم أنّه إذا حكم عدلان على واحد يجب عليه الانقياد وان كان مظلوما ، فلذلك انقاد سقراط للقتل ، فازمعوا على قتله بالسمّ. فلمّا تناول السمّ ليشربه بكى من حوله من الحكماء حزنا على مفارقته. قال : إني وإن كنت أفارقكم إخوانا فضلاء فها أنا ذاهب إلى إخوان كرم حكماء فضلاء! وشرب السمّ وقضى نحبه.
وينسب إليها أفلاطون أستاذ أرسطاطاليس ، فكان حكيما زاهدا في الدنيا ويقول بالتناسخ. فوقع في زمانه وباء أهلك من الناس خلقا كثيرا ، فتضرّعوا إلى


الله تعالى من كثرة الموت وسألوا نبيّهم ، وكان من أنبياء بني إسرائيل ، عن سبب ذلك ، فأوحى الله تعالى إليه أنّهم متى ضعّفوا مذبحا لهم على شكل المكعب ارتفع عنهم الوباء ، فأظهروا مذبحا آخر بجنبه وأضافوه إلى المذبح الأوّل فزاد الوباء.
فعادوا إلى النبيّ ، عليه السلام ، فأوحى الله تعالى إليه أنّهم ما ضعّفوا بل قرنوا به مثله ، وليس هذا تضعيف المكعب. فاستعانوا بأفلاطون فقال : إنّكم كنتم تردّون الحكمة وتمتنعون عن الحكمة والهندسة فأبلاكم الله تعالى بالوباء عقوبة ، لتعلموا أن العلوم الحكمية والهندسيّة عند الله بمكانة. ثمّ لقن أصحابه انّكم متى أمكنكم استخراج خطّين من خطّين على نسبة متوالية توصّلتم إلى تضعيف المذبح ، فإنّه لا حيلة فيه دون استخراج ذلك ، فتعلّموا استخراج ذلك فارتفع الوباء عنهم.
فلمّا تبيّن للناس من أمر الحكمة هذه الأعجوبة تلمذ لأفلاطون خلق كثير ، منهم أرسطاطاليس ، واستخلفه على كرسي الحكمة بعده ، وكان أفلاطون تاركا للدنيا لا يحتمل منه أحد ولا يعلم الحكمة إلّا من كان ذا فطانة ونفس خيّرة ، والتلميذ يأخذ منه الحكمة قائما لاحترام الحكمة.
وحكي أن الإسكندر ذهب إليه وكان أفلاطون أستاذ أستاذه ، فوقف إليه وهو في مشرقة قد أسند ظهره إلى جدار يأوي إليه ، فقال له الإسكندر : هل من حاجة؟ فقال : حاجتي أن تزيل عني ظلّك فقد منعتني الوقوف في الشمس! فدعا له بذهب وكسوة فاخرة من الديباج والقصب ، فقال : ليس بأفلاطون حاجة إلى حجارة الأرض وهشيم النبات ولعاب الدود ، وإنّما حاجته إلى شيء يكون معه أينما توجّه.
وينسب إليها أرسطاطاليس ، ويقال له المعلّم الأوّل ، لأنّه نقّح علم الحكمة وأسقط سخيفها وقرّر إثبات المدّعى وطريق التوجيه ، وكانوا قبله يأخذون الحكمة تقليدا. ووضع علم المنطق وخالف أستاذه أفلاطون وأبطل التناسخ ، قيل له : كيف خالفت الأستاذ؟ فقال : الأستاذ صديقي والحقّ أيضا صديقي ،


لكن الحقّ أحبّ إليّ من الأستاذ.
وكان أستاذ الإسكندر ووزيره فأخذ الإسكندر برأيه الأرض كلّها. حكي أن أرسطاطاليس سئل : لم حركة الإقبال بطيئة وحركة الإدبار سريعة؟ فقال : لأن المقبل مصعد ، والصعود يكون من مرقاة إلى مرقاة ، والمدبر كالمقذوف من علو إلى سفل.
وحكى الحكيم الفاضل أبو الفتح يحيى السهروردي الملقّب بشهاب الدين في بعض تصانيفه : بينا أنا بين النائم واليقظان رأيت في نور شعشعاني بمثل إنساني ، فإذا هو المعلّم ، فسألته عن فلان وفلان من الحكماء فأعرض عني ، فسألته عن سهل بن عبد الله التستري وأمثاله فقال : أولئك هم الفلاسفة حقّا ، نطقوا بما نطقنا فلهم زلفى وحسن مآب!
وحكي أن الإسكندر قال لأرسطاطاليس : قد ورد الخبر بفتح المدينة التي أنت منها فماذا ترى؟ قال أرسطاطاليس : أرى أن لا يبقى على واحد منهم كيلا يرجع أحد يخالفك! فقال الإسكندر : أمرت أن لا يؤذى أحد فيها احتراما لجانبك. فكلام الوزير عجب وكلام الملك أعجب منه.
وينسب إليها ديوجانس ، وكان حكيما تاركا للدنيا ، مفارقا لشهواتها ولذّاتها ، مختارا للعزلة ولا يرضى باحتمال منه من أحد ، حكي أنّه كان نائما في بستان في ظلّ شجرة ، فدخل عليه بعض الملوك فركله برجله وقال له : قد ورد الخبر بفتح بلدتك! فقال : أيّها الملك فتح البلاد عادة الملوك ، لكن الركل من طباع الدوابّ! وحكي أنّه رأى صيّادا يكلّم امرأة حسناء فقال له : أيّها الصيّاد ، احذر أن تصاد! وحكي أنّه رأى امرأة حسناء خرجت للنظارة يوم عيد فقال : هذه ما خرجت لترى إنّما خرجت لترى! وحكي انّه رأى رجلا مع ابنه ، والابن شديد الشبه بأبيه ، فقال للصبي : نعم الشاهد أنت لأمّك! وحكي انّه نظر إلى شابّ حسن الصورة قبيح السيرة فقال : بيت حسن فيه ساكن قبيح!
وينسب إليها بطليموس صاحب العلم المجسطي الذي عرف حركات الأفلاك


وسير الكواكب بالبراهين الهندسيّة ، فذكر أن بعض الأفلاك يتحرّك من المغرب إلى المشرق ، وبعضها من المشرق إلى المغرب ، وبعضها سريع الحركة ، وبعضها بطيء الحركة ، وبعضها يدور رحوية ، وبعضها يدور دولابية ، وبعضها يدور حمائلية. وان حركات الكواكب تابعة لحركات أفلاكها ، ومن الأفلاك بعضها محيطة بكرة الأرض وبعضها غير محيطة ، وبعضها مركزها مركز الأرض وبعضها مركز خارج من مركز الأرض. وأقام على ذلك كلّه البراهين الهندسيّة ومسح الأفلاك برجا برجا ، ودرجة درجة ، وثانية ثانية حتى يقول : في يوم كذا وفي ساعة كذا يكون الكسوف أو الخسوف ، ويقع كما قال. وأعجب من هذا أنّه يبيّن بالبراهين الهندسيّة أن ما بين السماء والأرض من المسافة كم يكون ميلا ، وأن كلّ فلك من الأفلاك تحتها كم يكون ميلا ، ودورتها كم تكون ميلا ، وقطرها كم يكون ميلا. ومن أعجب الأشياء وضع الاصطرلاب والتقويم.
فسبحان من علّم الإنسان ما لم يعلم!
وينسب إليها بطلميوس صاحب الأحكام النجوميّة. يزعم أنّه حصل له بالتجربة مرّة بعد أخرى وقوع الحوادث بحركات الأفلاك وسير الكواكب ، وليس على ذلك برهان كما في المجسطي ، لكن هو يزعم غلبة الظن ، وأنّه موقوف على مقدمات وشرائط كثيرة قلّما تحصل لأحد في زماننا. ومن أراد شيئا من ذلك فلينظر في أحكام جاماسب وزير كشتاسف ، ملك الفرس ، فإنّه كان قبل مبعث موسى ، عليه السلام ، وحكم بمبعث موسى وعيسى ونبيّنا ، عليه السلام ، وبإزالة الملّة المجوسيّة وخروج الترك ، وأمثال ذلك من الحوادث الكثيرة.
وينسب إليها بليناس صاحب الطلسمات. وإنّها مأخوذة من أجرام سماوية وأجرام أرضيّة في أوقات مخصوصة ، وكتابنا هذا كثير فيه من ذكر الطلسمات.
وينسب إليها فيثاغورس صاحب علم الموسيقى. زعموا أنّه وضع الألحان على أصوات حركات الفلك بذكائه وصفاء جوهر نفسه. استخرج أصول النغمات وهو أوّل من تكلّم في هذا العلم ، وفائدته أن المريض الذي عدم نومه أو قراره


يلهى بهذه الأصوات ، فربّما يأتيه النوم أو يخفّ عنه بعض ما به بسبب اشتغاله بسماع تلك الأصوات ، وكذلك الحزين الذي يغلب عليه الحزن يشغل بشيء من هذه الألحان ، فيخفّ عليه بعض ما به.
وينسب إليها اقليمون ، وهو صاحب الفراسة ، والفراسة هي الاستدلال بالأمور الظاهرة على الأمور الخفيّة ، وإنّها كثيرة تظهر للإنسان على قدر ذكائه كما قال تعالى : إن في ذلك لآيات للمتوسّمين. فإنّك إذا رأيت إنسانا مصفرّ اللون ترى أنّه مريض ، فإن لم تجد آثار المرض تعلم انّه خائف. وإذا رأيت رجلا كبير الرأس تعلم انّه بليد تشبيها بالحمار ، وإذا رأيت رجلا عريض الصدر دقيق الخصر تعلم أنّه شجاع لأنّه شبيه بالأسد. ومن هذا الطريق وهذا علم منسوب إلى الحكيم اقليمون.
وينسب إليها أوقليدس واضع الأشكال الهندسيّة والبراهين اليقينيّة ، والمقالات العجيبة والأشكال الموقوفة. بعضها على بعض على وجه لا يفهم الثاني ما لم يفهم الأوّل ، ولا الثالث ما لم يفهم الثاني ، وعلى هذا الترتيب فلا يستعدّ لهذا الفن من العلوم إلّا كلّ ذي فطانة وذكاء ، فإنّه من العلوم الدقيقة.
وينسب إليها أرشميدس واضع علم أعداد الوفق على وجه عجيب ، وهو أن يخرج شكلا جميع أضلاعه متساوية طولا وعرضا وأقطاره كذلك ، ويكون جميع سطوره متساوية بالعدد. زعموا أن لهذه الأشكال خواص إذا ضربت في أوقات معيّنة. وأمّا شكل ثلاثة في ثلاثة فمجرب لسهولة الولادة ، وهو أوّل الأشكال وآخرها ألف في ألف. قال أيضا مجرب لظفر العسكر إذا كان ذلك على رايتهم.
وينسب إليها بقراط صاحب الأقوال الكليّة في قوانين الطبّ ، لأن تجربته دلّت على ذلك ، والذي اختاره من القواعد في غاية الحسن قلّما ينتقض شيء منه.
وكان خبيرا بعلم الطب بكلياته وجزئياته.
وينسب إليها جالينوس صاحب علم الطب والمعالجات العجيبة بذكاء نفسه


وألقي إليه في نومه. حكي أنّه رأى طيرا سقط من الجوّ يضرب بجناحيه ثمّ أخذ شيئا من الماء في منقاره ، وصبّ ذلك في منفذ ذرقه فانفصل منه ذرقه وطار ، فوضع الحقنة على ذلك عندما يكون الاحتباس في الامعاء. وحكي انّه كان على إصبعه جرح ، بقي مدّة لم يقبل المعالجة ، فرأى في نومه أن علاجه فصد عرق تحت كتفه من الجانب المخالف ، ففعل ذلك فعوفي. وحكي أنّه قيل لجالينوس : كيف خرجت على أقرانك بوفور العلم؟ فقال : لأن ما أنفق أولئك في الخمر أنا أنفقت في الزيت.
وحكي أنّه أصابه في آخر غمره إسهال شديد فقيل له : كيف عجزت عن حبس هذه وأنت أنت؟ فدعا بطشت ملأه ماء فرمى فيه دواء انعقد الماء فيه فقال : أقدر على حبس الماء في الطشت ، وما أقدر على حبس بطني ، لتعلموا أن العلم والتجربة لا ينفعان مع قضاء الله تعالى! قال الشاعر :
أرسطو مات مدفوقا ضئيلا
 

وأفلاطون مفلوجا ضعيفا
 
مضى بقراط مسلولا ضعيفا
 

وجالينوس مبطونا نحيفا
 
هؤلاء فضلاء الناس ، ماتوا أسوأ ميتة ، لتعلموا أنه هو القاهر فوق عباده. والله الموفق.


الاقليم السادس
أوّله حيث يكون الظلّ نصف النهار عند الاستواء سبعة أقدام وستّة أعشار وسدس عشر قدم ، ويفضل ظلّ آخره على أوّله بقدم واحد فقط. ويبتدىء من مساكن ترك المشرق من قانى وتون وخرخيز وكيماك والتغزغز وأرض التركمان وبلاد الخزر واللان والسرير ، يمرّ على القسطنطينيّة والرومية الكبرى ، وبلاد المان وافرنجة وشمال الأندلس ، حتى ينتهي إلى بحر المغرب. وأطول نهار هؤلاء في أوّل الإقليم خمس عشرة ساعة ونصف ، وآخره خمس عشرة ساعة ونصف وربع. وطوله في وسطه من المشرق إلى المغرب سبعة آلاف ميل ومائة وخمسة وسبعون ميلا ، وثلاث وستّون دقيقة. وعرضه مائتا ميل وخمسة عشر ميلا وتسع وثلاثون دقيقة. وتكسيره ألف ألف ميل وستّة وأربعون ألف ميل وعشرون ميلا ، وكذا دقائق ، ولنذكر شيئا من أحوال المدن الواقعة فيه مرتبة على حروف المعجم. والله الموفق.
أبولدة
مدينة بأرض الفرنج عظيمة مبنية بالحجارة. لا يسكنها إلّا الرهبان ولا تدخلها امرأة لأنّه أوصى شهيدها بذلك ، واسم شهيدها باج الب ، زعموا أنّه كان أسقفا بافرنجة ، فتشاجر أهلها وأتى هذا الموضع ، وبنى هذه المدينة. وهي كنيسة عظيمة معتبرة عند النصارى ؛ حكى الطرطوشي قال : ما رأيت في جميع بلاد النصارى أعظم منها ولا أكثر ذهبا وفضّة. وأكثر أوانيها كالمجامر والكؤوس والأباريق والقصاع من الذهب والفضّة.


وبها صنم من فضّة على صورة شهيدها ، وجهه إلى المغرب ، وبها صنم آخر من ذهب وزنه ثلاثمائة رطل ، ملصق ظهره بلوح واسع عريض جدّا ، قد كلّل بالياقوت والزمّرد ، وهو مفتوح اليدين على شكل المصلوب ، وهو صورة المسيح ، عليه السلام. وبها من صلبان الذهب والفضّة وألواح الآثار كلّها من الذهب والفضّة قد كلّل بالياقوت.
اشت
مدينة بأرض الإفرنج ، حكى العذري أن بهذه المدينة عادة عجيبة ، وهي أن أهلها إذا اشتروا متاعا كتبوا ثمنه عليه وتركوه في دكانهم ، فمن وافقه بذلك الثمن أخذه وترك ثمنه مكانه. ولحوانيتهم حرّاس ، فمن ضاع منه شيء غرّموا الحارس قيمته.
أفرنجة
أرض واسعة في آخر غربي الإقليم السادس. ذكر المسعودي أن بها نحو مائة وخمسين مدينة. قاعدتها باريس. وإن طولها مسيرة شهر وعرضها أكثر ، وإنّها غير خصبة لكونها رديئة المحرث قليلة الكرم معدومة الشجر. وأهلها الإفرنج وهم نصارى ، أهل حرب في البرّ والبحر ، ولهم صبر وشدّة في حروبهم لا يرون الفرار أصلا ، لأن القتل عندهم أسهل من الهزيمة ، ومعاشهم على التجارات والصناعات.
افش
مدينة في بلاد الإفرنج مبنية بالصخور المهندمة على طرف نهر يسمّى نهر افش. بها جمّة غزيرة الماء جدّا. عليها بيت واسع الفضاء يستحمّ فيه أهلها على بعد من الجمّة ، خوفا من شدّة سخونة الماء الذي يفور من الجمّة.


انطرحت
مدينة بأرض الفرنج عظيمة واسعة الرقعة. أرضها سبخة لا يصلح فيها شيء من الزروع والغراس ، ومعاشهم من المواشي ودرّها وأصوافها. وليس ببلادهم حطب يشعلونه بحاجاتهم ، وإنّما عندهم طين يقوم مقام الحطب ، وذاك أنّهم يعمدون في الصيف إذا خفّت المياه إلى مروجهم ، ويقطعون فيها الطين بالفؤوس على شكل الطوب ، فيقطع كلّ رجل منها مقدار حاجته ويبسطه في الشمس ينشف ، فيكون خفيفا جدّا ، فإذا عرض على النار يشتعل ، وتأخذ فيه النار كما تأخذ في الحطب. وله نار عظيمة ذات وهج عظيم كنار كير الزجّاجين ، وإذا احترقت قطاعة لا جمر لها بل لها رماد.
ايرلاندة
جزيرة في شمالي الإقليم السادس وغربيه ؛ قال العذري : ليس للمجوس قاعدة إلّا هذه الجزيرة في جميع الدنيا ، ودورها ألف ميل ، وأهلها على رسم المجوس وزيّهم ، يلبسون برانس قيمة الواحد منها مائة دينار. وأمّا أشرافهم فيلبسون برانس مكلّلة باللآلىء.
وحكي أن في سواحلها يصيدون فراخ الأبلينة ، وهو نون عظيم جدّا ، يصيدون أجراءها يتأدّمون بها. وذكروا ان هذه الأجراء تتولّد في شهر أيلول فتصاد في تشرين الأوّل والثاني وكانون الأوّل والثاني ، في هذه الأشهر الأربعة ، وبعد ذلك يصلب لحمها فلا يصلح للأكل.
أمّا كيفيّة صيدها فقد ذكر العذري أن الصيّادين يجتمعون في مراكب ، ومعهم نشيل كبير من حديد ذو أضراس حداد ، وفي النشيل حلقة عظيمة قويّة ، وفي الحلقة حبل قويّ ، فإذا ظفروا بالجرو صفّقوا بأيديهم وصوّتوا ، فيتلهّى الجرو بالتصفيق ويقرب من المراكب مستأنسا بها ، فينضمّ أحد الملّاحين إليها


ويحكّ جبهته حكّا شديدا ، فيستلذّ الجرو بذلك ، همّ يضع النشيل وسط رأسه ويأخذ مطرقة من حديد قويّة ، ويضرب بها على النشيل بأتمّ قوّة ثلاث ضربات ، فلا يحسّ بالضربة الأولى وبالثانية ، والثالثة يضطرب اضطرابا شديدا ، فربّما صادف بذنبه شيئا من المراكب فيعطبها ، ولا يزال يضطرب حتى يأخذه اللغوب.
ثمّ يتعاون ركاب المراكب على جذبه حتى يصير إلى الساحل. وربّما أحسّت أمّ الجرو باضطرابه فتتبعهم ، فيستعدّون بالثوم الكثير المدقوق ويخوّضون به الماء ، فإذا شمّت رائحة الثوم استبعثتها ورجعت القهقرى إلى خلف ، ثمّ يقطعون لحم الجرو ويملّحونه. ولحمه أبيض كالثلج وجلده أسود كالنقس.
باكويه
مدينة بنواحي دربند بقرب شروان. بها عين نفط عظيمة تبلغ قبالتها في كلّ يوم ألف درهم ، وإلى جانبها عين أخرى تسيل بنفط أبيض كدهن الزئبق ، لا تنقطع نهارا ولا ليلا ، تبلغ قبالتها مثل الأولى.
من عجائبها ما ذكر أبو حامد الأندلسي أن بها أرضا ليس في ترابها حرارة كثيرة يجدها الإنسان ، والناس يصيدون الغزلان وغيرها ويقطعون لحمها ويجعلونه في جلودها مع الملح وما شاؤوا من الأبازير ، ويأخذون أنبوبة من القصب الغليظ النافذ ، ويشدّون القصب على جلد الصيد ويدفنونه تحت ذلك التراب ، ويتركون القصب خارجا فتخرج مائية اللحم كلّها من القصبة ، فإذا نفدت المائية علموا أن اللحم قد نضج فيخرجونه وقد تهرّأ.
وحكى بعض التجّار انّه رأى بها نارا لا تزال تضطرم ولا تنطفىء لأن موضعها معدن الكبريت. وحكى أبو حامد الأندلسي أن بقرب باكويه جبلا أسود في سنامه شقّ طويل ، يخرج منه الماء ويخرج مع ذلك الماء مثل صناج الدانق من النحاس وأكبر أو أصغر ، يحملها الناس إلى الآفاق للتعجّب.


باني وأريشة
مدينتان بأرض الفرنج ، سمّيتا باسم بانيهما : أمّا باني فاسم ملك تلك الناحية في قديم الدهر ، وأريشة اسم زوجته. أمّا مدينة الباني فمدينة شريفة في وسطها سارية من رخام ، وعلى تلك السارية صورة باني كأنّه ينظر إلى البحر إلى إقبال مراكبه من إفريقية. وعلى ميل من مدينة باني مدينة أريشة ، وفي وسط المدينة سارية من رخام عليها صورة أريشة ، صوّر جميعا من رخام تذكرة لهما ، وسمّيت المدينتان باسميهما. والله الموفق.
برذيل
مدينة بناحية افرنجة كثيرة المياه والأشجار والفواكه والحبوب. أكثر أهلها نصارى. بها بنيان منيفة على سوار عظيمة ، وفي سواحل هذه المدينة يوجد العنبر الجيّد. وحكي أنّهم إذا أصابهم كلب الشتاء وامتنع عليهم ركوب البحر ، مشوا إلى جزيرة بقربهم يقال لها انواطى ، بها نوع من الشجر يسمّى مادقة ، فإذا أصابهم الجوع قشروا هذه الشجرة فوجدوا بين لحائها وخشبها شيئا أبيض فاقتاتوا بها الشهر والشهرين وأكثر حتى يطيب الهواء.
بها جبل مشرف عليها وعلى البحر المحيط وعليه صنم ، وذلك كأنّه يخبر الناس بترك التعرّض لسلوك البحر المحيط ، لئلّا يطمع أحد ممّن خرج من برذيل بركوب البحر الذي عنده طمع في سلوكه.
برطاس
ولاية واسعة بالخزر مفترشة على نهر اتل ، أهلها مسلمون ، لهم لغة مغايرة لجميع اللغات ، أبنيئهم من الخشب يأوون إليها في الشتاء ، وأمّا في الصيف فيفرشون في الخرقاهات.


بها نوع من الثعالب في غاية الحسن ، كثير الوبر أحمر اللون ، جلودها الفراء البرطاسيّة. والليل عندهم قليل في الصيف يكون مقدار ساعة ، لأن السائر لا يتهيّأ له أن يسير فيه أكثر من فرسخ.
بلاد بجناك
هم قوم من الترك في الإقليم السادس في شماليه قرب الصقالبة. وهم قوم طوال اللحى اولو اسبلة طويلة. عندهم كثرة وقوّة ومنعة ، لا يؤدّون الخراج إلى أحد أصلا ، ويغير بعضهم على بعض كالسباع ، ويفترشون نساءهم بمرأى الناس ، لا يستقبحون ذلك كالبهائم ، ومأكولهم الدخن. وبلادهم مسيرة اثني عشر يوما.
بلاد بجا
هم قوم من الترك ، بلادهم مسيرة شهر ، وهم مشركون يسجدون لملكهم ويؤدون الاتاوة إلى الطحطاح ، ويعظّمون البقر ولا يأكلونها تعظيما لها. وبلادهم كثيرة العنب والتين والزعرور الأسود ، وفيها ضرب من الشجر لا تأكله النار ، ولهم أصنام من ذلك الخشب ، يأخذ الطرقيون من النصارى ذلك الخشب ، ويزعمون أنّه من الجذع الذي صلب عليه عيسى ، عليه السلام.
بلاد بغراج
قوم من الترك لهم اسبلة بغير لحى ، وبلادهم مسيرة شهر ، لهم ملك عظيم الشأن يذكر أنّه علويّ من ولد يحيى بن زيد ، وعندهم مصحف مذهب على ظهره أبيات في مرثية زيد ، وهم يعبدون ذلك المصحف ، وزيد عندهم ملك العرب ، وعليّ بن أبي طالب إله العرب ، ولا يملّكون أحدا إلّا من نسل ذلك العلوي. وإذا استقبلوا السماء فتحوا أفواهم وشخصوا أبصارهم ويقولون :


إن إله العرب ينزل منها ويصعد إليها. ومعجزة هؤلاء الملوك الذين هم من نسل زيد طول اللحية ، وقيام الأنف ، وسعة العين.
ولهؤلاء القوم عساكر فرسان ورجالهم كثيرة ، وصنعتهم عمل السلاح ، يعملون منه آلات حسنة جدّا. وغذاؤهم دخن ولحوم الضأن الذكر ، وليس في بلادهم بقر ولا معز أصلا. ولباسهم اللبود لا يلبسون غيرها. ولهم عادة أن من اجتاز بهم يأخذون عشر ماله.
بلاد تاتار
هم جيل عظيم من الترك سكّان شرقي الإقليم السادس ، أشبه شيء بالسباع في قساوة القلب وفظاظة الخلق وصلابة البدن ، وغلظ الطبع وحبّهم الخصومات وسفك الدماء وتعذيب الحيوان ، وخروجهم من معجزات رسول الله ، صلّى الله عليه وسلّم ، وهو ما رواه أبو بردة عن أبيه قال : كنت جالسا عند رسول الله ، عليه السلام ، فسمعته يقول : إن أمّتي يسوقها قوم عراض الوجوه صغار الأعين كأن وجوههم المجانّ المطرقة ثلاث مرّات حتى يلحقوهم بجزيرة العرب ، أمّا السابقة فينجو من هرب منهم ، وأمّا الثانية فيهلك بعض وينجو بعض ، وأمّا الثالثة فيهلك كلّهم. قالوا : من هم يا رسول الله؟ قال : هم الترك ، أما والذي نفسي بيده لتربطن خيولهم إلى سواري مساجد المسلمين!
وعنه ، صلّى الله عليه وسلّم : ان لله جنودا بالمشرق اسمهم الترك ينتقم بهم ممّن عصاه ، فكم من حافيات حاسرات يسترحمن فلا يرحمن ، فإذا رأيتم ذلك فاستعدّوا للقيامة ، وأمّا الديانات فليسوا منها في شيء وليس عندهم حلّ ولا حرمة ، يأكلون كلّ شيء وجدوه ويسجدون للشمس ويسمّونها إلها ، ولهم لغة مخالفة لسائر الأتراك وقلم يكتبون به مخالف لسائر الأقلام.
حكت امرأة قالت : كنت في أسرهم مدّة ، فاتّفق أن الرجل الذي سباني مرض فقال أقاربه فيما قالوا : لعلّ هذه المرأة أطعمته شيئا. فهمّوا بقتلي والمريض


كان يمنعهم من قتلي ، فاجتمعوا يوما اجتماعا عظيما وأحضروا معزا أركبوني عليها ، وجاءت امرأة ساحرة بمنجل في يدها تديره ، وتقرأ شيئا والجمع قيام عندي بالسيوف المسلولة ، فإذا المعز تحتي صاحت صيحة ، فرجع القوم وخلّوا سبيلي وقالوا : ليس هذا كما ظننّا.
بلاد التغزغز
هم قوم من الترك ، بلادهم مسيرة عشرين يوما ، وليس لهم بيت عبادة.
يعظّمون الخيل ويحسنون القيام عليها ، ويأكلون المذكى وغير المذكى ، ويلبسون القطن واللبود ، ولهم عيد عند ظهور قوس قزح. ولهم ملك عظيم الشأن له خيمة على أعلى قصره من ذهب ، تتسع لألف إنسان ترى من خمسة فراسخ.
وبها حجر الدم ، وهو حجر إذا علق على إنسان كصاحب الرعاف أو غيره ينقطع دمه.
بلاد جكل
هم قوم من الترك ، مسيرة بلادهم أربعون يوما ، وبلادهم آمنة ساكنة ، وفيهم نصارى. وهم صباح الوجوه يتزوّج الرجل منهم بابنته وأخته وسائر محارمه ، وليسوا مجوسا لكن هذا مذهبهم ، ويعبدون سهيلا والجوزاء وبنات نعش ، ويسمّون الشعرى اليمانية ربّ الأرباب. وعندهم دعة لا يرون الشرّ ، وجميع قبائل الترك يطمع فيهم للينهم ودعتهم. ومأكولهم الشعير والجلبان ولحوم الغنم ، وليس في بلادهم الإبل ولا البقر ، ولباسهم الصوف والفراء لا يلبسون غيرها. وبها حجر الفادزهر ، ولا ملك لهم ، وبيوتهم من الخشب والعظام.


بلاد الختيان
هم قوم من الترك ، بلادهم مسيرة عشرين يوما ، وهم قوم أصحاب عقول وآراء صحيحة بخلاف سائر الترك. يتزوّجون تزويجا صحيحا ، ولا ملك لهم بل كلّ جمع لهم شيخ ذو عقل ورأي يتحاكمون إليه. وليس لهم جور على من يجتاز بهم ولا اغتيال عندهم. ولهم بيت عبادة يعتكفون فيه الشهر والأكثر والأقلّ. ومأكولهم الشعير والجلبان ولا يأكلون اللحم إلّا مذكى ، ولا يلبسون مصبوغا.
وبها مسك ذكي الرائحة جدّا ما دام في أرضهم ، فإذا حمل عنها تغيّر واستحال.
وبها جبل فيه حيّات من نظر إليها مات إلّا أنّها في ذلك الجبل لا تخرج عنه البتّة.
وبها حجر يسكن الحمى لكنه لا يعمل إلّا في أرضهم ، وعندهم فادزهر جيّد ، وعلامته أن فيه عروقا خضراء ، وعندهم بقول كثيرة لها منافع.
بلاد خرخيز
هم قوم من الترك ، بلادهم مسيرة شهر. لهم ملك مطاع عالم بمصالحهم ، لا يجلس بين يديه إلّا من جاوز الأربعين. ولهم كلام موزون يتكلّمون به في صلاتهم ، ويصلّون إلى جانب الجنوب. ولهم في السنة ثلاثة أعياد. ولهم أعلام خضر ينشرونها في الأعياد. ويعظّمون زحل والزهرة ، ويتطيّرون بالمريخ.
والسباع بأرضهم كثيرة جدّا.
ومأكولهم الدخن والأرز ولحوم البقر والغنم وغيرها إلّا لحم الجمال.
ولهم بيت عبادة وقلم يكتبون به. ولهم رأي ونظر في الأمور ولا يطفئون السراج بل يخلّونه حتى ينطفىء بنفسه. بها حجر يسرج بالليل يستغنون به عن المصابيح.


بلاد الخرلخ
قوم من الترك ، بلادهم مسيرة خمسة وعشرين يوما. وهم أهل البغي والظلم يغير بعضهم على بعض ، والزنا عندهم ظاهر.
وهم أصحاب قمار يقامر أحدهم صاحبه في زوجته وأخته وأمّه وابنته ، فما داموا في مجلس القمار فللمقمور أن يفادي ، فإذا انفصلا عن مجلس القمار فقد حصل له ما قمر ، يبيعها من التجار كما يريد.
ونساؤهم ذوات الجمال والفساد ، ورجالهم قليلو الغيرة : تأتي امرأة الرئيس وأخته إلى القوافل وتختار أحدا منهم ، وتمشي به إلى بيتها وتنزله عندها وتحسن إليه ، وزوجها وأقاربها يساعدونها ويتحرّكون في حوائجها ، وما دام الضيف عندها فان الزوج لا يدخل عليها.
ومأكولهم الحمص والعدس ويتّخذون من الدخن الخمر ، ولا يأكلون اللحم إلّا مغمّسا بالملح ، ولباسهم الصوف. ولهم بيت عبادة في حيطانه صور متقدمي ملوكهم ، والبيت من خشب لا تأكله النار ، ومن هذا الخشب في بلادهم كثير.
بها معدن الفضّة يستخرجونها بالزئبق ، وعندهم شجر يقوم مقام الاهليلج قائم الساق ، إذا طليت عصارته على الاورام الحارّة أبرأها لوقتها. ولهم حجر أخضر يعظّمونه ويذبحون له الذبائح تقرّبا إليه.
بها نهر فيه حيّات إذا وقع عليها عين شيء من الحيوان غشي عليه.
بلاد الخزر
هم جيل عظيم من الترك ، بلادهم خلف باب الأبواب الذي يقال له الدربند ، وهم صنفان : صنف بيض أصحاب الجمال الفائق ، وصنف سمر يقال لهم قرا خزر. وأبنيتهم خرقاهات إلّا شيء يسير من الطين. ولهم


أسواق وحمّامات.
ونزولهم على شطّ نهر آتل ، ولهم ملك عظيم يسمّى بلك. وفيهم خلق كثير من المسلمين والنصارى واليهود وعبدة الأوثان. وإذا عرض لقوم منهم حكومة يبعثهم إلى حاكمهم ، والملك لا يدخل بينهم. ولكلّ قوم من الأقوام حاكم.
ولملكهم قصر من الآجرّ بعيد من نهر آتل ، وليس لأحد بناء من الآجرّ إلّا له.
وحكي أن ملكهم لا يركب إلّا في أربعة أشهر مرّة ، وإذا ركب يكون بينه وبين الأجناد قدر ميل ، وإذا رآه أحد يخرّ ساجدا ، ولا يزال كذلك حتى يعبر الملك.
وإذا بعث سرية فانهزمت قتل الهاربين كلّهم ، ويحضر نساءهم وأولادهم وقماشهم يهبها لغيرهم ويقتلهم. وحكي أن ملكهم إذا جاوز الأربعين عزله أو قتله خاصّته ، وقالوا : هذا قد نقص عقله لا يصلح لتدبير الملك!
بلاد خطلخ
هم قوم من الترك ، مسيرة بلادهم عشرة أيّام ، وهم أشدّ شوكة من جميع قبائل الترك ، يغيرون على من حولهم ، ولهم رأي وتدبير في الأمور وينكحون الأخوات. والمرأة لا تتزوّج إلّا زوجا واحدا ، فإن مات عنها لا تتزوّج باقي عمرها. ومن زنى عندهم أحرقوا الزاني والمزني بها ، ولا طلاق لهم ، ومهر المرأة جميع ما يملكه الزوج. ويأكلون الشعير والجلبان والبرّ وسائر اللحوم غير المذكاة. وإذا تزوّج رجل امرأة لا مال لها فمهرها خدمة الولي سنة. والقصاص عندهم مشروع ، والجروح مضمونة بالارش ، فإن أخذ الارش ومات بالجراحة هدر دمه. وملكهم ينكر الشرّ أشدّ الانكار ولا يرضى به ، ومن شرط ملكهم أن لا يتزوّج فإن تزوّج قتل!


بلاد الرّوس
هم أمّة عظيمة من الترك ، بلادهم متاخمة لبلاد الصقالبة ، حكى المقدسي أنّهم في جزيرة وبيئة تحيط بها بحيرة ، هي حصنهم وتمنع عنهم عدوّهم.
قال أحمد بن فضلان في رسالته : رأيت الروسية وقد وافوا بتجاراتهم على نهر آتل ، فلم أر أتمّ بدنا منهم كأنّهم النخل ، شقر بيض ، لهم شريعة ولغة مخالفة لسائر الترك ، لكنهم أندر خلق الله ، لا يتنظّفون ولا يحترزون عن النجاسات. ومن عادة ملكهم أن يكون في قصر رفيع كبير ، ومعه أربعمائة رجل من خواصّه أهل الثقة عنده يجلسون تحت سريره. وله سرير عظيم مرصّع بالجواهر يجلس معه عليه أربعون جارية لفراشه ، وربّما يطأ واحدة بحضور أصحابه ولا ينزل عن سريره البتّة. فإن أراد قضاء الحاجة يقرب إليه الطشت ، وإن أراد الركوب تقرّب الدابّة إلى جنب السرير. وله خليفة يسوس الجيوش ويدبّر أمر الرعيّة ويواقع الأعداء.
ومن عاداتهم أن من ملك عشرة آلاف درهم اتّخذ لزوجته طوقا من ذهب ، وإن ملك عشرين ألفا اتّخذ طوقين ، وعلى هذا فربّما كان في رقبة واحدة أطواق كثيرة ، وإذا وجدوا سارقا علّقوه في شجرة طويلة ، وتركوه حتى يتفتّت!
بلاد الرّوم
هم أمّة عظيمة. وهم سكّان غربي الإقليم الخامس والسادس ؛ قالوا :هم من نسل عيصو بن إسحق بن إبراهيم ، عليه السلام. بلادهم واسعة ومملكتهم عظيمة ، منها الرومية والقسطنطينية. بلادهم بلاد برد لدخولها في الشمال ، وهي كثيرة الخيرات وافرة الثمرات كثيرة البهائم من الدواب والمواشي.
وكانوا في قديم الزمان على دين الفلاسفة إلى أن ظهر فيهم دين النصارى.


ومن عاداتهم الخروج في أعيادهم بالشعانين والسباسب والدنح بالزينة للهو والطرب والمأكول والمشروب ، صغيرهم وكبيرهم وفقيرهم وغنيهم على قدر مكنته وقدرته. ومن عاداتهم إخصاء أولادهم ليكونوا من سدنة بيوت عبادتهم ، لكنّهم لا يتعرّضون للقضيب ويحدثون الخصي بالأنثيين ، لأنّهم كرهوا لرهبانهم احبال نسائهم. وأمّا قضاء الوطر فلا يكرهونه ، وقيل : ان الخصي يبلغ في ذلك مبلغا لا يبلغه الفحول لأنّه يستحلب لفرط المداومة جميع ما عند المرأة ولا يفتر ، فإذا تزوّج أحدهم وأراد الزفاف ، تحمل المرأة إلى القسّ حتى يكون القسّ مفترعها وينالها بركته ، والزوج أيضا يمشي معها ليعلم أن الاقتضاض حصل بفعل القسّ!
وملوك الروم وهم القياصرة كانوا من أوفر الملوك علما وعقلا ، وأتمّهم رأيا وأكثرهم عددا وعددا ، وأوسعهم مملكة وأكثرهم مالا ، ومن عاداتهم أن لا يأخذوا عدوّهم مغافصة ، بل إذا أرادوا غزو بلاد كتبوا إلى صاحبها :نحن قاصدون بلادك في السنة الآتية ، فاستعدّ وتأهّب لالتقائنا!
بلاد الغزّ
أمّة عظيمة من الترك ، وهم نصارى كانوا في طاعة سلاطين بني سلجوق إلى زمن سنجر بن ملكشاه ، فبعث إليهم من يستوفي الخراج منهم فتجاوز الجابي للخراج في الرسم والعادة ، فضربه ملكهم وكان اسمه طوطى بك ، فمات الجابي فبعث إلى السلطان يتعذّر ، والسلطان وافق على قبول عذره لكن الحواشي أرادوا النهب والسبي وتحصيل المال ؛ قالوا : هؤلاء لا يقبل عذرهم فإنّه إهانة بالسلطان وجرأة عليه ، فلنوقع بهم حتى لا يقدم غيرهم على مثل هذا الفعل القبيح! فذهب السلطان بعساكره إليهم فتضرّعوا وتذلّلوا وقالوا للسلطان : ارحم عوراتنا وذرّياتنا وخذ منّا دية المقتول أضعافا مضاعفة ، وضاعف علينا الخراج. فلان السلطان وأبى أصحابه.


فلمّا أيسوا من أمنهم تأهّبوا للقتال وقالوا : نحن كلّنا مقتولون فلا نقتل إلّا في المعركة بعدما قتل كلّ منّا بدله! فركبوا برجالهم ونسائهم وحملوا على المسلمين حملة رجل واحد ، وكشفوهم كشفا قبيحا وهزموهم ، وأخذوا السلطان ودخلوا بلاد خراسان وخرّبوها ، ونهبوا وسبوا. وكان ذلك سنة ثمان وأربعين وخمسمائة والسلطان بقي في أسرهم سنة ثمّ هرب.
وحكى مسعر بن مهلهل أن لهم مدينة من الحجارة والخشب والقصب ، ولهم بيت عبادة ، ولهم تجارات إلى الهند والصين. ومأكولهم البرّ ولحم الغنم ، وملبوسهم الكتان والفراء.
بها حجر أبيض ينفع من القولنج ، وحجر أحمر إذا أمرّ على النصل لم يقطع شيئا. وبلادهم مسيرة شهر واحد.
بلاد كيماك
هم قوم من الترك ، بلادهم مسيرة خمسة وثلاثين يوما ، وبيوتهم من جلود الحيوان. مأكولهم الحمص والباقلّى ولحم الذكران من الضأن والمعز ، ولا يأكلون الاناث. بها عنب نصف الحبّة أبيض ونصفها أسود ، وبها حجارة يستمطر بها متى شاؤوا. وعندهم معادن الذهب في سهل من الأرض يجدونه قطاعا.
وعندهم الماس يكشف عنه السيل. وعندهم نبات ينوّم ويخدر.
وليس لهم ملك ، ولا بيت عبادة. ولهم قلم يكتبون به. ومن يجاوز منهم ثمانين سنة عبدوه إلّا أن يكون به عاهة.
بها جبل يسمّى منكور ، به عين في حفرة ، قال أبو الريحان الخوارزمي في كتابه الآثار الباقية : إن هذه الحفرة مقدار ترس كبير ، وقد استوى الماء على حافاتها ، فربّما يشرب منه عسكر كثير لا ينقص مقدار إصبع ، وعند هذه العين صخرة عليها أثر رجل إنسان ، وأثر كفّيه بأصابعهما وأثر ركبتيه كأنّه كان ساجدا ، وأثر قدم صبي وحوافر حمار. والأتراك الغزية يسجدون لها إذا رأوها لأنّهم نصارى ، ينسبونه إلى عيسى ، عليه السلام.


بلدة بهى
هي بلدة من بلاد الترك آهلة غنّاء ، أهلها مسلمون ونصارى ويهود ومجوس وعبدة الأصنام ، ولهم أعياد كثيرة لأن لكلّ قوم عيدا مخالفا للآخرين. ومسيرة مملكة بهى أربعون يوما. ولهم ملك عظيم ذو قوّة وسياسة يسمّى بهى.
بها حجارة تنفع من الرمد ، وحجارة تنفع من الطحال ، وعندهم نيل جيّد ؛ أخبر بهذه كلّها ، أعني بلاد الترك وقبائلها ، مسعر بن مهلهل فإنّه كان سيّاحا رآها كلّها.
بيقر
قلعة حصينة من أعمال شروان. على هذه القلعة صور وتماثيل من الحجر لم تعرف فائدتها لتقادم عهدها. وبها دار الإمارة مكتوب على بابها : في هذه الدار أحد عشر بيتا ، والداخل لا يرى إلّا عشرة بيوت وإن بذل جهده ، والحادي عشر وضع على وجه لا يعرفه أحد ، لأن فيه خزانة الملك.
تركستان
قد ذكرنا أن كلّ إقليم من الأقاليم السبعة شرقية مساكن الترك ، وبلادهم ممتدّة من الإقليم الأوّل إلى السابع عرضا في شرقي الأقاليم ، وقد بيّنّا أنّهم أمّة عظيمة ممتازة عن سائر الأمم بالجلادة والشجاعة ، وقساوة القلب ومشابهة السباع ، والغالب على طباعهم الظلم والعسف والقهر ، ولا يرون إلّا ما كان غصبا لطبع السباع ، وهمّهم شنّ غارة أو طلب ظبي أو صيد طير. وعندهم من كبر انّه لو سبي أحدهم وتربى في العبوديّة ، فإذا بلغ أشدّه يريد أن يكون زعيم عسكر سيّده ، بل يريد أن يخالفه ويقوم مقامه وينسى حقّ التربية والانعام السابق.


ونفوس الترك نفوس مائلة إلى الشرّ والفساد الذي هو طاعة الشيطان ، فترى أكثرهم عبدة الأصنام أو الكواكب أو النيران أو نصارى ، وما فيهم عجيب يذكر إلّا سحرهم واستمطارهم المطر بالحجر الذي يرمونه في الماء ، وذكر انّه من خاصيّة الحجر وقد مرّ ذكره مبسوطا.
حكى صاحب تحفة الغرائب أن بأرض الترك جبلا لقوم يقال لهم زانك ، وهم ناس ليس لهم زرع ولا ضرع ، وفي جبالهم ذهب وفضّة كثيرة ، وربّما توجد قطعة كرأس شاة ، فمن أخذ القطاع الصغار ينتفع بها ، ومن أخذ القطاع الكبار يموت الآخذ وأهل كلّ بيت تلك القطعة فيه ، فإن ردّها إلى مكانها انقطع الموت عنهم ، ولو أخذه الغريب لا يضرّه شيء.
وحكي أن بتركستان جبلا يقال له جبل النار ، فيه غار مثل بيت كبير ، كلّ دابّة تدخله تموت في الحال.
رذوم
مدينة بأرض الفرنج مبنية بالحجارة المهندمة على نهر شعنة. لا تفلح بها الكروم والشجر أصلا ، لكن يكثر بها القمح والسلت ، يخرج من نهرها حوت يسمّونه سلمون ، وحوت آخر صغير طعمه ورائحته كطعم القثاء ، وذكر أن هذا الحوت يوجد في نيل مصر أيضا ويسمّى العير.
وحكى الطرطوشي أنّه رأى برذوم حدثا بلغت لحيته ركبتيه ، فمشطها فهبطت عن ركبتيه بأربع أصابع ، وكان خفيف العارضين ، فحلف انّه لم يكن على وجهه شعر قبل ذلك بستّة أعوام!
وحكي انّه يخرج في الشتاء برذوم عند البرد الشديد نوع من الاوزّ أبيض ، أحمر الأرجل والمناقير ، يسمّى عايش ، وهذا النوع لا يتفرّخ إلّا في جزيرة عاهق ، وهي غير مسكونة ، فربّما انكسرت المراكب في البحر ، فمن تعلّق بهذه الجزيرة يقتات ببيض هذا الطير وفراخه الشهر والشهرين.


رومية
مدينة رئاسة الروم وعلمهم. وهي في شمالي غربي القسطنطينيّة ، وبينهما مسيرة خمسين يوما ، وهي في يد الفرنج ، ويقال لملكهم ملك المان. وبها يسكن البابا الذي تطيعه الفرنج ، وهو عندهم بمنزلة الإمام الذي يكون واجب الطاعة.
ومدينة رومية من عجائب الدنيا لعظم عمارتها وكثرة خلقها خارج عن العادة إلى حدّ لا يصدّقه السامع ؛ ذكر الوليد بن مسلم الدمشقي أن استدارة رومية أربعون ميلا ، في كلّ ميل منها باب مفتوح ، فمن دخل من الباب الأوّل يرى سوق البياطرة ، ثمّ يصعد درجا فيرى سوق الصيارفة والبزازين ، ثمّ يدخل المدينة فيرى في وسطها برجا عظيما واسعا ، في أحد جانبيه كنيسة قد استقبل بمحرابها المغرب ، وببابها المشرق ، وفي وسط البرج بركة مبطنة بالنحاس ، يخرج منها ماء المدينة كلّه. حكي أن في وسطها عمودا من حجارة عليه صورة راكب على بعير ، يقول أهل المدينة : إن الذي بنى هذه المدينة يقول لا تخافوا على مدينتكم حتى يأتيكم قوم على هذه الصفة ، فهم الذين يفتحونها!
وثلاثة جوانب المدينة في البحر ، والرابع في البرّ ، ولها سوران من رخام ، وبين السورين فضاء طوله مائتا ذراع ، وعرض السور ثمانية عشر ذراعا ، وارتفاعه اثنان وستّون ذراعا. بها نهر بين السورين يدور ماؤه في جميع المدينة ، وهو ماء عذب يدور على بيوتهم ويدخلها ، وعلى النهر قنطرة بدفوف النحاس ، كلّ دفّة منها ستّة وأربعون ذراعا. إذا قصدهم عدوّ رفعوا تلك الدفوف فيصير بين السورين بحر لا يرام ، وعمود النهر ثلاثة وتسعون ذراعا في عرض ثلاثة وأربعين ذراعا ، وبين باب الملك إلى باب الذهب اثنا عشر ميلا ، وسوق ممتدّ من شرقيها إلى غربيها بأساطين النحاس ، وسقفه أيضا نحاس ، وفوقه سوق آخر في الجميع التجار وأصحاب الأمتعة. وذكر أن بين يدي هذا السوق سوقا آخر على أعمدة نحاس ، كلّ عمود منها ثلاثون ذراعا. وبين هذه الأعمدة نقير


من نحاس في طول السوق من أوّله إلى آخره ، فيه لسان من البحر تجري فيه السفن ، فتجيء السفينة في هذه النقرة ، وفيه الأمتعة حتى تجتاز على السوق بين يدي التجار ، فتقف على تاجر تاجر فيختار منها ما يريد ثمّ ترجع إلى البحر.
وبها كنيسة داخل المدينة بنيت على اسم مار بطرس ومار بولس ، وهما مدفونان فيها ، يقصدهما الروم ، ولهم فيهما اعتقاد عظيم ويذكرون عنهما أشياء عجيبة. وطول هذه الكنيسة ألف ذراع في خمسمائة ذراع في سمك مائتي ذراع.
وبها كنيسة أخرى بنيت باسم اصطافنوس رأس الشهداء. طولها ستّمائة ذراع في عرض ثلاثمائة ذراع في سمك مائة وخمسين ذراعا. وسقوف هذه الكنيسة وحيطانها وأرضها وبيوتها وكواها كلّها حجر واحد. وفي المدينة كنائس كثيرة.
وفيها عشرة آلاف دير للرجال والنساء ، وحول سورها ثلاثون ألف عمود للرهبان. وفيها اثنا عشر ألف زقاق ، يجري في كلّ زقاق منها نهران : أحدهما للشرب ، والآخر للحشوش. وفيها اثنا عشر ألف سوق ، في كلّ سوق قبانان ، وأسواقها كلّها مفروشة بالرخام الأبيض ، منصوبة على أعمدة النحاس ، مطبقة بدفوف النحاس. وفيها ستّمائة وستّون ألف حمّام. وإذا كان وقت الزوال يوم السبت ترك جميع الناس أشغالهم في جميع الأسواق إلى غروب الشمس يوم الأحد ، وهو عيد النصارى.
وبها مجامع لمن يلتمس صنوف العلم من الطبّ والنجوم والحكمة والهندسة وغير ذلك ؛ قالوا : انّها مائة وعشرون موضعا.
وبها كنيسة صهيون. شبهت بصهيون بيت المقدس ، طولها فرسخ في عرض فرسخ في سمك مائتي ذراع ، ومساحة هيكلها ستّة أجربة. والمذبح الذي يقدس عليه القربان من زبرجد أخضر ، طوله عشرون ذراعا في عرض عشرة أذرع ، يحمله عشرون تمثالا من ذهب ، طول كلّ تمثال ثلاثة أذرع ، أعينها يواقيت


حمر ، وفي الكنيسة ألف ومائتا أسطوانة من المرمر الملمع ، ومثلها من النحاس المذهب ، طول كلّ أسطوانة خمسون ذراعا ، لكلّ أسطوانة رجل معروف من الأساقفة. ولها ألف ومائتا باب كبار من النحاس الأصفر المفرغ ، وأربعون بابا من الذهب ، وأمّا الأبواب من الآبنوس والعاج فكثيرة. وفيها مائتا ألف وثلاثون ألف سلسلة من ذهب معلّق من السقف ببكر تعلّق منها القناديل ، سوى القناديل التي تسرج يوم الأحد.
وبها من الأساقفة والشمامسة ، وغيرهم ممّن يجري عليه الرزق من الكنيسة خمسون ألفا ، كلّما مات واحد قام مقامه آخر. وفيها عشرة آلاف جرّة ، وعشرة آلاف خوان من ذهب ، وعشرة آلاف كأس ، وعشرة آلاف مسرجة من ذهب. والمنائر التي تدار حول المذبح سبعمائة منارة ، كلّها ذهب ، وفيها من الصلبان التي تقوم يوم الشعانين ثلاثون ألف صليب ، وأمّا صلبان الحديد والنحاس المنقوشة والمموّهة فممّا لا يحصى ، ومن المصاحف الذهبية والفضّيّة عشرة آلاف مصحف. وقد مثل في هذه الكنيسة صورة كلّ نبيّ بعث من وقت آدم إلى عيسى ، عليه السلام ، وصورة مريم ، عليها السلام ، كان الناظر إذا نظر إليهم يحسبهم أحياء.
وفيها مجلس الملك حوله مائة عمود ، على كلّ عمود صنم ، في يد كلّ صنم جرس عليه اسم أمّة من الأمم جميعا. زعموا أنّها طلسمات إذا تحرّك صنم عرفوا ان ملك تلك الأمّة يريدهم فيأخذون حذرهم.
وبها طلسم الزيتون ، بين يدي هذه الكنيسة صحن يكون خمسة أميال في مثلها ، في وسطه عمود من نحاس ارتفاعه خمسون ذراعا ، وهو كلّه قطعة واحدة ، وفوقه تمثال طائر ، يقال له السوداني ، من ذهب ، على صدره نقش وفي منقاره شبه زيتونة ، وفي كلّ واحدة من رجليه مثل ذلك. فإذا كان أوان الزيتون لم يبق طائر في تلك الأرض إلّا أتى وفي منقاره زيتونة وفي رجليه


زيتونتان يلقيها على ذلك الطلسم ، فزيت أهل رومية وزيتونهم من ذلك ؛ قالوا :هذا من عمل بليناس صاحب الطلسمات. وعلى هذا الطلسم أمناء وحفظة من قبل الملك ، وأبواب مختومة فإذا ذهب أوان الزيتون وامتلأ الصحن من الزيتون يجتمع الأمناء ، ويعطي الملك البطارقة منه ومن يجري مجراهم على قدرهم ، ويجعل الباقي لقناديل الكنيسة. وهذه القصّة ، أعني طلسم الزيتون ، رأيتها في كتب كثيرة قلّما تترك في شيء من عجائب البلاد.
وقد روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنّه قال : من عجائب الدنيا شجرة برومية من نحاس ، عليها صورة سودانية ، في منقارها زيتونة ، فإذا كان أوان الزيتون صفرت فوق الشجرة ، فيوافي كلّ طير في تلك الأرض من جنسها ثلاث زيتونات في منقاره ورجليه ، ويلقيها على تلك الشجرة فيعصرها أهل رومية فتكفيهم لقناديل بيعهم وأكلهم جميع الحول.
وبها طلسم آخر وهو أنّه في بعض كنائسهم نهر يدخل من خارج المدينة ، وفيه من الضفادع والسلاحف والسرطانات شيء كثير ، وعلى الموضع الذي يدخله الماء من الكنيسة صورة صنم من حجارة ، في يده حديدة معتّقة كأنّه يريد أن يتناول بها شيئا من الماء ، فإذا انتهت إليه هذه الحيوانات المؤذية رجعت ولم يدخل الكنيسة شيء منها البتّة.
وهذه كلّها منقولة من كتاب ابن الفقيه ، وهو محمّد بن أحمد الهمذاني ، وأعجب من هذه كلّها أن مدينة هذه صفتها من العظم ينبغي أن تكون مزارعها وضياعها إلى مسيرة أشهر ، وإلّا لا يقوم بميرة أهلها. وذكر قوم من بغداد أنّهم شاهدوا هذه المدينة قالوا : انّها في العظم والسعة وكثرة الخلق ممّا يقارب هذا ، والذي لم يرها يشكل عليه.
وحكي أن أهل رومية يحلقون لحاهم ووسط هاماتهم ، فسئلوا عن ذلك فقالوا : لمّا جاءهم شمعون الصفا والحواريون دعوهم إلى النصرانيّة ، فكذّبوهم


وحلقوا لحاهم ورؤوسهم ، فلمّا ظهر لهم صدق قولهم ندموا على ما فعلوا ، وحلقوا لحى أنفسهم ورؤوسهم كفّارة لذلك.
زره كران
معناه صناع الدرع : قريتان فوق باب الأبواب على تلّ عال ، وحواليه قرى ومزارع ورساتيق وجبال وآجام. أهلها طوال القدود شقر الوجوه خزر العيون ، ليس لهم صنعة سوى عمل الدروع والجواشن. وهم أغنياء أسخياء يحبّون الغرباء لا سيّما من يعرف شيئا من العلوم أو الخطّ ، أو يعرف شيئا من الصناعات ، ولا يقبلون الخراج لأحد لحصانة موضعهم. وليس لهم ملّة ولا مذهب.
وفي كلّ قرية من تلك القرى بيتان كبيران تحت الأرض مثل السراديب :أحدهما للرجال ، والآخر للنساء.
وفي كلّ بيت عدّة رجال معهم سكاكين ، فإذا مات أحدهم فإن كان رجلا حملوه إلى بيت الرجال ، وإن كانت امرأة إلى بيت النساء ، فيأخذه أولئك الرجال ويقطعون أعضاءه ، ويعرقون ما عليها من اللحم ، ويخرجون ما فيها من النقي ثمّ يجمعون تلك العظام وما فيها من بلل ولا درن في كيس ، إن كان من الأغنياء في كيس ديباج ، وإن كان من الفقراء في كيس خام ، ويكتبون على الكيس اسم صاحب العظام واسم أبويه ، وتاريخ ولادته ووقت موته ، ويعلقون الكيس في تلك البيوت ، ويأخذون لحم الرجال إلى تلّ خارج القرية وعليه الغربان السود فيطعمونها ذلك اللحم ، ولا يخلون طيرا آخر يأكله ، فإن جاء طير آخر ليأكله رموه بالنشاب ، ويأخذون لحم النساء إلى مكان آخر ويطعمون الحدأة ويمنعون غيرها من الطيور.
وحكى أبو حامد الأندلسي أنّه سمع أهل دربند أنّهم جهّزوا ذات مرّة العساكر ، وذهبوا إلى زره كران فذهبوا حتى دخلوا القرية ، فخرج من تحت الأرض رجال دخلوا تلك البيوت ، فهبّت ريح عاصف وجاء ثلج كثير حتى


لم يعرف أحد من تلك العساكر صاحبه ، فجعل بعضهم يقتل بعضا ، وضلّوا عن الطريق وهلك منهم خلق كثير ، ونجا بعضهم بعدما عاينوا الهلاك.
وذكروا أن صاحب شروان ، وكان ملكا جبّارا صاحب شوكة وقوّة ، قصدهم ذات يوم طمعا فيهم فأصابه مثل ما أصاب أصحاب دربند ، فامتنع الملوك عن غزوهم.
سدّ يأجوج ومأجوج
قيل : يأجوج ومأجوج ابنا يافث بن نوح ، عليه السلام. وهما ولدا خلقا كثيرا فصاروا قبيلتين لا يعلم عددهم إلّا الله. روى الشعبي أن ذا القرنين سار إلى ناحية يأجوج ومأجوج فاجتمع إليه خلق كثير وقالوا : أيّها الملك المظفر ، إن خلف هذا الجبل خلقا لا يعلم عددهم إلّا الله ، يخربون علينا بلادنا ويأكلون ثمارنا وزروعنا! قال : وما صفتهم؟ قالوا : قصار ضلع عراض الوجوه.
قال : وكم صنفا؟ قالوا : أمم كثيرة لا يحصيهم إلّا الله! ثمّ قالوا : هل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدّا؟ معناه تجمع من عندنا مالا تصرفه في حاجز بيننا وبينهم ليندفع عنّا أذاهم. فقال الملك : لا حاجة إلى مالكم فإن الله أعطاني من المكنة ما لا حاجة معها إلى مالكم ، لكن ساعدوني بالآلة والرجال ، وأعينوني بقوّة أجعل بينكم وبينهم ردما. فأمر بالحديد فأذيب واتّخذ منه لبنا عظاما ، وأذاب النحاس واتّخذه ملاطا لذلك اللبن ، وبنى به الفج الذي كانوا يدخلون منه ، فسوّاه مع قلّتي الجبل فصار شبيها بالمصمت. وروي أن ذا القرنين إنّما عمّر السدّ بعد رجوعه عنهم ، فتوسّط أرضهم ثمّ انصرف إلى ما بين الصدفين ، فقاس ما بينهما وهو مقطع أرض الترك فوجد ما بينهما مائة فرسخ ، فحفر له أساسا بلغ به الماء وجعل عرضه خمسين فرسخا ، وجعل حشوه الصخور وطيّنه بالنحاس المذاب ، فصبّ عليه وصار عرقا من جبل تحت الأرض ، ثمّ علاه وشرّفه بزبر الحديد والنحاس المذاب ، وجعل خلاله عرقا من نحاس


أصفر فصار كأنّه برد محبّر من صفرة النحاس وسواد الحديد.
ومن الأخبار المشهورة حديث سلّام الترجمان ؛ قال : إن الواثق بالله رأى في المنام أن السدّ الذي بناه ذو القرنين بيننا وبين يأجوج ومأجوج مفتوح ، فأرعبه هذا المنام فأحضرني وأمرني بالمشي إلى السد والنظر إليه ، والرجوع إليه بالخبر ، وضمّ إليّ خمسين رجلا ، ووصلني بخمسة آلاف درهم ، وأعطاني ديتي عشرة آلاف درهم ، ومائتي بغل تحمل الزاد والماء. قال : فخرجنا من سرّ من رأى بكتاب إلى صاحب أرمينية إسحق بن إسماعيل ، وكان إسحق بمدينة تفليس ، فأمره بإنفاذنا وقضاء حوائجنا ، فكتب إسحق إلى صاحب السرير ، وصاحب السرير كتب إلى طرخان صاحب اللان ، وصاحب اللان إلى فيلانشاه ، وفيلانشاه كتب إلى ملك الخزر ، وملك الخزر بعث معنا خمسة نفر من الأدلّاء.
فسرنا ستّة وعشرين يوما فوصلنا إلى أرض سوداء منتنة الرائحة ، وكنّا حملنا معنا خلّا لنشمّه لدفع غائلة رائحتها بإشارة الادلّاء ، وسرنا في تلك الأرض عشرة أيّام ثمّ صرنا في بلاد خراب مدنها. فسرنا فيها سبعة وعشرين يوما فسألنا الادلّاء سبب خرابها ، فقالوا : خربها يأجوج ومأجوج. ثمّ صرنا إلى حصن قريب من الجبل الذي يقوم السدّ في بعض شعابه ، ومنه جزنا إلى حصن آخر وبلاد ومدن فيها قوم مسلمون يتكلّمون بالعربيّة والفارسيّة ، ويقرأون القرآن ، ولهم مساجد ، فسألونا : من أين أقبلتم وأين تريدون؟ فأخبرناهم أنّا رسل الأمير. فأقبلوا يتعجّبون ويقولون : أشيخ أم شاب؟ قلنا : شاب. فقالوا : أين يسكن؟ قلنا : بأرض العراق في مدينة يقال لها سرّ من رأى. فقالوا : ما سمعنا بهذا قطّ.
ثمّ ساروا معنا إلى جبل أملس ليس عليه شيء من النبات ، وإذا هو مقطوع بواد عرضه مائة وخمسون ذراعا ، فإذا عضادتان مبنيتان ممّا يلي الجبل من جنبتي الوادي ، عرض كلّ عضادة خمسة وعشرون ذراعا ، الظاهر من ثخنها عشرة أذرع خارج الباب ، كلّه مبني بلبن حديد مغيّب في نحاس في سمك خمسين ذراعا ، وإذا دروند حديد طرفاه في العضادتين طوله مائة وعشرون ذراعا قد


ركب على العضادتين ، على كلّ واحد مقدار عشرة أذرع في عرض خمسة أذرع. وفوق الدربند بناء باللبن الحديد والنحاس إلى رأس الجبل. وارتفاعه مدّ البصر ، وفوق ذلك شرف حديد ، في طرف كلّ شرف قرنان ينثني كلّ واحد منهما إلى صاحبه ، وإذا باب حديد مصراعان مغلقان ، عرض كلّ مصراع ستّون ذراعا في ارتفاع سبعين ذراعا في ثخن خمسة أذرع ، وقائمتان في دوارة على قدر الدربند ، وعلى الباب قفل طوله سبعة أذرع في غلظ باع ، وارتفاع القفل من الأرض خمسة وعشرون ذراعا ، وفوق القفل نحو خمسة أذرع غلق طوله أكثر من طول القفل ، وعلى الغلق مفتاح مغلق طوله سبعة أذرع له أربعة عشر دندانكا ، كلّ دندانك أكبر من دستج الهاون ، مغلق في سلسلة طولها ثمانية أذرع في استدارة أربعة أشبار ، والحلقة التي فيها السلسلة مثل حلقة المنجنيق ، وارتفاع عتبة الباب عشرة أذرع في بسط مائة ذراع سوى ما تحت العضادتين ، والظاهر منها خمسة أذرع ، وهذا الذرع كلّه ذراع السواد.
ورئيس تلك الحصون يركب كلّ يوم جمعة في عشرة فوارس ، مع كلّ فارس مرزبة حديد يدقّون الباب ، ويضرب كلّ واحد منهم القفل والباب ضربا قويّا مرارا ليسمع من وراء الباب ذلك ، فيعلمون أن هناك حفظة ويعلم هؤلاء أن أولئك لم يحدثوا في الباب حدثا. وإذا ضربوا الباب وضعوا آذانهم فيسمعون وراء الباب دويّا عظيما. وبالقرب من السدّ حصن كبير يكون فرسخا في مثله ، يقال انّه كان يأوي إليه الصنّاع زمان العمل. ومع الباب حصنان يكون كلّ واحد منهما مائتي ذراع في مثلها ، وعلى باب هذين الحصنين شجر كبير لا يدرى ما هو ، وبين الحصنين عين عذبة ، وفي أحد الحصنين آلة البناء الذي بني به السدّ من قدر الحديد والمغارف ، وهناك بقيّة اللبن الحديد وقد التصق بعضه ببعض من الصدإ ، واللبنة ذراع ونصف في سمك شبر.
قال : فسألنا أهل تلك البلاد هل رأيتم أحدا من يأجوج ومأجوج؟ فذكروا أنّهم رأوا منهم عددا فوق الشرف ذات مرّة ، فهبّت ريح سوداء فألقتهم إلينا ،


فكان مقدار الواحد منهم في رأي العين شبرا ونصفا. فهممنا بالانصراف فأخذنا الادلّاء نحو جهة خراسان ، فسرنا حتى خرجنا خلف سمرقند بسبعة فراسخ ، وأخذنا طريق العراق حتى وصلنا. وكان من خروجنا من سرّ من رأى إلى رجوعنا إليها ثمانية عشر شهرا.
سقسين
بلدة من بلاد الخزر عظيمة آهلة ، ذات أنهار وأشجار وخيرات كثيرة.
ذكروا أن أهلها أربعون قبيلة من الغزّ. وفي المدينة من الغرباء والتجار ما لا يحصى عددهم ، والبرد عندهم شديد جدّا ، ولكلّ واحد دار فيحاء كبيرة ، وفي الدار خرقاه مغطاة باللبود من البرد. وأهلها مسلمون أكثرهم على مذهب الإمام أبي حنيفة ، ومنهم من هو على مذهب الإمام الشافعي. وفيها جوامع لكلّ قوم جامع يصلّون فيه ، ويوم العيد تخرج منابر لكلّ قوم منبر يخطبون عليه ويصلّون مع إمامهم. والشتاء عندهم شديد جدّا. وسقوف أبنيتهم كلّها من خشب الصنوبر.
بها نهر عظيم أكبر من دجلة ، وفيه من أنواع السمك ما لم يشاهده أحد في غيره ، يكون السمك حمل جمل ، وفيها صغار لا شوك فيها كأنّها الية الحمل محشوة بلحم الدجاج ، بل أطيب ، ويشترى من هذا السمك مائة منّ بنصف دانق ، يخرج من بطنها دهن يكفي للسراج شهرا ، ويحصل منها الغراء نصف منّ وأكثر. وإن قدّد يكون من أحسن قديد.
ومعاملات أهل سقسين على الرصاص كلّ ثلاثة أمنان بالبغدادي بدينار ، ويشترون بها ما شاؤوا كالفضّة في بلادنا. والخبز واللحم عندهم رخيص ، تباع الشاة بنصف دانق ، والحمل بطسوج ، والفواكه عندهم كثيرة جدّا.
حكى الغرناطي أن نهرهم قد جمد عند الشتاء ، وأنا مشيت عليه فكان عرضه ألف خطوة وثمانمائة ونيفا وأربعين.


شابر
بليدة بناحية باب الأبواب. بها جبّ بيجن ، وإنّها جبّ عميقة. لما ظفر افراسياب ملك الترك ببيجن مقدم الفرس ، كره أن يقتله لكثرة ما نال منه في الوقائع وأراد تعذيبه فكبله وحبسه في هذه الجبّ ، وألقى على رأسها صخرة عظيمة ، فذهب رستم الشديد إليها خفية وسرقه ، ورفع الصخرة من رأس الجبّ ورمى بها ، وأتى به إلى بلاد الفرس ، وعاد بيجن إلى ما كان يأخذ العساكر ويوقع بالترك ويبليهم بالبلاء. والصخرة التي كانت على رأس الجبّ ملقاة هناك ، يتعجّب الناس من كبرها ورفع رستم إيّاها.
وبها دجلة الخنازير التي جرى ذكرها في كتاب شاه نامه في قصّة بيجن.
شروان
ناحية قرب باب الأبواب ؛ قالوا : عمرها أنوشروان كسرى الخير ، فسمّيت باسمه وأسقط شطرها تخفيفا. وهي ناحية مستقلّة بنفسها يقال لملكها اخستان. ذهب بعضهم إلى أن قصّة موسى والخضر ، عليهما السلام ، كانت بها ، وان الصخرة التي نسي يوشع ، عليه السلام ، الحوت عندها بشروان ، والبحر بحر الخزر ، والقرية التي لقيا فيها غلاما فقتله قرية جيران ، والقرية التي استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقضّ فأقامه باجروان ، وهذه كلّها من نواحي أرمينية قرب الدربند ، ومن الناس من يقول انّها كانت بأرض افريقية.
وبها أرض مقدار شوط فرس ، يخرج منها بالنهار دخان وبالليل نار ، إذا غرزت في هذه الأرض خشبة احترقت ، والناس يحفرون فيها حفرا ويتركون قدورهم فيها باللحم والأبازير فيستوي نضجها ؛ حدّثني بهذا بعض فقهاء شروان.
وبها نبات عجيب يسمّى خصى الثعلب ؛ حكى الشيخ الرئيس أنّه رآه بها


وهو يشبه خصيتين إحداهما ذابلة والأخرى طرية ، ذكر أن من عرضه عليه قال : الذابلة تضعف قوّة الباه والطرية تعين عليها.
ينسب إليها الحكيم الفاضل أفضل الدين الخاقاني ، كان رجلا حكيما شاعرا.
اخترع صنفا من الكلام انفرد به ، وكان قادرا على نظم القريض جدّا ، محترزا عن الرذائل التي تركبها الشعراء ، محافظا على المروءة والديانة ، حتى ان صاحب شروان أراد رجلا يستعمله في بعض أشغاله فقال له وزيره : ما لهذا الشغل مثل الخاقاني! فطلبه وعرض عليه ، فأبى وقال : إني لست من رجال هذا الشغل! فقال الوزير : الزمه به إلزاما! فحبسه على ذلك فبقي في الحبس أيّاما لم يقبل ، فقال الملك للوزير : حبسته وما جاء منه شيء! فقال الوزير : ما عملت شيئا ، حبسته في دار خالية وحده وهو ما يريد إلّا هذا ، احبسه في حبس الجناة! فحبسه مع السراق والعيارين فيأتيه أحدهم يقول : على أيّ ذنب حبست؟ ويأتيه الآخر يقول : انشدني قصيدة! فلمّا رأى شدّة الحال ومقاساة الأغيار يوما واحدا ، بعث إلى الملك : إني رضيت بكلّ ما أردت ، كلّ شيء ولا هذا! فأخرجه وولّاه ذلك الشغل.
شلشويق
مدينة عظيمة جدّا على طرف البحر المحيط. وفي داخلها عيون ماء عذب.
أهلها عبدة الشعرى إلّا قليلا ، وهم نصارى لهم بها كنيسة.
حكى الطرطوشي : لهم عيد اجتمعوا فيه كلّهم لتعظيم المعبود والأكل والشرب ، ومن ذبح شيئا من القرابين ينصب على باب داره خشبا ويجعل القربان عليه ، بقرا كان أو كبشا أو تيسا أو خنزيرا ، حتى يعلم الناس انّه يقرّب به تعظيما لمعبوده. والمدينة قليلة الخير والبركة. أكثر مأكولهم السمك فإنّه كثير بها. وإذا ولد لأحدهم أولاد يلقيهم في البحر ليخفّ عليه نفقتهم.
وحكي أيضا أن الطلاق عندهم إلى النساء ، والمرأة تطلق نفسها متى شاءت.


وبها كحل مصنوع إذا اكتحلوا به لا يزول أبدا ، ويزيد الحسن في الرجال والنساء ، وقال : لم أسمع غناء أقبح من غناء أهل شلشويق. وهي دندنة تخرج من حلوقهم كنباح الكلاب وأوحش منه.
شناس
بليدة من بلاد لكزان على طرف جبل شاهق جدّا ، لا طريق إليها إلّا من أعلى الجبل ، فمن أراد أن يأتيها أخذ بيده عصا وينزل يسيرا يسيرا من شدّة هبوب الريح ، لئلّا تسفره الريح. والبرد عندهم في غاية الشدّة سبعة أشهر.
فيها كلبة وينبت عندهم نوع من الحبّ يقال له السلت ، وشيء من التفاح الجبلي.
وأهلها أهل الخير والصلاح والضيافة للفقراء والإحسان إلى الغرباء ، وصنعتهم عمل الأسلحة كالدروع والجواشن وغيرها من أنواع الأسلحة.
ظاخر
مدينة كبيرة آهلة على ستّ مراحل من جنزة ، وهي قصبة بلاد لكزان.
البرد بها شديد جدّا. حدّثني الفقيه يوسف بن محمّد الجنزي أن ماءها من نهر يسمّى ثمور ، يكون جامدا في الشتاء والصيف ، يكسرون الجمد ويسقون الماء من تحته ، فإذا اسقوا وجعلوه في جرّة تركوها في غطاء من جلد الغنم ، لئلّا يجمد في الحال. وقوتهم من حبّ يقال له السلت ، يشبه الشعير في صورته ، وطبعه طبع الحنطة ، ولا تجارة عندهم ولا معاملة ، بل كلّ واحد يزرع من هذا الحبّ قدر كفايته ، ويتقوّت به وبدرّ غنيمات له ورسلها ويلبس من صوفها.
ولا رئيس بل عندهم خطيب يصلّي بهم ، وقاض يفصل الخصومات بينهم على مذهب الإمام الشافعي. وأهل المدينة كلّهم شافعية ، بها مدرسة بناها الوزير نظام الملك الحسن بن عليّ بن إسحق ، وفيها مدرّس وفقهاء ، وشرط لكلّ فقيه فيها كلّ شهر رأس غنم وقدر من السلت ، وذكر أنّهم نقلوا مختصر المزني إلى لغة اللكزية ، وكذلك كتاب الإمام الشافعي ، ويشتغلون بهما.


فاراب
ولاية في تخوم الترك بقرب بلاد ساغو ، مقدارها في الطول والعرض أقلّ من يوم ، إلّا أن بها منعة وبأسا. وهي أرض سبخة ذات غياض.
ينسب إليها الأديب الفاضل إسماعيل بن حمّاد الجوهري ، صاحب كتاب صحاح اللغة ، وكذلك خاله إسحق بن إبراهيم ، صاحب ديوان الأدب ، ومن العجب أنّهما كانا من أقصى بلاد الترك ، وصارا من أئمّة العربيّة!
فرغانة
ناحية بما وراء النهر متاخمة لبلاد الترك كثيرة الخيرات وافرة الغلات ؛ قال ابن الفقيه : بناها أنوشروان كسرى الخير. نقل إليها من كلّ أهل بيت وسمّاها هرخانه ، بها جبال ممتدّة إلى بلاد الترك ، وفيها من الأعناب والتفاح والجوز وسائر الفواكه ، ومن الرياحين الورد والبنفسج وغيرهما ، كلّها مباح لا مالك لها ، وفيها وفي أكثر جبال ما وراء النهر الفستق المباح. وبها من المعادن معدن الذهب والفضّة والزئبق والحديد والنحاس ، والفيروزج والزاج والنوشاذر والنفط والقير والزفت ، وبها جبل تحترق حجارته مثل الفحم ، يباع ، وإذا احترق يستعمل رماده في تبييض الثياب ؛ قال الاصطخري : لا أعرف مثل هذا الحجر في جميع الأرض. وبها عيون ماؤها يجمد في الصيف عند شدّة الحرّ ، وفي الشتاء يكون حارّا جدّا حتى يأوي إليها السوام لدفء موضعها.
قسطنطينيّة
دار ملك الروم ، بينها وبين بلاد المسلمين البحر الملح ، بناها قسطنطين بن سويروس صاحب رومية ، وكان في زمن شابور ذي الأكتاف ، وجرى بينهما محاربات استخرج الحكماء وضعها. لم يبن مثلها قبلها ولا بعدها ، والحكاية عن عظمها وحسنها كثيرة ، وهذه صورتها :


والآن لم تبق على تلك الصورة ، لكنها مدينة عظيمة. بها قصر الملك يحيط به سور دورته فرسخ ، له ثلثمائة باب من حديد ، فيه كنيسة الملك ، وقبّتها من ذهب ، لها عشرة أبواب : ستّة من ذهب ، وأربعة من فضّة. والموضع الذي يقف فيه الملك أربعة أذرع في أربعة أذرع ، مرصّع بالدر والياقوت ، والموضع الذي يقف فيه القس ستّة أشبار من قطعة عود قماري.
وجميع حيطان الكنيسة بالذهب والفضّة ، وبين يديه اثنا عشر عمودا ، كلّ عمود أربعة أذرع ، وعلى رأس كلّ عمود تمثال ، إمّا صورة آدمي أو ملك أو فرس أو أسد أو طاووس أو فيل أو جمل. وبالقرب منه صهريج ، فإذا


أرسل فيه الماء امتلأ ، يصعد الماء إلى تلك التماثيل التي على رؤوس الأساطين ، فإذا كان يوم الشعانين ، وهو عيدهم ، في الصهريج حياض ملؤها حوض زيتا وحوض خمرا وحوض عسلا ، وحوض ماء وردا وحوض خلّا ، وطيبوها بالمسك والقرنفل ، وحوض ماء صافيا. ويغطى الصهريج بحيث لا يراه أحد فيخرج الماء والشراب والمائعات من أفواه تلك الصور ، فيتناول الملك وأصحابه وجميع من خرج معه إلى العيد.
وبقرب الكنيسة عمود طوله ثلاثمائة ذراع وعرضه عشرة أذرع ، وفوق العمود قبر قسطنطين الملك الذي بنى الكنيسة ، وفوق القبر تمثال فرس من صفر ، وعلى الفرس صنم على صورة قسطنطين ، على رأسه تاج مرصع بالجواهر ، ذكروا أنّه كان تاج هذا الملك ، وقوائم الفرس محكمة بالرصاص على الصخرة ، ما عدا يده اليمنى فإنّها سائبة في الهواء ، ويد الصنم اليمنى فإنّها في الجوّ كأنّه يدعو الناس إلى قسطنطينية ، وفي يده اليسرى كرة ، وهذا العمود يظهر في البحر من مسيرة بعض يوم للراكب في البحر ، واختلفت أقاويل الناس فيها : فمنهم من يقول في يد الصنم طلسم يمنع العدوّ عن البلد ، ومنهم من يقول : على الكرة التي بيده مكتوب : ملكت الدنيا حتى صارت بيدي هكذا ، يعني كهذه الكرة ، وخرجت منها مبسوط اليد هكذا. والله أعلم.
ومن عجائب الدنيا ما ذكره الهروي ، وهو منارة قسطنطينية ، وهي منارة موثقة بالرصاص والحديد ، وهي في الميدان إذا هبّت رياح أمالتها جنوبا وشمالا وشرقا وغربا من أصل كرسيها. ويدخل الناس الخزف والجوز في خلل بنائها فتطحنها.
وبها فنجان الساعات : اتّخذ فيه اثنا عشر بابا ، لكلّ باب مصراع طوله شبر على عدد الساعات ، كلّما مرّت ساعة من ساعات الليل أو النهار انفتح باب وخرج منه شخص ، ولم يزل قائما حتى تتمّ الساعة ، فإذا تمّت الساعة دخل ذلك الشخص وردّ الباب ، وانفتح باب آخر وخرج منه شخص آخر على هذا المثال.


وذكر الروم انّه من عمل بليناس الحكيم ، وعلى باب قصر الملك طلسم وهو ثلاثة تماثيل من صفر على صورة الخيل ، عملها بليناس للدواب لئلّا تشغب ولا تصهل على باب الملك.
قال صاحب تحفة الغرائب : في حدّ خليج قسطنطينية قرية فيها بيت من الحجر وفي البيت صورة الرجال والنساء والخيل والبغال والحمير وغيرها من الحيوانات ، فمن أصابه وجع في عضو من أعضائه يدخل ذلك البيت ، ويقرب من مثل صورته ويمسح بيده مثل العضو الوجع من الصورة ، ثمّ يمسح العضو الوجع فإن وجعه يزول في الحال.
وبها قبر أبي أيوب الأنصاري صاحب رسول الله ، صلّى الله عليه وسلّم.
حكي أنّه لمّا غزا يزيد بن معاوية بلاد الروم ، أخذ معه أبا أيوب الأنصاري ، وكان شيخا همّا ، أخذه للبركة فتوفي عند قسطنطينية ، فأمر يزيد أن يدفن هناك ويتّخذ له مشهد. فقال صاحب الروم : ما أقلّ عقل هذا الصبي! دفن صاحبه ههنا وبنى له مشهدا ، ما تفكّر في أنّه إذا مشى نبشناه ورميناه إلى الكلاب! فبلغ هذا القول يزيد بن معاوية قال : ما رأيت أحمق من هذا ، ما تفكّر في أنّه إن فعل ذلك ما نترك قبرا من قبور النصارى في بلادنا إلّا نبشناه ، ولا كنيسة إلّا خربناها! فعند ذلك قال صاحب الروم : ما رأينا أعقل منه ولا ممّن أرسله! وهذه التربة عندهم اليوم معظّمة ، يستصحبون فيها ويكشفون سقفها عند الاستسقاء إذا قحطوا فيغاثون.
القليب
أرض قريبة من بلاد الصين. ذكروا أن بعض التبابعة أراد غزو الصين ، فمات في طريقه ، فتخلّف عنه أصحابه وأقاموا بهذه الأرض فوجدوها أرضا طيبة كثيرة المياه والأشجار. لهم بها مصايف ومشات ، يتكلّمون بالعربيّة القديمة لا يعرفون غيرها ، ويكتبون بالقلم الحميري ولا يعرفون قلمنا ، ويعبدون الأصنام


وملكهم من أهل بيت قديم ، لا يخرجون الملك عن أهل ذلك البيت ، وملكهم يهادي ملك الصين. ولهم أحكام وحظر الزنا والفسق ، ومملكتهم مسيرة شهر واحد ، أخبر بذلك كلّه مسعر بن مهلهل عن مشاهدتها.
كرتنة
قال العذري : إنّها مدينة كبيرة بأرض الفرنج ، يسكنها قوم نصف وجه كلّ واحد منهم أبيض في بياض مثل الثلج ، والنصف الآخر معتدل اللون.
كرمالة
حصن بأرض الفرنج ؛ قال العذري : حكى نصارى تلك الناحية أنّه مرّ بهذا الحصن شيث مرّتين ، فخرجت عليه امرأة كانت زوجة سلّاب على الطريق ، هي وزوجها يسلبان ثياب المارّين. فخرجت المرأة على شيث مرّتين ، وكان مستجاب الدعوة ، فجردته عن ثيابه وهو مطاوع لها وأعطاها حتى بلغت به نزع السراويل ، فعند ذلك دعا عليها فمسخت حجرا صلدا من ساعتها ، فأدخل في فمها زرجونة فصارت الزرجونة مطعمة. وكلّ من أكل من أصل تلك الزرجونة لم يولد له ولد.
مدينة النساء
مدينة كبيرة واسعة الرقعة في جزيرة في بحر المغرب ؛ قال الطرطوشي :أهلها نساء لا حكم للرجال عليهن ، يركبن الخيول ويباشرن الحرب بأنفسهن ، ولهن بأس شديد عند اللقاء ، ولهن مماليك يختلف كلّ مملوك بالليل إلى سيّدته ، ويكون معها طول ليلته ، ويقوم بالسّحر ويخرج مستترا عند انبلاج الفجر ، فإذا وضعت إحداهن ذكرا قتلته في الحال ، وإن وضعت أنثى تركتها. وقال الطرطوشي : مدينة النساء يقين لا شكّ فيها.


مغانجة
مدينة عظيمة جدّا ، بعضها مسكون والباقي مزروع. وهي بأرض الفرنج على نهر يسمّى رين. وهي كثيرة القمح والشعير والسلت والكروم والفواكه.
بها دراهم من ضرب سمرقند في سنة إحدى واثنتين وثلاث مائة ، عليها اسم صاحب السكة وتاريخ الضرب ؛ قال الطرطوشي : أحسب أنّه ضرب نصر بن أحمد الساماني.
ومن العجائب أن بها العقاقير التي لا توجد إلّا بأقصى الشرق ، وانّها من أقصى الغرب كالفلفل والزنجبيل والقرنفل والسنبل والقسط والخاولنجان ، فإنّها تجلب من بلاد الهند وإنّها موجودة بها مع الكثرة.
نيقية
قال ابن الهروي : إنّها من أعمال استنبول. وهي المدينة التي اجتمع بها آباء الملّة المسيحيّة ، فكانوا ثلاثمائة وثمانية عشر. آباء يزعمون أن المسيح كان معهم في هذا المجمع ، وهو أوّل المجامع لهذه الملّة ، وبه أظهروا الأمانة التي هي أصل دينهم. وفي بيعتها صور هؤلاء ، وصورة المسيح على كراسيهم. وفي طريق هذه المدينة تلّ على رأسه قبر أبي محمّد البطال. والله الموفق.


الاقليم السابع
أوّله حيث يكون النهار في الاستواء سبعة أقدام ونصف وعشر وسدس قدم ، كما هو في الإقليم السادس ، لأن آخره أوّل هذا ، وآخره حيث يكون الظلّ نصف النهار في الاستواء ثمانية أقدام ونصفا ونصف عشر قدم. وليس فيه كثير عمارة إنّما هو من المشرق غياض وجبال ، يأوي إليها فرق من الأتراك كالمستوحشين ، يمرّ على جبال باشغرت وحدود التحماكية وبلدي سوار وبلغار ، وينتهي إلى البحر المحيط. وقليل من وراء هذا الاقليم من الأمم مثل ويسو وورنك ويورة وأمثالهم. ووقع في طرفه الأدنى الذي يلي الجنوب حيث وقع الطرف الشمالي في الإقليم السادس. وأطول نهار هؤلاء في أوّل الإقليم خمس عشرة ساعة ونصف وربع ساعة ، وأوسطه ستّ عشرة ، وآخره ستّ عشرة وربع ، وطوله من المشرق إلى المغرب ستّة آلاف ميل وسبعمائة وثمانون ميلا وأربع وخمسون دقيقة ، وعرضه مائة وخمسة وثمانون ميلا وعشرون دقيقة ، وتكسيره ألف ألف ميل ومائتا ألف ميل وأربعة وعشرون ألف ميل وثمانمائة وأربعة وعشرون ميلا وتسع وأربعون دقيقة. وآخر هذا الإقليم هو آخر العمارة ليس وراءه إلّا قوم لا يعبأ بهم ، وهم بالوحش أشبه. ولنذكر شيئا ممّا في هذا الإقليم من العمارات. والله الموفق.
باشغرت
جيل عظيم من الترك بين قسطنطينية وبلغار. حكى أحمد بن فضلان رسول المقتدر بالله إلى ملك الصقالبة لمّا أسلم فقال : عند ذكر باشغرت وقعنا في بلاد


قوم من الترك ، وجدناهم شرّ الأتراك وأقدرهم وأشدّهم إقداما على القتل ، فوجدتهم يقولون : للصيف ربّ ، وللشتاء ربّ ، وللمطر ربّ ، وللريح ربّ ، وللشجر ربّ ، وللناس ربّ ، وللدوابّ ربّ ، وللماء ربّ ، ولليل ربّ ، وللنهار ربّ ، وللموت ربّ ، وللحياة ربّ ، وللأرض ربّ ، وللسماء ربّ ، وهو أكبرهم إلّا أنّه يجتمع مع هؤلاء بالاتّفاق ويرضى كلّ واحد بعمل شريكه.
وحكي أنّه رأى قوما يعبدون الكراكي فقلت : إن هذا من أعجب الأشياء! وسألت عن سبب عبادتهم الكراكي فقالوا : كنّا نحارب قوما من أعدائنا فهزمونا ، فصاحت الكراكي وراءهم فحسبوها كمينا منّا فانهزموا ، ورجعت الكرة لنا عليهم ، فنعبدها لأنّها هزمت أعداءنا.
وحكى فقيه من باشغرت أن أهل باشغرت أمّة عظيمة ، والغالب عليهم النصارى ، وفيهم جمع من المسلمين على مذهب الإمام أبي حنيفة ، ويؤدون الجزية إلى النصارى كما تؤدي النصارى ههنا إلى المسلمين. ولهم ملك في عسكر كثير. وأهل باشغرت في خرقاهات ، ليس عندهم حصون ، وكانت كلّ حلّة من الحلل اقطاعا لمتقدّم صاحب شوكة. وكان كثيرا ما يقع بينهم خصومات بسبب الإقطاعات ، فرأى ملك باشغرت أن يسترد منهم الإقطاعات ، ويجري لهم الجامكيات من الخزانة دفعا لخصوماتهم ، ففعل.
فلمّا قصدهم التتر تجهّز ملك باشغرت لالتقائهم ؛ قال المتقدّمون : لسنا نقاتل حتى تردّ إلينا إقطاعاتنا! فقال الملك : لست أردّ إليكم على هذا الوجه ، وأنتم إن قاتلتم فلأنفسكم وأولادكم! فتفرّق ذلك الجمع الكثير ، ودهمهم سيف التتر بلا مانع ، وتركوهم حصيدا خامدين.
باطن الرّوم
بها جيل كثيرون على ملّة النصارى. وهم كبني أمّ واحدة ، بينهم محبّة شديدة يقال لهم الطرشلية ؛ ذكر العذري أن لهم عادات عجيبة ، منها أن أحدهم


إذا شهد على الآخر بالنفاق يمتحنان بالسيف ، وذلك بأن يخرج الرجلان الشاهد والمشهود عليه بإخوتهما وعشيرتهما ، فيعطى كلّ واحد سيفين يشدّ أحدهما في وسطه ويأخذ الآخر بيده ، ويحلف الذي نسب إلى النفاق أنّه بريء ممّا رمي به بالأيمان المعتبرة عندهم ، ويحلف الآخر أن الذي قال فيه حقّ ، ثمّ يسجد كلّ واحد على بعد من صاحبه نحو المشرق ، ثمّ يبرز كلّ واحد إلى صاحبه ويتقاتلان حتى يقتل أحدهما أو ينقاد.
ومنها محنة النار ، فإذا اتّهم أحد بالمال أو الدم تؤخذ حديدة تحمى بالنار ، ويقرأ عليها شيء من التوراة وشيء من الإنجيل ويثبت في الأرض عودان قائمان ، وتؤخذ الحديدة بالكلبتين من النار ، وتنزّل على طرفي العودين ، فيأتي المتّهم ويغسل يديه ويأخذ الحديدة ويمشي بها ثلاث خطوات ثمّ يلقيها ويربط يده برباط ، ويختم عليه ويوكّل به يوما وليلة ، فإن وجد به في اليوم الثالث نفاطة يخرج منها الماء فهو مجرم ، وإلّا فهو بريء.
ومنها محنة الماء ، وهي أن المتّهم تربط يداه ورجلاه ويشدّ في حبل ، والقسيس يمشي به إلى ماء كثير يلقيه فيه ، وهو يمسك الحبل ، فإن طفا فهو مجرم ، وإن رسب فهو بريء بزعمهم أن الماء قبله! ولا يمتحنون بالماء والنار إلّا العبيد ، وأمّا الأحرار فإن اتّهموا بمال أقلّ من خمسة دنانير يبرز الرجلان بالعصا والترس ، فيتضاربان حتى ينقاد أحدهما ، فإن كان أحد الخصمين امرأة أو اشلّ أو يهوديّا ، يقيم عن نفسه بخمسة دنانير ، فإن وقع المتّهم فلا بدّ من صلبه وأخذ جميع ماله ، ويعطى المبارز من ماله عشرة دنانير.
بجنة
موضع ببلاد الترك ، بها جبل على قلّته شبه خرقاه من الحجر ، وداخل الخرقاه عين ينبع الماء منها ، وعلى ظهر الخرقاه شبه كوة يخرج الماء منها وينصبّ من الخرقاه إلى الجبل ، ومن الجبل إلى الأرض ، وتفوح من ذلك الماء رائحة طيّبة.


برجان
بلاد غائطة في جهة الشمال ، ينتهي قصر النهار فيها إلى أربع ساعات والليل إلى عشرين ساعة وبالعكس. أهلها على الملّة المجوسيّة والجاهليّة ، يحاربون الصقالبة. وهم مثل الإفرنج في أكثر أمورهم ، ولهم حذق بالصناعات ومراكب البحر.
بلغار
مدينة على ساحل بحر مانيطس ؛ قال أبو حامد الأندلسي : هي مدينة عظيمة مبنية من خشب الصنوبر ، وسورها من خشب البلّوط ، وحولها من أمم الترك ما لا يعدّ ولا يحصى. وبين بلغار وقسطنطينية مسيرة شهرين وبين ملوكهم قتال.
يأتي ملك بلغار بجنود كثيرة ويشنّ الغارات على بلاد قسطنطينيّة ، والمدينة لا تمتنع منهم إلّا بالأسوار.
قال أبو حامد الأندلسي : طول النهار ببلغار يبلغ عشرين ساعة وليلهم يبقى أربع ساعات ، وإذا قصر نهارهم يعكس ذلك. والبرد عندهم شديد جدّا لا يكاد الثلج ينقطع عن أرضهم صيفا وشتاء.
حكى أبو حامد الأندلسي أن رجلا صالحا دخل بلغار ، وكان ملكها وزوجته مريضين مأيوسين من الحياة ، فقال لهما : إن عالجتكما تدخلان في ديني؟ قالا :نعم! فعالجهما فدخلا في دين الإسلام ، وأسلم أهل تلك البلاد معهما ، فسمع بذلك ملك الخزر فغزاهم بجنود عظيمة ، فقال ذلك الرجل الصالح : لا تخافوا واحملوا عليهم وقولوا الله أكبر الله أكبر! ففعلوا ذلك وهزموا ملك الخزر ، ثمّ بعد ذلك صالحهم ملك الخزر وقال : إني رأيت في عسكركم رجالا كبارا على خيل شهب يقتلون أصحابي! فقال الرجل الصالح : أولئك جند الله! وكان اسم ذلك الرجل بلار ، فعرّبوه فقالوا بلغار ؛ هكذا ذكر القاضي البلغاري في


تاريخ بلغار ، وكان من أصحاب إمام الحرمين ، وملك بلغار في ذلك البرد الشديد يغزو الكفّار ويسبي نساءهم وذراريهم. وأهل بلغار أصبر الناس على البرد ، وسببه أن أكثر طعامهم العسل ولحم القندر والسنجاب.
وحكى أبو حامد الأندلسي أنّه رأى بأرض بلغار شخصا من نسل العاديين الذين آمنوا بهود ، عليه السلام ، وهربوا إلى جانب الشمال ، كان طوله أكثر من سبعة أذرع ، كان الرجل الطويل إلى حقوه ، وكان قويّا يأخذ ساق الفرس فيكسرها ، ولا يقدر غيره أن يكسرها بالفأس. وكان في خدمة ملك بلغار ، وهو قرّبه واتّخذ له درعا على قدره وبيضة كأنّها مرجل كبير ، ويأخذه معه في الحروب على عجلة لأن الجمل ما كان يحمله ، ويمشي إلى الحرب على عجلة كيلا يتعب من المشي ، ويقاتل راجلا بخشبة في يده طويلة لا يقدر الرجل الواحد على حملها ، وكانت في يده كالعصا في يد أحدنا ، والأتراك يهابونه إذا رأوه مقبلا إليهم انهزموا ، ومع ذلك كان لطيفا مصلحا عفيفا.
وفي كتاب سير الملوك أن القوم الذين آمنوا بهود ، عليه السلام ، وهربوا إلى بلاد الشمال ، وأمعنوا فيها توجد بأرض بلغار عظامهم ؛ قال أبو حامد : رأيت سنّا واحدة عرضها شبران وطولها أربعة أشبار ، وجمجمة رأسه كالقبّة ، وتوجد تحت الأرض أسنان مثل أنياب الفيلة بيض كالثلج ، ثقيلة في الواحدة منها مائتا منّ ، لا يدرى لأيّ حيوان هي ، فلعلّها سنّ دوابهم تحمل إلى خوارزم.
والقفل متّصلة من بلاد بلغار إلى خوارزم إلّا أن طريقهم في واد من الترك ، ويشترى من تلك الأسنان في خوارزم بثمن جيّد ، تتّخذ منها الأمشاط والحقاق وغيرهما ، كما تتّخذ من العاج بل هي أقوى من العاج لا تنكسر البتّة.
وحكي من الأمور العجيبة أن أهل ويسو ويورا إذا دخلوا بلاد بلغار ولو في وسط الصيف برد الهواء ، ويصير كالشتاء يفسد زروعهم ؛ وهذا مشهور عندهم لا يخلّون أحدا يدخل بلغار من أهل تلك البلاد.
وبها نوع من الطير لم يوجد في غيرها من البلاد ؛ قال أبو حامد : هو طير


ذو منقار طويل ، يكون منقاره الأعلى مائلا إلى اليمين ستّة أشبار ، وإلى اليسار ستّة أشبار مثل لام ألف ، وعند الأكل ينطبق. ذكر أن لحمه نافع لحصاة الكلى والمثانة ، وإذا وقعت بيضته في الثلج أو الجمد أذابته كالنار.
شوشيط
حصن بأرض الصقالبة ، فيه عين ماء ملح ، ولا ملح ، بتلك الناحية أصلا.
فإذا احتاجوا إلى الملح أخذوا من ماء هذه العين ، وملأوا منه القدور وتركوها في فرن من حجارة ، وأوقدوا تحتها نارا عظيمة ، فيخثر ويتعكّر ثمّ يترك حتى يبرد فيصير ملحا جامدا أبيض ، وبهذه الطريقة يعمل الملح الأبيض في جميع بلاد الصقالبة.
صقلاب
أرض صقلاب في غربي الإقليم السادس والسابع. وهي أرض متاخمة لأرض الخزر في أعالي جبال الروم ؛ قال ابن الكلبي : روم وصقلاب وأرمن وفرنج كانوا اخوة ، وهم بنو ليطى بن كلوخيم بن يونان بن يافث بن نوح ، عليه السلام ، سكن كلّ واحد بقعة من الأرض فسمّيت البقعة به. والصقالبة قوم كثيرون صهب الشعور حمر الألوان ذوو صولة شديدة.
قال المسعودي : الصقالبة أقوام مختلفة بينهم حروب ، لولا اختلاف كلمتهم لما قاومتهم أمّة في الشدّة والجرأة ، ولكلّ قوم منهم ملك لا ينقاد لغيره : فمنهم من يكون على دين النصرانيّة اليعقوبيّة ، ومنهم من يكون على دين النسطوريّة ومنهم من لا دين له ويكون معطلا ، ومنهم من يكون من عبدة النيران. ولهم بيت في جبل ذكرت الفلاسفة أنّه من الجبال العالية ، ولهذا البيت أخبار عجيبة في كيفيّة بنائه ، وترتيب أحجاره ، واختلاف ألوانها ، وما أودع فيه من الجواهر ، وما بني من مطالع الشمس في الكوي التي تحدث فيه والآثار المرسومة التي زعموا


أنّها دالّة على الكائنات المستقبلة ، وما تنذر به تلك الجواهر من الآثار والحوادث قبل كونها ، وظهور أصوات من أعاليه وما كان يلحقهم عند سماع ذلك!
حكى أحمد بن فضلان لمّا أرسله المقتدر بالله إلى ملك الصقالبة ، وقد أسلم ، حمل إليه الخلع. وذكر من الصقالبة عادات عجيبة منها ما قال : دخلنا عليه وهو جالس على سرير مغشى بالديباج ، وزوجته جالسة إلى جانبه ، والأمراء والملوك على يمينه ، وأولاده بين يديه ، فدعا بالمائدة فقدّمت إليه وعليها لحم مشوي ، فابتدأ الملك : أخذ سكينا فقطع لقمة أكلها ثمّ ثانية ثمّ ثالثة ثمّ قطع قطعة دفعها إليّ : فلمّا تناولتها جاؤوا بمائدة صغيرة ووضعت بين يديّ ، وهكذا ما كان أحد يمدّ يده إلى الأكل حتى أعطاه الملك ، فإذا أعطاه الملك جاؤوا له بمائدة صغيرة وضعت بين يديه ، حتى قدم إلى كلّ واحد مائدة لا يشاركه فيها أحد.
فإذا فرغوا من الأكل حمل كلّ واحد مائدته معه إلى بيته.
ومنها أن كلّ من دخل على الملك من كبير أو صغير حتى أولاده وإخوته ، فساعة وقوع نظرهم عليه أخذ قلنسوته وجعلها تحت إبطه ، فإذا خرج من عنده لبسها ، وإذا خرج الملك لم يبق أحد في الأسواق والطرقات إلّا قام وأخذ قلنسوته من رأسه وجعلها تحت إبطه ، حتى إذا جاوزهم تقلنسوا بها.
ومنها أنّه إن رأوا أحدا عليه سلاحه وهو يبول أخذوا سلاحه وثيابه وجميع ما معه ، وحملوا ذلك على جهله وقلّة درايته ، ومن جعل سلاحه ناحية حملوا ذلك على درايته ومعرفته ولم يتعرّضوا له.
ومنها ما ذكر أنّه قال : رأيت الرجال والنساء ينزلون في النهر ويغتسلون عراة ، لا يستتر بعضهم من بعض ولا يزنون البتّة. والزنا عندهم من أعظم الجرائم ، ومن زنى منهم كائنا من كان ضربوا له أربع سكك وشدّوا يديه ورجليه إليها ، وقطعوا بالفأس من رقبته إلى فخذيه ، وكذلك بالمرأة ، ويفعلون مثل ذلك بالسارق أيضا.
ومنها ما ذكره أبو حامد الأندلسي أن أحدهم إذا تعرّض لجارية الغير أو


ولده أخذ منه جميع ما يملكه ، فإن كان فقيرا يباع عليه أولاده ، فإن لم يكن له أولاد يباع عليه نفسه ، فلا يزال يخدم لمولاه حتى يفدي أحد عنه. وإذا عامل أحد منهم غريبا وأفلس يباع عليه أهله وولده ومسكنه ونفسه ، ويقضى دين الغريب ، وهؤلاء نصارى نسطورية.
ومنها أنّه يظهر في كلّ عشرين سنة عندهم السحر من العجائز ، فيقع بسبب ذلك فساد كثير بين الناس ، فيأخذون كلّ عجوز وجدوها في بلادهم ويشدّون أيديهن وأرجلهن ، ولهم نهر عظيم يلقونهن في ذلك النهر ، فالتي طفت على الماء علموا أنّها ساحرة فأحرقوها ، والتي رسبت علموا أنّها ليست بساحرة فسيّبوها.
ومنها أن الرجل إذا صار صاحب ولد قام بأمره حتى يحتلم ، فإذا احتلم دفع إليه قوسا ونشاشيب ويقول : مرّ احتل لنفسك! ويخرجه من عنده ويجعله بمنزلة الغريب الأجنبي.
ومنها أن بناتهم الأبكار يخرجن مكشوفات الرأس ويراهن كلّ أحد ، فمن رغب في واحدة منهنّ ألقى على رأسها خمارا ، فصارت زوجة له فلا يمنعه عنها أحد ، فيتزوّج عشرين أو أكثر ، ولهذا عددهم كثير لا يحصى.
بها نهر ماؤه أسود مثل ماء بحر الظلمات ، إلّا أنّه عذب وليس فيه شيء من السمك. وبه الحيات الكبار السود ، وليس فيها أذيّة. وفي هذا النهر السمور ، وهو حيوان أصغر من السنور ، شعره في غاية النعومة يقال له سنور الماء ، وفي هذا النهر منه كثير جدّا ، يحمل جلده إلى سقسين وبلغار يتعاملون عليه ، وإنّه فروة ناعمة جدّا.
مشقّة
مدينة واسعة في بلاد الصقالبة على طرف البحر ، بين آجام لا يمكن مرور العساكر فيها. اسم ملكها مشقّة ، سمّيت باسمه ، وهي مدينة كثيرة الطعام والعسل واللحم والسمك ، ولملكها أجناد رجالة لأن الخيل لا تمشي في بلادهم.


وله جبايات في مملكته يعطي لأجناده كلّ شهر أرزاقهم ، وعند الحاجة يعطيهم الخيل والسرج واللّجم والسلاح وجميع ما يحتاجون إليه ، فمن ولد أجرى الملك عليه رزقه ، ذكرا كان أو أنثى ، فإذا بلغ المولود فإن كان ذكرا زوّجه وأخذ من والده المهر ، وسلّمه إلى والد المرأة. والمهر عندهم ثقيل ، فإذا ولد للرجل ابنتان أو ثلاث صار غنيّا ، وإن ولد له ابنان أو ثلاثة صار فقيرا. والتزويج برأي ملكهم لا باختيارهم ، والملك يتكفّل بجميع مؤوناتهم ومؤونة العرس عليه ، وهو مثل الوالد المشفق على رعيته ، وهؤلاء غيرتهم على نسائهم شديدة بخلاف سائر الأتراك.
واطر بورونة
حصن حصين بأرض الصقالبة ، قريب من حصن شوشيط ، بها عين ماء عجيبة تسمّى عين العسل ، وهي في جبل بقرب شعرا ، مذاق مائها في المبدإ مذاق العسل ، وعند مقطعه فيه عفوصة اكتسبت ذلك الطعم من الأشجار النابتة حولها.
ورنك
موضع على طرف البحر الشمالي. وذلك أن البحر المحيط من جانب الشمال خرج منه خليج إلى نحو الجنوب ، فالموضع الذي على طرف ذلك الخليج يسمّى به الخليج يقال له بحر ورنك. وهو أقصى موضع في الشمال ، البرد به عظيم جدّا والهواء غليظ والثلج دائم. لا يصلح للنبات ولا للحيوان. قلّما يصل إليه أحد من شدّة البرد والظلمة والثلج. والله أعلم.
ويسو
بلاد وراء بلاد بلغار ، بينهما مسيرة ثلاثة أشهر. ذكروا أن النهار يقصر عندهم حتى لا يرون شيئا من الظلمة ، ثمّ يطول الليل حتى لا يرون شيئا من


الضوء. وأهل بلغار يحملون بضائعهم إليها للتجارة ، وكلّ واحد يجعل متاعه في ناحية ، ويعلم عليه ويتركه ثمّ يرجع إليه فيجد إلى جنبه متاعا يصلح لبلاده ، فإن رضي بها أخذ العوض وترك متاعه ، وإن لم يرض أخذ متاعه وترك العوض ، ولا يرى البائع المشتري البائع كما ذكرنا في بلاد الجنوب بأرض السودان.
وأهل ويسو لا يدخلون بلاد بلغار لأنّهم إذا دخلوها تغيّر الهواء وظهر البرد ، وإن كان في وقت الصيف ، فيهلك حيوانهم ويفسد نباتهم. وأهل بلغار يعرفون ذلك فلا يمكنونهم من دخول بلادهم.
يأجوج ومأجوج
قبيلتان عظيمتان من الترك من ولد يافث بن نوح ، عليه السلام. مسكنهم شرقي الإقليم السابع. روى الشعبي أن ذا القرنين لمّا وصل إلى أرض يأجوج ومأجوج اجتمع إليه خلق كثير ، واستغاثوا من يأجوج ومأجوج وقالوا : أيّها الملك المظفّر إن وراء هذا الجبل أمما لا يحصيهم إلّا الله ، يخربون ديارنا ويأكلون زروعنا وثمارنا ، ويأكلون كلّ شيء حتى العشب ، ويفترسون الدوابّ افتراس السباع ، ويأكلون حشرات الأرض كلّها ، ولا ينمو خلق مثل نمائهم ، لا يموت أحدهم حتى يولد له ألف من الولد! قال ذو القرنين : كم صنفهم؟ قالوا : هم أمم لا يحصيهم إلّا الله. وأما من قربت منازلهم فستّ قبائل : يأجوج ومأجوج وتأويل وتاريس ومنسك وكمادى. وكلّ قبيلة من هؤلاء مثل جميع أهل الأرض ، وأمّا من كان منّا بعيدا فإنّا لا نعرفهم. قال ذو القرنين : وما طعامهم؟ قالوا :يقذف البحر إليهم في كلّ عام سمكتين ، ويكون بين رأس كلّ سمكة وذنبها أكثر من مسيرة عشرة أيّام ، ويرزقون من التماسيح والثعابين والتنانين في أيّام الربيع ، وهم يستمطرونها كما يستمطر الغيث ، فإذا مطروا بذلك أخصبوا وسمنوا ؛ وإذا لم يمطروا بذلك أجدبوا. وهزلوا. قال ذو القرنين : وما صفتهم؟ قالوا :


قصار ضلع ، عراض الوجوه ، مقدار طولهم نصف قامة رجل مربوع ، ولهم أنياب كأنياب السباع ، ومخالب مواضع الأظفار ، ولهم صلب عليه شعر ، ولهم أذنان عظيمتان : إحداهما على ظاهرها وبر كثير وباطنها أجرد ، والأخرى على باطنها وبر كثير وظاهرها أجرد ، تلتحف إحداهما وتفترش الأخرى. وعلى بدنهم من الشعر مقدار ما يواريه ، وهم يتداعون تداعي الحمام ويعوون عواء الكلب ، ويتسافدون حيث التقوا تسافد البهائم.
جاء في بعض الأخبار أن يأجوج ومأجوج ينحتون السدّ كلّ يوم حتى يكادون يرون الشمس من ورائه ، فيقول قائلهم : ارجعوا سوف ننقبه غدا ، فيرجعون فيعيده الله تعالى ليلتهم كما كان ، ثمّ يحفرونه وينحتونه من الغد كذلك كلّ يوم وليلة ، إلى أن يأتي وقت خروجهم فيقول قائلهم : ارجعوا سننقبه غدا إن شاء الله تعالى! فيبقى رقيقا إلى أن يعودوا إليه من غدهم فيرونه كذلك ، فينقبونه ويخرجون على الناس فيشربون مياه الأرض حتى ينشّفوها ، ويتحصّن الناس بحصونهم فيظهرون على الأرض ويقهرون من وجدوه ، فإذا لم يبق أحد لهم رموا بالنشاب إلى السماء ، فترجع إليهم وفيها كهيئة الدم ، فيقولون : قد غلبنا أهل الأرض وعلونا أهل السماء! ثمّ إن الله تعالى يبعث إليهم دودا يقال له النغف ، يدخل في آذانهم ومناخرهم فيقتلهم ، قال ، صلّى الله عليه وسلّم : والذي نفسي بيده ، إن دواب الأرض لتسمن من لحومهم!
روى أبو سعيد الخدري قال : سمعت رسول الله ، صلّى الله عليه وسلّم ، يقول : يفتح سدّ يأجوج ومأجوج فيخرجون على الناس كما قال تعالى : وهم من كلّ حدب ينسلون. فيغشون الأرض كلّها ، فينحاز المسلمون إلى حصونهم ويضمّون إليهم مواشيهم ، فيشرب يأجوج ومأجوج مياه الأرض ، فيمرّ أوائلهم بالنهر فيشربون ما فيه ويتركونه يابسا ، فيمرّ به من بعدهم ويقولون : لقد كان ههنا مرّة ماء! ولا يبقى أحد من الناس إلّا من كان في حصن أو جبل شامخ أو وزر ، فيقول قائلهم : قد فرغنا من أهل الأرض ، بقي من في السماء. ثمّ


يهزّ حربته فيرمي نحو السماء ، فترجع إليهم مخضوبة بالدم للبلاء والفتنة فيقولون :قد قتلنا أهل السماء! فبينا هم كذلك إذ سلّط الله تعالى عليهم دودا مثل النغف يدخل آذانهم ، وقيل ينقب آذانهم أو أعناقهم ، فيصبحون موتى لا يسمع لهم حسّ ولا حركة البتّة! فيقول المسلمون : ألا رجل يشري لنا نفسه فينظر ما فعل هؤلاء؟ فيتجرّد رجل منهم موطن نفسه من القتل فينزل إلى الأرض فيجدهم موتى بعضهم فوق بعض ، فينادي : يا معشر المسلمين ، ابشروا فقد كفاكم الله عدوّكم! فيخرجون من حصونهم ومعاقلهم.
وروي أن الأرض تنتن من جيفهم فيرسل الله مطرا يسيل منه السيول ، فيحمل جيفهم إلى البحار. وروي أن مدّتهم أربعون يوما ، وقيل سبعون يوما ، وقيل أربعة أشهر. وقال ، صلّى الله عليه وسلّم : هؤلاء الذين لا يقوم لهم جبل ولا حديد ، ولا يمرّون بفيل ولا خنزير ولا جمل ولا وحشي ولا دابّة إلّا أكلوه ، ومن مات منهم أكلوه أيضا ، مقدمتهم بالشام وساقيهم بخراسان ، يشربون أنهار المشرق وبحيرة طبريّة.
يورا
بلاد بقرب بحر الظلمات. قال أبو حامد الأندلسي : قال بعض التجار :النهار عندهم في الصيف طويل جدّا ، حتى ان الشمس لا تغيب عنهم مقدار أربعين يوما. في الشتاء ليلهم طويل جدّا حتى تغيب الشمس عنهم مقدار أربعين يوما ، والظلمات قريبة منهم. وحكي أن أهل يورا يدخلون تلك الظلمة بالضوء فيجدون شجرة عظيمة مثل قرية كبيرة ، وعليها حيوان يقولون انّه طير ، وأهل يورا ليس لهم زرع ولا ضرع بل عندهم غياض كثيرة ، وأكلهم منها ومن السمك ، والطريق إليهم في أرض لا يفارقها الثلج أبدا.
وحكي أن أهل بلغار يحملون السيوف من بلاد الإسلام إلى ويسو ، وهي سيوف لم يتّخذ لها نصاب ولا حلي ، بل تصل كما تخرج من النار وتسقى ، فإن


علق السيف بخيط ونقر بإصبع سمع له طنين ، فذلك السيف يصلح أن يحمل إلى بلاد يورا ويشتريه أهل يورا بثمن بالغ ، ويرمونه في البحر المظلم. فإذا فعلوا ذلك أخرج الله لهم من البحر سمكة مثل الجمل العظيم ، تطردها سمكة أخرى أكبر منها تريد أكلها ، فتهرب منها حتى تقرب من الساحل فتصير في موضع لا يمكنها الحركة فيه ، فتشبّث بالرمل فيعرف أهل يورا فيذهبون إليها في المراكب فكلّ من ألقى السيف يجتمع عليها ويقطع من لحمها. وربّما يكثر ماء البحر بالمدّ ، فترجع السمكة إلى البحر بعدما قطع منها من اللحم ما يملأ ألف بيت ، وربّما تبقى عندهم زمانا طويلا مؤونتهم فيقطعون منها ، وإذا لم يبق في البحر من تلك السيوف لم تخرج لهم السمكة ، فيكون عندهم الجدب والقحط.
وحكي أن في بعض السنين خرجت عليهم هذه السمكة ، فاجتمع القوم عليها ونقبوا أذنها وجعلوا فيها حبلا ومدّوها إلى الساحل ، فانفتحت أذن السمكة وخرجت من داخلها جارية تشبه الآدميّين ، بيضاء حمراء سوداء الشعر عجزاء من أحسن النساء وجها ، فأخذها أهل يورا وأخرجوها إلى البرّ ، وهي تضرب وجهها وتنتف شعرها وتصيح ، وقد خلق الله تعالى في وسطها جلدا ضعيفا كالثوب من سرّتها إلى ركبتها لستر عورتها ، فبقيت عندهم مدّة. وأهل يورا إن لم يلقوا السيف في البحر لا تخرج السمكة فيجوعون لأن قوتهم من هذا.
إلى ههنا انتهى علم أهل بلادنا ، والله أعلم
بما وراء ذلك من البلاد والبحار.
وليكن هذا آخر الكلام.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مشاركة مميزة

بناء شخصية  الأطفال   ...