الخميس، 8 مارس 2018


كتاب التاريخ والجغرافيا :  للمؤلف عبد زكرياء بن محمّد بن محمود القزويني بعنوان  -  اثار البلاد واخبار العباد ( الجزء الثالث من الكتابة )
الدواليب ويسقي ماؤها ليظهر الطين ، فيخرجه الفعلة إلى ظاهر الأرض ويغسلونها.
وإنّما يفعل ذلك ليأخذ خمس النيل ، وماؤها يسقي ثلاث دفعات ، لأن من وجه الأرض إلى الماء عشرين ذراعا ، فينصب دولابا في الغار على وجه الماء ، فيستقي ويصبّ في حوض كبير ، وينصب على ذلك الحوض دولابا آخر فيستقي ويصبّ في حوض آخر ، ثمّ ينصب إلى ذلك الحوض دولابا ثالثا فيستقي ويجري على وجه الأرض إلى المزارع والبساتين.
وذكروا أن هذه المعاملة لا تصحّ إلّا من صاحب مال كثير له آلاف يقعد على باب الغار ويكري الصنّاع والعملة ، فيخرجون الطين ويغسلونه بين يديه ، حتى إذا تمّ العمل أخرج خمس السلطان وسلّم الباقي له ، فربّما يكون أصغر ممّا أنفق ، وربّما يكون دونه على قدر جدّ الرجل.
سابور
مدينة بأرض فارس ، بناها سابور بن أردشير ، من دخلها لم يزل يشمّ روائح طيّبة حتى يخرج منها لكثرة رياحينها وأزهارها وكثرة أشجارها. قال البشّاري : مدينة سابور نزهة جدّا ، بها ثمار الجروم والصرود من النخل والزيتون والاترج والجوز واللوز والعنب وقصب السكر. وأنهارها جارية وثمارها دانية.
وقراها مشتبكة ، يمشي السائر أيّاما تحت ظلّ الأشجار كصغد سمرقند ، وعلى كلّ فرسخ بقّال وخبّاز.
ينسب إليها أبو عبد الله السابوري. كان من أولياء الله تعالى ، قال الأستاذ أبو عليّ الدقّاق : إنّ أبا عبد الله كان صيادا ، فإذا نزلنا به أطعمنا من لحم الصيد ثمّ ترك ذلك. فسألناه عن سببه فقال : كنت أنصب شبكتي على عين ماء ، فالظباء كانت تأتي لتشرب فتتعلّق بالشبكة. فنصبتها في بعض الأيّام فإذا أنا بظبية معها غزلان ثلاثة في انتصاف النهار عند شدّة الحرّ ، فقصدت الماء لتشرب ، فلمّا رأت الشبكة نفرت عنها وذهبت وقد غلبها وغزلانها العطش ، ثمّ عادت

ودنت من الماء ، فلمّا رأت الشبكة جعلت تنظر إليها وترفع رأسها نحو السماء حتى فعلت ذلك مرارا. فما كان إلّا قليل حتى ظهرت سحابة سترت الآفاق وأمطرت مطرا سالت منه المياه في الصحراء. فلمّا شاهدت تلك الحالة تركت الاصطياد.
سمبتة
بلدة مشهورة من قواعد بلاد المغرب على ساحل البحر في برّ البربر. وهي ضاربة في البحر داخلة فيه. قال أبو حامد الأندلسي : عندها الصخرة التي وصل إليها موسى وفتاه يوشع ، عليه السلام ، فنسيا الحوت المشوي وكانا قد أكلا نصفه فأحيا الله تعالى النصف الآخر فاتّخذ سبيله في البحر عجبا. وله نسل إلى الآن في ذلك الموضع ، وهي سمكة طولها أكثر من ذراع وعرضها شبر وأحد جانبيها صحيح ، والجانب الآخر شوك وعظام وغشاء رقيق على أحشائها. وعينها واحدة ورأسها نصف رأس ، فمن رآها من هذا الجانب استقذرها ويحسب أنّها مأكولة ميتة ، والناس يتبرّكون بها ويهدونها إلى المحتشمين ، واليهود يقدّدونها ويحملونها إلى البلاد البعيدة للهدايا.
سجستان
ناحية كبيرة واسعة تنسب إلى سجستان بن فارس. أرضها كلّها سبخة رملة ، والرياح فيها لا تسكن أبدا حتى بنوا عليها رحيّهم ، وكلّ طحنهم من تلك الرحيّ. وهي بلاد حارة بها رحيّ على الريح ونخل كثير ، وشدّة الريح تنقل الرمل من مكان إلى مكان ، ولو لا أنّهم يحتالون في ذلك لطمست على المدن والقرى.
وإذا أرادوا نقل الرمل من مكان إلى مكان من غير أن يقع على الأرض التي إلى جانب الرمل ، جمعوا حول الرمل مثل الحائط من حطب وشوك وغيرهما ، وفتحوا من أسفله بابا فتدخله الريح وتطيّر الرمل إلى أعلاه مثل الزوبعة ، فيرتفع

ويقع على مدّ البصر في بعد من ذلك الموضع. ولا يصاد في أرضهم قنفذ ولا سلحفاة لأن أرضهم كثيرة الأفاعي وانّها تقتل الأفعى. قال ابن الفقيه : لا يرى بسجستان بيت إلّا وتحته قنفذ.
وأهلها من خيار الناس ، قال محمّد بن بحر الذهبي : لم تزل سجستان مفردة بمحاسن لم تعرف لغيرها من البلدان ، وما في الدنيا سوقة أصحّ معاملة ولا أكثر مجاملة منهم ، ثمّ مسارعتهم إلى إغاثة اللهيف ومؤاساة الضعيف ، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر ولو كان فيه جدع الأنوف ، وأجلّ من هذا كلّه أنّهم امتنعوا على بني أميّة أن يلعنوا عليّ بن أبي طالب على منبرهم.
ومن عادتهم أن لا تخرج المرأة من منزلها أبدا ، فإن أرادت زيارة أهلها فبالليل.
ينسب إليها رستم الشديد ، كان بالغا في الشجاعة والفروسيّة إلى حدّ قال الفردوسي في شاه نامه :
جهان آفرين تا جهان آفريد
 

سواري جو رستم نيامد بديد
 
ذكر عنه أنّه كان يجعل الرمح في قرنه ويرفعه من ظهر فرسه ، وإذا كان في ألف فارس يغلب ألفين : ألف في مقابلة ألف ، وألف في مقابلة رستم.
سخا
مدينة بأسفل مصر ، وهي قصبة الكورة الغربيّة. في جامعها حجر أسود عليه علامة : إذا أخرج من الجامع دخلت العصافير إليه ، وإن أعيد إلى الجامع خرجت عنه!
سدوم
قصبة قرى قوم لوط. وهي بين الحجاز والشام. كانت أحسن بلاد الله وأكثرها مياها وأشجارا وحبوبا وثمارا ، والآن عبرة للناظرين. وتسمّى الأرض

المقلوبة لا زرع بها ولا ضرع ولا حشيش ، وبقيت بقعة سوداء فرشت فيها حجارة ، ذكر أنّها الحجارة التي أمطرت عليهم وعلى عامتها كالطابع ؛ قال أميّة بن أبي الصلت :
ثمّ لوط أخو سدوم أتاها
 

إذ أتاها برشدها وهداها
 
راودوه عن ضيفه ثمّ قالوا :
 

قد نهيناك أن تقيم قراها
 
عرض الشّيخ عند ذاك بنات
 

كظباء بأجرع ترعاها
 
غضب القوم عند ذاك وقالوا :
 

أيّها الشّيخ خطبة نأباها!
 
عزم القوم أمرهم وعجوز
 

خيّب الله سعيها ورجاها
 
أرسل الله عند ذاك عذابا
 

جعل الأرض سفلها أعلاها
 
ورماها بحاصب ثمّ طين
 

ذي حروف مسوّم إذ رماها
 
سمنّود
بلدة قديمة بنواحي مصر على ضفّة النيل. كان بها بربا من إحدى العجائب ؛ قال عمر الكندي : رأيت ذلك البربا وقد اتّخذه بعض العمّال مخزن القتّ ، فرأيت الجمل إذا دنا من بابه وأراد دخوله سقط عنه كلّ دبيب عليه ، ولم يدخل منه شيء إلى البربا. وكان على ذلك إلى أن خرب في شهور ، سنة خمسين وثلاثمائة.
سنجل
قرية من نواحي فلسطين بين نابلس وطبرية ، على أربعة فراسخ من طبرية ممّا يلي دمشق. قال الاصطخري : كان منزل يعقوب ، عليه السلام ، بنابلس من أرض فلسطين ، والجبّ الذي ألقي فيه يوسف الصديق ، عليه السلام ، بين نابلس وبين قرية يقال لها سنجل ، ولم تزل تلك البئر مزارا للناس يتبرّكون بزيارتها ويشربون من مائها.

سنون
قرية بأرض كرمان ؛ قال صاحب تحفة الغرائب : بها حصار في وسطها لا ترى الفأر فيه أبدا ، ولو حملت إليها ماتت إذا أصابت أرضها!
سوبلّا
بلدة بأرض البربر قرب مراكش. أهلها من شرار البربر ، وبربر من شرار الناس. ذكر أن أبا يعقوب بن يوسف ملك المغرب اجتاز بها ، فخرج مشايخها إليه للتلقّي والخدمة ، فلمّا رآهم قال : من أنتم؟ قالوا : مشايخ سوبلّا! فقال :لا حاجة إلى اليمين ، إنّا نعرفكم! فتعجّب الناس من سرعة جوابه كأنّهم قالوا :نحن مشايخ سوء بالله ، واللفظان واحد في كلام المغاربة.
سيراف
مدينة شريفة طيّبة البقعة كثيرة البساتين ، والعيون تأتيها من الجبال ، واسعة البقعة والدور. ينسب إليها أبو الحسن السيرافي شارح كتاب سيبويه عشرين مجلّدا ، كان فريد عصره.
سيرجان
قصبة بلاد كرمان ، بلدة طيّبة كثيرة العلم حسنة الرسم ، ذات بساتين ومياه كثيرة ، أبهى من شيراز وأوسع وبينهما ثلاث مراحل يقال لهما القصران.
ماؤها عذب وهواؤها صحيح وأديمها فسيح. بها دور عضد الدولة لم يوجد مثلها في شيء من البلاد.
وقد شقّ بها عمرو وطاهر ابنا الليث بن طاهر الصفّار السجستاني قناتين.

ماؤها يدور في البلد ويدخل دورهم. بها الفانيد وقصب السكر ، وبها نخل كثير ، ولهم سنّة حسنة وهي أنّهم لا يرفعون من تمورهم شيئا أسقطته الريح ويتركونها للضعفاء ، فربّما كثرت الرياح في بعض الأوقات فيحصل للفقراء أكثر ممّا يحصل للملّاك. والكمّون يحمل منها إلى الآفاق.
سيلون
من قرى نابلس. بها مسجد السكينة وحجر المائدة. ويقال : ان سيلون كانت منزل يعقوب ، عليه السلام ، وان إخوة يوسف ، عليه السلام ، أخرجوه منها لمّا أرادوا إلقاءه في الجبّ ، والجبّ بقرية سنجل اتّخذه الناس مزارا.
الشام
هي من الفرات إلى العريش طولا ، ومن جبلي طيّء إلى بحر الروم عرضا ؛ عن رسول الله ، صلّى الله عليه وسلّم : الشام صفوة الله من بلاده وإليها يجتبي صفوته من عباده.
عن عبد الله بن عمرو بن العاص انّه قال : قسم الخير عشرة أقسام ، جعلت تسعة في الشام وقسم في سائر الأرض ، وقسم الشرّ عشرة أعشار ، جزء منها بالشام والباقي في جميع الأرض.
والشام هي الأرض المقدسة التي جعلها الله منزل الأنبياء ومهبط الوحي ومحلّ الأنبياء والأولياء. هواؤها طيّب وماؤها عذب وأهلها أحسن الناس خلقا وخلقا وزيّا وريّا ؛ قال البحتري :
عنيت بشرق الأرض قدما وغربها
 

أجوّب في آفاقها وأسيرها
 
فلم أر مثل الشّام دار إقامة
 

لراح أغاديها وكأس أديرها
 
مصحّة أبدان ونزهة أعين
 

ولهو نفوس دائم وسرورها
 



مقدّسة جاد الرّبيع بلادها
 

ففي كلّ أرض روضة وغديرها
 
ومن خواص الشام أن لا تخلو عن الأولياء الأبدال الذين يرحم الله ويعفو بدعائهم ، لا يزيدون على السبعين ولا ينقصون عنها ، كلّما مات واحد منهم قام من الناس بدله ، ولا يسكنون إلّا جبل اللّكّام!
ومن خواصها الطاءات الثلاث : الطعن والطاعون والطاعة. أمّا طاعونها فنعوذ بالله منه ، وأمّا طعنها فمشهور أن أجنادها شجعان ، وأمّا طاعتها للسلطان فممّا يضرب به المثل حتى قيل : إنّما تمشّى الأمر لمعاوية لأنّه كان في أطوع جند ، وعليّ كان في أعصى جند وهم أهل العراق!
وبالشام من أنواع الفواكه في غاية الحسن والطيب ، وتفاحها كان يحمل إلى العراق لأجل الخلفاء. وكذلك الزيت الركابي فإنّه في عاية الصفاء ، وأهل الشام ينسبون إلى الجلافة وقلّة الفطنة!
حكى ابن أبي ليلى أنّه كان يساير رجلا من وجوه أهل الشام ، فمرّ بحمّال معه سلّة رمّان فأخذ منها رمّانة جعلها في كمّه ، فتعجبت من ذلك ثمّ رجعت إلى نفسي وكذبت بصري حتى مرّ بسائل فقير ، فأخرجها من كمّه وأعطاه ، فعلمت أني رأيتها وسألته عن ذلك ، فقال : أما علمت أن الأخذ سيئة واحدة والإعطاء عشر حسنات فكسبت تسعة؟
قال صاحب تحفة الغرائب : في بادية الشام شجرة إذا نظر الناظر إليها رأى أوراقها كالسرج المشعولة ، وكلّما كان الليل أظلم كان الضوء أشدّ. وإذا هشّ الورق لا يرى شيء من الضوء.
وحكى عبد الرحمن القشيري أن امرأة شريك بن خباسة قالت : خرجنا مع عمر بن الخطّاب إلى الشام ، فنزلنا موضعا يقال له القليب ، فذهب شريك ليستقي فوقعت دلوه في البئر ، فلم يقدر على أخذها لزحمة الناس ، فأخّر إلى الليل وأبطأ ، فأخبر عمر فأقام ثلاثا ، فإذا شريك أقبل ومعه ورقة خضراء فقال :

يا أمير المؤمنين ، إني وجدت في القليب سربا ، فأتاني آت فأخرجني إلى أرض لا تشبه أرضكم وبساتين لا تشبه بساتينكم ، فتناولت منه شيئا فقال لي : ليس هذا أوان ذلك! فأخذت هذه الورقة فإذا هي يواريها الكفّ ويشتمل بها الرجل من شجرة التين. فدعا عمر كعب الأحبار وقال : هل وجدت في شيء من الكتب أن رجلا من أمّتنا يدخل الجنّة ثمّ يخرج؟ قال : نعم وإن كان أنبأتك به! فقال : هو في القوم! فتأمّلهم ثمّ أشار إليه ، فجعل شعار بني نمير أخضر من ذلك اليوم.
بها جبل السّمّاق ، وهو جبل عظيم من أعمال حلب ، يشتمل على مدن وقرى أكثرها للاسماعيليّة. وانّه منبت السمّاق وهو مكان طيّب نزه. من عجائبه أنّه ذو بساتين ومزارع كلّها عذي ، فينبت جميع الفواكه والحبوب في الحسن والطراوة كالمسقويّ حتى المشمش والقطن والسمسم.
وحكي أن نور الدين صاحب الشام أنكر ملك الإسماعيليّة في وسط بلاده ، فجاءه قاصدا أخذه ، فلمّا نزل عليه في ليلته الأولى أصبح فرأى عند رأسه رقعة وسكّينا ، وكان في الرقعة : إن لم ترحل الليلة الآتية تكون هذه السكين في بطنك! فارتحل عنه.
وبها طور سينا بين الشام ووادي القريتين بقرب مدين ، وقال بعضهم :بقرب أيلة. كان عليه الخطاب الثاني لموسى ، عليه السلام ، عند خروجه من مصر ببني إسرائيل. وكان موسى إذا جاءه ينزل عليه غمام فيدخل في ذلك الغمام ويكلّمه ربّه ، وهو الجبل الذي ذكره الله تعالى حيث قال : فلمّا تجلّى ربّه للجبل جعله دكّا وخرّ موسى صعقا.
وانّه لا يخلو من الصلحاء ، وحجارته كيف كسرت خرج منها صورة شجر العلّيق.
طور هارون في قبليّ بيت المقدس ، وإنّما سمّي طور هارون لأن موسى ، عليه السلام ، بعد قتل عبدة العجل أراد المضي إلى مناجاة ربّه ، فقال له هارون ،

عليه السلام : احملني معك فإني لست آمن أن يحدث ببني إسرائيل بعدك حدث ، فتغضب عليّ مرّة أخرى! فحمله معه ، فلمّا كانا ببعض الطريق إذا هما برجلين يحفران قبرا ، فوقفا عليهما وقالا : لمن تحفران هذا القبر؟ فقالا : لأشبه الناس بهذا الرجل! وأشارا إلى هارون ثمّ قالا له : بحقّ إلهك الا نزلت وأبصرت هل هو واسع؟ فنزع هارون ثيابه ودفعها إلى موسى ونزل ونام فيه ، فقبض روحه من ساعته وانضمّ القبر! فانصرف موسى باكيا حزينا ، فاتّهمه بنو إسرائيل بقتله ، فدعا الله تعالى موسى حتى أراهم هارون في فضاء على رأس ذلك الجبل ، ثمّ غاب عنهم فسمّي طور هارون.
وبها جبل لبنان وهو مطلّ على حمص ، به أنواع الفواكه والزروع من غير أن يزرعها أحد ، يأوي إليه الابدال لا يخلو عنهم أبدا لما فيه من القوت الحلال ، وفي تفاحه أعجوبة وهي انّه يحمل إلى الشام وليست له رائحة حتى يتوسّط نهر الثلج ، فإذا توسّط النهر فاحت رائحته.
وبها نهر الذهب ، يزعم أهل حلب انّه وادي بطنان ، ومن عجائبه ان أوّله يباع بالميزان وآخره بالكيل. ومعنى هذا الكلام أن أوّله يزرع عليه القطن وسائر الحبوب ، وآخره وهو ما فضل من الزروع ينصبّ إلى بطيحة طولها فرسخان في عرض مثله ، فيجمد هناك ويصير ملحا يمتار منه أكثر نواحي الشام فيباع كيلا.
شرشال
مدينة بالمغرب من أعمال بجاية على ساحل البحر. حدّثني الفقيه أبو الربيع سليمان الملتاني أنّه رأى بها أربع أسطوانات مفرطة الطول : ثلاث منها قوائم ، والرابعة ساقطة ، طول كلّ واحدة نحو خمسين ذراعا ، وعرضها لا يحوطها باع رجلين. وانّها في غاية الملاسة والحسن والهندام كأنّها جعلت في الخرط ، وعلى كلّ أسطوانتين جائزة حجريّة أحد رأسيها على هذه ، والأخرى على

هذه ، وقد هندمت الجائزة أيضا مربعة مفرطة الطول والأسطوانات زرق ، والجوائز بيض وقد سقط بسقوط إحدى القوائم جائزتان وبقي على القوائم الثلاث جائزتان ، فلو اجتمع أهل زماننا على إقامة الأسطوانة الساقطة ووضع الجائزتين الساقطتين عليهما ، لا يمكنهم إلّا ان يشاء الله.
وقد اشتهر بين أهل تلك الديار أنّها أثر قصر بناه بعض الملوك لابن له ، وقد حكم المنجّمون انّه تصيبه لذعة من عقرب يخاف منها عليه التلف ، فبنى هذا القصر من الحجر لئلّا يتولّد العقرب فيه لحجريته ، ولا يصعد إليه لملاسة أسطواناته ، فاتّفق انّه حمل إلى القصر سلّة عنب كان فيها عقرب ، فهمّ ابن الملك أن يتناول العنب من السلّة فلذعته ومات منها.
شطا
من بلاد مصر تنسب إليها الثياب الشّطوية. قال الحسن بن محمّد المهلّبي :هي على صفة البحر بقرب دمياط ، يعمل بها الشرب الرفيع الذي تبلغ قيمة الثوب منه ثلاثمائة درهم ولا ذهب فيه.
شعب بوّان
أرض بفارس بين ارجان والنوبندجان. وهي أحد متنزهات الدنيا المعروفة بالحسن والطيب والنزاهة وكثرة الأشجار وتدفّق المياه وأنواع الأطيار.
قالوا : جنان الدنيا أربع : صغد سمرقند وغوطة دمشق وشعب بوّان ونهر الأبلّة. وقال أحمد بن محمّد الهمذاني : من النوبندجان إلى ارجان ستّة وعشرون فرسخا ، بينهما شعب بوّان.
ومن حسنها أن جميع أشجار الفواكه نابتة على الصخر ، وقد أجاد المتنبي في وصفه حين ذهب إلى عضد الدولة فقال :
مغاني الشّعب طيبا في المغاني
 

بمنزلة الرّبيع من الزّمان!
 



ولكنّ الفتى العربيّ فيها
 

غريب الوجه واليد واللّسان
 
ملاعب جنّة لو سار فيها
 

سليمان لسار بترجمان
 
طبت فرساننا والخيل حتى
 

خشيت وإن كرمن من الحران
 
غدونا تنفض الأغصان فيه
 

على أعرافها مثل الجمان
 
فسرت وقد حجبن الحرّ عني
 

وجئن من الضّياء بما كفاني
 
وألقى الشّرق منها في ثيابي
 

دنانيرا تفرّ من البنان
 
لها ثمر يسير إليك منه
 

بأشربة وقفن بلا أوان
 
وأمواه يصلّ بها حصاها
 

صليل الحلي في أيدي الغواني
 
منازل لم يزل منها خيال
 

يشيّعني إلى النّوبندجان
 
إذا غنّى الحمام الورق فيها
 

أجابته أغانيّ القيان
 
وما بالشّعب أحوج من حمام
 

إذا غنّى وناح إلى البيان
 
وقد يتقارب الوصفان جدّا
 

وموصوفاهما متباعدان
 
يقول بشعب بوّان حصاني
 

أعن هذا يسار إلى الطّعان؟
 
أبوكم آدم سنّ المعاصي
 

وعلّمكم مفارقة الجنان
 
شيراز
مدينة صحيحة الهواء عذبة الماء كثيرة الخيرات ، وافرة الغلّات ، قصبة بلاد فارس. سمّيت بشيراز بن طهمورث ، وأحكم بناءها سلطان الدولة كاليجار بن بويه. زعموا أن من أقام بشيراز سنة يطيب عيشه من غير سبب يعرفه.
من عجائبها شجرة تفّاح ، نصف تفاحها في غاية الحلاوة ونصفها حامض في غاية الحموضة.
وبها القشمش منها يحمل إلى سائر البلاد ، وبها أنواع الادهان الريحانيّة :كدهن الورد والبنفسج والنيلوفر والياسمين ، وأنواع الأشربة الريحانيّة ، كان في قديم الزمان يتّخذ بها الأكاسرة. ولأهلها يد باسطة في صنعة ثياب الحرير

والوقايات الرقاع ، وكذلك في عمل السكاكين والنصول والأقفال الجيّدة تحمل منها إلى سائر البلاد ، وبقربها دشت الأرزن الذي يقول فيه المتنبي :
سقيا لدشت الأرزن الطّوال!
به من الصيد ما لا يعدّ ولا يحصى. كان متصيّد عضد الدولة. ومن خواصّه انّه ينبت عصيّا صلبة الخشب ارزنية لا توجد تلك الخشبة إلّا بها ، وهي مشهورة تسمّى خشبة الأرزن.
ينسب إليها قاضيها أبو العبّاس أحمد بن سريج ، أحد المجتهدين على مذهب الإمام الشافعي ، يقال له البازي الأشهب ، مصنّفاته تزيد على أربعمائة ، ينصر مذهب الشافعي ، وكان يناظر أبا بكر محمّد بن داود فقال له أبو بكر : بلّعني ريقي! فقال له : ابلعتك دجلة! وقال له يوما آخر : امهلني ساعة! فقال :أمهلتك إلى قيام الساعة! وقال له يوما : أكلّمك من الرّجل وتجيبني من الرأس! فقال : هكذا البقر إذا حفيت أظلافها دهن قرنها! وذكر الوليد بن حسّان قال :كنّا في مجلس القاضي أبي العبّاس أحمد بن سريج ، فقام إليه رجل من أهل العلم وقال : ابشر أيّها القاضي! فإن الله تعالى يبعث على رأس كلّ مائة من يجدّد دينه ، وان الله قد بعث على رأس المائة عمر بن عبد العزيز ، وعلى رأس المائتين محمّد بن إدريس الشافعي ، وبعثت على رأس الثلاثمائة ، وأنشأ يقول :
اثنان قد مضيا فبورك فيهما :
 

عمر الخليفة ثمّ نجل السؤدد
 
والشّافعيّ الألمعيّ محمّد
 

إرث النّبوّة وابن عمّ محمّد
 
ابشر أبا العبّاس! إنّك ثالث
 

من بعدهم ، سقيا لتربة أحمد
 
وحكي أن أبا العبّاس أحمد بن سريج رأى في مرض موته كأنّ القيامة قد قامت ، وإذا الجبّار سبحانه يقول : أين العلماء؟ فجاؤوا بهم. فقال : ماذا عملتم بما علمتم؟ فقالوا : يا ربّ قصّرنا وأسأنا! فأعاد السؤال مرّة أخرى كأنّه

أراد جوابا آخر فقلت : يا ربّ أمّا أنا فليس صحيفتي الشرك ، وقد وعدت أن تغفر ما دونها! فقال : اذهبوا فقد غفرت لكم! وفارق الدنيا بعد ذلك بثلاثة أيّام.
وينسب إليها أبو نصر بن أبي عبد الله الخيّاط ، كان فقيها أصوليّا أديبا مناظرا ، أخذ العلم من أبيه وله مصنّفات كثيرة ، وأخذ الفقه منه أهل شيراز ، وهو الذي يقول في كتاب المزني :
هذا الذي كنت أطويه وأنشره
 

حتى بلغت به ما كنت آمله
 
فدم عليه وجانب من يجانبه
 

فالعلم أنفس شيء أنت حامله
 
وحكي أنّه أو أباه استدلّ يوما في مسألة ، فأعجب الحاضرين كلامه فقالوا للقاضي أبي سعيد بشر بن الحسين الداودي قاضي القضاة بفارس والعراق وجميع أعمال عضد الدولة : هذا الكلام لا يجاب عنه حتى يلج الجمل في سمّ الخياط ، فقال القاضي :
وحتّى يؤوب القارظان كلاهما
 

وينشر في القتلى كليب لوائل
 
وينسب إليها أبو عبد الله محمّد بن خفيف ، شيخ وقته وأوحد زمانه ، قال :دخلت بغداد وفي رأسي نخوة الصوفية ، ما أكلت أربعين يوما ولا دخلت على الجنيد! وكنت على عزم الحجّ ، فلمّا وصلت إلى زبالة رأيت ظبية تشرب من بئر ، وكنت عطشان ، فمشيت إليها فولّت الظبية ورأيت الماء في أسفل البئر فقلت : يا ربّ ما لي محلّ هذه الظبية؟ فنوديت من خلفي : جرّبناك ما تصبر ، ارجع خذ الماء! فلمّا رجعت رأيت البئر ملآنة ، فأخذت منه وشربت وتوضّأت فسمعت هاتفا يقول : إن الظبية جاءت بلا دلو ولا حبل وأنت جئت بالدّلو والحبل! فلمّا رجعت إلى بغداد قال لي الجنيد : لو صبرت لنبع الماء من تحت رجليك.

الصّعيد
ناحية بمصر في جنوبي الفسطاط. يكتنفها جبلان والنيل يجري بينهما.
والمدن والقرى شارعة على النيل من جانبيه ، والجنان عليه مشرفة ، والرياض بجوانبه محدقة ، أشبه شيء بما بين واسط والبصرة من أرض العراق.
وبالصعيد آثار قديمة : منها أن في جبالها مغاور مملوءة من الموتى ، الناس والطيور والسنانير والكلاب جميعهم مكفّنون بأكفان غليظة من الكتّان ، شبيهة بالاعدال التي يجلب منها القماش من مصر ، والكفن على هيئة قماط المولود ملفوف على الميت ، وعليه أدوية لا تبلى ، فإذا حللت الكفن عن الحيوان تجده لم يتغيّر منه شيء ؛ قال الهروي : رأيت جويرية أخذوا كفنها وفي يدها ورجلها أثر خضاب الحنّاء.
وبلغني أن أهل الصعيد إذا حفروا الآبار فربّما وجدوا قبورا منقورة في الحجارة كالحوض مغطاة بحجر آخر ، فإذا كشف عنه يضربه الهواء فيتبدّد بعد ان كان قطعة واحدة ، ويزعمون ان المومياء المصري يوجد من رؤوس هؤلاء الموتى وهو أجود من المعدني الفارسي ، وبها حجارة كأنّها الدنانير المضروبة كأنّها رباعياتّ عليها كالسكة ، وهي كبيرة جدّا ، يزعمون أنّها دنانير فرعون وقومه التي مسخها الله تعالى بدعاء موسى ، عليه السلام : ربّنا اطمس على أموالهم.
صفت
قرية من حوف مصر قرب بلبيس ؛ قال الهروي : بها بيعت بقرة بني إسرائيل التي أمر الله تعالى بذبحها لظهور القاتل. وفيها قبّة موجودة إلى الآن تعرف بقبّة البقرة يزورها الناس.

صفّين
قرية قديمة البوار من بناء الروم ، بقرب الرقّة على شاطىء الفرات من الجانب الغربي ، وما يليها غيضة ملتفّة ذات بزور طولها نحو فرسخين ، وليس في ذينك الفرسخين طريق إلى الماء إلّا طريق واحد مفروش بالحجارة ، وسائر ذلك عزب وخلاف ملتفّة.
ولمّا سمع معاوية أن عليّا عبر الفرات بعث إلى ذلك الطريق أبا الأعور في عشرة آلاف ليمنع أصحاب عليّ من الماء ، فبعث عليّ صعصعة بن صوحان فقال : إنّا سرنا إليكم لنعذر إليكم قبل القتال ، فإن أتيتم كانت العاقبة أحبّ إلينا! وأراك قد حلت بيننا وبين الماء ، فإن كان أعجب إليك أن ندع ما جئنا له تقتتلون على الماء حتى يكون الغالب هو الشارب فعلنا. فقال معاوية لصعصعة : ستأتيكم رايتي. فرجع إلى عليّ وأخبره بذلك ، فغمّ عليّ غمّا شديدا لما أصاب الناس في يومهم وليلتهم من العطش.
فلمّا أصبحوا ذهب الأشعث بن قيس والأشتر بن الأشجع ، ونحّيا أبا الأعور عن الشريعة حتى صارت في أيديهم ، فأمر عليّ أن لا يمنع أحد من أهل الشام عن الماء ، فكانوا يسقون منه ويختلط بعضهم ببعض ، وكان ذلك سنة سبع وثلاثين غرّة صفر.
وكان عليّ في مائة وعشرين ألفا ، ومعاوية في تسعين ألفا. وقتل من الجانبين سبعون ألفا : من أصحاب عليّ خمسة وعشرون ألفا ، ومن أصحاب معاوية خمسة وأربعون ألفا. وفي قوم عليّ قتل خمسة وعشرون صحابيّا بدريّا منهم عمّار بن ياسر. وكانت مدّة المقام بصفّين مائة يوم وعشرة أيّام ، وكانت الوقائع تسعين وقعة ، وكانت الصحابة متوقّفين في هذا الأمر لأنّهم كانوا يرون عليّا وعلوّ شأنه ، ويرون قميص عثمان على الرمح ومعاوية يقول : أريد دم ابن عمّي! إلى أن قتل عمّار بن ياسر والصحابة سمعوا أن النبيّ قال له : تقتلك

الفئة الباغية! فعند ذلك ظهر للناس بغي معاوية ، فبذل قوم عليّ جهدهم في القتال حتى ضيّقوا على قوم معاوية ، فعند ذلك رفعوا المصاحف وقالوا : رضينا بكتاب الله! فامتنع قوم عليّ عن القتال. فقال عليّ : كلمة حقّ أريد به باطل! فما وافقوا ، فقال عليّ عند ذلك : لا رأي لغير مطاع! فآل الأمر إلى الحكمين ، والقصّة مشهورة.
صقلّيّة
جزيرة عظيمة من جزائر أهل المغرب مقابلة لا فريقية. وهي مثلثة الشكل بين كلّ زاوية والأخرى مسيرة سبعة أيّام. وهي حصينة كثيرة البلدان والقرى ، كثيرة المواشي جدّا من الخيل والبغال والحمير والبقر والغنم والحيوانات الوحشيّة.
ومن فضلها أن ليس بها عاد بناب أو برثن أو إبرة ، وبها معدن الذهب والفضّة والنحاس والرصاص والحديد ، وكذلك معدن الشبّ والكحل والزاج ومعدن النوشاذر ، ومعدن الزئبق. وبها المياه والأشجار والمزارع وأنواع الفواكه على اختلاف أنواعها ، لا تنقطع شتاء ولا صيفا.
وأرضها تنبت الزعفران. وكانت قليلة العمارة خاملة الذكر إلى أن فتح المسلمون بلاد افريقية ، فهرب أهل افريقية إليها وعمروها حتى فتحت في أيّام بني الأغلب في ولاية المأمون ، فبقيت في يد المسلمين مدّة ، ثمّ ظهر عليها الكفّار وهي الآن في أيديهم.
وبهذه الجزيرة جبال شامخة وعيون غزيرة وأنهار جارية ونزهة عجيبة ، وقال ابن حمديس وهو يشتاق إليها :
ذكرت صقلّيّة والهوى
 

يهيّج للنّفس تذكارها
 
فإن كنت أخرجت من جنّة
 

فإني أحدّث أخبارها
 
ذكر أن دورها مسيرة ستّة عشر يوما ، وقطرها مسيرة خمسة أيّام ،

وهي مملوءة من الخيرات والمياه والأشجار والمزارع والفواكه. بها جبل يقال له قصر يانه وهو من عجائب الدنيا. على هذا الجبل مدينة عظيمة شامخة ، وحولها مزارع وبساتين كثيرة ، وهي شاهقة في الهواء ، وكلّ ذلك يحويه باب المدينة.
لا طريق إليها إلّا بذلك الباب ، والأنهار تنفجر من أعلاها.
وبها جبل النار ، ذكر أبو عليّ الحسن بن يحيى أنّه جبل مطلّ على البحر ، دورته ثلاثة أيّام بقرب طبرمين ، فيه أشجار كثيرة وأكثرها البندق والصنوبر والارزن ، وفيه أصناف الثمار ، وفي أعلاه منافس النار يخرج منه النار والدخان ، وربّما سالت النار منه إلى جهة تحرق كلّ ما مرّت به ، وتجعل الأرض مثل خبث الحديد لا تنبت شيئا ولا تمرّ الدابّة بها ، ويسميّه الناس الاخباث. وفي أعلى هذا الجبل السحاب والثلوج والأمطار دائمة ، لا تكاد تقلع عنه في صيف ولا شتاء ، والثلج لا يفارق أعلاه في الصيف. وأمّا في الشتاء فيعمّ الثلج أوّله وآخره.
وزعمت الروم أن كثيرا من الحكماء يرحلون إلى جزيرة صقلية للنظر إلى عجائب هذا الجبل واجتماع النار والثلج فيه ، فترى بالليل نار عظيمة تشعل على قلّته ، وبالنهار دخان عظيم لا يستطيع أحد الدنو إليها ، فإن اقتبس منها طفئت إذا فارقت موضعها.
وبها البركان العظيم ؛ قال أحمد بن عمر العذري : ليس في الدنيا بركان أشنع منه منظرا ولا أعجب مخبرا! فإذا هبّت الريح سمع له دويّ عظيم كالرعد القاصف ، ويقطع من هذا البركان الكبريت الذي لا يوجد مثله.
وقال أيضا : بها آبار ثلاث يخرج منها من أوّل الربيع إلى آخره زيت النفط ، فينزل في هذه الآبار على درج ويتقنّع النازل ويسدّ منخره ، فإن تنفّس في أسفلها هلك من ساعته ، يغترف ماءها ويجعله في اجّانات ، فما كان نفطا علا فيجمع ويجعل في القوارير.

صور
مدينة مشهورة على طرف بحر الشام ، استدار حائطها على مبناها استدارة عجيبة ، بها قنطرة من عجائب الدنيا وهي من أحد الطرفين إلى الآخر على قوس واحد. ليس في جميع البلاد قنطرة أعظم منها. ومثلها قنطرة طليطلة بالأندلس إلّا أنّها دون قنطرة صور في العظم ، ينسب إليها الدنانير الصورية التي يتعامل عليها أهل الشام والعراق.
طبرستان
ناحية بين العراق وخراسان بقرب بحر الخزر ذات مدن وقرى كثيرة.
من مفاخرها القاضي أبو الطيّب طاهر بن عبد الله الطبري ، أستاذ الشيخ أبي إسحق الشيرازي. والقاضي أبو الطيب عاش مائة سنة ولم يختل منه عقله ولا فهمه ، وكان يفتي إلى آخر عمره ويقضي بين الناس ويناظر الفقهاء. وله مصنّفات كثيرة في الفقه والأصول ، منها تعليقة الطبري مائة مجلّد ثمّ كتاب في مذهب الشافعي ؛ قال الشيخ أبو إسحق الشيرازي صاحب المهذب : لازمت حلقة درسه بضع عشرة سنة ، رتبني في حلقته وسألني أن أجلس في مجلس التدريس ففعلت ذلك. وانّه ولّي القضاء بكرخ ، وكان رأى النبيّ ، عليه السلام ، في المنام فقال له : يا فقيه! ففرح بذلك فرحا شديدا. يقول : سمّاني رسول الله ، صلّى الله عليه وسلّم ، فقيها. مات سنة خمس وأربعمائة ببغداد عن مائة سنة وسنتين ، وصلّى عليه الخليفة أبو الحسن المهتدي.
طبريّة
مدينة بقرب دمشق بينهما ثلاثة أيّام ، مطلّة على بحيرة معروفة ببحيرة طبرية ، وجبل الطور مطلّ عليها. وهي مستطيلة على البحر نحو فرسخ. بناها

ملك من ملوك الروم اسمه طبارى.
بها عيون جارية حارّة بنيت عليها حمّامات لا تحتاج إلى الوقود ، وهي ثمانية حمّامات ؛ قال أبو بكر بن عليّ الهروي : أمّا حمّامات طبرية التي قالوا إنها من عجائب الدنيا فليست التي على باب طبرية إلى جانب بحيرتها ، فإن مثل هذه كثيرة ، والتي هي من عجائب الدنيا في موضع من أعمال طبرية يقال له الحسنية ، وهي عمارة قديمة يقال انّها من بناء سليمان بن داود ، عليه السلام. وهو هيكل يخرج الماء من صدره ، وقد كان يخرج من اثنتي عشرة عينا ، كلّ عين مخصوصة بمرض إذا اغتسل فيها صاحب هذا المرض عوفي بإذن الله تعالى ، والماء شديد الحرارة جدّا ، عذب صاف طيّب الرائحة يقصده المرضى يستشفون به. وبينها وبين بيسان حمّة سليمان ، عليه السلام ، يزعمون أنّها نافعة لكلّ داء.
وبها بحيرة عشرة أميال في ستّة أميال غؤوها علامة خروج الدجّال. وهي كبركة أحاطت بها الجبال ينصبّ إليها فضلات أنهار تأتي من حمّة بانياس.
وبها معدن المرجان. وحولها قرى كثيرة كبيرة ، وتخيّل في وسط هذه البحيرة صخرة منقورة طبقت بصخرة أخرى ، تظهر للناظرين من بعيد ، يزعم أهل النواحي انّها قبر سليمان ، عليه السلام. وبطبرية قبر لقمان الحكيم ، عليه السلام ، من زاره أربعين يوما يظهر منه الحكمة.
وبها عقارب قتّالة كعقارب الاهواز. وقال صاحب تحفة الغرائب : بطبرية نهر عظيم ، والماء الذي يجري فيه نصفه حارّ ونصفه بارد ، ولا يمتزج أحدهما بالآخر. فإذا أخذ من النهر في إناء يبقى خارج النهر باردا.
وبأرض طبرية موضع به سبع عيون ، ينبع الماء منه سبع سنين متواليات وييبس سبع سنين متواليات.
ينسب إليها سليمان بن أحمد بن يوسف الطبراني ، أحد الأئمة المعروفين والحفّاظ المكثرين والمشايخ المعمّرين ، من تصانيفه المعجم الكبير في أسماء الصحابة ، لم يصنّف مثله. ذكر أبو الحسن أحمد بن فارس صاحب المجمل

قال : سمعت الأستاذ ابن العميد وزير آل بويه يقول : كنت أظنّ لا حلاوة في الدنيا فوق الرئاسة حتى شاهدت مذاكرة سليمان الطبراني وأبي بكر الجعابي ، فكان الطبراني يغلب الجعابي بكثرة حفظه ، والجعابي يغلب الطبراني بزيادة فطنته ، حتى ارتفعت أصواتهما ولا يكاد يغلب أحدهما الآخر ، إلى أن قال الجعابي : عندي حديث ليس عند أحد! فقال الطبراني : هاته! فقال : حدّثني أبو خليفة قال : حدّثنا سليمان بن أيّوب. وذكر الحديث فقال الطبراني : أنا سليمان بن أيّوب ومني سمع أبو خليفة فاسمعه مني حتى يعلو اسنادك! فخجل الجعابي ؛ قال ابن العميد : فوددت أن الوزارة للطبراني وانا الطبراني وفرحت له كما فرح هو.
قيل : ان الطبراني ورد أصفهان وأقام بها سبعين سنة ، وتوفي سنة ستّين ومائتين عن مائة سنة.
طرسوس
مدينة بين انطاكية وحلب. مدينة جليلة سمّيت بطرسوس بن الروم بن اليقن بن سام بن نوح ، عليه السلام ؛ قالوا : لمّا وصل الرشيد إليها جدّد عماراتها وشقّ نهرها. ولها سور وخندق.
قال محمّد بن أحمد الهمذاني : لم تزل طرسوس موطن الزّهّاد والصالحين لأنّها كانت بين ثغور المسلمين ، إلى أن قصدها فغفور ملك الروم سنة أربع وخمسين وثلاثمائة في عسكر عظيم ، وكان فيها رجل من قبل سيف الدولة يقال له ابن الزيات عجز عن مقاومة الروم ، سلّم إليهم على الأمان على شرط أن من خرج منها متاعه لم يتعرّض ، ومن أراد المقام مع اداء الجزية فعل. فلمّا دخل الكفّار المدينة خرّبوا مساجدها ، وأخذوا من السلاح والأموال ما كان جمع فيها من أيّام بني أميّة ، وأخذ كلّ واحد من النصارى دار رجل من المسلمين ، ولم يطلق لصاحبها إلّا حمل الخفّ ، واحتوى على جميع ما فيها ، وتقاعد

بالمسلمين أمهات أولادهم. فمنهن من منعت الرجل ولده واتّصلت بأهلها فيأتي الرجل إلى معسكر الروم ويودع ولده باكيا ، ولم تزل طرسوس في أيديهم إلى هذه الغاية.
بها موضع زعموا أنّه من حمى الجنّ ، نزل به المأمون لمّا غزا الروم.
وكان هناك عين ماؤها في غاية الصفاء ، وكان المأمون جالسا على طرفها فرأى في الماء سمكة مقدار ذراع فأمر بإخراجها ، فأخرجوها فإذا هي سمكة في غاية الحسن بيضاء مثل الفضّة ، فوثبت وعادت إلى الماء فوقعت رشاشات الماء على ثياب المأمون ، فغضب وأمر بإخراجها مرّة أخرى فأخرجوها والمأمون ينظر إليها ويقول : الساعة نشويك! ثمّ أمر بشيّها فأتى المأمون على المكان قشعريرة ، فأتى صاحب طبخه بالسمكة مشوية وهو لم يقدر على تناول شيء منها ، واشتدّ الأمر به حتى مات. قال الشاعر :
هل رأيت النّجوم أغنت عن المأ
 

مون في عزّ ملكه المأسوس
 
غادروه بعرصتي طرسوس
 

مثل ما غادروا أباه بطوس
 
العبّاسة
بليدة بأرض مصر في غاية الحسن والطيب ، سمّيت بعبّاسة بنت أحمد بن طولون ، كان خمارويه زوّج ابنته
من المعتضد بالله ، وانّه خرج بها من مصر إلى العراق فعملت عباسة في هذا الموضع قصرا ، وبرزت إليه لوداع بنت أخيها قطر الندى ، ثمّ زيدت في عمارته حتى صارت بليدة طيّبة كثيرة المياه والأشجار من متنزّهات مصر.
وبها مستنقع يأوي إليه من الطير ما لم ير في شيء من المواضع غيرها ، والصيد بها كثير جدّا. وكان الملك الكامل يكثر الخروج إليها للتنزّه والصيد.

العريش
مدينة جليلة من أعمال مصر. هواؤها صحيح طيّب وماؤها عذب حلو.
قيل : ان اخوة يوسف ، عليه السلام ، لمّا قصدوا مصر في القحط لامتيار الطعام ، فلمّا وصلوا إلى موضع العريش ، وكان ليوسف ، عليه السلام ، حرّاس على أطراف البلاد من جميع نواحيها ، فسكنوا هناك وكتب صاحب الحرس إلى يوسف : ان أولاد يعقوب الكنعاني قد وردوا يريدون البلد للقحط الذي أصابهم ، فإلى أن أذن لهم عملوا عريشا يستظلّون به فسمّي الموضع العريش. فكتب يوسف ، عليه السلام ، يأذن لهم ، فدخلوا مصر ، وكان من قصّتهم ما ذكره الله تعالى.
وبها من الطير الجوارح والمأكول والصيد شيء كثير ، والرمان العريشي يحمل إلى سائر البلدان لحسنه ، وبها أصناف كثيرة من التمر.
وغدر دهقانها يضرب به المثل. يقال : أغدر من دهقان العريش! وذاك أن عليّا لمّا سمع أن معاوية بعث سراياه إلى مصر وقتل بها محمّد بن أبي بكر ، ولّى الأشتر النخعي مصر وأنفذه إليها في جيش كثيف ، فبلغ معاوية ذلك فدسّ إلى دهقان كان بالعريش وقال : احتل بالسمّ في الأشتر ، فإني أترك خراجك عشرين سنة! فلمّا نزل الأشتر العريش سأل الدهقان : أيّ طعام أعجب إليه؟ قالوا : العسل! فأهدى إليه عسلا ، وكان الأشتر صائما فتناول منه شربة فما استقرّ في جوفه حتى تلف ، فأتى من كان معه على الدهقان وأصحابه وأفنوهم.
عزاز
بليدة بقرب حلب ، لها قهندز ورستاق ، وهي طيّبة الهواء عذبة الماء صحيحة التربة.
من عجائبها أنّه لا يوجد بها عقرب أصلا ، وترابها إذا ذرّ على العقرب ماتت ، وليس بها شيء من الهوام أصلا.

عسقلان
مدينة على ساحل بحر الشام من أعمال فلسطين ، كان يقال لها عروس الشام لحسنها. قال رسول الله ، صلّى الله عليه وسلّم : أبشركم بالعروسين ، غزّة وعسقلان! افتتحت في أيّام عمر بن الخطّاب على يد معاوية بن أبي سفيان ، ولم تزل في يد المسلمين إلى أن استولى الفرنج عليها سنة ثمان وأربعين وخمسمائة.
حكى بعض التجّار أن الفرنج اتّخذوا مركبا علوه قدر سور عسقلان ، وشحنوه رجالا وسلاحا واجروه حتى لصق بسور عسقلان ، ووثبوا منه على السور وملكوها قهرا ، وبقيت في يدهم خمسا وثلاثين سنة إلى أن استنقذها صلاح الدين يوسف بن أيّوب ، ثمّ عاد الفرنج وفتحوا عكّة وساروا نحو عسقلان ، فخشي أن يتمّ عليها ما تمّ على عكّة فخرّبها في سنة سبع وثمانين وخمسمائة.
بها مشهد رأس الحسين ، عليه السلام ، وهو مشهد عظيم مبني بأعمدة الرخام. وفيه ضريح الرأس والناس يتبرّكون به ، وهو مقصود من جميع النواحي وله نذر كثير.
عسكر مكرم
مدينة مشهورة بأرض الاهواز ، بناها مكرم بن معاوية بن الحرث بن تميم ، وكانت قرية قديمة ، بعث الحجّاج مكرم بن معاوية لقتال خورزاد لما عصى وتحصّن بقلعة هناك ، فنزل مكرم هناك وطال حصاره فلم يزل يزيد بناء حتى صارت مدينة.
بها عقارب جرارات عظيمة يعالج بلذعها المفلوجون ؛ حكى الفقيه عبد الوهّاب بن محمّد العسكري أن مفلوجا من أصفهان حمل إلى عسكر مكرم ليعالج بلذع العقارب ، فطرح على باب خان من الجانب الشرقي ، وقد فزعت

وهجرت لكثرة ما بها من الجرارات ، فرأيت العليل طريحا بها لا يمكنه أن ينقلب من جنب إلى جنب ولا أن يتكلّم ، فبات بها ليلة ، فلمّا كان من الغد وجدوه جالسا يتكلّم فصيحا وقام ومشى. فقال له الطبيب : انتقل الآن من هذا المكان ، فإنّه لذعتك واحدة ابرأتك وقام بحرارتها برد الفالج ، فإن لذعتك أخرى تقتلك! فانتقل من هذا الموضع وصلح حاله.
عكّة
مدينة على ساحل بحر الشام من عمل الأردن ، من أحسن بلاد الساحل في أيّامنا وأعمرها ، وفي الحديث : طوبى لمن رأى عكّة! قال البشّاري : عكّة مدينة حصينة على البحر كبيرة ، لم تكن على هذه الحصانة حتى قدمها ابن طولون وقد رأى مدينة صور واستدارة الحائط على مبناها ، فأحبّ أن يتّخذ لعكّة مثل ذلك ، فجمع صنّاع البلاد فقالوا : لا نهتدي إلى البناء في الماء ، حتى ذكر عنده جدّي أبو بكر البنّاء ، فأحضره وعرض عليه فاستهان ذلك وأمر بإحضار فلق من خشب الجمّيز غليظة ، نصبها على وجه الماء بقدر الحصن البري ، وبنى عليها الحجارة والشيد ، وجعل كلّما بنى عليها خمس دوامس ربطها بأعمدة غلاظ ليشتدّ البناء ، والفلق كلّما ثقلت نزلت حتى إذا علم أنّها استقرّت على الرمل تركها حولا حتى أخذت قرارها ، ثمّ عاد فبنى عليها ، وكلّما بلغ البناء إلى الحائط الذي قبله داخله فيه. وقد ترك لها بابا وجعل عليه قنطرة. فالمراكب في كلّ ليلة تدخل الميناء وتجرّ سلسلة بينها وبين البحر الأعظم مثل مدينة صور ، فدفع ابن طولون إليه ألف دينار سوى الخلع والمراكب واسمه مكتوب على السور. ولم تزل في أيدي المسلمين حتى أخذها الفرنج في سنة سبع وتسعين وأربعمائة ، وكان عليها زهر الدولة الجيوشي من قبل المصريّين ، فقاتل أهل عكّة حتى عجزوا. فأخذها الفرنج قهرا وقتلوا وسلبوا ولم تزل في أيديهم إلى زمن صلاح الدين ، فافتتحها سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة ، وشحنها بالسلاح

والرجال والميرة ، فعاد الفرنج ونزلوا عليها فأتاهم صلاح الدين وأزاحهم عنها ، وقاتل الفرنج أشدّ القتال ، وقتل خلق كثير حول عكّة وثارت روائح الجيف وتأذى المسلمون منها وظهرت فيهم الأمراض ، ومرض صلاح الدين أيضا فأمر الأطبّاء بمفارقة ذلك الموضع ففارقه ، فجاء الفرنج وتمكّنوا من حوالي عكّة وخندقوا دونهم ، فكان الفرنج محيطين بالمدينة والخندق محيطا بالفرنج ، فعادوهم صلاح الدين وأقام حذاءهم ثلاث سنين حتى استعادها الفرنج سنة سبع وثمانين وخمسمائة ، وقتلوا فيها المسلمين وهي في أيديهم إلى الآن.
بها عين البقر وهي بقرب عكّة يزورها المسلمون واليهود والنصارى ، يقولون : إن البقر الذي ظهر لآدم ، عليه السلام ، فحرث عليه خرج منها ، وعلى العين مشهد منسوب إلى عليّ بن أبي طالب.
عين جارة
ضيعة من أعمال حلب ، قال أبو عليّ التنوخي : إن بين عين جارة وبين الكوبة وهي قرية أخرى حجرا قائما ، فربّما وقع بين الضيعتين شرّ فيكيد أهل الكوبة بأن يلقوا ذلك الحجر القائم ، فكلّما وقع الحجر خرج نساء عين جارة ظاهرات متبرّجات لا يعقلن بأنفسهن في طلب الرجال ، ولا يستحين من غلبة الشهوة إلى أن يتبادر رجال عين جارة إلى الحجر يعيدونه إلى حاله ، فعند ذلك يتراجع النساء إلى بيوتهن ، وقد عاد إليهن العقل والتمييز باستقباح ما كنّ عليه.
وهذه الضيع أقطعها سيف الدولة أحمد بن نصر البارّ ، وكان أحمد يتحدّث بذلك ، وكتب أيضا بخطّه.
عين الشّمس
مدينة كانت بمصر محل سرير فرعون موسى بالجانب الغربي من النيل ، والآن انطمست عمارات فرعون بالرمل وهي بقرب الفسطاط. قالوا : بها قدّت

زليخا على يوسف القميص.
من عجائبها ما ذكر الحسن بن إبراهيم المصري أن بها عمودين مبنيّين على وجه الأرض من غير أساس ، طول كلّ واحد منهما خمسون ذراعا ، فيهما صورة إنسان على دابّة وعلى رأسها شبه الصومعتين من نحاس ، فإذا جرى النيل رشحتا والماء يقطر منهما ولا تجاوزهما الشمس في الانتهاء ، فإذا نزلت أوّل دقيقة من الجدي وهو أقصر يوم في السنة انتهت إلى العمود الجنوبي ، وقطعت على قبّة رأسه ، فإذا نزلت أوّل دقيقة من السرطان وهو أطول يوم في السنة انتهت إلى العمود الشمالي وقطعت على قبّة رأسه ، ثمّ تطرد بينهما ذاهبة وجائية سائر السنة ويترشح منهما ماء وينزل إلى أسفلهما فينبت العوسج وغيره من الشجر.
ومن عجائب عين شمس أن يحمل منذ أوّل الإسلام حجارتها إلى غيرها من البلاد وما تفنى.
وبها زرع البلسان وليس في جميع الدنيا شجرته ويستخرج منها دهنه.
قال أبو حامد الاندلسي : بعين شمس تماثيل عملتها الجنّ لسليمان ، عليه السلام.
بها منارة من صخرة واحدة من رخام أحمر منقط بسواد ، ومربعه أكثر من مائة ذراع ، على رأسها غشاء من النحاس ، والوجه الذي إلى مطلع الشمس من ذلك الغشاء فيه صورة آدمي على سرير ، وعلى يمينه وشماله صورتان كأنّهما خادمان ، ويترشّح من تحت ذلك الغشاء أبدا ماء على تلك المنارة. ينبت الطحلب الأخضر على موضع مسيله من تلك المنارة وينزل مقدار عشرة أذرع ، ولا يتعدّى ذلك القدر ولا ينقطع نهارا ولا ليلا. قال : وكنت أرى لمعان الماء على تلك الصخرة وأتعجّب من ذلك ، فإنّه ليس بقرب تلك المدينة نهر ولا عين ، وإنّما كان شربهم من الآبار ، والله أعلم بالأمور الخفيّة.

الغريّان
بناءان كالصومعتين كانا بأرض مصر ، بناهما بعض الفراعنة وأمر كلّ من يمرّ بهما أن يصلّي لهما ، ومن لم يصلّ قتل. إلّا أنّه تقضى له حاجتان إلّا النجاة والملك ، ويعطى ما تمنّى في الحال ثمّ يقتل! فأتى على ذلك برهة ، فأقبل قصّار من افريقية معه حمار له وكدين ، فمرّ بهما ولم يصلّ فأخذه الحرس وجرّوه إلى الملك فقال له الملك : ما منعك أن تصلّي؟ فقال : أيّها الملك اني رجل غريب من افريقية ، أحببت أن أكون في ظلّك وأصيب في كنفك خيرا ، ولو عرفت لصلّيت لهما ألف ركعة! فقال له : تمنّ كلّ ما شئت غير النجاة من القتل والملك! فأقبل القصّار وأدبر وتضرّع وخضع فما أفاده شيئا ، فلمّا أيس من الخلاص قال : أريد عشرة آلاف دينار وبريدا أمينا! فأحضر ، فقال للبريد : أريد أن تحمل هذا إلى افريقية وتسأل عن بيت فلان القصّار وتسلّمه إلى أهله! قال له : تمنّ الثانية! قال : اضرب كلّ واحد منكم بهذا الكدين ثلاث ضربات ، إحداها شديدة والثانية وسطا والثالثة دون ذلك! فمكث الملك طويلا ثمّ قال لجلسائه : ما ترون؟ قالوا : نرى أن لا تقطع سنّة آبائك! قالوا : بمن تبدأ؟ قال : بالملك! فنزل الملك عن السرير ورفع القصّار الكدين وضرب به قفاه ، فأكبّه على وجهه وغشي على الملك ثمّ رجع نفسه إليه وقال :ليت شعري أي الضربات هذه؟ والله إن كانت هيّنة وجاءت الوسطى لأموتنّ دون الشديدة! ثمّ نظر إلى الحرس وقال : يا أولاد الزنا كيف تزعمون انّه لم يصلّ واني رأيته صلّى؟ خلّوا سبيله واهدموا الغريّين.
وبنى مثلهما المنذر بن امرىء القيس بن ماء السماء بالكوفة ، وسيأتي ذكره في موضعه إن شاء الله تعالى.

غزّة
مدينة طيّبة بين الشام ومصر على طرف رمال مصر ، قال ، صلّى الله عليه وسلّم : أبشركم بالعروسين غزّة وعسقلان. فتحها معاوية بن أبي سفيان في أيّام عمر بن الخطّاب. وكفاها معجزا انّها مولد الإمام محمّد بن إدريس الشافعي.
ولد بها سنة خمسين ومائة. انّه كان يجعل الليل اثلاثا : ثلثا لتحصيل العلم ، وثلثا للعبادة ، وثلثا للنوم. وقال الربيع : كان يختم في رمضان ستّين ختمة كلّ ذلك في الصلاة.
وحكي أن عامل اليمن كتب إلى الرشيد : إن ههنا شابّا قرشيّا يميل إلى العلوية ويتعصّب ، فكتب الرشيد إليه : ابعثه إليّ تحت الاستظهار. فحمل إلى الرشيد.
حدّث الفضل بن الربيع وقال : أمرني الرشيد بإحضار الشافعي ، وكان غضبان عليه ، فأحضرته فدخل عليه وهو يقرأ شيئا. فلمّا رآه أكرمه وأمر له بعشرة آلاف درهم ، فدخل خائفا وخرج آمنا. فقلت : يا أبا عبد الله أخبرني بم كنت تقرأ عند دخولك؟ فقال : إنّها كلمات حدّثني بها أنس بن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر عن رسول الله ، صلّى الله عليه وسلّم ، انّه قرأها يوم الأحزاب ؛ فقلت : اذكرها لي. فقال : «اللهمّ اني أعوذ بنور قدسك وعظمة طهارتك وبركة جلالك من كلّ آفة وعاهة وطارق الجنّ والانس إلّا طارقا يطرق بخير! اللهمّ أنت عياذي فبك أعوذ ، وأنت ملاذي فبك ألوذ! يا من ذلّت له رقاب الجبابرة وخضعت له مقاليد الفراعنة ، أعوذ بجلال وجهك وكرم جلالك من خزيك وكشف سترك ، ونسيان ذكرك والاضراب عن شكرك! إلهي أنا في كنفك في ليلي ونهاري ونومي وقراري وظعني وأسفاري ، ذكرك شعاري وثناؤك دثاري! لا إله إلّا أنت تنزيها لأسمائك وتكريما لسبحات وجهك الكريم! أجرنا يا ربّنا من خزيك ومن شرّ عقابك ، واضرب علينا سرادقات فضلك وقناسيات عذابك ، واعنّا بخير منك ، وأدخلنا في حفظ عنايتك

يا أرحم الراحمين!»
وقد جربت هذه الكلمات لا يقولها خائف إلّا آمنه الله تعالى ، وكان الرشيد يقرّبه ويكرمه لما عرف فضله وغزارة علمه.
وكان القاضي أبو يوسف ومحمّد بن حسن رتبا عشرين مسألة وبعثاها على يد حدث من أصحابهما فقال الشافعي له : من حملك على هذا؟ فقال : من أراد حكمها. فقال : متعنّت أو متعلّم؟ فسكت الغلام ، فقال الشافعي : هذا من تعنّت أبي يوسف ومحمّد! ثمّ نظر فيها وحفظها وردّ الدرج إلى الحدث ، فأخبر الخليفة بذلك فأحضر أبا يوسف ومحمّدا وسألهما عن حال الدرج فاعترفا به ، فأحضر الشافعي وقال : بيّن أحكامها ولك الفضل. فقال : يا أمير المؤمنين قل لهما يسألاني عن واحدة واحدة ويسمعان جوابها بتوفيق الله. فعجزا عن استحضارها ، فقال الشافعي : أنا أكفيهما. سألاني عن رجل ابق له عبد فقال : هو حرّ ان طعمت طعاما حتى أجده ، كيف الخلاص من ذلك؟ الجواب :يهبه لبعض أولاده ويطعم حتى لا يعتق.
وسألاني عن رجلين كانا فوق سطح فوقع أحدهما من السطح ومات فحرمت على الآخر امرأته. الجواب : ان امرأة الحيّ كانت أمة للميت ، وكان الزوج بعض ورثته ، فصارت الأمة ملكا للزوج بحقّ الارث فحرمت عليه.
وسألاني عن رجلين خطبا امرأة في حالة واحدة وانّها لم تحلّ لأحدهما وحلّت للآخر. الجواب : لأحد الرجلين أربع وهي خامسة فلا تحلّ له ، والآخر ما كان كذلك فحلّت له.
وسألاني عن رجل ذبح شاة في منزله وخرج لحاجة ورجع ، قال لأهله :كلوا فإنّها حرمت عليّ ، فقال له أهله : ونحن أيضا قد حرمت علينا. الجواب :كان الرجل مجوسيّا أو وثنيّا ، فذبح شاة وخرج لحاجة وأسلم وأهله أيضا أسلموا ، فقال لأهله : كلوا فإني أسلمت لا تحلّ لي ذبيحة المجوس! فقال له أهله : نحن أيضا قد أسلمنا وحرمت علينا أيضا.

وسألاني عن امرأة تزوّجت في شهر واحد ثلاثة أزواج ، كلّ ذلك حلال غير حرام. الجواب : إن هذه المرأة طلقها زوجها وهي حامل فوضعت. انقضت عدّتها بالوضع فتزوّجت ، ثمّ ان هذا الزوج خالعها قبل الدخول فلا عدة عليها ، فتزوّج بها آخر وهكذا ان أردت رابعا وخامسا وسادسا.
وسألاني عن رجل حرمت عليه امرأته سنة من غير حنث أو طلاق أو عدة.
الجواب : هذا الرجل وامرأته كانا محرمين فلم يدركا الحجّ ، فلم تزل امرأته تحرّم عليه إلى العام القابل ، فإذا فرغت من الحجّ في العام المقبل حلّت لزوجها.
وسألا عن امرأتين لقيتا غلامين فقالتا : مرحبا بابنينا وابني زوجينا وهما زوجانا! الجواب : إن للمرأتين ابنين ، وكلّ واحدة منهما مزوجة بابن صاحبتها ، فكان الغلامان ابنيهما وابني زوجيهما وهما زوجاهما.
وسألا عن رجلين شربا الخمر فوجب الحدّ على أحدهما دون الآخر.
الجواب : كان أحدهما غير موصوف بأوصاف وجوب الحدّ كالعقل والبلوغ.
وسألا عن مسلمين سجدا لغير الله وهما مطيعان في هذه السجدة. الجواب :هذه سجدة الملائكة لآدم ، عليه السلام.
وسألا عن رجل شرب من كوز بعض الماء وحرّم الباقي عليه. الجواب :انّه رعف فوقع في باقيه شيء من الدم فحرم عليه.
وسألا عن امرأة ادّعت البكارة وزوجها يدّعي أنّه أصابها فكيف السبيل إلى تحقيق هذا الأمر؟ الجواب : تؤمر القابلة بأن تحملها بيضة فإن غابت البيضة كذبت المرأة وإن لم تغب صدقت.
وسألا عن رجل سلّم إلى زوجته كيسا وقال لها : أنت طالق إن فتحته أو فتقته أو خرقته أو حرقته! وأنت طالق إن لم تفرغيه! الجواب : يكون في الكيس سكر أو ملح أو ما شابههما فيوضع في الماء الحارّ ليذوب ويفرغ الكيس.
وسألا عن امرأة قبّلت غلاما وقالت : فديت من أمّه ولدت أمّه وأنا امرأة أبيه. الجواب : انّها أمّه.

وسألا عن خمسة نفر زنوا بامرأة : فعلى أحدهم القتل ، وعلى الثاني الرجم ، وعلى الثالث الحدّ ، وعلى الرابع نصف الحدّ ، وعلى الخامس لا يجب شيء.
الجواب : الأوّل مشرك زنا بامرأة مسلمة يجب قتله ، والثاني محصن فعليه الرجم ، والثالث بكر فعليه الحدّ ، والرابع مملوك عليه نصف الحدّ ، والخامس مجنون لا شيء عليه.
وسألا عن امرأة قهرت مملوكا على وطئها وهو كاره لوطئها ، فما يجب عليهما؟ الجواب : إن كان المملوك يخشى أن تقتله أو تضربه أو تحبسه فلا شيء عليه ، وإلّا فعليه نصف الحدّ. وأمّا مولاته إن كانت محصنة فعليها الرجم وإلّا فالحدّ ، ويباع المملوك عليها.
وسألا عن رجل يصلّي بقوم فسلّم عن يمينه طلقت امرأته ، وعن يساره بطلت صلاته ، ونظر إلى السماء فوجب عليه ألف درهم. الجواب : لمّا سلّم عن يمينه رأى رجلا كان زوج امرأته وكان غائبا ، فثبت عند القاضي موته فتزوّج بامرأته هذا المصلّي ، فرآه وقد قدم من سفره فحرمت عليه زوجته.
ثمّ سلّم عن شماله فرأى على ثوبه دما فلزم عليه إعادة الصلاة ، ونظر إلى السماء فرأى الهلال فحلّ عليه الدين المؤجل إلى رأس الشهر.
وسألا عن رجل ضرب رأس رجل بعصا وادّعى المضروب ذهاب إحدى عينيه وتجفيف الخياشيم والخرس من تلك الضربة ، فيومىء بذلك كلّه إيماء أو يكتب كتابة. الجواب : يقام في مقابل الشمس ، فإن لم يطرق رأسه فهو صادق ، ويشمّ الحراق ، فإن لم ينفعل فهو صادق ، ويغرز لسانه ، فإن خرج منه دم فهو صادق.
وسألا عن إمام يصلّي بقوم وكان وراءه أربعة نفر ، فدخل المسجد رجل فصلّى عن يمين الإمام ، فلمّا سلّم الإمام عن يمينه رآه الرجل الداخل ، فله قتل الإمام وأخذ امرأته وجلد الجماعة وهدم المسجد. الجواب : ان الداخل أمير تلك البقعة ، وسافر وخلّف أخا مقامه في البلد فقتله المصلّي ، وشهد الجماعة

أن زوجة الأمير في نكاح القاتل ، وأخذ دار الأمير غصبا جعلها مسجدا ، فلمّا سلّم رآه الأمير فعرفه فله قتله وأخذ منكوحته منه ، وجلد الذين شهدوا زورا ، وردّ المسجد دارا كما كانت.
فقال الرشيد : لله درّك يا ابن ادريس ما أفطنك! وأمر له بألف دينار وخلعة ، فخرج الشافعي من مجلس الخليفة يفرّق الدنانير في الطريق قبضة قبضة ، فلمّا انتهى إلى منزله لم يبق معه إلّا قبضة واحدة أعطاها لغلامه.
وحكى أبو عبد الله نصر المروزي قال : كنت قاعدا في مسجد رسول الله ، عليه السلام ، إذ أغفيت إغفاءة فرأيت رسول الله ، صلّى الله عليه وسلّم ، في المنام فقلت له : اكتب يا رسول الله رأي أبي حنيفة؟ قال : لا! قلت :اكتب رأي مالك؟ قال : اكتب ما وافق حديثي! قلت : اكتب رأي الشافعي؟طأطأ رأسه شبه الغضبان وقال : هو ردّ على من خالف سنّتي! فخرجت في إثر هذه الرؤيا إلى مصر وكتبت كتب الشافعي. وقال الربيع بن سليمان : قال لي الشافعي : رضى الناس غاية لا تدرك ، فعليك بما يصلحك فإنّه لا سبيل إلى رضاهم. واعلم أن من تعلّم القرآن جلّ عند الناس ، ومن تعلّم الحديث قويت حجّته ، ومن تعلّم النحو هيب ، ومن تعلّم العربيّة رقّ طبعه ، ومن تعلّم الحساب جزل رأيه ، ومن تعلّم الفقه نبل قدره ، ومن لم يصن لم ينفعه علمه ، وملاك ذلك كلّه التقوى.
قال محمّد بن المنصور : قرأت في كتاب طاهر بن محمّد النيسابوري بخطّ الشافعي :
إنّ امرأ وجد اليسار فلم يصب
 

حمدا ولا شكرا لغير موفّق
 
الجدّ يدني كلّ شيء شاسع
 

والجدّ يفتح كلّ باب مغلق
 
وإذا سمعت بأنّ مجدودا حوى
 

عودا فأثمر في يديه فصدّق
 
وإذا سمعت بأنّ محروما أتى
 

ماء ليشربه فغاض فحقّق
 



ومن الدّليل على القضاء وكونه
 

بؤس اللّبيب وطيب عيش الأحمق
 
قال المزني : دخلت على الشافعي في مرض موته فقلت له : كيف أصبحت؟قال : أصبحت في الدنيا راحلا ولإخواني مفارقا ولكأس المنيّة شاربا ، ولسوء أعمالي ملاقيا وعلى الله واردا ، فلا أدري أصير إلى الجنّة فأهنّيها أم إلى النار فأعزّيها؟ ثمّ بكى وأنشأ يقول :
ولمّا قسا قلبي وضاقت مسامعي ،
 

جعلت الرّجا مني لعفوك سلّما
 
تعاظمني ذنبي ، فلمّا قرنته
 

بعفوك ربّي ، كان عفوك أعظما
 
وما زلت ذا عفو عن الذّنب لم تزل
 

بجودك تعفو منّة وتكرّما
 
ذهب إلى جوار الحقّ سنة أربع ومائتين عن أربع وخمسين سنة.
الغوطة
الكورة التي قصبتها دمشق. وهي كثيرة المياه نضرة الأشجار متجاوبة الأطيار مونقة الأزهار ، ملتفّة الأغصان خضرة الجنان ، استدارتها ثمانية عشر ميلا ، كلّها بساتين وقصور. تحيط بها جبال عالية من جميع جهاتها. ومياهها خارجة من تلك الجبال ، وتمتدّ في الغوطة عدّة أنهر ، وينصبّ فاضلها في أجمة هناك. والغوطة كلّها أنهار وأشجار متّصلة قلّما يوجد بها مزارع.
وهي أنزه بلاد الله وأحسنها ؛ قال أبو بكر الخوارزمي : جنان الدنيا أربع :غوطة دمشق ، وصغد سمرقند ، وشعب بوّان ، وجزيرة الأبلّة ، وقد رأيتها كلّها فأحسنها غوطة دمشق!
فارس
الناحية المشهورة التي يحيط من شرقها كرمان ، ومن غربها خوزستان ، ومن شمالها مفازة خراسان ، ومن جنوبها البحر ، سمّيت بفارس بن الأشور

ابن سام بن نوح ، عليه السلام ، بها مواضع لا تنبت الفواكه لشدّة بردها كرستاق اصطخر ، وبها مواضع لا يسكنها الطير لشدّة حرّها كرستاق الاغرسان.
وأمّا أهلها فذكروا أنّهم من نسل فارس بن طهمورث ، سكان الموضع الذي يسمّى ايرانشهر ، وهو وسط الاقليم الثالث والرابع والخامس ، ما بين نهر بلخ إلى منتهى اذربيجان وارمينية إلى القادسية وإلى بحر فارس. وهذه الحدود هي صفوة الأراضي وأشرفها لتوسّطها في قلب الأقاليم ، وبعدها عمّا يتأذّى به أهل المشرق والمغرب والجنوب والشمال ، وأهلها أصحاب العقول الصحيحة والآراء الراجحة والأبدان السليمة والشمائل الظريفة والبراعة في كلّ صناعة ، فلذلك تراهم أحسن الناس وجوها وأصحّهم أبدانا وأحسنهم ملبوسا وأعذبهم أخلاقا وأعرفهم بتدبير الأمور!
جاء في التواريخ : ان الفرس ملكوا أمر العالم أربعة آلاف سنة : كان أوّلهم كيومرث وآخرهم يزدجرد بن شهريار الذي قتل في وقعة عمر بن الخطّاب بمرو ، فعمروا البلاد وأنعشوا العباد.
وجاء في الخبر : ان الله تعالى أوحى إلى داود أن يأمر قومه أن لا يسبّوا العجم ، فإنّهم عمروا الدنيا وأوطنوها عبادي.
وحسن سيرة ملوك الفرس مدون في كتب العرب والعجم ، ولا يخفى أن المدن العظام القديمة من بنائهم وأكثرها مسمّاة بأسمائهم. وأخبار عدلهم وإحسانهم في الدنيا سائرة ، وآثار عماراتهم إلى الآن ظاهرة.
زعم الفرس أن فيهم عشرة أنفس لم يوجد في شيء من الأصناف مثلهم ولا في الفرس أيضا : أوّلهم افريدون بن كيقباذ بن جمشيد ، ملك الأرض كلّها وملأها من العدل والإحسان بعدما كانت مملوءة من العسف والجور من ظلم الضحاك بيوراسب ، وما أخذه الضحاك من أموال الناس ردّها إلى أصحابها ، وما لم يجد له صاحبا وقفه على المساكين ، وذكر بعض النسّاب أن افريدون هو ذو القرنين الذي ذكره الله تعالى في كتابه العزيز ، لأنّه ملك المشرق والمغرب

وأمر بعبادة الله تعالى وكان ذا عدل وإحسان.
وثانيهم اسكندر بن دارا بن بهمن ، كان ملكا عظيما حكيما حصل العلوم وعرف علم الخواص ، وتلمذ لارسطاطاليس واستوزره وكان يعمل برأيه ، وانقاد له ملوك الروم والصين والترك والهند ، ومات وعمره اثنتان وثلاثون سنة وسبعة أشهر.
وثالثهم أنوشروان بن قباذ كسرى الخير ، كثرت جنوده وعظمت مملكته وهادنته ملوك الروم والصين والهند والخزر ، وروي عن النبي ، عليه السلام ، أنّه قال : ولدت في زمن الملك العادل! ومن عدله ما ذكر أنّه علق سلسلة فيها جرس على بابه ليحرّكها المظلوم ، ليعلم الملك حضوره من غير واسطة فأتى عليها سبع سنين ما حرّكت.
ورابعهم بهرام بن يزدجرد ويقال له بهرام جور. كان من أحذق الناس بالرمي ، لم يعرف رام مثله. ذكر أنّه خرج متصيّدا وكان معه جارية من أحظى جواريه ، فظهر لهم سرب من الظباء فقال لها : كيف تريدين أن أرمي ظبية منها؟ قالت : أريد أن تلصق ظلفها بأذنها! فأخذ الجلاهق ورمى بندقة أصابت أذنها. فرفعت ظلفها تحكّ بها أذنها ، فرمى نشّابة وخاط ظلفها بأذنها.
وخامسهم رستم بن زال الشديد ، ذكروا أنّه لم يعرف فارس مثله. كان من أمره أنّه إذا لاقى في ألف فارس ألفين غلبهم ، وإذا لاقى في خمسة آلاف فارس عشرة آلاف غلبهم ، وإذا دعا إلى البراز وخرج إليه القرن يرفعه برمحه من ظهر الفرس ويرميه إلى الأرض.
وسادسهم جاماسب المنجم. كان وزيرا لكشتاسف بن لهراسب ، لم يعرف منجم مثله حكم على القرانات وأخبر بالحوادث التي تحدث ، وأخبر بخروج موسى وعيسى ونبيّنا ، عليه السلام ، وزوال المللّة المجوسيّة ، وخروج الترك ونهبهم وقتلهم ، وخروج شخص يقهرهم وكثير من الحوادث بعدهم ، كلّ ذلك في كتاب يسمّى أحكام جاماسب بالعجميّة. وله بعد موته خاصّية عجيبة ،

وهي ان قبره على تلّ بأرض فارس ، وقدام التلّ نهر فمن زار قبره من الولاة راكبا يعزل ، وأكثر الناس عرفوا تلك الخاصية فإذا وصلوا إلى ذلك النهر نزلوا.
وسابعهم بزرجمهر بن بختكان ، كان وزير الأكاسرة ، وكان ذا علم وعقل ورأي وفطنة ، كان بالغا في الحكم الخطابيّة ، ولمّا وضع الهند الشطرنج بعثوا به هدية إلى كسرى ولم يذكروا كيفية اللعب به ، فاستخرجه بزرجمهر ووضع في مقابلته النرد وبعث به إلى الهند.
وثامنهم بلهبد المغنّي. فاق جميع الناس في الغناء ، وكان مغنّيا لكسرى ابرويز ، فإذا أراد أحد أن يعرض أمرا على كسرى وخاف غضبه ألقى ذلك الأمر إلى بلهبد ، وبذل له حتى جعل لذلك المغني شعرا وصوتا ، ويغني به بين يديه فعرف كسرى ذلك الأمر.
وتاسعهم صانع شبديز وسيأتي ذكره ودقّة صنعته في قرميسين في الإقليم الرابع.
وعاشرهم فرهاذ الذي تحت ساقية قصر شيرين ، وهي باقية إلى الآن.
وأراد أن ينقب جبل بيستون ، وسيأتي ذكره مبسوطا هناك إن شاء الله تعالى.
وبأرض فارس جمع يقال لهم آل عمارة لهم مملكة عريضة على سيف البحر. وهم من نسل جلندى بن كركر ، وهو الذي ذكره الله تعالى في كتابه المجيد : وكان وراءهم ملك يأخذ كلّ سفينة غصبا. زعموا أن ملكهم كان قبل موسى ، عليه السلام ، وإلى زماننا هذا لهم بأس ومنعة وارصاد البحر وعشور السفن.
فرغانة
ناحية مشتملة على بلاد كثيرة بعد ما وراء النهر ، متاخمة لبلاد الترك.
أهلها من أتمّ الناس أمانة وديانة على مذهب أبي حنيفة ، وأحسن الناس صورة!

كانت ذات خيرات وغلات وثمرات ، وخربت في محاربة خوارزمشاه محمّد ، والخطأ لأنّها كانت على ممرّ العساكر فخربت تلك البلاد الحسنة وفارقها أهلها قبل خروج التتر إلى ما وراء النهر وخراسان. وسمعت أن من عاداتهم قطع الآذان حزنا على موت الأكابر.
ينسب إليها الشيخ عمر الملقب برشيد الدين الفرغاني ، رأيته كان شيخا فاضلا كاملا مجمع الفضائل الأدب والفقه والأصول والحكمة ، والكلام البليغ واللفظ الفصيح والخطّ الحسن والخلق الطيب والتواضع. كان مدرّسا بسنجار ، تأذّى من الملك الأشرف فارق سنجار فلم يلتفت إلى مفارقته ، فطلبه المستنصر لتدريس المستنصريّة. فلما ولّاه التدريس بعث صاحب الروم بطلبه ، وجاء رسول من عنده إلى بغداد طالبا له فقال المستنصر : اخبروا الملك انّه مدرّسنا ، فإن طلبه بعد ذلك بعثناه إليه! قبض في سنة إحدى وثلاثين وستمائة.
الفسطاط
هي المدينة المشهورة بمصر ، بناها عمرو بن العاص ؛ قيل : انّه لمّا فتح مصر عزم الإسكندريّة في سنة عشرين ، وأمر بفسطاطه أن يقوّض فإذا يمامة قد باضت في أعلاه فقال : تحرّمت بجوارنا ، اقرّوا الفسطاط حتى ينقف وتطير فراخها ، ووكل به من يحفظه ومضى نحو الإسكندريّة وفتحها ، فلمّا فرغ من القتال قال لأصحابه : أين تريدون تنزلون؟ قالوا : يا أيّها الأمير نرجع إلى فسطاطك لنكون على ماء وصحراء! فرجعوا إليها وخطّ كلّ قوم بها خطّا بنوا فيها وسمّي بالفسطاط.
وبنى عمرو بن العاص الجامع في سنة إحدى وعشرين ، يقال : قام على اقامة قبلته ثمانون صحابيّا ، منهم : الزبير بن العوام ، والمقداد بن الأسود ، وعبادة ابن الصامت ، وأبو الدرداء ، وأبو ذرّ الغفاري. وهذا الجامع باق في زماننا.
كتب القرآن جميعه على ألواح من الرخام الأبيض بخطّ كوفي بيّن في حيطانه

من أعلاها إلى أسفلها ، وجعل أعشار القرآن وآياته وأعداد السور بالذهب واللازورد ، فيقرأ الإنسان جميع القرآن منها وهو قاعد ، ثمّ استولى الفرنج عليها وخرّبوها. فلمّا كانت سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة قدم صلاح الدين وأمر ببناء سور على الفسطاط والقاهرة ، فذرع دورتها فكانت فرسخين ونصفا ، وكان بها طلسم للتماسيح ؛ قال أبو الريحان الخوارزمي : كان بجبال الفسطاط طلسم للتماسيح ، وكانت لا تستطيع الإضرار حولها ، وكان إذا بلغ حولها استلقى وانقلب على ظهره ، وكان يلعب به الصبيان فكسر ذلك الطلسم وبطل حكمه.
وبالفسطاط محلّة تسمّى الجزيرة ، لأن النيل إذا زاد أحاط الماء بها وحال بينها وبين معظم الفسطاط فاستقلّت هي بنفسها. وبها أسواق وجامع وبساتين وهي من متنزّهات مصر ؛ قال الساعاتي الدمشقي :
ما أنس لا أنس الجزيرة ملعبا
 

للأنس تألفها الحسان الخرّد
 
يجري النّسيم بغصنها وغديرها
 

فيهزّ رمح أو يسلّ مهنّد
 
ويريك دمع الطّلّ كلّ سفيقة
 

كالخدّ دبّ به عذار أسود
 
فيروز اباد
قرية من قرى شيراز ، بناها فيروز ملك الفرس فيما أظنّه. ينسب إليها الشيخ الإمام أبو إسحق إبراهيم الفيروزابادي. كان عالما ورعا زاهدا ، له تصانيف في الفقه. ولمّا صنّف كتاب التنبيه صلّى بكلّ مسألة فيها ركعتين ودعا لمن يشتغل به. وهو كتاب مبارك سهل الضبط والحفظ. ومن ورعه انّه سلّم إلى شخص رغيفين وأمره أن يشتري بكلّ واحدة حاجة ، فاشتبه على الوكيل فاشترى كيف اتّفق ، فعلم الشيخ بذلك ودفعهما وقال : خالفت الوكالة لا يحلّ المشتري.
وذكر أنّه كان يمشي مع أصحابه فكان على طريقهم كلب فصاح على الكلب

بعض أصحابه فقال الشيخ : أليست الطريق مشتركة بيننا؟ وحكي انّه لمّا بنى نظام الملك المدرسة النظامية ببغداد طلب الشيخ للتدريس ، فسمع الشيخ من صبي قال : ان أرضها مغصوب! فامتنع عن التدريس حتى بيّنوا له أن الأمر ليس كذلك فقبلها. وحكي انّه كتب جواب مسألة فعرض على ابن الصبّاغ صاحب الشامل فقال للمستفتي : ارجع إلى الشيخ وقل له انظر فيها مرّة أخرى. فلمّا رآه الشيخ كتب : الحقّ ما قاله الشيخ وأبو إسحق مخطىء. فارق الدنيا ولم يترك دينارا ولا درهما سنة ستّ وسبعين وأربعمائة عن ستّ وثمانين سنة.
الفيّوم
ناحية في غربي مصر في منخفض من الأرض والنيل مشرف عليها. ذكر ان يوسف الصدّيق ، عليه السلام ، لمّا ولي مصر ورأى ما لقي أهلها من القحط ، وكان الفيّوم يومئذ بطيحة تجتمع فيها فضول ماء الصعيد ، أوحى الله تعالى إليه أن احفر ثلاثة خلج : خليجا من أعلى الصعيد ، وخليجا شرقيّا ، وخليجا غربيّا ، كلّ واحد من موضع كذا إلى موضع كذا. فأمر يوسف العمّال بها فخرج ماؤها من الخليج الشرقي وانصبّ في النيل ، وخرج من الخليج الغربي وانصبّ في الصحراء ولم يبق في الجوبة ماء ، ثمّ أمر الفعلة بقطع ما كان بها من القصب والطرفاء فصارت الجوبة أرضا نفية ، ثمّ ارتفع ماء النيل فدخل خليجها فسقاها من خليج أعلى الصعيد ، فصارت لجة من النيل ، كلّ ذلك في سبعين يوما. فخرج وأصحابه فرأوا ذلك وقالوا : هذا عمل ألف يوم ، فسمّي الموضع الفيوم. ثمّ صارت تزرع كما تزرع أرض مصر.
بنى بالفيوم ثلاثمائة وستّين قرية ، وقدّر أن كلّ قرية تكفي أهل مصر يوما واحدا ، على أن النيل إن لم يزد اكتفى أهلها بما يحصل من زراعتها وجرى الأمر على هذا. وزرعوا بها النخيل والأشجار فصار أكثرها حدائق ، فتعجب الناس ممّا فعل يوسف الصدّيق ، عليه السلام ، فقال للملك : عندي من الحكمة

غير ما رأيت ، انزل الفيوم من كلّ كورة من كور مصر أهل بيت ، وأمر كلّ أهل بيت أن يبنوا لأنفسهم قرية ، وكانت قرى الفيوم على عدد كور مصر ، فإذا فرغوا من البناء صيّر لكلّ قرية من الماء قدر ما يصير لها من الأرض ، لا زائدا ولا ناقصا. صيّر لكلّ قرية شربا في زمان لا ينالهم الماء إلّا فيه ، وصيّر مطأطئا للمرتفع ومرتفعا للمطأطىء بأوقات من الساعات في الليل والنهار ، وصيّر لها قدرا معلوما فلا يأخذ أحد دون حقّه ولا زائدا عليه ، فقال له فرعون : هذا من ملكوت السماء؟ فقال : نعم. فلمّا فرغ منها تعلّم الناس وزن الأرض والماء واتّخاذ موازينها. وحدث يومئذ هندسة استخراج المياه ، والله الموفق.
القادسيّة
بليدة بقرب الكوفة على سابلة الحجّاج. سمّيت بقادس هراة وهو دهقانها ، بعثه كسرى أبرويز إلى ذلك الموضع لدفع العرب ؛ قال هشام عن أبيه : ان ثمانية آلاف من ترك الخزر ضيّقوا على كسرى بلاده من كثرة النهب والفساد.
فبعث دهقان هراة إلى كسرى : إن كفيتك أمر هؤلاء تعطيني ما احتكم؟ قال :نعم. فبعث الدهقان إلى أهل القرى يقول : إني سأنزل عليكم الترك فافعلوا بهم ما آمركم! وبعث إلى الترك وقال : تشتون في أرضي العام. فنزلوا عنده. بعث إلى كلّ قرية طائفة وقال : ليذبح كلّ رجل منكم نزيله في الليلة الفلانية ويأتني بسبلته! فذبحوهم عن آخرهم وذهبوا إليه بسبلاتهم ، فنظمها في خيوط وبعث بها إلى كسرى ، فبعث إليه كسرى شكر سعيه وقال : اقدم إليّ واحتكم! فقدم إليه وقال : أريد أن تجعل لي سريرا مثل سريرك وتاجا مثل تاجك ، وتنادمني من غدوة إلى الليل. فاستدلّ كسرى باحتكامه على ركاكة عقله ، ففعل ذلك ثمّ قال : لا ترى هراة أبدا ، فيجلس ويتحدث بما جرى وأنزله هذا الموضع ، فبنى هذه البلدة وسكنها.

القاهرة
هي المدينة المشهورة بجنب الفسطاط بمصر يجمعها سور واحد. وهي اليوم المدينة العظمى ، وبها دار الملك. أحدثها جوهر غلام المعز سعد بن إسماعيل الملقب بالمنصور. وهي أجلّ مدينة بمصر لاجتماع أسباب الخيرات ، منها تجلب الطرائف المنسوبة إلى مصر.
بها قصران عظيمان يقصر الوصف دونهما عن يمين السوق وشماله ، وليس في شيء من البلاد مثلهما.
كان يسكنها ملوكها العلوية الذين انقرضوا ، وبها موضع يسمّى القرافة.
وبها أبنية جليلة ومواضع واسعة وسوق قائم ومشاهد للصالحين. وهي من متنزّهات أهل القاهرة والفسطاط سيما في المواسم. وبها مدرسة الشافعي وفيها قبره. وبالقرافة باب للمحلّة التي بها مدرسة الشافعي ، في عتبته حجر كبير إذا احتبس بول الدابة تمشي على ذلك الحجر مرارا فينفتح بولها. وبظاهر القرافة مشهد صخرة موسى ، عليه السلام ، وفيه اختفى من فرعون لمّا خافه ، وعلى باب درب الشعارين مسجد ذكر ان يوسف الصديق ، عليه السلام ، بيع هناك.
قبرس
جزيرة بقرب طرسوس ، دورها مسيرة ستة عشر يوما ؛ قال أحمد بن محمّد بن عمر العذري : يجلب منها اللادن الجيد ولا يجمع في غيرها ، والذي يجمع من الشجر يحمل إلى ملك القسطنطينيّة لأنّه يعادل العود الطيّب وسائر ما يجمع على وجه الأرض هو الذي يستعمله الناس. والزاج القبرسي مشهور كثير المنافع جدّا ، عزيز الوجود أفضل الزاجات كلّها.

قرية صاهك
من كورة ارجان. بها بئر ذكر ان أهلها امتحنوا قعرها بالمثقلات والأرسان ، فلم يقفوا منها على عمق ، يغور الدهر كلّه ، منها ماء بقدر ما يدير الرحى يسقي تلك القرية.
قرية عبد الرحمن
بأرض فارس. عمقها قامات كثيرة جافة القعر عامة السنة ، حتى إذا كان الوقت المعلوم عندهم في السنة نبع ماء يرتفع على وجه الأرض ، قدر يدير الرحى ويجري وينتفع به في سقي الزروع ثمّ يغور.
قفط
مدينة بأرض مصر بالصعيد الأعلى ، كثيرة البساتين والمزارع ، وبها النخل والاترج والليمون ، قال صاحب عجائب الأخبار : بها بيت عجيب تحت سقفه ثلاثمائة وستون عمودا ، كلّ عمود قطعة واحدة من حجارة ، على رأس العمود صورة رجل عليه قلنسوة ، والسقف حجارة كلّه ، قد وضعت أطراف الحجر على زواياه وعلى أرباع رؤوس الأساطين ، ثمّ ألحمت الحاما لا يرى فيها فصل ، يحسبها الناظر قطعة واحدة. يقولون : إن تلك الصور صور أهل تلك الدولة ، وعلى كلّ عمود كتابة لا يدرى ما هي ولا يحسن أحد في زماننا قراءتها.
قلعة النّجم
قلعة حصينة مطلّة على الفرات ، وعندها جسر الفرات يعبر عليه قوافل الشام والعراق والروم ، وتحتها ربض به طائفة يتعاطون أنواع القمار ، فإذا رأوا غريبا أظهروا أنّهم مرمدون ويلعبون لعبا دونا ليظنّ الغريب أنّهم في طبقة

نازلة يطمع فيهم ، ويخرجون المال إذا قمروا من غير اكتراث فتتوق نفس الغريب أن يلعب معهم ، فكلّما جلس لا يتركونه يقوم ومعه شيء حتى سراويله ، وربّما استرهنوا نفسه ومنعوه من الذهاب ، حتى يأتي أصحابه ويؤدوا عنه ويخلّصوه.
القيروان
مدينة عظيمة بافريقية ، مصّرت في أيّام معاوية ، وذلك انّه لمّا ولّي عقبة بن نافع القرشي افريقية ذهب إليها وفتحها وأسلم على يده كثير من البربر ، فجمع عقبة أصحابه وقال : ان أهل افريقية قوم إذا غصبهم السيف أسلموا ، وإذا رجع المسلمون عنهم عادوا إلى دينهم ، ولست أرى نزول المسلمين بين أظهرهم رأيا ، لكن رأيت أن أبني ههنا مدينة يسكنها المسلمون.
فجاؤوا إلى موضع القيروان ، وهي أجمة عظيمة وغيضة لا تشقّها الحيّات من تشابك شجرها ، فقالوا : هذه غيضة كثيرة السباع والهوام ، وكان عقبة مستجاب الدعوة فجمع من كان في عسكره من الصحابة ، وكانوا ثمانية عشر نفسا ، ونادى : أيّتها السباع والحشرات ، نحن أصحاب رسول الله ، صلّى الله عليه وسلّم ، ارحلوا عنّا فإنّا نازلون فمن وجدناه بعد قتلناه! فرأى الناس ذلك اليوم عجبا لم يروه قبل ذلك ، وكان السبع يحمل أشباله ، والذئب اجراءه ، والحيّة أولادها وهي خارجة سربا سربا ، فحمل ذلك كثيرا من البربر على الإسلام. ثمّ بنى المدينة فاستقامت في سنة خمس وخمسين. ذكر الجيهاني ان بالقيروان أسطوانتين لا يدرى جوهرهما ما هو ، وهما تترشّحان ماء كلّ يوم جمعة قبل طلوع الشمس ، وموضع العجب كونه يوم الجمعة. وقد قيل :ان ملوك الروم طلبوهما بثمن بالغ ، فقال أهل القيروان : لا نخرج أعجوبة من العجائب من بيت الله إلى بيت الشيطان!

قيس
جزيرة في بحر فارس دورها أربعة فراسخ ، ومدينتها حسنة مليحة المنظر ، ذات سور وأبواب وبساتين وعمارات ، وهي مرفأ مراكب الهند والفرس ومنقلب التجارة ومتجر العرب والعجم. شربها من الآبار ولخواصّ الناس صهاريج.
وحولها جزائر كلّها لصاحب قيس ، لكنّها في الصيف أشبه شيء ببيت حمّام حارّ شديدة السخونة ، وفي هذا الوقت يطول جلد خصي الناس حتى يصير ذراعا ، فيرى كلّ أحد يتّخذ كيسا فيه عفص مسحوق وقشر رمان ويترك خصيتيّه فيه حتى لا تطول صفته.
يجلب منها كلّ أعجوبة وقعت في بلاد الهند. وكان ملكها في قوم ورثوها إلى أن ملك منهم ظالم يظلمهم ، فخامروه وبعثوا إلى صاحب هرمز فطلبوه ، فجاء الهرري ملكها وكان يظلم أفحش من ظلم القيسي ، فخامروه وبعثوا إلى صاحب شيراز فطلبوه ، فجهّز عسكرا بعثهم في مراكب وخرج عسكر الهرمزي لقتالهم في مراكب ، فنزلوا في سيرهم على نشز للاستراحة ، فوصلت مراكب الفرس وهم على النشز فأضرموا النار في مراكب الهرامزة وساروا نحو قيس وملكوها بأسهل طريق ، وكانت الهرامزة أقوى من الفرس وأعرف بقتال البحر إلّا أن جدّهم قعد بهم.
كابل
مدينة مشهورة بأرض الهند. بها ما يوجد من الجروم إلّا النخل ويقع بنواحيها الثلج ولا يقع بها. وأهلها مسلمون وكفّار. وزعمت الهند ان الشاهية لا تنعقد إلّا بكابل ، وإن كان بغيرها فلا يصير واجب الطاعة حتى يصير إليها ويعقد له الملك هنا. يجلب منها النوق البخاتي وهي أحسن أنواع الإبل.

كاريان
بليدة بأرض فارس بها بيت نار معظم عند المجوس تحمل ناره إلى بيوت النار في الآفاق. قال الاصطخري : من القلاع التي لم تفتح قطّ عنوة قلعة كاريان ، وهي على جبل من طين ، حوصرت مرارا ولم يظفر بها قطّ.
كازرون
مدينة بفارس عامرة حصينة كثيرة الغلّات وافرة الثمرات ، كلّها قصور وبساتين ونخيل ممتدّة عن يمين وشمال ؛ قال الاصطخري : ليس بأرض فارس أصحّ هواء وتربة من كازرون.
يقال لها دمياط العجم لأنّه تنسج بها ثياب الكتّان على عمل القصب والشّطوى وإن لم يكن رقاعا. ومعظم دورها والجامع على تلّ ، والأسواق وقصور التجّار تحت التلّ.
بنى عضد الدولة بها دارا جمع فيها السماسرة كان دخلها كلّ يوم عشرة آلاف درهم. بها تمر يقال له الجيلان ، لا يوجد في غير كازرون ، يحمل إلى العراق للهدايا مع كثرة تمر العراق.
كدال
ولاية في جبال افريقية. ذكر بعض أهلها أن الحنطة بها تريع ريعا مفرطا ، حتى ان أحدهم ربّما يزرع مكوكا يحصل منه خمسمائة مكوك وأكثر.
كرد فنّاخسرو (1)
مدينة بناها عضد الدولة بقرب شيراز ، وساق إليها نهرا كبيرا من مسيرة يوم أنفق عليه مالا عظيما ، وجعل إلى جنبها بستانا سعته نحو فرسخ. ولمّا
__________________
(1) وردت في معجم البلدان هكذا : كرد فناخسره ، بالهاء.ss

فرغ من شقّ النهر ووصول الماء إليها ، كان لثمان بقين من ربيع الأوّل سنة أربع وخمسين وثلاثمائة ، جعل هذا اليوم عيدا في كلّ سنة ، يجتمع فيه الناس من النواحي للهو ويقيمون سبعة أيّام. ونقل إليها الصّنّاع الخزّ والديباج والصوف وأمرهم بكتابة اسمه على طرزها ، واتخذ قوّاده بها دورا وقصورا فكثرت عماراتها.
وبقاضيها يضرب المثل في الخيانة ، وذلك ما حكي أن بعض الناس أودعه مالا كثيرا ، فلمّا استردّه جحد ، فاجتمع المودع بعضد الدولة وقال : أيّها الملك اني ابن فلان التاجر ، ورثت من أبي خمسين ألف دينار أودعت عشرين ألف دينار في قمقمتين عند هذا القاضي للاستظهار ، وكنت أتصرّف بالباقي ، فوقعت في بعض أسفاري في أسر كفّار الروم ، وبقيت في الأسر أربع سنين حتى مرض ملك الروم وخلّى الأسارى ، فتخلّصت وأنا رخيّ البال استظهارا بالوديعة ، فلمّا طلبتها جحد وأظهر أنّه لم يعرفني ، وكرّرت الطلب فقال لي : انّك رجل استولت السوداء على دماغك وأطعموك شيئا ، وإني ما رأيتك إلّا الآن! دع عنك هذا الجنون وإلّا حملتك إلى المارستان وأدخلتك في السلسلة! فبكى عضد الدولة وقال : أنا ظلمتك لمّا ولّيت مثل هذا! أعطاه مائتي دينار وبعثه إلى أصبهان ، وكتب إلى عامل أصبهان إن يحسن إليه وقال له : لا ترجع تذكر هذا الأمر لأحد وأقم في أصبهان حتى يأتيك أمري. وصبر عضد الدولة على ذلك شهرا ثمّ طلب القاضي يوما عند الظهيرة بالخلوة وأكرمه وقال له : أيّها القاضي ان لي سرّا ما وجدت في جميع مملكتي له محلّا غيرك ، لما فيك من كمال العلم ووفور العقل والدين ، وهو ان لي أولادا ذكورا واناثا. أمّا الذكور فلست أهتمّ بأمرهم ، وأمّا الاناث فعندهن التقاعد عن الأمور وأنا أخشى عليهن ، فأردت أن تتّخذ في دارك موضعا صالحا لوديعة لا يعلم بها أحد غير الله ، تدفعها إلى بناتي بعد موتي. ودفع إلى القاضي مائتي دينار وقال : اصرفها إلى عمارة ازج قعير يتسع لمائتين وأربعين قمقمة ، وإذا تمّ أخبرني حتى أبعث القماقم على يد

بعض من يستحقّ القتل ثمّ اقتله.
فقال القاضي : سمعا وطاعة! وقام من عنده فرحا يقول في نفسه : ذهبت بألفي ألف دينار أتمتّع بها أنا وأولادي وأحفادي ، وإذا مات عضد الدولة من يطالب بالمال ولا حجّة ولا شاهد؟ واشتغل بعمل الازج وبعث عضد الدولة إلى أصبهان لإحضار الفتى المظلوم.
فلمّا أخبر القاضي عضد الدولة بإتمام الازج قال عضد الدولة للفتى المظلوم : اذهب إلى القاضي وطالبه بالوديعة وهدّده برفع الأمر إلى عضد الدولة! فذهب إليه وقال : أيّها القاضي ساء حالي وطال ظلمك عليّ. لآخذنّ غدا بلجام عضد الدولة! فقام القاضي ودخل الحجرة وطلب الفتى وعانقه وقال : يا ابن الأخ ان أباك كان صديقي واني ما حبست حقّك إلّا لمصلحتك ، لأني سمعت أنّك أتلفت مالا كثيرا فأخّرت وديعتك إلى أن أعرف رشدك ، والآن عرفت رشدك ، خذ حقّك بارك الله لك فيها!
وأخرج القمقمتين وسلّمهما إليه ، فأخذهما الفتى ومضى إلى عضد الدولة بهما. فأحضر القاضي وقال : أيّها الشيخ القاضي اني أجريت عليك رزقك لتقطع طمعك عن أموال الناس ، ولولا أنّك شيخ لجعلتك عبرة للناس ، وصحّ عندي أن جميع ما تتقلّب فيه حرام من أموال الناس!
فختم على جميع ما كان له وعزله ، وردّ مال الفتى إليه وقال : الحمد لله الذي وفّقني لإزالة ظلم هذا الظالم!
كركويه
مدينة بسجستان قديمة. بها قبّتان عظيمتان زعموا أنّهما من عهد رستم الشديد ، وعلى رأس القبّتين قرنان قد جعل ميل كلّ واحد منهما إلى الآخر ، تشبيها بقرني الثور ، بقاؤهما من عهد رستم إلى زماننا هذا من أعجب الأشياء ؛ وتحت القبّتين بيت نار للمجوس تشبيها بأن الملك يبني قرب داره معبدا يتعبّد

فيه ، ونار هذا البيت لا تطفأ أبدا. ولها خدم يتناوبون في إشعال النار ، يقعد الموسوم مع الخدمة على بعد النار عشرين ذراعا ويغطي فمه وأنفاسه ، ويأخذ بكلبتين من فضّة عودا من الطرفاء نحو الشبر يقلبه في النار. وكلّما همّت النار بالخبوّ يلقي خشبة خشبة ، وهذا البيت من أعظم بيوت النار عند المجوس.
كرمان
ناحية مشهورة ، شرقها مكران وغربها فارس وشمالها خراسان وجنوبها بحر فارس. تنسب إلى كرمان بن فارس بن طهمورث. وهي بلاد واسعة الخيرات وافرة الغلّات من النخل والزرع والمواشي.
وبها ثمرات الصرود والجروم والجوز والنخل. وبها معدن التوتيا ، يحمل منها إلى جميع الدنيا ، بها خشب لا تحرقه النار ولو ترك فيها أيّاما ، ينبت في بعض جبالها ، يأخذه الطرقيّون ويقولون : انّه من الخشب الذي صلب عليه المسيح.
وشجر القطن بكرمان يبقى سنين حتى يصير مثل الأشجار الباسقة ، وكذلك شجر الباذنجان والشاهسفرم. وبها شجر يسمّى كادي ، من شمّه رعف ، ورقه كورق الصبر إن ألقي في النار لا يحترق.
ومن عجائب الدنيا أرض بين كرمان وجاريح إذا احتكّ بعض أحجارها بالبعض يأتي مطر عظيم ، وهذا شيء مشهور عندهم ، حتى ان من اجتاز بها يتنكّب عنها كيلا تحتكّ تلك الحجارة بعضها ببعض فيأتي مطر يهلك الناس والدواب! وبها معدن الزاج الذهبي يحمل من كرمان إلى سائر الآفاق.
وحكى ابن الفقيه أن بعض الملوك غضب على جمع من الفلاسفة ، فنفاهم إلى أرض كرمان لأنّها كانت أرضا يابسة بيضاء ، لا يخرج ماؤها إلّا من خمسين ذراعا. فهندسوا حتى أخرجوا الماء على وجه الأرض وزرعوا عليه وغرسوا فصارت كرمان أحسن بلاد الله ، ذات شجر وزرع. فلمّا عرف

الملك ذلك قال : اسكنوهم جبالها ، فعملوا الفوّارات وأظهروا الماء على رؤوس جبالها ، فقال الملك : اسجنوهم ، فعملوا في السجن الكيميا وقالوا : هذا علم لا نخرجه إلى أحد! وعملوا مقدار ما يكفيهم مدّة عمرهم ، وأحرقوا كتبهم وانقطع علم الكيميا.
وبأرض كرمان في رساتيقها جبال بها أحجار تشتعل بالنار مثل الحطب.
وينسب إلى كرمان الشيخ أبو حامد أحمد الكرماني الملقب بأوحد الدين.
كان شيخا مباركا صاحب كرامات ، وله تلامذة ، وكان صاحب خلوة يخبر عن المغيبات ، وله أشعار بالعجميّة في الطريقة ، كان صاحب اربل معتقدا به ، بقي عنده مدّة ثمّ تأذّى منه وفارقه وهو يقول :
با دل كفتم خدمت شاهي كم كير
 

جون سر نهاده كلاهي كم كير
 
دل كفت مرا ازين سخن كمتر كو
 

كردي ودهي وخانقاهي كم كير
 
مات سنة خمس وثلاثين وستمائة ببغداد.
كفرطاب
بلدة بين حلب والمعرة في بريّة معطشة أعزّ الأشياء عند أهلها الماء ، ذكر أنّهم حفروا ثلاثمائة ذراع لم ينبط لهم ماء ، وليس لها إلّا ما يجمعونه من مياه الأمطار ، وقال سنان الخفاجي :
بالله يا حادي المطايا
 

بين حناك وأرضايا
 
عرّج على أرض كفرطاب
 

وحيّها أحسن التّحايا
 
واهد لها الماء فهي ممّن
 

يفرح بالماء في الهدايا
 
ومن العجب إقامة جمع من العقلاء بأرض هذا شأنها.

كفرمندة
قرية بالأردنّ بين مكّة والطبرية. قيل : انّها مدين المذكور في القرآن ، وكان منزل شعيب ، عليه السلام. وبها قبر بنت شعيب صافورا زوجة موسى ، عليه السلام.
وبها الجبّ الذي قلع موسى الصخرة عن رأسه وسقى مواشي شعيب ، والصخرة باقية إلى الآن.
كفرنجد
قرية كبيرة من أعمال حلب في جبل السّمّاق ، بها عين ماء حارّ. لها خاصيّة عجيبة ، وهي ان من تشبّث بحلقه العلق من الحيوانات شرب من مائها ودار حولها فألقاها ، بإذن الله ، حدّث بهذا بعض سكّانها.
كلّز
قرية من نواحي عزاز بين حلب وانطاكية ، جرى في أواخر ربيع الأوّل سنة تسع عشرة وستمائة بها أمر عجيب ، وشاع ذلك بحلب ، وكتب عامل كلّز إلى حلب كتابا بصحّة ذلك ، وهو أنّهم رأوا هناك تنّينا عظيما غلظه شبه منارة ، أسود اللون ينساب على الأرض ، والنار تخرج من فيه ودبره ، فما مرّ على شيء إلّا أحرقه ، حتى أحرقت مزارع وأشجار كثيرة.
وصادف في طريقه بيوت التركمان وخرقاهاتهم فأحرقها بما فيها من الناس والمواشي ، ومرّ نحو عشرة فراسخ كذلك والناس يشاهدونه من البعد ، حتى أغاث الله أهل تلك النواحي بسحابة أقبلت من البحر وتدلّت حتى اشتملت عليه ورفعته نحو السماء ، والناس يشاهدونه حتى غاب عن أعين الناس ، ولقد لفّ ذنبه على كلب والكلب ينبح في الهواء.

كوزا
قلعة بطبرستان من عجائب الدنيا ؛ قال الأبيّ : هي تناطح النجوم ارتفاعا وتحكيها امتناعا حتى لا تعلوها الطير في تحليقها ، ولا السّحب في ارتفاعها ، فتحتفّ بها الغمام وتقف دون قلتّها ، ولا تسمو عليها ، فيمطر سفحها دون أعلاها ، والفكر قاصر عن ترتيب مقدمات استخلاصها.
الكوفة
هي المدينة المشهورة التي مصرّها الإسلاميّون بعد البصرة بسنتين ، قال ابن الكلبي : اجتمع أهل الكوفة والبصرة وكلّ قوم يرجّح بلده فقال الحجّاج : يا أمير المؤمنين ، إن لي بالبلدين خبرا ؛ قال : هات غير متهم! قال : أمّا الكوفة فبكر عاطل لا حلي لها ولا زينة ، وأمّا البصرة فعجوز شمطاء بخراء دفراء أوتيت من كلّ حلي وزينة! فاستحسن الحاضرون وصفه إيّاهما.
قال ابن عبّاس الهمداني : الكوفة مثل اللهاة من البدن يأتيها الماء بعذوبة وبرودة ، والبصرة مثل المثانة يأتيها الماء بعد تغيّره وفساده.
ولمسجدها فضائل كثيرة ، منها ما روى حبة العرني قال : كنت جالسا عند عليّ فجاءه رجل وقال : هذا زادي وهذه راحلتي أريد زيارة بيت المقدس! فقال له : كل زادك وبع راحلتك وعليك بهذا المسجد ، يريد مسجد الكوفة ، ففي زاويته فار التنور ، وعند الأسطوانة الخامسة صلّى إبراهيم ، وفيه عصا موسى وشجرة اليقطين ومصلّى نوح ، عليه السلام. ووسطه على روضة من رياض الجنّة ، وفيه ثلاث أعين من الجنّة ، لو علم الناس ما فيه من الفضل لأتوه حبوا.
بها مسجد السهلة ؛ قال أبو حمزة الثّمالي : قال لي جعفر بن محمّد الصادق :يا أبا حمزة ، أتعرف مسجد السهلة؟ قلت : عندنا مسجد يسمّى مسجد السهلة.
قال : لم أرد سواه! لو ان زيدا أتاه وصلّى فيه واستجار فيه بربّه من القتل

لأجاره! ان فيه موضع البيت الذي كان يخيط فيه ادريس ، عليه السلام ، ومنه رفع إلى السماء ، ومنه خرج إبراهيم إلى العمالقة ، وهو موضع مناخ الخضر ، وما أتاه مغموم إلّا فرّج الله عنه.
كان بها قصر اسمه طمار يسكنه الولاة. أمر عبيد الله بن زياد بإلقاء مسلم ابن عقيل بن أبي طالب من أعلاه قبل مقتل الحسين ، وكان بالكوفة رجل اسمه هانىء يميل إلى الحسين ، فجاء مسلم إليه فأرادوا إخراجه من داره فقاتل حتى قتل ؛ قال عبد الله بن الزبير الأسدي :
إذا كنت لا تدرين ما الموت فانظري
 

إلى هانىء في السّوق وابن عقيل
 
إلى بطل قد عفّر السّيف وجهه
 

وآخر يلقى من طمار قتيل
 
وكان في هذا القصر قبّة ينزلها الأمراء ، فدخل عبد الملك بن عمير على عبد الملك بن مروان وهو في هذه القبّة على سرير ، وعن يمينه ترس عليه رأس مصعب بن الزبير ، فقال : يا أمير المؤمنين ، رأيت في هذه القبّة عجبا! فقال :ما ذاك؟ قال : رأيت عبيد الله بن زياد على هذا السرير ، وعن يمينه ترس عليه رأس الحسين ، ثمّ دخلت على المختار بن عبيد وهو على هذا السرير ، وعن يمينه ترس عليه رأس عبيد الله بن زياد ، ثمّ دخلت على مصعب بن الزبير وهو على هذا السرير ، وعن يمينه ترس عليه رأس المختار ، ثمّ دخلت عليك يا أمير المؤمنين وأنت على هذا السرير ، وعن يمينك ترس عليه رأس مصعب! فوثب عبد الملك عن السرير وأمر بهدم القبّة.
زعموا أن من أصدق ما يقوله الناس في أهل كلّ بلدة قولهم : الكوفي لا يوفي! وممّا نقم على أهل الكوفة أنّهم طعنوا الحسن بن عليّ ونهبوا عسكره ، وخذلوا الحسين بعد أن استدعوه ، وشكوا من سعد بن أبي وقّاص إلى عمر بن الخطّاب ، رضي الله عنه ، وقالوا : انّه ما يحسن الصلاة! فدعا عليهم سعد أن لا يرضيهم الله عن وال ولا يرضي واليا عنهم ، ودعا علي عليهم وقال :

اللهمّ أمّرهم بالغلام الثقفي! يعني الحجّاج.
وادّعى النبوّة منهم كثيرون. ولمّا قتل مصعب بن الزبير ، أرادت زوجته سكينة بنت الحسين الرجوع إلى المدينة ، فاجتمع عليها أهل الكوفة وقالوا :حسن الله صحابتك يا ابنة رسول الله! فقالت : لا جزاكم الله عني خيرا ولا أحسن إليكم الخلافة! قتلتم أبي وجدّي وعمّي وأخي! أيتمتوني صغيرة وأرملتموني كبيرة!
تظلّم أهل الكوفة إلى المأمون من واليهم فقال : ما علمت من عمّالي أعدل وأقوم بأمر الرعيّة منه! فقال أحدهم : يا أمير المؤمنين ليس أحد أولى بالعدل والانصاف منك! فإن كان هو بهذه الصفة فعلى الأمير أن يوليّه بلدا بلدا ليلحق كلّ بلدة من عدله ما لحقناه ، فإذا فعل الأمير ذلك لا يصيبنا أكثر من ثلاث سنين! فضحك المأمون وأمر بصرفه.
ينسب إليها الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت ، كان عابدا زاهدا خائفا من الله تعالى. ودعي أبو حنيفة إلى القضاء فقال : إني لا أصلح لذلك! فقيل : لم؟فقال : إن كنت صادقا فلا أصلح لها ، وإن كنت كاذبا فالكاذب لا يصلح للقضاء. وأراد عمر بن هبيرة أبا حنيفة للقضاء فأبى ، فحلف ليضربنّه بالسياط على رأسه وليحبسنّه ، ففعل ذلك حتى انتفخ وجه أبي حنيفة ورأسه من الضرب ، فقال : الضرب بالسياط في الدنيا أهون من مقامع الحديد في الآخرة!
قال عبد الله بن المبارك :
لقد زان البلاد ومن عليها
 

إمام المسلمين أبو حنيفه
 
بآثار رفقه في حديث
 

كآيات الزّبور على الصّحيفه
 
فما إن بالعراق له نظير
 

ولا بالمشرقين ولا بكوفه
 
وحكي أن الربيع صاحب المنصور كان لا يرى أبا حنيفة ، فقال له يوما :

يا أمير المؤمنين ، هذا أبو حنيفة يخالف جدّك عبد الله بن عبّاس ، فإن جدّك يقول إذا حلف الرجل واستثنى بعد يوم أو يومين جاز ، وأبو حنيفة يقول :لا يجوز! فقال أبو حنيفة : هذا الربيع يقول ليس لك في رقاب جندك بيعة! قال : كيف؟ قال : يحلفون عندك ويرجعون إلى منازلهم يستثنون فتبطل اليمين! فضحك المنصور وقال : يا ربيع لا تتعرّض لأبي حنيفة. فلمّا خرج من عند المنصور قال له الربيع : أردت أن تشطّ بدمي! قال : لا ، ولكنك أردت أن تشطّ بدمي فخلّصتك وخلّصت نفسي! وحكى قاضي نهروان أن رجلا استودع رجلا بالكوفة وديعة ومضى إلى الحجّ. فلمّا عاد طلبها ، فأنكر المودع وكان يجالس أبا حنيفة ، فجاء المظلوم وشكا إلى أبي حنيفة فقال له :اذهب لا تعلم أحدا بجحوده! ثمّ طلب الظالم وقال : إن هؤلاء بعثوا إليّ يطلبون رجلا للقضاء فهل تنشط لها؟ فتمانع الرجل قليلا ثمّ رغب فيها. فعند ذلك بعث أبو حنيفة إلى المظلوم وقال : مرّ إليه وقل له : أظنّك نسيت ، أليس كان في يوم كذا وفي موضع كذا؟ فذهب المظلوم إليه وقال ذلك ، فردّها إليه. فجاء الظالم إلى أبي حنيفة يريد القضاء فقال : نظرت في قدرك أريد أن أرفعه بأجلّ من هذا.
وذكر أنّ أبا العبّاس الطوسي كان سيء الرأي في أبي حنيفة ، وأبو حنيفة يعلم ذلك. فرآه يوما عند المنصور فقال : اليوم اقتل أبا حنيفة! فقال له : يا أبا حنيفة ، ما تقول في أن أمير المؤمنين يدعو أحدا إلى قتل أحد ، ولا ندري ما هو ، أيسع لنا أن نضرب عنقه؟ قال أبو حنيفة : يا أبا العبّاس ، الأمير يأمر بالحقّ أو بالباطل؟ قال : بالحقّ! قال : انفذ الحقّ حيث كان ولا تسأل عنه! ثمّ قال لمن كان بجنبه : هذا أراد أن يوبقني فربطته! توفي سنة خمسين ومائة عن اثنتين وسبعين.
ينسب إليها أبو عبد الله سفيان بن سعيد الثوري منسوب إلى ثور أطحل ، كان من أكثر الناس علما وورعا. وكان إماما مجتهدا ، وجنيد البغدادي يفتي على

مذهبه ، كان يصاحب المهدي ، فلمّا ولّي الخلافة انقطع عنه ، فقال له المهدي :إن لم تصاحبني فعظني! قال : إن في القرآن سورة ، أوّلها : ويل للمطفّفين! والتطفيف لا يكون إلّا شيئا نزرا فكيف من يأخذ أموالا كثيرة؟وحكي أن المنصور رآه في الطواف فضرب يده على عاتقه فقال : ما منعك أن تأتينا؟ قال : قول الله تعالى : ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار! فالتفت المنصور إلى أصحابه وقال : القينا الحبّ إلى العلماء فلقطوا إلّا ما كان من سفيان فإنّه أعيانا! ثمّ قال له : سلني حاجتك يا أبا عبد الله! فقال :وتقضيها يا أمير المؤمنين؟ قال : نعم. قال : حاجتي أن لا ترسل إليّ حتى آتيك ، وأن لا تعطيني شيئا حتى أسألك.
وخرج ليلة أراد العبور على دجلة فوجد شطّيها قد التصقا ، فقال : وعزّتك لا أعبر إلّا في زورق! وكان في مرض موته يبكي كثيرا ، فقال له : أراك كثير الذنوب! فرفع شيئا من الأرض وقال : ذنوبي أهون عليّ من هذا وإنّما أخاف سلب الإيمان قبل أن أموت. وقال حمّاد بن سلمة : لمّا حضر سفيان الوفاة كنت عنده ، قلت : يا أبا عبد الله ابشر فقد نجوت ممّا كنت تخاف ، وإنّك تقدم على ربّ غفور! فقال : يا أبا سلمة ، أترى يغفر الله لمثلي؟ قلت :إي والذي لا إله إلّا هو! فكأنّما سرّي عنه. توفي سنة إحدى وستّين ومائة عن ستّ وستين سنة بالبصرة.
وينسب إليها أبو أميّة شريح بن الحرث القاضي ، يضرب به المثل في العدل وتدقيق الأمور ، بقي في قضاء الكوفة خمسا وسبعين سنة ، استقضاه عمر وعليّ ، واستعفى من الحجّاج فأعفاه ، ذكر أن امرأة خاصمت زوجها عنده وكانت تبكي بكاء شديدا فقال له الشعبي : أصلح الله القاضي! أما ترى شدّة بكائها؟ فقال : أما علمت أن اخوة يوسف جاؤوا أباهم عشاء يبكون وهم ظلمة؟الحكم إنّما يكون بالبينة لا بالبكاء.
وشهد رجل عنده شهادة فقال : ممّن الرجل؟ قال : من بني فلان. قال :

أتعرف قائل هذا الشعر :
ماذا أؤمّل بعد آل محرّق
 

تركوا منازلهم وبعد إيّاد
 
قال : لا! فقال : توقّف يا وكيل في شهادته فإن من كان في قومه رجل له هذه النباهة وهو لا يعرفه أظنّه ضعيفا.
وكتب مسروق بن عبد الله إلى القاضي شريح ، وقد دخل زياد ابن أبيه في مرض موته ومنعوا الناس عنه ، وكتب إليه : أخبرنا عن حال الأمير فإن القلوب لبطء مرضه مجروحة ، والصدور لنا حزينة غير مشروحة! فأجابه القاضي :تركت الأمير وهو يأمر وينهى! فقال : أما تعلمون أن القاضي صاحب تعريض؟يقول : تركته يأمر الوصيّة وينهى عن الجزع! وكان كما ظنّ. والقاضي شريح توف سنة اثنتين وثمانين عن مائة وعشرين سنة.
وينسب إليها أبو عبد الله سعيد بن جبير ، كان الناس إذا سألوا بالكوفة ابن عبّاس يقول : أتسألونني وفيكم سعيد بن جبير؟ وكان سعيد ممّن خرج على الحجّاج وشهد دير الجماجم ، فلمّا انهزم ابن الأشعث لحق سعيد بمكّة ، وبعد مدّة بعثه خالد بن عبد الله القسري ، وكان واليا على مكّة من قبل الوليد ابن عبد الملك ، إلى الحجّاج تحت الاستظهار ، وكان في طريقه يصوم نهارا ويقوم ليلا ، فقال له الموكّل به : إني لا أحبّ أن أحملك إلى من يقتلك ، فاذهب أي طريق شئت! فقال له سعيد : انّه يبلغ الحجّاج أنّك خليتني وأخاف أن يقتلك! فلمّا دخل على الحجّاج قال له : من أنت؟ قال : سعيد بن جبير! قال : بل أنت شقيّ بن كسير! قال : سمّتني أمّي! قال : شقيت! قال : الغيب يعلمه غيرك! فقال له الحجّاج : لأبدّلنّك من دنياك نارا تتلظّى! فقال سعيد :لو علمت أن ذاك إليك ما اتّخذت إلها غيرك! قال : ما تقول في الأمير؟ قال :إن كان محسنا فعند الله ثواب إحسانه ، وإن كان مسيئا فلن يعجز الله! قال :فما تقول فيّ؟ قال : أنت أعلم بنفسك! فقال : تب في علمك! فقال : اذم

أسوءك ولا أسرك. قال : تب! قال : ظهر منك جور في حدّ الله وجرأة على معاصيه بقتلك أولياء الله! قال : والله لأقطعنّك قطعا قطعا ولأفرقنّ أعضاءك عضوا عضوا! قال : فإذن تفسد عليّ دنياي وأفسد عليك آخرتك والقصاص أمامك! قال : الويل لك من الله! قال : الويل لمن زحزح عن الجنّة وأدخل النار! فقال : اذهبوا به واضربوا عنقه. فقال سعيد : اني أشهدك اني أشهد ان لا إله إلّا الله وأن محمّدا رسول الله ، لتستحفظه حتى ألقاك بها يوم القيامة! فذهبوا به فتبسّم ، فقال الحجّاج : لم تبسّمت؟ فقال : لجرأتك على الله تعالى! فقال الحجّاج : اضجعوه للذبح! فأضجع. فقال : وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض. فقال الحجّاج : اقلبوا ظهره إلى القبلة. قال سعيد : فأينما تولّوا فثمّ وجه الله! قال : كبّوه على وجهه. فقال : منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى! فذبح من قفاه ، فبلغ ذلك الحسن البصري فقال : اللهمّ يا قاصم الجبابرة اقصم الحجّاج.
وعن خالد بن خليفة عن أبيه قال : شهدت مقتل سعيد بن جبير ، فلمّا بان رأسه قال : لا إله إلّا الله مرّتين والثالثة لم يتمّها ، وعاش الحجّاج بعده خمسة عشر يوما ، وقع الدود في بطنه ، وكان يقول : ما لي ولسعيد بن جبير؟كلّما أردت النوم أخذ برجلي! وتوفي سعيد سنة خمس وتسعين عن سبع وخمسين سنة.
وينسب إليها أبو الطيّب أحمد المتنبي. كان نادر الدهر شاعرا مفلقا فصيحا بليغا ، أشعاره تشتمل على الحكم والأمثال ، قال ابن جنّي : سمعت أبا الطيّب يقول : إنّما لقبّت بالمتنبي لقولي :
ما مقامي بأرض نخلة إلّا
 

كمقام المسيح بين اليهود
 
أنا في أمّة ، تداركها اللّ
 

ه ، غريب كصالح في ثمود
 
وكان لا يمدح إلّا الملوك العظماء ، وإذا سمع قصيدة حفظها بمرّة واحدة ،

وابنه يحفظها بمرّتين ، وغلامه يحفظها بثلاث مرّات ، فربّما قرأ أحد على ممدوح قصيدة بحضوره فيقول : هذا الشعر لي! ويعيدها ثمّ يقول : وابني أيضا يحفظها ، ثمّ يقول : وغلامي أيضا يحفظها.
اتّصل بسيف الدولة وقرأ عليه :
أجاب دمعي وما الدّاعي سوى طلل
فلمّا انتهى إلى قوله :
أقل أنل اقطع احمل سلّ علّ أعد
 

زدهشّ بشّ تفضّل ادن سرّ صل
 
أمر سيف الدولة أن يفعل جميع هذه الأوامر التي ذكرها فيقول المتنبي :
أمرّ إلى إقطاعه في ثيابه
 

على طرفه من داره بحسامه
 
حكى ابن جنّي عن أبي علي النسوي قال : خرجت من حلب فإذا أنا بفارس متلثّم قد أهوى نحوي برمح طويل سدّده في صدري ، فكدت أرمي نفسي من الدابّة ، فثنى السنان وحسر لثامه فإذا المتنبي يقول :
نثرت رؤوسا بالأحيدب منهم
 

كما نثرت فوق العروس دراهم
 
ثمّ قال : كيف ترى هذا البيت أحسن هو؟ قلت : ويحك قتلني! قال ابن جنّي : حكيت هذا بمدينة السلام لأبي الطيّب فضحك.
وحكى الثعالبي أن المتنبي لمّا قدم بغداد ترفع عن مدح الوزير المهلبي ، ذهابا بنفسه إلى أنّه لا يمدح غير الملوك ، فشقّ ذلك على الوزير فأغرى به شعراء بغداد في هجوه ، ومنهم ابن سكّرة الهاشمي والحاتمي وابن لنكك ، فلم يجبهم بشيء وقال : اني قد فرغت عن جوابهم بقولي لمن هو أرفع طبقة منهم في الشعر :


أفي كلّ يوم تحت ضبني شويعر
 

ضعيف يقاويني قصير يطاول
 
لساني بنطقي صامت عنه عادل
 

وقلبي بصمتي ضاحك منه هازل
 
وأتعب من ناداك من لا تجيبه
 

وأغيظ من عاداك من لا تشاكل
 
وما التّيه طبّي فيهم غير أنّني
 

بغيض إليّ الجاهل المتعاقل
 
وفارق بغداد قاصدا عضد الدولة بفارس ومدحه بقصائده المذكورة في ديوانه ، وربحت تجارته عند عضد الدولة ، وبقي عنده مدّة ، ووصل إليه من مبرّاته أكثر من مائتي ألف درهم ، فاستأذن في المسير ليقضي حوائجه فأذن له وأمر له بالخلع والصلات ، فقرأ عليه قصيدته الكافيّة وكأنّه نعى فيها نفسه ويقول :
ولو أني استطعت حفظت طرفي
 

ولم أبصر به حتّى أراكا
 
وفي الأحباب مختصّ بوجد
 

وآخر يدّعي معه اشتراكا
 
إذا اجتمع الدّموع على خدود
 

تبيّن من بكى ممّن تباكى
 
وأنّى شئت يا طرقي فكوني
 

أذاة أو نجاة أو هلاكا
 
وهذه الأبيات ممّا يتطيّر بها ، وجعل قافية آخر شعره هلاكا فهلك. ولمّا ارتحل من شيراز بحسن حال ووفور مال ، فلمّا فارق أعمال فارس حسب أن السلامة تستمرّ كما كانت في أعمال عضد الدولة ، فخرج عليه سريّة من الأعراب فحاربهم حتى انكشفت الوقعة عن قتله ، وقتل ابنه محسّد ، ونفر من غلمانه في سنة أربع وخمسين وثلاثمائة.
اللّاذقيّة
مدينة من سواحل بحر الشام عتيقة ، سمّيت باسم بانيها رومية ، وفيها أبنية قديمة ، ولها مرقاة جيدة وقلعتان متّصلتان على تلّ مشرف على ربضها ، ملكها

الفرنج فيما ملكوه من بلاد الساحل في حدود سنة خمسمائة. وللمسلمين بها جامع وقاض وخطيب ، فإذا أذّن المسلمون ضرب الفرنج بالناقوس غيظا ، قال المعري :
باللّاذقيّة فتنة
 

ما بين أحمد والمسيح
 
هذا يعالج دلبه
 

والشّيخ من حنق يصيح!
 
أراد بالدلب الناقوس وبالصياح الأذان.
قال ابن رطلين : رأيت باللاذقيّة أعجوبة ، وذلك أن المحتسب يجمع الفواجر والغرباء المؤثرين للفجور في حلقته ، وينادي على واحدة ويتزايدون ، حتى إذا وقف سلّمها إلى صاحبها مع ختم المطران. وهو يأخذها إلى الفنادق ، فإذا وجد البطريق إنسانا لم يكن معه ختم المطران ألزمه جناية ، فلمّا كانت سنة أربع وثمانين وخمسمائة استرجعها صلاح الدين يوسف ، وهي إلى الآن في يد المسلمين.
اللّجّون
مدينة بالأردنّ. في وسطها صخرة كبيرة مدوّرة ، وعلى الصخرة قبّة مزار يتبرّكون بها.
حكي أن الخليل ، عليه السلام ، دخل هذه المدينة ومعه غنم له ، وكانت المدينة قليلة الماء ، فسألوه أن يرتحل لقلّة الماء ، فضرب بعصاه هذه الصخرة فخرج منها ماء كثير اتّسع على أهل المدينة ، حتى كانت قراهم ورساتيقهم تسقى من هذا الماء ، والصخرة باقية إلى الآن.
ماردين
قلعة مشهورة على قلّة جبل بالجزيرة ، ليس على وجه الأرض قلعة أحسن منها ولا أحكم ولا أعظم ، وهي مشرفة على دنيسر ودارا ونصيبين ، وقدّامها

ربض عظيم فيه أسواق وفنادق ومدارس وربط. وضعها وضع عجيب ليس في شيء من البلدان مثلها ، وذلك أن دورهم كالدرج كلّ دار فوق أخرى ، وكلّ درب منها مشرف على ما تحته ، وعندهم عيون قليلة ، جلّ شربهم من الصهاريج المعدّة في دورهم. وقال بعض الظرفاء :
في ماردين ، حماها الله ، لي سكن
 

لولا الضّرورة ما فارقتها نفسا
 
لأهلها ألسن لان الحديد لها
 

وقلبهم جبليّ قد قسا وعسا
 
ماسبدان (1)
مدينة مشهورة بقرب السيروان ، كثيرة الشجر كثيرة الحمات والكباريت والزاجات والبوارق والاملاح. بها عين عجيبة ، من شرب منها قذف اخلاطا كثيرة ، لكنه يضرّ بأعصاب الرأس ، وإن احتقن بمائها أسهل إسهالا عظيما.
مجّانة
بلدة بإفريقية تسمّى قلعة بسر لأن بسر بن أرطاة فتحها. أرضها أرض طيّبة ينبت بها زعفران كثير ، بها معادن الفضّة والحديد والمرتك والرصاص والكحل ، وفي جنوبيّها جبل تقطع منه أحجار الطواحين وتحمل إلى سائر بلاد العرب.
محجّة
من قرى حوران. بها حجر يزوره الناس ، وزعموا أن النبي ، صلّى الله عليه وسلّم ، جلس عليه.
__________________
(1) وردت في معجم البلدان بالذال المعجمة : ماسبذان.ss

مدين
مدينة قوم شعيب ، عليه السلام. بناها مدين بن إبراهيم الخليل جدّ شعيب ، وهي تجارة تبوك بين المدينة والشام. بها البئر التي استقى منها موسى ، عليه السلام ، لماشية شعيب ؛ قيل : إن البئر مغطاة وعليها بيت يزوره الناس.
وقيل : مدين هي كفرمندة من أعمال طبرية ، وبها البئر وعندها الصخرة التي قلعها موسى ، وهي باقية إلى الآن ، وقد مرّ ذكره في كفرمندة.
مرسى الخرز
بليدة على ساحل بحر افريقية ، عندها يستخرج المرجان وليس للسلطان فيه حصّة ، فيجتمع بها التجّار ويستأجرون أهل تلك النواحي على استخراج المرجان من قعر البحر ، حكى من شاهد كيفيّة استخراجه أنّهم يتّخذون خشبتين ، طول كلّ واحدة ذراع ، ويجعلونهما صليبا ويشدّون فيه حجرا ثقيلا ، ويصلونه بحبل ويركب صاحبه في قارب ، ويتوسط البحر نحو نصف فرسخ ليصل إلى منبت المرجان. ثمّ يرسل الصليب إلى البحر حتى ينتهي إلى قرار البحر ، ويمرّ بالقارب يمينا وشمالا ومستديرا ليتعلّق المرجان في ذوائب الصليب ، ثمّ يقلعه بالقوّة ويرقّيه فيخرج جسم أغبر اللون ، فيحكّ قشره فيخرج أحمر اللون حسنا.
المرقّب
بلدة وقلعة حصينة مشرفة على سواحل بحر الشام ، قال أبو غالب المغربي في تاريخه : عمّر المسلمون حصن المرقّب في سنة أربع وخمسين وأربعمائة ، فجاء في غاية الحصانة والحسن حتى يتحدّث الناس بحسنه وحصانته ، فطمع الروم فيه وطمع المسلمون في الحيلة بالروم بسببه ، فما زالوا حتى بيع الحصن منهم بمال عظيم. وبعثوا شيخا وولديه إلى انطاكية لقبض المال وتسليم الحصن ،

فبعثوا المال مع ثلاثمائة رجل لتسلّم الحصن وأخروا الشيخ عندهم. فلمّا وصل المال إلى المسلمين قبضوه وقتلوا بعض الرجال وأسروا آخرين ، وباعوهم بمال آخر وبالشيخ وولديه ، وحصل الحصن والمال للمسلمين وقتل كثير من الروم.
مرّيسة
قرية بمصر من ناحية الصعيد. تجلب منها الحمر المريسية ، وهي من أجود حمر مصر وأمشاها وأحسنها صورة وأكبرها ، تحمل إلى سائر البلاد للتحف ، ليس في شيء من البلاد مثلها ، والبلاد الباردة لا توافقها فتموت فيها سريعا.
وينسب إليها بشر المريسي المعتزلي. كان في زمن المأمون وزعم انّه يبين ان القرآن مخلوق وكلّ من شاء يناظره فيه. وكان دليله أن القرآن لا يخلو امّا أن يكون شيئا أو لم يكن ، لا جائز أن يقال إن القرآن ليس بشيء لأنّه كفر ، فتعيّن أن يكون شيئا ، وقد قال تعالى : الله خالق كلّ شيء. فيكون خالقا للقرآن أيضا.
وقد غلب الناس بهذا وقبلوا منه وصاروا على هذا ، فاتّصل هذا الخبر إلى مكّة إلى عبد العزيز المكّي ، فقام قاصدا لبغداد لدفع هذه الغمّة ، وسأل المأمون أن يجمع بينه وبين بشر بن غياث ، فجمع بينهما وجرى بينهما مناظرات حاصلها أن عبد العزيز قد حجّه بدليله وقال : الالهية شيء أو ليس بشيء ، لا جائز أن يقال ليس بشيء لأنّه كفر ، فتعيّن أن يكون شيئا ؛ قال الله تعالى لبلقيس : وأوتيت من كلّ شيء ، ينبغي أن تؤتى الالهية فدليلك يدلّ على أن بلقيس إلاهة ، فما ظنّكم بدليل يدلّ على أن المخلوق إله؟ فقيل لعبد العزيز : هذا نقض حسن ، فما معنى قوله تعالى : الله خالق كلّ شيء؟ قال : معناه الله خالق كلّ شيء قابل للخلق والايجاد ، والقديم غير قابل للخلق والايجاد ، وكذلك قوله تعالى : وأوتيت من كلّ شيء ، معناه كلّ شيء يحتاج إليه الملوك. فترى أوتيت الالهية والنبوة والذكورة كلّها أشياء. فاستحسن المأمون ذلك ورجع القوم عن الاعتقاد الفاسد ، وقام المريسي محجوجا خائبا.

وحكى عبد الله الثقفي قال : لمّا مات المريسي رأيت زبيدة في المنام فقلت لها :ما فعل الله بك؟ قالت : غفر لي بأوّل معول ضربت في طريق مكّة ، وأنا حفرت في طريق مكّة آبارا كثيرة. فقلت لها : اني أرى في وجهك صفرة! قالت :قد حمل إلينا بشر المريسي فزفرت جهنّم زفرة لقدومه ، هذه الصفرة من اثرها.
مريوط
قرية بمصر قرب الإسكندريّة. من عجائبها طول عمر سكّانها ، قال ابن زولاق : كشف الطوال الأعمار فلم يوجد أطول عمرا من سكّان مريوط.
المزّة
قرية كبيرة غنّاء في وسط بساتين دمشق ، على نصف فرسخ منها. من جميع جهاتها أشجار ومياه وخضر ، وهي من أنزه أرض الله وأحسنها. يقال لها مزّة كلب ، يقصدها أرباب البطالة للهو والطرب ؛ قال قيس بن الرّقيّات :
حبّذا ليلتي بمزّة كلب
 

غال عني بها الكوانين غول
 
بتّ أسقى بها وعندي حبيب
 

إنّه لي وللكرام خليل
 
عندنا المشرفات من بقر الإن
 

س هواهنّ لابن قيس دليل
 
مصر
ناحية مشهورة ، عرضها أربعون ليلة في مثلها. طولها من العريش إلى اسوان وعرضها من برقة إلى ايلة. سمّيت بمصر بن مصرايم بن حام بن نوح ، عليه السلام ، وهي أطيب الأرض ترابا وأبعدها خرابا ، ولا يزال فيها بركة ما دام على وجه الأرض إنسان.
ومن عجائبها انّه إن لم يصبها مطر زكت بخلاف سائر النواحي ، وإن أصابها

ضعف زكاؤها. ووصف بعض الحكماء مصر فقال : إنّها ثلاثة أشهر لؤلؤة بيضاء ، وثلاثة أشهر مسكة سوداء ، وثلاثة أشهر زمردة خضراء ، وثلاثة أشهر سبيكة ذهب حمراء. قال كشاجم :
أما ترى مصر كيف قد جمعت
 

بها صنوف الرّياحين في مجلس
 
السّوسن الغضّ والبنفسج وال
 

ورد وصفّ البهار والنّرجس
 
كأنّها الأرض ألبست حللا
 

من فاخر العبقري والسّندس
 
كأنّها الجنّة التي جمعت
 

ما تشتهيه العيون والأنفس
 
ومن عجائبها زيادة النيل عند انتقاص جميع المياه في آخر الصيف ، حتى يمتلىء منه جميع أرض مصر ، فإذا زاد اثني عشر ذراعا ينادي المنادي كلّ يوم :زاد الله في النيل المبارك كذا وكذا.
وفي وسط النيل مسجد بناه المأمون لمّا ذهب إلى مصر ، وخلف المسجد صهريج ، وفي وسط الصهريج عمود من الرخام الأبيض طوله أربعة وعشرون ذراعا ، وكتب على كلّ ذراع علامة ، وقسم كلّ ذراع أربعا وعشرين إصبعا ، وكلّ إصبع ستّة أقسام. وللصهريج منفذ إلى النيل يدخل إليه الماء ، فأي مقدار زاد في النيل عرف من العمود ، وعلى العمود قوم أمناء يشاهدون ذلك ويخبرون عن الزيادة ، فإذا بلغ ستة عشر ذراعا وجب الخراج على أهل مصر ، فإذا زاد على ذلك يزيد في الخصب والخير إلى عشرين ، فإن زاد على ذلك يكون سببا للخراب. واليوم الذي بلغ الماء فيه ستّة عشر ذراعا يكون يوم الزينة ، يخرج الناس بالزينة العظيمة لكسر الخلجان فتصير أرض مصر كلّها بحرا واحدا. والماء يخرج الفئران والثعابين من جحرتها ، فتدخل على الناس في القرى ويأكلها الكلاب والزيغان ، ويبقى ماء النيل على وجه الأرض أربعين يوما ثمّ يأخذ في الانتقاص.
وكلّما ظهر شيء من الأرض يزرعها الاكرة وتمشي عليها الأغنام لغيب البذر في الطين ، ويرمون بذرا قليلا فيأتي بريع كثير لأن الله تعالى جعل فيه البركة.

وبها نهر النيل ؛ قالوا : ليس على وجه الأرض نهر أطول من النيل لأن مسيره شهر في بلاد الإسلام ، وشهران في بلاد النوبة ، وأربعة أشهر في الخراب إلى أن يخرج ببلاد القمر خلف خطّ الاستواء. وليس في الدنيا نهر يصبّ من الجنوب إلى الشمال ، ويمدّ في شدّة الحرّ عند انتقاص المياه والأنهار كلّها ، ويزيد بترتيب وينقص بترتيب إلّا النيل.
قال القضاعي : من عجائب مصر النيل ، جعله الله تعالى سقيا يزرع عليه ويستغنى عن المطر به في زمان القيظ ، إذا نضبت المياه. وسبب مدّه ان الله تعالى يبعث ريح الشمال فيقلب عليه البحر الملح ، فيصير كالسكر فيزيد حتى يعمّ الرّبى والعوالي ويجري في الخليج والمساقي ، فإذا بلغ الحدّ الذي هو تمام الريّ وحضرت أيّام الحراثة ، بعث الله ريح الجنوب فأخرجته إلى البحر الملح وانتفع الناس بما أروى من الأرض. ولهم مقياس ذكرنا قبل يعرفون به مقدار الزيادة ومقدار الكفاية.
قال القضاعي : أوّل من قاس النيل بمصر يوسف ، عليه السلام ، وبنى مقياسه بمنف ، وذكر أن المسلمين لمّا فتحوا مصر جاء أهلها إلى عمرو بن العاص حين دخل بؤونه من شهر القبط وقالوا : أيّها الأمير إن لبلدنا سنّة لا يجري النيل إلّا بها ، وذلك انّه إذا كان لاثنتي عشرة ليلة من هذا الشهر عمدنا إلى جارية بكر ، فأرضينا أبويها وجعلنا عليها من الحلي والثياب أفضل ما يكون ، ثمّ ألقيناها في النيل ليجري. فقال لهم عمرو : إن هذا في الإسلام لا يكون ، وإن الإسلام يهدم ما قبله! فأقاموا بؤونه وابيب ومسرى وهو لا يجري قليلا ولا كثيرا حتى همّ الناس بالجلاء. فلمّا رأى عمرو ذلك كتب إلى عمر بن الخطّاب ، رصي الله عنه ، بذلك ، فكتب عمر إليه : قد أصبت ، إن الإسلام يهدم ما قبله! وقد بعثت إليك بطاقة فألقها في داخل النيل. وإذا في الكتاب : من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى نيل مصر ، أمّا بعد فإن كنت تجري من قبلك فلا تجر ، وإن كان الله الواحد القهّار هو الذي يجريك فنسأل الله الواحد القهّار أن يجريك! فألقى

عمرو بن العاص البطاقة في النيل قبل الصليب بيوم ، وقد تهيّأ أهل مصر للجلاء لأن مصالحهم لا تقوم إلّا بالنيل ، فأصبحوا وقد أجرى الله النيل ستة عشر ذراعا في ليلة واحدة.
وأمّا أصل مجراه فإنّه يأتي من بلاد الزنج ، فيمرّ بأرض الحبشة حتى ينتهي إلى بلاد النوبة ، ثمّ لا يزال جاريا بين جبلين بينهما قرى وبلدان ، والراكب فيه يرى الجبلين عن يمينه وشماله حتى يصبّ في البحر. وقيل : سبب زيادته في الصيف أن المطر يكثر بأرض الزنجبار ، وتلك البلاد ينزل الغيث بها كأفواه القرب ويصبّ السيول إلى النيل من الجهات ، فإلى أن يصل إلى مصر ويقطع تلك المفاوز يكون القيظ ووقت الحاجة إليه.
من عجائب النيل التمساح لا يوجد إلّا فيه ، وقيل بنهر السند أيضا يوجد ، إلّا أنّه ليس في عظم النيلي ، وهو يعضّ الحيوان ، وإذا عضّ اشتبكت أسنانه واختلفت فلم يتخلّص منها الذي يقع فيها حتى يقطعه. ويحترز الإنسان من شاطىء النيل لخوف التمساح ؛ قال الشاعر :
أضمرت للنّيل هجرانا ومقلية
 

مذ قيل لي : إنّما التّمساح في النّيل
 
فمن رأى النّيل رأي العين عن كثب
 

فما أرى النّيل إلّا في البواقيل
 
والبواقيل : كيزان يشرب منها أهل مصر.
وبها شجرة تسمّى باليونانيّة موقيقوس ، تراها بالليل ذات شعاع متوهّج يغترّ برؤيتها كثير من الناس ، يحسبها نار الرعاة ، فإذا قصدها كلّما زاد قربا زادت خفاء حتى إذا وصل إليها انقطع ضوؤها.
وبها حشيشة يقال لها الدلس ، يتّخذ منها حبال السفن وتسمّى تلك الحبال القوقس. تؤخذ قطعة من هذا الحبل وتشعل فتبقى مشتعلة بين أيديهم كالشمع ، ثمّ تطفأ وتمكث طول الليل ، فإذا احتاجوا إلى الضوء أخذوا بطرفه وأداروه ساعة كالمخراق فيشتعل من نفسه.

وبها نوع من البطيخ الهندي تحمل اثنتان منه على جمل قوي ، وهي حلوة طيّبة.
وبها حمير في حجم الكباش ملمعة بشبه البغال ، ليس مثلها في شيء من البلاد ، إذا أخرجت من موضعها لم تعش.
وبها طير كثير أسود البدن أبيض الرأس يقال له عقاب النيل ، إذا طار يقول :الله فوق الفوق! بصوت فصيح يسمعه الناس ، يعيش من سمك النيل لا يفارق ذلك الموضع.
والبرغوث لا ينقطع بمصر شتاء ولا صيفا ، وتولد الفأر بها أكثر من تولدها في سائر البلاد ، فترى عند زيادة النيل تسلّط الماء على جحرتها ، فلا يبقى في جميع ممرّ الماء فأرة ثمّ تتولّد بعد ذلك بأدنى زمان.
ومن عجائب مصر الدويبة التي يقال لها النمس ؛ قال المسعودي : هي دويبة أكبر من الجرذ وأصغر من ابن عرس ، أحمر أبيض البطن ، إذا رأت الثعبان دنت منه فينطوي عليها الثعبان ليأكلها ، فإذا حصلت في فمه ترخي عليه ريحا فينقطع الثعبان من ريحها. وهذه خاصيّة هذه الدويبة ، قالوا ينقطع الثعبان من شدّته قطعتين ، فإنّها لأهل مصر كالقنافذ لأهل سجستان.
ومن عجائب مصر الهرمان المحاذيان للفسطاط ؛ قال أبو الصلت : كلّ واحد منهما جسم من أعظم الحجارة ، مربع القاعدة مخروط الشكل ، ارتفاع عموده ثلاثمائة ذراع وسبعة عشر ذراعا ، يحيط بها أربعة سطوح مثلثات متساويات الأضلاع ، كلّ ضلع منها أربعمائة ذراع وستّون ذراعا ، وهو مع هذا العظم من أحكم الصنعة واتقان الهندام وحسن التقدير ، لم يتأثّر من تضاعف الرياح وهطل السحاب وزعزعة الزلازل.
وذكر قوم أن على الهرمين مكتوبا بخط المسند : إني بنيتهما فمن يدّعي قوّة في ملكه فليهدمهما ، فإن الهدم أيسر من البناء ، وقد كسوناهما بالديباج فمن استطاع فليكسهما بالحصير.
وقال ابن زولاق : لا نعلم في الدنيا حجرا على حجر أعلى ولا أوسع منهما ،

طولهما في الأرض أربعمائة ذراع وارتفاعهما كذلك ، وقال أبو عبد الله بن سلامة القضاعي في كتاب مصر : إنّه وجد في قبر من قبور الأوائل صحيفة ، فالتمسوا لها قارئا فوجدوا شيخا في دير قلمون يقرأها ، فإذا فيها : إنّا نظرنا فيما تدلّ عليه النجوم فرأينا أن آفة نازلة من السماء وخارجة من الأرض ، ثمّ نظرنا فوجدناه مفسدا للأرض ونباتها وحيوانها ، فلمّا تمّ الهرم الغربي بنى لابن أخيه الهرم المؤزّر وكتبنا في حيطانها أن آفة نازلة من أقطار العالم ، وذلك عند نزول قلب الأسد أوّل دقيقة من رأس السرطان ، وتكون الكواكب عند نزولها إيّاها في هذه المواضع من الفلك ، الشمس والقمر في أوّل دقيقة من الحمل ، وزحل في درجة وثمان وعشرين دقيقة من الحمل ، والمشتري في تسع وعشرين درجة وعشرين دقيقة من الحمل ، والمريخ في تسع وعشرين درجة وثلاث دقائق من الحوت ، والزهرة في ثمان وعشرين درجة من الحوت ، وعطارد في تسع وعشرين درجة من الحوت ، والجوزهر في الميزان ، وأوج القمر في خمس درجات ودقائق من الأسد. فلمّا مات سوريل دفن في الهرم الشرقي ، ودفن أخوه هرجيت في الهرم الغربي ، ودفن ابن أخيه كرورس في الهرم الذي أسفله. ولهذه الأهرام أبواب في ازج تحت الأرض ، طول كلّ ازج منها مائة وخمسون ذراعا. فأمّا باب الهرم الشرقي فمن الناحية الشرقية ، وأمّا باب الهرم الغربي فمن الناحية الغربيّة ، وأمّا باب الهرم المؤزّر فمن الناحية الشمالية. وفي الأهرام من الذهب ما لا يحتمله الوصف.
ثمّ ان المترجم لهذا الكلام من القبطي إلى العربي أجمل التاريخات إلى سنة خمس وعشرين ومائتين من سني الهجرة ، فبلغت أربعة آلاف وثلاثمائة وإحدى وعشرين سنة شمسيّة ، ثمّ نظر كم مضى من الطوفان إلى وقته هذا فوجده ثلاثة آلاف وتسعمائة وإحدى وأربعين سنة ، فألقاها من الجملة الأولى ، فبقي ثلاثمائة وتسع وتسعون سنة ، فعلم أن تلك الصحيفة كتبت قبل الطوفان بهذه المدّة. وقال بعضهم :
حسرت عقول ذوي النّهى الأهرام
 

واستصغرت لعظيمها الأحلام
 



ملس منبّقة البناء شواهق
 

قصرت لغال دونهنّ سهام
 
لم أدر حين كبا التّفكّر دونها
 

واستوهمت لعجيبها الأوهام
 
أقبور أملاك الأعاجم هنّ أم
 

طلّسم رمل كنّ أم أعلام
 
وزعم بعضهم أن الأهرام بمصر قبور ملوك عظام بها ، آثروا أن يتميّزوا بها على سائر الملوك بعد مماتهم ، كما تميّزوا عنهم في حياتهم ، وأرادوا أن يبقى ذكرهم بسبب ذلك على تطاول الدهور.
وذكر محمّد بن العربي الملقّب بمحيي الدين : ان القوم كانوا على دين التناسخ ، فاتّخذوا الأهرام علامة لعلّهم عرفوا مدّة ذهابهم ومجيئهم إلى الدنيا بعلامة ذلك.
ومن الناس من يزعم أن هرمس الأوّل الذي يسمّيه اليونانيّون أخنوخ بن يرد بن مهلائيل بن قينان بن انوش بن شيث بن آدم ، عليه السلام ، وهو ادريس ، علم بطوفان نوح إمّا بالوحي أو بالاستدلال على ذلك من أحوال الكواكب ، فأمر ببناء الأهرام وإيداعها الأموال وصحائف العلوم إشفاقا عليها من الدروس ، واحتياطا عليها وحفظا لها.
ومن عجائب مصر أبو الهول. وهو صورة آدمي عظيمة مصنعة ، وقد غطى الرمل أكثره. يقال : انّه طلسم للرمل لئلّا يغلب على كورة الجيزة ، فإن الرمال هناك كثيرة شماليّة متكاثفة ، فإذا انتهت إليها لا تتعدّاه ، والمرتفع من الرمل رأسه وكتفاه. وهو عظيم جدّا ، وصورته مليحة كأنّ الصانع الآن فرغ منه. وقد ذكر من رأى أن نسرا عشّش في أذنه وهو مصبوغ بالحمرة ؛ قال ظافر الإسكندري :
تأمّل بنية الهرمين وانظر
 

وبينهما أبو الهول العجيب
 
كمثل عمارتين على رحيل
 

لمحبوبين بينهما رقيب
 
وماء النّيل تحتهما دموع
 

وصوت الرّيح عندهما نحيب
 


ولمّا وصل المأمون إلى مصر ، نقب أحد الهرمين المحاذيين للفسطاط بعد جهد شديد وعناء طويل ، فوجد في داخله مراقي ومهادي هائلة يعسر السلوك فيها ، ووجد في أعلاه بيتا مكعبا طول كلّ ضلع منه ثمانية أذرع ، وفي وسطه حوضا رخاما مطبقا ، فلمّا كشف غطاؤه لم يوجد فيه غير رمّة بالية ، فأمر المأمون بالكفّ عن نقب ما سواه. وقال بعضهم : ما سمعت بشيء عظيم فجئته إلّا رأيته دون صفته إلّا الهرمين ، فإني لمّا رأيتهما كانت رؤيتهما أعظم من صفتهما.
ومن عجائب مصر حوض لعين ماء منقور في حجر عظيم ، يسيل الماء إلى الحوض من تلك العين من جبل بجنب كنيسة ، فإذا مسّ ذلك الماء جنب أو حائض انقطع الماء السائل من ساعته ، وينتن الماء الذي في الحوض فيعرف الناس سببه ، فينزفون الماء الذي في الحوض وينظفونه ، فيعود إليه الماء على حالته الأولى.
وقد ذكر أمر هذا الحوض أبو الريحان الخوارزمي في كتابه الآثار الباقية ، وان هذا الحوض يسمّى الطاهر.
وبها جبل المقطّم ، وهو جبل مشرف على القرافة ممتدّ إلى بلاد الحبشة على شاطىء النيل الشرقي ، وعليه مساجد وصوامع ، لا نبت فيه ولا ماء غير عين صغيرة تنزّ في دير للنصارى ، يقولون انّه معدن الزبرجد ، وسأل المقوقس عمرو بن العاص أن يبيعه سفح المقطم بسبعين ألف دينار ، فكتب عمرو بن العاص إلى عمر ابن الخطّاب ، فكتب إليه : ان استخبره لأيّ شيء بذل ما بذل؟ فقال المقوقس :إنّنا نجد في كتبنا انّه غراس الجنّة! فقال عمر : غراس الجنّة لا نجد إلّا للمؤمنين.
فأمره أن يتّخذه مقبرة ؛ قالوا : ان الميت هناك لا يبلى! وبها موتى كثيرون بحالهم ما بلي منهم شيء ، وبها قبر روبيل بن يعقوب وقبر إليسع ، عليه السلام.
وبها قبر عمران بن الحصين صاحب رسول الله ، صلّى الله عليه وسلّم.
ومن عجائبها عين الناطول ، وناطول اسم موضع بمصر فيه غار ، وفي الغار عين ينبع الماء منها ويتقاطر على الطين فيصير ذلك الطين فأرا ؛ قال صاحب تحفة الغرائب : حكى لي رجل أنّه رأى من ذلك الطين قطعة انقلب بعضها فأرا

والبعض الآخر طين بعد.
ومن عجائبها نهر سنجة ؛ قال الأديبي : هو نهر عظيم يجري بين حصن المنصور وكيسوم من ديار مصر ، لا يتهيّأ خوضه لأن قراره رمل سيال ، إذا وطئه واطىء غاص به ، وعلى هذا النهر قنطرة من عجائب الدنيا ، وهي طاق واحد من الشطّ إلى الشطّ ، وتشتمل على مائتي خطوة ، وهي متّخذة من حجر مهندم طول الحجر عشرة أذرع في ارتفاع خمسة أذرع ، وحكي ان عندهم طلسما على لوح إذا عاب من القنطرة موضع أدلى ذلك اللوح على موضع العيب ، فينعزل عنه الماء حتى يصلح ثمّ يرفع اللّوح فيعود الماء إلى حاله.
ومن عجائبها جبل الطير. وهو بصعيد مصر في شرقي النيل قرب انصنا ، وإنّما سمّي بذلك لأن صنفا من الطير الأبيض يقال له البوقير يأتي في كلّ عام في وقت معلوم ، فتعكّف على هذا الجبل ، وفيه كوّة يأتي كلّ واحد من هذه الطيور ويدخل رأسه في تلك الكوة ، ثمّ يخرجه ويلقي نفسه في النيل فيعوم ، ويذهب من حيث شاء إلى أن يدخل واحد رأسه فيقبض عليه شيء في تلك الكوّة ، فيضطرب ويبقى معلّقا منها إلى أن يتلف ، فيسقط بعد مدّة. فإذا كان ذلك انصرف الباقي لوقته فلا يرى شيء من هذا الطير في هذا الجبل إلى مثل ذلك الوقت من العام القابل. وذكر بعض أعيان مصر : ان السنة إذا كانت مخصبة قبضت الكوّة على طائرين ، وإن كانت متوسطة على واحد ، وإن كانت مجدبة لم تقبض شيئا.
المطريّة
قرية من قرى مصر ، عندها منبت شجر البلسان ، وبها بئر يسقى منها ، قيل : إنّه من خاصيّة البئر لأن المسيح ، عليه السلام ، اغتسل فيها. حدّث من رآها أن شجر البلسان يشبه شجر الحنا أو شجر الرمان ، أوّل ما ينشأ ، وأرضها نحو مدّ البصر في مثله محوط عليه ، ولها قوم يخرجون شجرتها من سوقها ،

ويتّخذون منها ماء لطيفا في آنية زجاج ويجمعونه بجدّ واجتهاد عظيم ، فيحصل في العام نحو مائتي رطل بالمصري. وهناك رجل نصراني يطبخه بصناعة يعرفها لا يطّلع عليها أحد ، ويصفي منها الدهن ، وقد اجتهد الملوك أن يعلّمهم فأبى وقال : لو قتلت ما علّمت أحدا ما بقي لي عقب.
قال الحاكي : شربت من هذه البئر وهي عذبة فيها نوع دهنيّة لطيفة ، وقد استأذن الملك الكامل أباه الملك العادل أن يزرع شيئا من شجر البلسان ، فأذن له ، فغرم غرامات وزرعه فلم ينجح ولا حصل منه دهن البتّة ، فسأل أباه أن يجري لها ساقية من البئر المذكورة ، فأذن له ففعل وأنجح ، فعلموا أن ذلك من خاصيّة البئر. وليس في جميع الدنيا موضع ينبت شجر البلسان وينجع دهنه إلّا هناك ، ورأى رجل من أهل الحجاز شجر البلسان فقال : انّه شجر البشام بعينه إلّا أنّا ما علمنا استخراج الدهن منه.
معرّة النّعمان
بليدة بين حلب وحماة ، كثيرة التين والزيتون. ينسب إليها أبو العلاء أحمد ابن عبد الله المعرّي الضرير المشهور بالذكاء. ومن عجيب ما ذكر عنه أنّه أخذ حمّصة وقال : هذا يشبه رأس البازي! وهذا تشبيه عجيب من أولي الأبصار فضلا عن الأكمه. وقد ذكر البعير عنده أنّه حيوان يحمل حملا ثقيلا فينهض به فقال : ينبغي أن تكون رقبته طويلة ليمتد نفسه فتقدر على النهوض به! وكان له سرير يجلس عليه فجعلوا في غيبته تحت قوائمه أربعة دراهم ، تحت كلّ قائمة درهما ، فقال : ان الأرض قد ارتفعت عن مكانها شيئا يسيرا والسماء نزلت! ومن العجائب انّه مع ذكائه اختفت عليه الموجودات التي ليست بمجسمة كالجواهر الروحانيّة ، فاعتقد ان كلّ موجود يكون مجسما حتى قال :
قالوا : إله لنا قديم!
 

قلت لهم : هكذا يقول
 



قالوا : قديم بلا مكان
 

قلت : أين هو؟ فقولوا!
 
هذا الكلام لنا خفاء
 

معناه : ليست لنا عقول
 
وقال أيضا :
يد بخمس ماء من عسجد قرنت
 

ما بالها قطعت في ربع دينار؟
 
وقال الرضي الموسوي :
صيانة النّفس أغلتها وأرخصها
 

صيانة المال فانظر حكمة الباري
 
وذكر أنّه في آخر عمره تاب عن أمثال هذه واستغفر ، وحسن إسلامه.
مكران
ناحية بين أرض السند وبلاد تيز ، ذات مدن وقرى كبيرة ، ومن عجائبها ما ذكره صاحب تحفة الغرائب أن بأرض مكران نهرا عليه قنطرة من الحجر قطعة واحدة ، من عبر عليها يتقيّأ جميع ما في بطنه بحيث لا يبقى فيها شيء ، ولو كانوا ألوفا هذا حالهم ، فمن أراد من الناس القيء عبر على تلك القنطرة.
مليانة
مدينة كبيرة بالمغرب من أعمال بجاية مستندة إلى جبل زكار ، وهي كثيرة الخيرات وافرة الغلّات ، مشهورة بالحسن والطيب وكثرة الأشجار وتدفّق المياه.
حدّثني الفقيه أبو الربيع سليمان الملتاني أن جبل زكار مطلّ على المدينة ، وطول الجبل أكثر من فرسخ ، ومياه المدينة تتدفّق من سفحه ، وهذا الجبل لا يزال أخضر صيفا وشتاء ، وأعلى الجبل مسطّح يزرع ، وبقرب المدينة حمّامات لا يوقد عليها ولا يستقى ماؤها ، بنيت على عين حارة عذبة الماء يستحمّ بها من شاء.

منبج
مدينة بأرض الشام كبيرة ذات خيرات كثيرة وأرزاق واسعة وذات مدارس وربط. عليها سور بالحجارة المهندسة حصينة جدّا. شربهم من قني تسيح على وجه الأرض.
ينسب إليها عبد الملك بن صالح الهاشمي المشهور بالبلاغة ؛ قيل : لمّا قدم الرشيد منبج قال لعبد الملك : أهذا منزلك؟ قال : هو لك يا أمير المؤمنين ولي بك! قال : كيف صفتها؟ قال : طيبة الهواء قليلة الادواء! قال : كيف ليلها؟ قال : كلّه سحر! قال : صدقت إنّها طيبة! قال : طابت بك يا أمير المؤمنين! وأين تذهب بها عين الطيب برها حمراء وسنبلها صفراء وشجراء ، في فياف فيح بين قيصوم وشيح. فأعجب الرشيد كلامه.
منف
مدينة فرعون موسى. قيل : إنّها أوّل مدينة عمرت بمصر بعد الطوفان ، وهي المراد بقوله تعالى : ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها. وهي بقرب الفسطاط. كان فيها أربعة أنهار تخلط مياهها في موضع سرير فرعون ولهذا قال : وهذه الأنهار تجري من تحتي! حكى من رأى منف قال : رأيت فيها دار فرعون ودرت في مجالسها ومشاربها وغرفها ، فإذا جميع ذلك حجر واحد منقور ، ما رأيت فيها مجمع حجرين ولا ملتقى صخرتين. وآثار هذه المدينة بمصر باقية وحجارة قصورها إلى الآن ظاهرة.
قال ابن زولاق : سمعت بعض علماء مصر يقول : إن منف كانت ثلاثين ميلا بيوتا متّصلة ، وفيها قصر فرعون قطعة واحدة ، وسقفه وفرشه وحيطانه حجر أخضر. وقال أيضا : دخلت منف فرأيت عثمان بن صالح جالسا على باب كنيسة ، فقال لي : أتدري ما هذا المكتوب على هذا الباب؟ قلت : لا! قال :

عليه مكتوب : لا تلوموني على صغرها فإني اشتريت كلّ ذراع بمائتي دينار لشدّة العمارة. وقال أيضا : على باب هذه الكنيسة وكز موسى ، عليه السلام ، القبطي فقضى عليه.
ومن عجائبها كنيسة الأسقف وهي من عجائب الدنيا ، لا يعرف طولها وعرضها مسقّفة بحجر واحد.
منية هشام
قرية بأرض طبرية ، حكى الثعالبي أن بها عينا يجري ماؤها سبع سنين دائما ، ثمّ ينقطع سبع سنين هكذا على وجه الدهر ، وانّه مشهور عندهم.
مؤتة
قال الجيهاني : مؤتة من أعمال البلقاء من حدود الشام ، أرضها لا تقبل اليهود ولا يتهيّأ أن يدفنوا بها.
ومن عجائبها أن لا تلد بها عذراء ، فإذا قربت المرأة ولادتها خرجت منها ، فإذا وضعت عادت إليها. والسيوف المشرفية منسوبة إليها لأنّها من مشارف الشام ؛ قال الشاعر :
أبى الله للشّمّ الأنوف كأنّهم
 

صوارم يجلوها بمؤتة صيقل
 
مورجان
من أعمال فارس. بها جبل فيه كهف يقطر الماء من سقفه ، زعموا أن عليه طلسما ، إن دخل ذلك الكهف واحد خرج من الماء ما يكفيه ، وإن خرج ألف خرج قدر حاجة الألف ، والله الموفق.

المهديّة
مدينة بافريقية بقرب القيروان ، اختطّها المهدي المتغلّب على تلك البلاد في سنة ثلاثمائة. قيل : إنّه كان يرتاد موضعا يبني فيه مدينة حصينة ، خوفا من خارجي يخرج عليه ، حتى ظفر بهذا الموضع. وكانت جزيرة متّصلة بالبرّ كهيئة كفّ متّصلة بزند ، فوجد فيها راهبا في مغارة فسأله عن اسم الموضع فقال :هذه تسمّى جزيرة الخلفاء. فأعجبه هذا الاسم فبنى بها بناء وجعلها دار مملكة ، وحصّنها بسور عال وأبواب حديد ، وبنى بها قصرا عاليا. فلمّا فرغ من إحكامها قال : الآن آمنت على الفاطميات! يعني بناته.
وحكي انّه لمّا فرغ من البناء أمر راميا أن يرمي سهما إلى جهة المغرب ، فرمى فانتهى إلى موضع المصلّى فقال : إلى هذا الموضع يصل صاحب الحمار! يعني أبا يزيد الخارجي لأنّه يركب حمارا. فقالوا : ان الأمر كان كما قال ، وان أبا يزيد وصل إلى موضع السهم ووقف ساعة ، ثمّ رجع ولم يظفر ، ثمّ أمر بعمارة مدينة أخرى إلى جانب المهدية وجعل بين المدينتين طول ميدان ، وأفردها بسور وأبواب وسمّاها زويلة ، وأسكن أرباب الصناعات والتجارات فيها ، وأمر أن تكون أموالهم بالمهدية وأهاليهم بزويلة. قال : إن أرادوني بكيد بزويلة فأموالهم عندي بالمهدية ، وإن أرادوني بالمهدية خافوا على أهاليهم بزويلة ، فإني آمن منهم ليلا ونهارا!
وشرب أهلها من الصهاريج ، ولهم ثلاثمائة وستّون صهريجا على عدّة أيّام السنة ، يكفيهم كلّ يوم صهريج إلى تمام السنة ومجيء مطر العام المقبل.
ومرساها منقورة في حجر صلد تسع مائتي مركب ، وعلى طرف المرسى برجان بينهما سلسلة حديد إذا أريد إدخال سفينة أرسل الحرّاس أحد طرفي السلسلة لتدخل الخارجة ثمّ يمدّها.
ثمّ تناقصت حال ملوكها مع حصانة الموضع حتى استولى عليها الفرنج سنة

ثلاث وأربعين وخمسمائة ، وبقيت في يدهم اثنتي عشرة سنة حتى قدم عبد المؤمن افريقية سنة خمس وخمسين وخمسمائة واستعادها. وهي في يد بني عبد المؤمن إلى الآن.
نابلس
مدينة مشهورة بأرض فلسطين بين جبلين مستطيلة لا عرض لها. وبها اجتماع السامرة ، وهم طائفة من اليهود ، واليهود بعضهم يقول : انّهم مبتدعة ملّتنا! ومنهم من يقول : انّهم كفّار ملّتنا! ذكر بعض مشايخ نابلس انّه ظهر هناك تنّين عظيم فتوسّل الناس في هلاكه ، وكان شيئا هائلا له ناب عظيم ، فعلّقوا نابه هناك ليتعجّب الناس من عظمها وليس باصطلاحهم التنّين ، فعرف الموضع بها وقيل نابلس. بظاهر المدينة مسجد يقولون : ان آدم ، عليه السلام ، سجد لربّه هناك. وبها جبل يقول اليهود ان الخليل ، عليه السلام ، أمر بذبح ولده عليه ، لأن في اعتقادهم أن الذبيح كان إسحق ، عليه السلام. وبها عين تحت كهف تعظّمه السامرة. وبها بيت عبادة للسامرة يسمّى كزيرم.
ناصرة
قرية بقرب طبرية ، قيل : اسم النصارى مشتقّ منها لأنّهم كانوا من ناصرة.
وأهلها عيّروا مريم ، عليها السلام ، فهم قوم إلى هذه الغاية يعتقدون انّه لا تلد بكر من غير زوج.
من عجائبها شجرة الأترج ، ثمرتها على هيئة النساء ، لها ثديان وما يشبه اليدين والرجلين وموضع القبل مفتوح ، وهذا أمر مشهور عندهم.

نفزاوة
مدينة بافريقية قرب القيروان ؛ قال البكري : هي على نهر وهي كثيرة الأشجار والنخيل والثمار.
وبها عين عجيبة لا يدرك قعرها البتّة ، ومنها يسير السائر إلى قسطنطينة في أرض لا يهتدى إلى الطريق فيها إلّا بأخشاب منصوبة ، فإن أخذ يمينا أو شمالا غرق في أرض دهسة تشبه الصابون في الرطوبة وقد هلك ؛ قالوا : في تلك الأرض جماعات وعساكر ممّن دخلها ولم يعرف حالهم.
وادي الرمل
واد بأرض المغرب بعد بلاد الأندلس. قال صاحب عجائب الأخبار : لمّا ملك أبو ناشر ينعم سار نحو المغرب حتى انتهى إلى وادي الرمل ، وأراد العبور فيه فلم يجد مجازا لأنّه رمل يجري كالماء ، وسمع أن الرمل يسكن يوم السبت دون سائر الأيّام ، فأرسل نفرا من أصحابه يوم السبت وأمرهم أن يقطعوه ويقيموا بالجانب الآخر إلى السبت الآخر ، فساروا يومهم ذلك ونجم الرمل عليهم بالليل قبل أن يقطعوه فغرقوا. فلمّا أيس من رجوعهم أمر بصنم ونصبه على حافة الوادي ، وهو صورة رجل على فرس من نحاس ، وكتب على جبهته :ليس ورائي مذهب فلا يتكلّفنّ أحد المضي إلى الجانب الآخر. ثمّ انصرف ؛ قال الشاعر :
أبو ناشر الأنعام قد رام خطّة
 

علت فوق خطّات الملوك الأقادم
 
إلى الجانب الغربيّ يهوي بجحفل
 

يجرّون أطراف القنا والصّوارم
 
فلمّا دنا واد خبيث مسيله
 

برمل تراه كالجبال الرّواكم
 
أشار بتمثال وخطّ مترجم
 

بأن ليس من بعدي مرور لقاحم
 


وادي موسى
في قبلي بيت المقدس ، واد طيّب كثير الزيتون. نزل به موسى ، عليه السلام ، وعلم بقرب أجله فعمد إلى الحجر الذي يتفجّر منه اثنتا عشرة عينا ، سمّره في جبل هناك فخرجت منه اثنتا عشرة عينا ، وتفرّقت إلى اثنتي عشرة قرية ، كلّ قرية لسبط من الأسباط ، ثمّ قبض موسى ، عليه السلام ، وبقي الحجر هناك. وذكر القاضي أبو الحسن عليّ بن يوسف انّه رأى الحجر هناك ، وانّه في حجم رأس عنز ، وانّه ليس في جميع ذلك الجبل حجر يشبهه.
وادي النّمل
بين جبرين وعسقلان. مرّ به سليمان ، عليه السلام ، يريد غزو الشام إذ نظر إلى كراديس النمل مثل السحاب ، فأسمعته الريح كلام النملة تقول : يا أيّها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنّكم سليمان وجنوده! فأخذت النمل تدخل مساكنها والنملة تناديهم : الوحى الوحى! قد وافتكم الخيل! فصاح بها سليمان وأراها الخاتم ، فجاءت خاضعة ، فسألها سليمان عن قولها فقالت : يا نبي الله لما رأيت موكبك أمرت النمل بدخول مساكنها لئلّا يحطمها جندك ، فإني أدركت ملوكا قبلك كانوا إذا ركبوا الخيل أفسدوا! فقال ، عليه السلام : لست كأولئك ، إني بعثت بالاصلاح! أخبريني كم عددكم وأين تسكنون وما تأكلون ومتى خلقتم؟فقالت : يا نبي الله لو أمرت الجنّ والشياطين بحشر نمل الأرض لعجزوا عن ذلك لكثرتها ، فما على وجه الأرض واد ولا جبل ولا غابة إلّا وفي أكنافها مثل ما في سلطاني. ونأكل رزق ربّنا ونشكره ، وخلقنا قبل أبيك آدم بألفي عام.
وإنّ النملة الواحدة منّا لا تموت حتى تلد كراديس النمل ، وليس على وجه الأرض ولا في بطنها حيوان أحرص من النمل ، فإنّها تجمع في صيفها ما يملأ

بيتها وتظنّ أنّها لا تشبع به. ولها تسبيح وتقديس تسأل بهما ربّها أن يوسع الرزق على خلقه. فتعجّب سليمان من كثرتها وهدايتها وعجائب صفاتها.
واقصة
منزل بطريق مكّة. بها منارة من قرون الوحش وحوافرها. كان السلطان ملكشاه بن الب أرسلان السلجوقي خرج بنفسه يشيّع الحاجّ في بعض سني ملكه ، فلمّا رجع اصطاد من الوحوش شيئا كثيرا ، فبنى من قرونها وحوافرها منارة هناك كما فعله سابور ، والمنارة باقية إلى الآن.
ودّان
قال البكري : مدينة في جنوبي افريقية لها قلعة حصينة ، وهي مشتملة على مدينتين فيهما قبيلتان من العرب : سهميون وحضرميون. تسمّى مدينة السهميين لباك ، ومدينة الحضرميّين توصي ، وبابهما واحد. وبين القبيلتين قتال ، وبقربهم صنم من حجارة منصوب على ربوة يسمّى كرزة ، وحواليها قبائل البربر يستسقون بالصنم ، ويقرّبون له القرابين إلى زماننا هذا.
هجر
مدينة كبيرة قاعدة بلاد البحرين ، ذات خيرات كثيرة من النخل والرمان والتين والأترج والقطن. وبقلالها شبّه رسول الله ، صلّى الله عليه وسلّم ، نبق الجنّة ، وكذلك قال ، صلّى الله عليه وسلّم : إذا بلغ الماء قلّتين لم يحمل خبثا. أراد بهما قلال هجر سعتهما خمسمائة رطل. من عجائبها : من سكنها عظم طحاله.

هراه
مدينة بفارس قرب إصطخر ، كثيرة البساتين والخيرات ؛ قالوا : ان نساءها يغتلمن إذا زهرت الغبيراء كما تغتلم السنانير.
هنديجان
من قرى خوزستان. يتبرّك بها المجوس ويعظّمونها ، وبنوا بها بيوت النار ؛ قال مسعر بن مهلهل : سببه ان الهند غزت الفرس ، فالتقى الجمعان بهذا المكان وكان الظفر للفرس وهزمتهم هزيمة قبيحة ، فتبرّكوا بهذا الموضع. والآن بها آثار عجيبة وأبنية عادية. وتثار منها الدفائن كما تثار من أرض مصر.
هنديان
قرية بأرض فارس بين جبلين. بها بئر يعلو منها دخان لا يتهيّأ لأحد أن يقربها ، وإذا طار طائر فوقها سقط محترقا.
هبت
بليدة طيّبة على الفرات ذات أشجار ونخيل وخيرات كثيرة ، وطيب الهواء والتربة وعذوبة الماء ورياض مؤنقة ؛ قال أبو عبد الله السنبسي شاعر سيف الدولة :
فمن لي بهيت وأبياتها
 

فأنظر رستاقها والقصورا؟
 
فيا حبّذا تيك من بلدة
 

ومنبتها الرّوض غضّا نضيرا
 
وبرد ثراها إذا قابلت
 

رياح السّمائم فيها الهجيرا
 
أحنّ إليها على نأيها
 

وأصبر عن ذاك قلبا ذكورا
 
حنين نواعيرها في الدّجى
 

إذا قابلت بالضّجيج السّكورا
 
ولو أنّ ما بي بأعوادها
 

منوط لأعجزها أن تدورا
 


يابسة
جزيرة طويلة في البحر المتوسّط الشامي ، طولها خمسة وأربعون ميلا ، وعرضها خمسة عشر ميلا. بها مدن وقرى والغالب عليها الجبال. وفيها شجر الصنوبر. وليس بها شيء من السباع لا صغيرها ولا كبيرها إلّا القطّ البرّي ، ولا حيّة ولا عقرب. وذكر أهلها انّه إن حمل إليها سبع أو حيّة أو عقرب لم يلبث إلّا ريثما يستنشق هواءها يفوت على المقام. وانّها جزيرة كثيرة الفواكه والأعناب وزبيبها في غاية الحسن. وبها حجل كثير يفرّخ في جبالها ، وفراخ البزاة الجيّدة والنخل بها كثير جدّا.
ياقد
قرية من أعمال حلب. كانت بها امرأة تزعم أن الوحي يأتيها ، وآمن بها أبوها وكان يقول في أيمانه : وحقّ بنتي النبيّة ، فهزأ أبو سنان الخفاجي بها وقال :
بحياة زينب يا ابن عبد الواحد
 

وبحقّ كلّ نبيّة في ياقد
 
ما صار عندك روشن بن محسّن
 

فيما يقول الناس أعدل شاهد
 
نسخ التّغافل عنه خلط عمارة
 

وافاه في هذا الزّمان البارد
 
يزد
مدينة بأرض فارس آهلة كثيرة الخيرات والغلّات والثمرات. بها صنّاع الحرير السندس في غاية الحسن والصفاقة ، يحمل منها إلى سائر البلاد.
والله الموفق للصواب وإليه المرجع والمآب.

الاقليم الرابع
أوّله حيث يكون الظلّ إذا استوى الليل والنهار نصف النهار أربعة أقدام وثلاثة أخماس قدم وثلث خمس قدم ، وآخره حيث يكون الظلّ نصف النهار عند الاستواء خمسة أقدام وثلاثة أخماس قدم وثلث خمس قدم. يبتدىء من أرض الصين والتبت والختن وما بينهما ، ويمرّ على جبال قشمير وبلور وأرجان وبذخشان وكابل وغور وخراسان وقومس وجرجان وطبرستان وقوهستان وآذربيجان ، وأدنى العراق والجزيرة ورودس وصقلية إلى البحر المحيط من الأندلس.
وطول نهار هؤلاء في أوّل الإقليم أربع عشرة ساعة وربع ، وأوسطه أربع عشرة ساعة ونصف ، وآخره أربع عشرة ساعة ونصف وربع ساعة. وطوله من المشرق إلى المغرب ثمانية آلاف ومائتان وأربعة عشر ميلا وأربع عشرة دقيقة ، وعرضه مائتا ميل وتسعة وتسعون ميلا وأربع دقائق ، وتكسيره ألفا ألف وأربعمائة ألف وثلاثة وسبعون ألفا وستمائة واثنان وسبعون ميلا واثنتان وعشرون دقيقة.
ولنذكر بعض ما فيه من المدن والقرى مرتّبة على حروف المعجم ، والله المستعان وعليه التكلان :
آبه
بليدة بقرب ساوة طيبة إلّا أن أهلها شيعة غالية جدّا ، وبينهم وبين أهل ساوة منافرة لأن أهل ساوة كلّهم سنّية وأهل آبه كلّهم شيعة ؛ قال القاضي أبو نصر الميمندي :


وقائلة : أتبغض أهل آبه
 

وهم أعلام نظم والكتابه؟
 
فقلت : إليك عني إنّ مثلي
 

يعادي كلّ من عادى الصّحابه
 
بينها وبين ساوة نهر عظيم سيما وقت الربيع. بنى عليه أتابك شيركير ، رحمه الله ، قنطرة عجيبة ، وهي سبعون طاقا ليس على وجه الأرض مثلها.
ومن هذه القنطرة إلى ساوة أرض طينها الأزب ، يمتنع على السابلة المرور عليها عند وقع المطر عليها ، فاتّخذ عليها أتابك جادة من الحجارة المفروشة مقدار فرسخين لتمشي عليها السابلة من غير تعب.
آذربيجان
ناحية واسعة بين قهستان وارّان. بها مدن كثيرة وقرى وجبال وأنهار كثيرة. بها جبل سبلان ؛ قال أبو حامد الأندلسي : انّه جبل بآذربيجان بقرب مدينة أردبيل من أعلى جبال الدنيا. روي عن رسول الله ، صلّى الله عليه وسلّم ، انّه قال : من قرأ : سبحان الله حين تمسون وحين تصبحون ، إلى قوله تخرجون ، كتب له من الحسنات بعدد كلّ ورقة ثلج تسقط على جبل سبلان! قيل : وما سبلان يا رسول الله؟ قال : جبل بين أرمينية وآذربيجان ، عليه عين من عيون الجنّة ، وفيه قبر من قبور الأنبياء. وقال أيضا : على رأس الجبل عين عظيمة ماؤها جامد لشدّة البرد ، وحول الجبل عيون حارّة يقصدها المرضى ، وفي حضيض الجبل أشجار كبيرة وبينها حشيشة لا يقربها شيء من البهائم ، فإذا قرب شيء منها هرب ، وإن أكل منها مات.
وفي سفح الجبل قرية اجتمعت بقاضيها أبي الفرج بن عبد الرحمن الأردبيلي قال : ما هي إلّا قرية يحميها الجنّ! وذكر أنّهم بنوا مسجدا في القرية فاحتاجوا إلى قواعد لأعمدة المسجد ، فأصبحوا وعلى باب المسجد قواعد من الصخر المنحوت أحسن ما يكون.

وبها نهر الرس ، وهو نهر عظيم شديد جري الماء. وفي أرضه حجارة كبيرة لا تجري السفن فيه ، وله أجراف هائلة وحجارة كبيرة. زعموا أن من عبر نهر الرس ماشيا إذا مسح برجله ظهر امرأة عسرت ولادتها وضعت ، وكان بقزوين شيخ تركماني يقال له الخليل يفعل ذلك وكان يفيد.
حكى ديسم بن إبراهيم صاحب اذربيجان قال : كنت أجتاز على قنطرة الرس مع عسكري ، فلمّا صرت في وسط القنطرة رأيت امرأة حاملة صبيّا في قماط ، فرمحها بغل محمّل طرحها وسقط الطفل من يدها في الماء ، فوصل إلى الماء بعد زمان طويل لطول مسافة ما بين القنطرة وسطح الماء ، فغاص وطفا بعد زمان يسير وجرى به الماء ، وسلم من الحجارة التي في النهر. وكان للعقبان أوكار في اجراف النهر ، فحين طفا الطفل رآه عقاب فانقضّ عليه وشبّك مخالبه في قماطه ، وخرج به إلى الصحراء ، فأمرت جماعة أن يركضوا نحو العقاب ومشيت أيضا ، فإذا العقاب وقع على الأرض واشتغل بخرق القماط ، فأدركه القوم وصاحوا به ، فطار وترك الصبي ، فلحقناه فإذا هو سالم يبكي فرددناه إلى أمّه.
وبها نهر زكوير بقرب مرند لا يخوضه الفارس ، فإذا وصل إلى قرب مرند يغور ولا يبقى له أثر ، ويجري تحت الأرض قدر أربعة فراسخ ثمّ يظهر على وجه الأرض ، أخبر به الشريف محمّد بن ذي العقار العلوي المرندي.
وبها نهر ذكر محمّد بن زكرياء الرازي عن الجيهاني ، صاحب المسالك المشرقيّة ، ان باذربيجان نهرا ماؤه يجري فيستحجر ويصير صفائح حجر! وقال صاحب تحفة الغرائب : باذربيجان نهر ينعقد ماؤه صخرا صلدا كبيرا وصغيرا.
وبها عين ؛ قال صاحب تحفة الغرائب : باذربيجان عين يجري الماء عنها وينعقد حجرا ، والناس يملأون قالب اللبن من ذلك الماء ثمّ يتركونه يسيرا ، فالماء في القالب يصير لبنا حجريّا.

آرشت وناشقين
ضيعتان من ضياع قزوين على ثلاثة فراسخ منها. من عجائبهما أن الحديد ينطبع بآرشت ولا ينطبع بناشقين ، ولو أوقدوا عليه ما أوقدوا ، وقدر الصبّاغ يستوي بناشقين ولا يستوي بارشت ، ولو أوقدوا تحتها ما أوقدوا ، فلا يكون بآرشت صبّاغ ولا بناشقين حدّاد أصلا. وإذا تحوّل أحد الصانعين إلى الموضع الآخر لم ينجع عمله ، وهذا شيء مشهور يعرفه أهل تلك البلاد.
آمل
مدينة بطبرستان مشهورة. حدّثني الأمير أبو المؤيد حسام الدين بن النعمان أنّه إذا دخلها شيء من الضائنة ، وإن كانت من أسمن ما يكون ، تهزل بها جدّا بهزل لا يقاس إلى هزال المعز. وذكر أنّه أخبر بذلك فأمر أن يساق عدّة رؤوس من الضائنة. قال : رأيتها بعد ستّة أشهر عظاما مغشية بجلود ، وبقيت الألايا كالأذناب.
أبلّة
كورة بالبصرة طيّبة جدّا ، نضرة الأشجار متجاوبة الأطيار متدفقة الأنهار ، مؤنقة الرياض والأزهار ، لا تقع الشمس على كثير من أراضيها ، ولا تبين القرى من خلال أشجارها. قالوا : جنان الدنيا أربع : أبلّة البصرة ، وغوطة دمشق ، وصغد سمرقند ، وشعب بوّان.
والأبلة جانبان : شرقي وغربي ، أمّا الشرقي فيعرف بشاطىء عثمان قديما وهو عثمان بن ابان بن عثمان بن عفّان ، وهو العامر الآن بها الأشجار والأنهار والقرى والبساتين وهو على دجلة. وأنهارها مأخوذة من دجلة.
وبها أنواع الأشجار وأجناس الحبوب وأصناف الثمار ، لا تكاد تبين قراها

في وسطها من التفاف الأشجار.
وبها مشهد كان مسلحة لعمر بن الخطّاب ، وكانت بها شجرة سدر عظيمة كلّ غصن منها كنخلة ودورة ساقها سبعة أذرع ، والناس يأخذون قشرها ويتبخّرون به لدفع الحمّى ، وكان ينجع وذكروا انّه قلّما يخطىء. فلمّا ولّي بابكين البصرة أشاروا إليه بقطعها لمصلحة ، وكان قد ولّي البصرة مدّة طويلة وحسنت سيرتهم ، وكان هو في نفسه رجلا خيّرا ، فلمّا قطعها أنكر الناس فعزل عن قريب عن البصرة.
وأمّا الجانب الغربي من الابلة فخراب ، غير ان فيه مشهدا يعرف بمشهد العشار وهو مشرف على دجلة ، وهو موضع شريف قد اشتهر بين الناس ان الدعاء فيه مستجاب. وكان في قديم الزمان بهذا الجانب بنيان مشرف على دجلة وبساتين وقصور في وسطها ، وكان الماء يجري في دورها وقصورها وقد امتحقت الآن آثارها ، فسبحان من لا يعتريه التغيّر والزوال!
أبهر
مدينة بأرض الجبال كثيرة المياه والأشجار ، بناها سابور ذو الأكتاف.
قالوا : كانت عيونا كلّها فسدّها سابور بالصوف والجلود ، وبنى المدينة عليها.
وهي في غاية النزاهة من طيب الهواء وكثرة المياه والبساتين ، وخارجها أطيب من داخلها.
بها بساتين يقال لها بهاء الدين اباد ، لم ير أكبر منها طولا وعرضا. وهي عامة ينزل فيها القفل والعساكر لا يمنع أحد منها. ولها قهندز يتحصّن بها من خالف صاحب البلاد فبطلوها ، والآن قالوا يأوي إليها السباع لا يجسر أحد أن يأتيها.
بها عين كلّ نصل يسقى من مائها يبقى حادّا قطّاعا جدّا. والمدينة كلّها مشتملة على طواحين تدور على الماء ، وأكثر ثمارها العنب والجوز ونوع من الكمثرى مدوّرة في حجم النارنج ، يقال لها العبّاسي ، لذيذة جدّا ما في البلاد شيء

مثلها ، وعندهم من ذلك كثير جدّا ، يحملونها إلى البلاد للبيع ويعلّقونها حتى يأكلوها طول شتائهم يتفكّهون بها.
وأهلها أحسن الناس صورة كلّهم أهل السنّة ، لا يوجد فيهم إلّا كذلك.
وفيهم أدباء وفضلاء ، ولهم اجتماع كلمة على دفع ظلم الولاة ، لا يغلبهم وال ، أي وقت رأوا منه خلاف عادة قاموا كلّهم قيام رجل واحد لدفعه.
ينسب إليها الشيخ أبو بكر الطاهري كان من الابدال ، معاصر الشبلي. وله بأبهر رباط ينسب إليه ، وفي رباطه سرداب يدخل فيه كلّ جمعة ، ويخرج بأرض دمشق ويصلّي الجمعة بجامع دمشق ، وهذا حديث مشهور عندهم. وذكروا أن رجلا تبعه ذات يوم فإذا هو بأرض لم يرها أبدا ، والناس مجتمعون لصلاة الجمعة ، فسأل بعضهم عن ذلك الموضع فضحك وقال : أنت في دمشق وتسأل عنها! فقام طالع المدينة فلمّا عاد لم يجد الشيخ هناك ، فجعل ينادي ويقول للناس ما جرى له ، فلا يصدقه أحد إلّا رجل صالح قال له : دع عنك هذا الجزع ، وانتظره يوم الجمعة المستقبلة ، فإذا حضر الشيخ ارجع معه! فلمّا حضر الشيخ في الجمعة الأخرى تمسّك بذيله فقال له : لا تذكر هذا لأحد وأنا آخذك معي! ثمّ أخذه معه وعاد به إلى مكانه ، وهذه حكاية مشهورة عنه بأبهر.
وتنسب إليها سكينة الابهرية ، كانت في زمن الشيخ أبي بكر. وينسب إليها الوزير الفاضل الكامل أبو عمرو ، الملقّب بكمال الدين ، كان حاله شبيها بحال إبراهيم بن أدهم ، وكان وزيرا بقزوين ، وكان رجلا لطيفا فطنا شاعرا بالعربيّة والعجميّة ، محبّا لأهل الخير في زمان وزارته. فإذا في بعض الأيّام ركب في موكبه ومماليكه وحواشيه ، فلمّا خرج عن المدينة قال لمماليكه : أنتم أحرار لوجه الله! ونزل عن الدابّة ولبس اللبّاد وذهب إلى بيت المقدس ، وكان يحمل الحطب على ظهره ، ثمّ عاد إلى الشام ، وكان بها إلى أن توفّي في سنة تسعين وخمسمائة.

أبيورد
مدينة بخراسان بقرب سرخس ، بناها باورد بن جودرز ، وانّها مدينة وبيئة رديئة الماء ، من شرب من مائها يحدث به العرق المديني ، أمّا الغريب فلا يفوته البتّة ، وأمّا المقيم ففي أكثر أوقاته مبتلى به.
ينسب إليها أبو عليّ الفضيل بن غياض ، كان أوّل أمره يقطع الطريق بين سرخس وأبيورد حتى كان في بعض الرّبط في بعض الليالي وفي الرباط قفل ، فيقول بعضهم : قوموا لنرحل! فيقول البعض الآخر : اصبروا فإن الفضيل في الطريق ، فقال لنفسه : أنت غافل والناس يفزعون منك ، أعوذ بالله من هذه الحالة! فتاب وذهب إلى مكّة وأقام بها إلى أن مات. وحدّث سفيان بن عيينة : لمّا حجّ الرشيد ذهب إلى زيارة الفضيل ليلا ، فلمّا دخل عليه قال لي : يا سفيان أيّهم أمير المؤمنين؟ فأومأت إليه وقلت : هذا! فقال : أنت الذي تقلّدت أمر هذا الخلق بأحسن الوجه ، لقد تقلّدت أمرا عظيما! فبكى الرشيد وأمر له بألف دينار فأبى أن يقبلها ، فقال : أبا علي ان لم تستحلها فأعطها ذا دين واشبع بها جائعا واكس بها عاريا! فأبى ، فلمّا خرج الرشيد قلت له : أخطأت ، لو أخذت وصرفت في شيء من أبواب البرّ! فأخذ بلحيتي وقال : أبا محمّد ، أنت فقيه البلد وتغلط مثل هذا الغلط؟ لو طابت لأولئك لطابت لي!
وحكي أن الفضيل رؤي يوم عرفة على عرفات يبكي إلى آخر النهار ثمّ أخذ بلحيته وقال : واخجلتاه وإن غفرت! ومضى. وحكي انّه كان في جبل من جبال منى فقال : لو أن وليّا من أولياء الله أمر هذا الجبل أن يمتدّ لا متدّ! فتحرّك الجبل فقال الفضيل : اسكن لم أردك لهذا! فسكن الجبل. ولد الفضيل بسمرقند ، ونشأ بأبيورد ، ومات بمكّة سنة سبع وثمانين ومائة.

إربل
مدينة بين الزابين ، لها قلعة حصينة لم يظفر بها التتر ، مع أنّهم ما فاتهم شيء من القلاع والحصون ، بها مسجد يسمّى مسجد الكفّ ، فيه حجر عليه أثر كفّ إنسان ، ولأهل إربل فيه أقاويل كثيرة ولا ريب انّه شيء عجيب.
ينسب إليها الملك مظفر الدين كوكوبري بن زين الدين علي الصغير. كان ملكا شجاعا جوادا غازيا ، له نكايات في الفرنج يتحدّث الناس بها ، وكان معتقدا في أهل التصوّف ، بنى لهم رباطا لم يزل فيه مائتا صوفي ، شغلهم الأكل والرقص في كلّ ليلة جمعة. وكلّ من جاءه من أهل التصوّف آواه وأحسن إليه ، وإذا أراد السفر أعطاه دينارا. ومن أتاه من أهل العلم والخير والصلاح أعطاه على قدر رتبته.
وفي العاشر من ربيع الأوّل كان له دعوات وضيافات ، وفي هذا الوقت يجتمع عنده خلق كثير من الأطراف. وفي اليوم الثاني عشر مولد النبي ، عليه السلام ، كان له دعوة عظيمة يحضرها جميع الحاضرين ويرجع كلّ واحد بخير.
وكان يبعث إلى الفرنج أموالا عظيمة يشترى بها الأسارى. عمّر عمرا طويلا ومات سنة تسع وعشرين وستمائة.
اردبهشتك
قرية من قرى قزوين على ثلاثة فراسخ منها. من عجائبها عين ماء من شرب منها انطلق انطلاقا عظيما ، ويقصدها الناس من الأطراف في فصل الربيع لتنقية الباطن ، وبينها وبين قزوين نهر إذا جاوزوا بمائها ذلك النهر تبطل خاصيّته.
وقد حمل من ذلك الماء إلى قزوين في جرار واستعمل ولم يعمل شيئا. ومن خاصيّة هذا الماء ان أحدا يقدر أن يشرب منه خمسة أرطال أو ستة بخلاف غيره.

أردبيل
مدينة بآذربيجان حصينة طيّبة التربة ، عذبة الماء ، لطيفة الهواء ، في ظاهرها وباطنها أنهار كثيرة ، ومع ذلك فليس بها شيء من الأشجار التي لها فاكهة.
والمدينة في فضاء فسيح وأحاط بجميع ذلك الفضاء الجبال بينها وبين المدينة من كلّ صوب مسيرة يوم. ومن عجائبها أنّه إذا غرس في ذلك الفضاء لا يفلح الغرس ، وذلك لأمر خفي لا اطلاع عليه.
بناها فيروز الملك وهي من البحر على يومين بينهما دخلة شعراء عظيمة ، كثيرة الشجر جدّا يقطعون منها الخشب الذي منه الأطباق وقصاع الخلنج.
وفي المدينة صنّاع كثير لإصلاحها. ومن عجائبها ما ذكره أبو حامد الأندلسي قال : رأيت خارج المدينة في ميدانها حجرا كبيرا كأنّه معمول من حديد أكبر من مائتي رطل ، إذا احتاج أهل المدينة إلى المطر حملوا ذلك الحجر على عجلة ونقلوه إلى داخل المدينة ، فينزل المطر ما دام الحجر فيها ، فإذا أخرج منها سكن المطر.
والفأر بها كثير جدّا بخلاف سائر البلاد ، وللسنانير بها عزّة ولها سوق تباع فيه ينادون عليها انّها سنورة صيّادة مؤدبة لا هرّابة ولا سرّاقة ، ولها تجّار وباعة ودلّالون ، ولها راضة وناس يعرفون.
قال سندي بن شاهك وهو من الحكماء المشهورين : ما أعناني سوقة كما أعناني أصحاب السنانير ، يعمدون إلى سنور يأكل الفراخ والحمام ، ويكسر قفص القماري والحجل والوارشين ، ويجعلونه في بستوقة يشدّون رأسها ثمّ يدحرجونها على الأرض حتى يأخذه الدوار ، فيجعلونه في القفص مع الفراخ ، فيشغله الدوار عن الفراخ. فإذا رآه المشتري رأى عجيبا وظنّ انّه ظفر بحاجته ، فيشتريه بثمن جيّد ، فإذا مضى به إلى البيت وزال دواره يبقى شيطانا يأكل جميع طيوره وطيور جيرانه ، ولا يترك في البيت شيئا إلّا سرق وأفسد وكسر

فيلقى منه التباريح.
وأهل أردبيل مشهورون بكثرة الأكل ؛ حكى بعض التجّار قال : رأيت بها راكبا وقدّامه طبول وبوقات ، سألت عن شأنه فقالوا : إنّه تراهن على أكل تسعة أرطال أرز ورأس بقر ، وقد فعل ، ورطل أردبيل ألف وأربعون درهما ، وأرزّهم إذا طبخ يصير ثلاثة أضعاف ، فإنّه قد غلب.
أرسلان كشاد
قلعة كانت على فرسخين من قزوين على قلّة جبل. ذكر أن الإسماعيليّة في سنة خمس وتسعين وخمسمائة جاؤوا بالآلات على ظهر الدوابّ إليها في ليلة ، فلمّا أصبح أهل قزوين سدت مسالكها فصعب عليهم ذلك ، فشكوا إلى ملوك الأطراف فما أفادهم ذلك شيئا حتى قال الشيخ عليّ اليوناني ، وكان صاحب كرامات وعجائب : أنا أكشف عنكم هذه الغمّة! فكتب إلى خوارزمشاه تكش بن ايل ارسلان بن اتسز : بعلامة انّك كنت في ليلة كذا وكذا ، كنت وحدك تفكّر في كذا وكذا ، انهض لدفع هذا الشرّ عن أهل قزوين ، وإلّا لتصابنّ في ملكك ونفسك! فلمّا قرأ خوارزمشاه كتابه قال : هذا سرّ ما اطّلع عليه غير الله! فجاء بعساكره وحاصر القلعة وأخذها صلحا ، وشحنها بالسلاح والرجال وسلّمها إلى المسلمين وعاد.
وكانت الباطنية قد نقبوا طريقا من القلعة إلى خارجها وأخفوا بابها ، فدخلوا من ذلك النقب ليلا ، فلمّا أصبحوا كانت القلعة تموج من الرجال الباطنيّة ، فقتلوا المسلمين وملكوا القلعة ، فبعث الشيخ إلى خوارزمشاه مرّة أخرى ، فجاء بنفسه وحاصرها بعساكره وأهل قزوين شهرين ، والباطنية عرفوا أن السلطان لا يرجع دون العرض ، فاختاروا تسليمها على أمان من فيها ، فأجابهم السلطان إلى ذلك. قالوا : نحن ننزل عن القلعة دفعتين ، فإن لم تتعرّضوا للفرقة الأولى تنزل الثانية والقلعة لكم ، وإن تعرّضتم للفرقة الأولى فالفرقة الثانية تمنعكم عن القلعة.

فلمّا نزلوا خدموا للسلطان وذهبوا كلّهم ، فانتظر المسلمون نزول الفرقة الثانية فما كان فيها أحد نزلوا كلّهم دفعة ، فأمر السلطان بتخريبها وابطال حصانتها ، وهي كذلك إلى زماننا هذا ، والله الموفق.
أرمية
بلدة حصينة بآذربيجان كثيرة الثمرات واسعة الخيرات ، بقربها بحيرة يقال لها بحيرة أرمية ، وهي بحيرة كريهة الرائحة لا سمك فيها. وفي وسط البحيرة جزيرة بها قرى وجبال وقلعة حصينة ، حولها رساتيق لها مزارع ، واستدارة البحيرة خمسون فرسخا يخرج منها ملح يجلو شبه التوتيا ، وعلى ساحلها ممّا يلي الشرق عيون ينبع الماء منها ، وإذا أصابه الهواء يستحجر.
ومن عجائبها ما ذكر صاحب تحفة الغرائب : ان في بطائح بحر ارمية سمكة تتّخذ من دهنها ومن الموم شمعة ، وتنصب على طرف سفينة فارغة تخلى على وجه الماء ، فإن السمك يأتي بنور ذلك الشمع ، ويرمي نفسه في السفينة حتى تمتلىء السفينة من السمك ، ولتكن سفينة مقعّرة حتى لا يفلت السمك منها.
أستوناوند
قلعة مشهورة بدنباوند من أعمال الري. وهي من القلاع القديمة والحصون الحصينة ، عمرت منذ ثلاثة آلاف سنة لم يعرف انّها أخذت قهرا إلى أن تحصن بها ابن خوارزمشاه ركن الدين غورسايحي عند ورود التتر ، سنة ثماني عشرة وستمائة ، وقد عرض عليه استوناوند وأردهن فترجّح استوناوند في نظره مع حصانة أردهن. قالوا : لو كان على اردهن رجل واحد لم تؤخذ منه قهرا أبدا إلّا إذا أعوزته الميرة ، فتحصّن بها فعلم التتر به ونزلوا عليها ، وجمعوا حطبا كثيرا جعلوه حولها ثمّ أضرموا فيه النار ، فانصدع صخرها وتفتّت وزالت حصانتها ثمّ صعدوا ، وابن خوارزمشاه قاتل حتى قتل.

أسفجين
قرية من قرى همذان من ناحية يقال لها ونجر بها منارة الحوافر ، وهي منارة عالية من حوافر حمر الوحش ، حكى أحمد بن محمّد بن إسحق الهمذاني أن شابور بن أردشير الملك حكم منجموه انّه يزول الملك عنه ويشقى ، ثمّ يعود إليه ، فقال لهم : ما علامة عود الملك؟ قالوا : إذا أكلت خبزا من الذهب على مائدة من الحديد!
فلمّا ذهب ملكه خرج وحده تخفضه أرض وترفعه أخرى ، إلى أن صار إلى هذه القرية فأجر نفسه من شيخ القرية يزرع له نهارا ويطرد الوحش عن الزرع ليلا ، فبقي على ذلك مدّة وكانت نفسه نفس الملوك ، فرأى شيخ القرية منه أمانة وجلادة فزوّج بنته منه ، فلمّا تمّ على ذلك أربع سنين وانقضت أيّام بؤسه اتّفق ان كان في القرية عرس اجتمع فيه رجالهم ونساؤهم ، وكانت امرأة شابور تحمل إليه كلّ يوم طعامه ، فكانت في ذلك اليوم اشتغلت عنه إلى ما بعد العصر.
فلمّا ذكرت عادت إلى بيتها فما وجدت إلّا قرصين من الدخن ، فحملتهما إليه فوجدته يسقي الزرع وبينها وبينه ساقية. فمدّ المسحاة إليها فجعلت القرصين عليها ، فقعد يأكلهما فتذكّر قول المنجّمين : أكل خبز الذهب على مائدة الحديد.
فعرف أن أيّام البؤس انقضت ، فظهر للناس واجتمع عليه العساكر وعاد إلى ملكه. فقالوا : ما أشدّ شيء عليك في أيّام البؤس؟ قال : طرد الوحوش عن الزرع بالليل! فصادوا في ذلك الموضع من حمر الوحش ما لا يحصى ، وأمر أن يبنى من حوافرها منارة ، فبنوا منارة ارتفاعها خمسون ذراعا ودورتها ثلاثون مصمتة بالكلس والحجارة ، وحوافر الوحش حولها مسمّرة بالمسامير ، والمنارة مشهورة في هذا الموضع إلى زماننا.

أسفرايين
بلدة بأرض خراسان مشهورة ، أهلها أهل الخير والصلاح. من مفاخرها أبو الفتوح محمّد بن الفضل الاسفراييني. كان إماما فاضلا عالما زاهدا أسرع الناس عند السؤال جوابا ، وأسكتهم عند الايراد خطابا ، مع صحة العقيدة والخصال الحميدة ، وقلّة الالتفات إلى الدنيا وذويها. سكن بغداد مدّة فلمّا اعتزم العود إلى خراسان شكا إليه أصحابه من مفارقته فقال : لعلّ الله أراد أن تكون تربتي في جوار رجل صالح! فلمّا وصل إلى بسطام فارق الدنيا ودفن بجنب الشيخ أبي يزيد البسطامي.
وحكى شيخ الصوفيّة ببسطام وهو عيسى بن عيسى قال : رأيت أبا يزيد في النوم يقول : يصل إلينا ضيف فأكرموه! فوصل في تلك الأيّام الشيخ أبو الفتح وفارق الدنيا. وكنت جعلت لنفسي موضعا عند تربة الشيخ أبي يزيد ، فآثرت الشيخ أبا الفتح به ، ودفنته بجنب أبي يزيد.
اشتروين
ضيعة كبيرة من ضياع قزوين على مرحلتين منها. وانّها كانت قرية غناء كثيرة الخيرات وافرة الغلّات. نزل بها الشيخ نور الدين محمّد بن خالد الجيلي ، وكان رجلا عظيم الشأن صاحب الآيات والكرامات ، اتّخذها وطنا وتزوّج بها فحلّت بها البركة ، وصارت أعمر ممّا كانت وأوفر ريعا وأكثر أهلا.
وكان الشيخ يزرع بها شيئا يسيرا فيحصل منه ريع كثير يفي بنفقته أهله وضيافة زوّاره. وكان الشيخ كثير الزّوّار يقصده الناس من الأطراف. ومن العجب انّه وقع بتلك الأرض في بعض السنين جراد ما ترك رطبها ولا يابسها ، وما تعرّضت لزرع الشيخ بسوء. وكانت تلك القرية محطّ الرحال ومحلّ البركة بوجود هذا الشيخ ، إلى أن جهلت سفهاؤها نعم الله تعالى عليهم بجوار هذا الشيخ ،

فقالوا : ان زروعنا تيبس بسبب زرع الشيخ لأن الماء يقصر عن زروعنا بسبب زرعه! فلمّا سمع الشيخ ذلك فارق تلك القرية وتحوّل بأهله إلى قزوين في سنة أربع عشرة وستّمائة. فلمّا خرج الشيخ منها كانت كبيّت نزع عماده وانهارت قبابها ، وانقطع الماء الذي كانوا يبخلون به على الشيخ ، فأخرج دهاقينها أموالا كثيرة لعمارة القناة فما أفادهم شيئا. وإلى الآن هي خراب.
أصفهان
مدينة عظيمة من أعلى المدن ومشاهيرها ، جامعة لأشتات الأوصاف الحميدة من طيب التربة وصحة الهواء وعذوبة الماء ، وصفاء الجوّ وصحّة الأبدان ، وحسن صورة أهلها وحذقهم في العلوم والصناعات حتى قالوا : كلّ شيء استقصى صنّاع أصفهان في تحسينها عجز عنها صناع جميع البلدان ؛ قال الشاعر :
لست آسى من أصفهان على شي
 

ء سوى مائها الرّحيق الزّلال
 
ونسيم الصّبا ومنخرق الرّي
 

ح وجوّ صاف على كلّ حال
 
يبقى التّفّاح بها غضّا سنة ، والحنطة لا تتسوّس بها ، واللحم لا يتغيّر أيّاما. والمدينة القديمة تسمّى جي ؛ قالوا : إنّها من بناء الإسكندر. والمدينة العظمى تسمّى اليهوديّة ، وذاك أن بختنصّر أخذ أسارى بيت المقدس أهل الحرف والصناعات ، فلمّا وصلوا إلى موضع أصفهان وجدوا ماءها وهواءها وتربتها شبيهة ببيت المقدس ، فاختاروها للوطن وأقاموا بها وعمروها. وهي مدينة ترابها كحل وحشيشها زعفران وونيم ذبابها عسل.
من عجائبها أمر تفّاحها فإنّها ما دامت في أصفهان لا يكون لها كثير رائحة ، فإذا أخرجت منها فاحت رائحتها حتى لو كانت تفّاحة في قفل لا يبقى في القفل أحد إلّا يحسّ برائحتها. وبها نوع من الكمثرى يقال له ملجي ليس في شيء من البلاد مثله. وإذا وصلوا شجرة الكمثرى بشجرة الخلاف تأتي بثمر لذيذ جدّا.

ولصنّاعها يد باسطة في تدقيق الصناعات ، لا ترى خطوطا كخطوط أهل أصفهان ولا تزويقا كتزويقهم ، وهكذا صنّاعهم في كلّ فنّ فاقوا جميع الصّنّاع ، حتى ان نسّاجها ينسج خمارا من القطن أربعة أذرع وزنها أربعة مثاقيل. والفخّار يعمل كوزا وزنه أربعة مثاقيل يسع ثمانية أرطال ماء ، وقس على هذا جميع صناعاتهم.
وأمّا أرباب العلوم كالفقهاء والأدباء والمنجّمين والأطباء فأكثر من أهل كلّ مدينة ، سيما فحول الشعراء أصحاب الدواوين ، فاقوا غيرهم بلطافة الكلام وحسن المعاني وعجيب التشبيه وبديع الاقتراح ، مثل رفيع فارسي دبير وكمال زياد وشرف شفروه وعزّ شفروه وجمال عبد الرزّاق وكمال إسماعيل ويمن مكّي. فهؤلاء أصحاب الدواوين الكبار لا نظير لهم في غير أصفهان.
وينسب إليها الأديب الفاضل أبو الفرج الأصفهاني ، صاحب كتاب الأغاني ، ذكر في ذلك أخبار العرب وعجائبها وأحسن أشعارهم. كتاب في غاية الحسن كثير الفوائد لم يسبقه في ذلك أحد.
وينسب إليها الأستاذ أبو بكر بن فورك ، كان أشعريّا لا تأخذه في الله لومة لائم ، درّس ببغداد مدّة. وكان جامعا لأنواع العلوم ، صنّف أكثر من مائة مجلّد في الفقه والتفسير وأصول الدين. ثمّ ورد نيسابور فبنوا له دارا ومدرسة ؛ قال الاستاذ أبو القاسم القشيري : حكى أبو بكر بن فورك قال : حملت إلى شيراز مقيّدا لفتنة في الدين ، فوافينا البلد ليلا فلمّا أسفر النهار ورأيت في مسجد على محرابه مكتوبا : أليس الله بكاف عبده؟ فعلمت أن الأمر سهل وطبت به نفسا ، وكان الأمر كذلك ، ثمّ دعي إلى غزنة وجرت له بها مناظرات مع الكرامية. فلمّا عاد سمّ في الطريق ودرج ودفن بنيسابور ، ومشهده ظاهر بها يستسقى به ويجاب الدعاء فيه.
وينسب إليها الحافظ أبو نعيم الأصفهاني ، واحد عصره وفريد دهره.
هو صاحب حلية الأولياء ، وله تصانيف كثيرة ، وله كرامات : حكي أن أهل

أصفهان تعصّبوا عليه ومنعوه من الجامع ، فبعث السلطان محمود إليهم واليا فوثبوا إليه وقتلوه ، فذهب السلطان إليهم بنفسه وآمنهم حتى اطمأنوا ثمّ قصدهم يوم الجمعة ، وأخذ أبواب الجامع وقتل فيهم مقتلة عظيمة. فمن كان في الجامع قتل والحافظ أبو نعيم كان ممنوعا من الجامع فسلم.
وينسب إليها صدر الدين عبد اللطيف الخجندي. كان رئيسا مطاعا في أصفهان عالما واعظا شاعرا ، يهابه السلاطين ويتبعه مائة ألف مسلّح : محمّد بن ايلدكز أتابك السلجوقية أخذه معه لا يخلّيه يرجع إلى أصفهان مدّة مديدة ، لأنّه ما أراد أن يقبض عليه ظاهرا ، ولا أن يخليّه لأنّه يخاف شرّه ، فكان يستصحبه فاتّخذ يوما مجلس الوعظ وأتابك حاضر في مجلس وعظه ، وله ابنان صغيران واقفان بين يديه ، فصدر الدين شاهد ذلك على المنبر فاتّخذ الفرصة وأنشد :
شاه با بندكان جفا نكند
 

ور كند رحمتش رها نكند
 
عدل خسرو كجا بديد آيد
 

در جهان كركسي خطا نكند
 
هر كرا طفلكان خرد بود
 

بدر از طفلكان جدا نكند
 
بكى أتابك بكاء شديدا ، وكان ملكا عادلا رحيما ، رحمه الله. وتوفي صدر الدين في شوال سنة ثلاث وعشرين وخمسمائة.
ذكر أن أهل أصفهان موصوفون بالشحّ. نقل عن الصاحب أبي القاسم بن عبّاد ، وزير مجد الدولة من آل بويه ، انّه كان يقول لأصحابه إذا أراد دخول أصفهان : من له حاجة فليسأل قبل دخول أصفهان ، فإني إذا دخلتها وجدت في نفسي شحّا لم أجد في غيرها!
حكى رجل أنّه تصدّق برغيف على ضرير بأصفهان فقال الضرير : أحسن الله غربتك! فقال الرجل : كيف عرفت غربتي؟ قال : لأني منذ ثلاثين سنة ما أعطاني أحد رغيفا صحيحا!

وحدّث الأمير حسام الدين النعمان : أن البقر بأصفهان يقوى حتى لو حصل فيها أعجف ما يكون ، بعد مدّة يسيرة يبقى قويّا سمينا حتى يعصي ولا ينقاد.
بها مسجد يسمّى مسجد خوشينه. زعموا أن من حلف كاذبا في هذا المسجد تختلّ أعضاؤه ، وهذا أمر مستفيض عند أهل أصفهان.
بها نهر زرنروذ ، وهو موصوف بعذوبة الماء ولطافته ، يغسل الغزل الخشن بهذا الماء فيبقى ليّنا ناعما مثل الحرير ، مخرجه من قرية يقال لها بنا كان ، ويجتمع إليه مياه كثيرة فيعظم أمره ويمتدّ ، ويسقي بساتين أصفهان ورساتيقها ، ثمّ يمرّ على مدينة أصفهان ويغور في رمال هناك. ويخرج بكرمان على ستّين فرسخا من الموضع الذي يغور فيه فيسقي مواضع بكرمان ثمّ يصبّ في بحر الهند. ذكر أنّهم أخذوا قصبة وعلّموها بعلائم وأرسلوها في الموضع الذي يغور فيه ، فوجدوها بعينها بأرض كرمان ، فاستدلّوا بذلك على أنّه نهر زرنروذ.
أفشنة
قرية من ناحية خرميثن من ضياع بخارى ، قال أبو عبيد الجوزجاني :حدّثني أستاذي أبو عليّ الحسين بن عبد الله بن سينا أن أباه كان من بلخ ، انتقل إلى بخارى في زمن نوح بن نصر الساماني ، وتصرّف في الأعمال وتزوّج بأفشنة فولدت بها ، وطالعي السرطان والمشتري والزهرة فيه ، والقمر وعطارد في السنبلة ، والمريخ في العقرب ، والشمس في الأسد ، وكان المشتري في السرطان على درجة الشرف والشعرى مع الرأس على درجة الطالع ، فكانت الكواكب كلّها في الحظوظ ؛ قال : فلمّا بلغت سنّ التمييز سلّمني إلى معلّم القرآن ثمّ إلى معلّم الأدب ، فكان كلّ شيء قرأه الصبيان على الأديب احفظه ، والذي كلّفني أستاذي كتاب الصفات وكتاب غريب المصنّف ، ثمّ أدب الكتّاب ثمّ إصلاح المنطق ثمّ كتاب العين ثمّ شعر الحماسة ثمّ ديوان ابن الرومي ، ثمّ تصريف المازني ثمّ نحو سيبويه ، فحفظت تلك الكتب في سنة ونصف ، ولو لا تعويق الأستاذ
لحفظتها بدون ذلك ، وهذا مع حفظي وظائف الصبيان في المكتب. فلمّا بلغت عشر سنين كانوا في بخارى يتعجّبون مني ، ثمّ شرعت في الفقه ، فلمّا بلغت اثنتي عشرة سنة صرت أفتي في بخارى على مذهب أبي حنيفة ، ثمّ شرعت في علم الطبّ وصنّفت القانون وأنا ابن ستّ عشرة سنة ، فمرض نوح بن نصر الساماني فجمعوا الأطباء لمعالجته فجمعوني أيضا معهم ، فرأوا معالجتي خيرا من معالجات كلّهم ، فصلح على يديّ ، فسألت أن يوصي لخازن كتبه أن يعيرني كلّ كتاب طلبت ففعل ، فرأيت في خزانته كتب الحكمة من تصانيف أبي نصر بن طرخان الفارابي ، فاشتغلت بتحصيل الحكمة ليلا ونهارا حتى حصلتها. فلمّا انتهى عمري إلى أربع وعشرين كنت أفكّر في نفسي أنّه لا شيء من العلوم لا أعرفه.

إلى ههنا نقل الجوزجاني عن الشيخ الرئيس. وحكى غيره أن دولة السامانية لمّا انقرضت صارت مملكة ما وراء النهر لبني سبكتكين ، فلمّا ولّي السلطان محمود سعى الحسّاد إلى السلطان في حقّ أبي عليّ ، فهرب من بخارى إلى خراسان واجتمع بصاحب نسا فإنّه كان ملكا حكيما ، فأكرمه فعرّف أعداؤه السلطان انّه عند صاحب نسا ؛ فقال لوزيره : اكتب إلى صاحب نسا ان ابعث إلينا رأس أبي عليّ! فكتب إلى صاحب نسا : ان كان أبو عليّ عندك فابعده سريعا! وكتب بعد يوم على يد قاصد آخر ان ابعث إلينا رأس أبي عليّ. فلمّا وصل القاصد الأوّل أبعده ، فلمّا وصل الثاني قال : إنّه كان عندنا فمشى منذ مدّة!
فعزم أبو عليّ طبرستان خدمة شمس المعالي قابوس بن وشمكير ، وكان ملكا فاضلا حكيما ، فلمّا ورد طبرستان كان قابوس محبوسا في قلعة ، فأتى أرض الجبال مملكة آل بويه خائفا ، فورد همذان وقصد فصّادا يفصد الناس.
فطلب يوما لفصد امرأة فلمّا رآها قال : الفصد لا يصلح لها ، وأبى. فطلبوا غيره فلمّا فصدها غشي عليها فقالوا لأبي عليّ : كنت أنت مصيبا فدبّر أمرها.
فوصف شيئا من المقويات فصلحت ، فتعجّبوا من ذكائه وقالوا : إنّه طبيب جيد.
ومرضت امرأة من بنات الملوك وعجز الأطباء عن علاجها ، فرآها أبو عليّ

وقال : مرضها العشق! فأنكرت المرأة. قال أبو عليّ : إن شئتم أعيّن لكم من تعشقه! اذكروا أسامي من يكون صالحا لذلك ، وأنا أجسّ نبضها! فلمّا ذكروا اسم معشوقها اضطرب نبضها وتغيّر حالها ، فعرف ذلك منها. قالوا :فما علاجها؟ قال : ان العشق تمكّن منها تمكّنا شديدا ، إن لم تزوّجوها تتلف!
فاشتهر عند أهل همذان انّه طبيب جيّد ، حتى جاء ناس من بخارى خدموا لأبي عليّ خدمة الملوك. فسأل أهل همذان عنهم فقالوا : هذا أبو عليّ بن سينا.
فعرف بهمذان ، وذكروا أن شمس الدولة صاحب همذان كان مبتلى بالقولنج ، فعالجه أبو عليّ ، فاستوزره شمس الدولة فبقي في وزارته مدّة ، وكانت دولة آل بويه متزلزلة بين أولاد الأعمام يحارب بعضهم بعضا ، فلقي من الوزارة تعبا شديدا حتى نهب داره وكتبه. فلمّا مات شمس الدولة وجلس ابنه مكانه ، استعفى أبو عليّ عن الوزارة واتّصل بعلاء الدولة صاحب أصفهان ، وكان ملكا حكيما أكرم مثواه ، وكان عنده إلى أن فارق الدنيا سنة ثمان وعشرين وأربعمائة عن ثمان وخمسين سنة ودفن بهمذان.
الموت
قلعة حصينة من ناحية روذبار بين قزوين وبحر الخزر على قلّة جبل ، وحولها وهاد لا يمكن نصب المنجنيق عليها ولا النشّاب يبلغها. وهي كرسي ملك الإسماعيليّة ؛ قيل : ان بعض ملوك الديلم أرسل عقابا للصيد وتبعها ، فرآها وقعت على هذا الموضع فوجده موضعا حصينا ، فاتّخذه قلعة وسمّاها إله أموت أي تعليم العقاب بلسان الديلم. ومنهم من قال : اسم القلعة بتاريخها لأنّها بنيت في سنة ستّ وأربعين وأربعمائة وهي م وت.
ينسب إليها حسن الصبّاح داعي الباطنيّة ، وكان عارفا بالحكمة والنجوم والهندسة والسحر ، ونظام الملك كان يكرمه لفضله ، فقال يوما بطريق الفراسة :عمّا قريب يصل هذا جمعا من ضعفاء العوام! فذهب الصباح إلى مصر ودخل

على المستنصر واستأذن منه أن يدعو الناس إلى بيعته ، وكان خلفاء مصر يزعمون أنّهم من نسل محمّد بن إسماعيل بن جعفر ، فعاد الصباح إلى بلاد العجم حتى وصل إلى ناحية روذبار ، فرأى شخصا على غصن شجرة وهو يضرب أصل الغصن بالفأس ، فقال في نفسه : لا أجد قوما أجهل من هؤلاء! فألقى جرانه هناك وأظهر النسك ، وكان كوتوال الموت رجلا علويّا حسن الظنّ في الصباح ، فأحكم الصباح أمره مع الناس وأخرج العلوي من القلعة. وكان معه صبي قال هو من نسل محمّد بن إسماعيل ، والإمامة كانت لأبيه والآن له ، واحكم أساس دعوته فيهم وقال للقوم : لا بدّ للناس من معلّم ، ومعلمكم هذا الصبي ، وطاعة هذا المعلّم واجب عليكم ، فإذا رضي عنكم سعدتم في الدنيا والآخرة ، ولا حاجة بكم إلى شيء سوى طاعة المعلّم. فاستخفّ قومه فأطاعوه حتى صاروا يفدون أنفسهم له ، فلمّا عرف علماء الإسلام اعتقادهم وإخلالهم بأركان الدين افتوا بإلحادهم ، وجعلوا يغزونهم ويسبون منهم فقتلوا جمعا من العظماء على يد الفداية ، منهم :الخليفة المسترشد ونظام الملك وبكتمر صاحب أرمن ، وانقلمس صاحب العراق.
فخاف منهم ملوك جميع الأطراف.
وفي زمن المستعصم ظهر شخص باليمن يدعي الخلافة ، فاجتمع عليه قوم بعثوا إليه فقتلوه ، وكانت شوكتهم باقية إلى أن قتلوا واحدا من عظماء التتر ، فحاصروهم سبع سنين فتلفوا على القلاع جوعا وهلكوا ، ومنهم من نزل فقتلوهم عن آخرهم واندفع شرّهم.
إيذج
مدينة بين أصفهان وخوزستان كثيرة الزلازل ، بها معادن كثيرة ، من عجائبها ضرب من القاقلّى عصارتها دواء عجيب للنقرس ، وبها بحيرة تعرف بفم البوّاب ، ماؤها دائر إذا وقع فيها شيء من الحيوان لا يغوص بل يدور فيها حتى يموت ، ثمّ يقذف إلى الشطّ.


أخبر بهذا كلّه الحافظ ابن النجّار شيخ المحدّثين ببغداد وقال : شاهدت العين وشربت من مائها ، وزرت مشهد الشيخ هناك فوجدت روحا تامّا.
ايلابستان
قرية بين اسفرايين وجرجان ، من عجائبها ما ذكره صاحب تحفة الغرائب ان بها مغارة يخرج منها ماء كثير ينبع من عين فيها ، فربّما ينقطع ذلك الماء في بعض السنين أشهرا ، فإذا دام انقطاعه يخرج أهل القرية من الرجال بأحسن ثيابهم والدفوف والشبابات والملاهي إلى تلك العين ، ويرقصون عندها ويلعبون ، فإن الماء ينبع من العين ويجري بعد ساعة ، وهو ماء كثير بقدر ما يدير رحى.
بابل
اسم قرية كانت على شاطىء نهر من أنهار الفرات بأرض العراق في قديم الزمان ، والآن ينقل الناس آجرّها. بها جبّ يعرف بجبّ دانيال ، عليه السلام ، يقصده اليهود والنصارى في أوقات من السنة وأعياد لهم. ذهب أكثر الناس إلى أنّها هي بئر هاروت وماروت ، ومنهم من ذهب إلى أن بابل أرض العراق كلّها.
ومن عجائبها ما ذكر أن عمر بن الخطّاب سأل دهقان الفلوجة عن عجائب بلادهم فقال : عجائب بابل كثيرة ، لكن أعجبها أمر المدن السبع ، كانت في كلّ مدينة أعجوبة. أمّا المدينة الأولى فكان الملك ينزلها وفيها بيت ، في ذلك البيت صورة الأرض بقراها ورساتيقها وأنهارها ، فمتى امتنع أهل بلدة من حمل الخراج خرق أنهارهم في تلك الصورة وغرق زروعهم ، فحدث بأهل تلك البلدة مثل ذلك حتى رجعوا عن الامتناع ، فيسدّ أنهارهم في الصورة فينسدّ في بلدهم.
والمدينة الثانية كان فيها حوض عظيم ، فإذا جمع الملك قومه حمل كلّ واحد معه شرابا يشربه عند الملك وصبّه في ذلك الحوض ، فإذا جلسوا للشرب شرب كلّ واحد منهم شرابه الذي كان معه وحمل من منزله.

والمدينة الثالثة كان على بابها طبل معلّق ، فإذا غاب إنسان من أهل تلك المدينة والتبس أمره ولم يعلم حيّ هو أم ميت ، دقّوا ذلك الطبل على اسمه ، فإن كان حيّا ارتفع صوته ، وإن كان ميتا لم يسمع منه صوت البتّة.
والمدينة الرابعة كان فيها مرآة من حديد ، فإذا غاب رجل عن أهله وأرادوا أن يعرفوا حاله التي هو فيها ، أتوا تلك المرآة على اسمه ونظروا فيها فرأوه على الحالة التي هو فيها.
والمدينة الخامسة كان على بابها عمود من نحاس وعلى رأسه اوزّة من نحاس ، فإذا دخلها جاسوس صاحت صيحة سمعها كلّ أهل المدينة ، فعلموا أن جاسوسا دخل عليهم.
والمدينة السادسة كان بها قاضيان جالسان على طرف ماء ، فإذا تقدّم إليهما خصمان قرآ شيئا وتفلا على رجليهما وأمراهما بالعبور على الماء ، فغاص المبطل في الماء دون المحقّ.
والمدينة السابعة كانت بها شجرة كثيرة الأغصان ، فإن جلس تحتها واحد أظلّته إلى ألف نفس ، فإن زاد على الألف واحد صاروا كلّهم في الشمس.
وروي عن الأعمش أن مجاهدا كان يحبّ أن يسمع من الأعاجيب ، ولم يسمع بشيء من الأعاجيب منها إلّا صار إليه وعاينه. فقدم أرض بابل فلقيه الحجّاج وسأله عن سبب قدومه ، فقال : حاجة إلى رأس الجالوت! فأرسله إليه وأمره بقضاء حاجته ، فقال له رأس الجالوت : ما حاجتك؟ قال : أن تريني هاروت وماروت! فقال لبعض اليهود : اذهب بهذا وأدخله إلى هاروت وماروت لينظر إليهما. فانطلق به حتى أتى موضعا ورفع صخرة ، فإذا شبه سرب ، فقال له اليهودي : انزل وانظر إليهما ولا تذكر الله! فنزل مجاهد معه فلم يزل يمشي به اليهودي حتى نظر إليهما ، فرآهما مثل الجبلين العظيمين منكوسين على رأسيهما وعليهما الحديد من أعقابهما إلى ركبهما مصفّدين ، فلمّا رآهما مجاهد لم يملك نفسه فذكر الله ، فاضطربا اضطرابا شديدا حتى كادا يقطعان ما عليهما من

الحديد ، فخرّ اليهودي ومجاهد على وجههما ، فلمّا سكنا رفع اليهودي رأسه وقال لمجاهد : أما قلت لك لا تفعل ذلك فكدنا نهلك! فتعلّق مجاهد به ولم يزل يصعد به حتى خرجا.
بالس
بليدة على ضفة الفرات من الجانب الغربي ، فلم تزل الفرات تشرّق عنها قليلا قليلا حتى صار بينهما في أيّامنا هذه أربعة أميال.
بدخشان (1)
مدينة مشهورة بأعلى طخارستان. بها معدن البلخش المقاوم للياقوت ، وقد حدّث من شاهده قال : انّه عروق في جبالها يكثر بها إلّا أن الجيّد قليل. وبها معدن اللازورد ومعدن البيجادق وهو حجر كالياقوت ، وبها معدن البلّور الخالص.
ومن عجائبها حجر الفتيلة وهو يشبه البردي ، يحسب العامة انّه ريش الطائر لا تحرقه النار ، يدهن ويشعل فيتقد مثل الفتيلة ، فإذا فني الدهن بقي كما كان ولم يتغيّر شيء من صفته ، وهكذا كلّما وضع في الدهن اشتعل ، ويتّخذ منه قناديل غلاظ للخوان ، فإذا اتسخت ألقيت في النار فذهب عنها الدرن وصفا لونها. وبها حجر يترك في البيت المظلم يضيء شيئا يسيرا ، كلّ ذلك عن البشّاري.
برقعيد
بليدة بين الموصل ونصيبين ، كانت قديما مدينة كبيرة ممرّ القوافل.
يضرب بأهلها المثل في اللصوصيّة. يقال : لصّ برقعيدي! فكانت القوافل إذا نزلت بهم لقيت منهم الأمرّين. حكي أن قفلا نزل بهم فذهبوا إلى بعض جدرانها
__________________
(1) وردت في معجم البلدان بالذال المعجمة : بذخشان.ss

احترازا من اللصوص ، وجعلوا دوابهم تحت الجدار وأمتعتهم حولها ، واشتغلوا بحراسة ما تباعد عن الجدار لأمنهم من صوب الجدار. فلمّا كان الليل صعد البرقعيديون السطح ، وألقوا على الدواب كلاليب أنشبوها في براذعها وجذبوها إلى السطح ، ولم يدر القوم إلى وقت الرحيل ، فطلبوا الدواب فما وجدوها ، فذهبوا وتركوها. فلمّا كثرت منهم أمثال هذه الأفاعيل تجنّبتهم القوافل ، وجعلوا طريقهم إلى باشزّى ، وانتقلت الأسواق إلى باشزّى وخربت برقعيد.
والآن لم يبق بها إلّا طائفة صعاليك ضعفى.
ينسب إليها المغني البرقعيدي الذي يضرب به المثل في سماجة الوجه وكراهة الصوت ، قال :
وليل كوجه البرقعيديّ ظلمة
 

وبرد أغانيه وطول قرونه
 
قطعت دياجيه بنوم مشرّد
 

كعقل سليمان بن فهد ودينه
 
على أولق فيه الهباب كأنّه
 

أبو جابر في خبطه وجنونه
 
إلى أن بدا ضوء الصّباح كأنّه
 

سنا وجه قرواش وضوء جبينه
 
بروجرد
بلدة بقرب همذان ، طيّبة خصيبة كثيرة المياه والأشجار والفواكه والثمار.
فواكهها تحمل إلى المواضع التي بقربها. وهي قليلة العرض طولها مقدار نصف فرسخ. أرضها تنبت الزعفران.
من عجائبها ما ذكر أنّه في قديم الزمان نزل على بابها عسكر ، فأصبحوا وقد مسخ العسكر حجرا صلدا. وآثارها إلى الآن باقية ، وإن كانت التماثيل بطول الزمان تشعّبت بنزول الأمطار عليها وهبوب الرياح واحتراقها بحرارة الشمس ، لكن لا يخفى أن هذا كان إنسانا وذاك كان بهيمة وغيرها.

بسطام
مدينة كبيرة بقومس بقرب دامغان. من عجائبها انّه لا يرى بها عاشق من أهلها ، وإذا دخلها من به عشق فإذا شرب من مائها زال عنه ذلك! وأيضا لم ير بها رمد قطّ ، وماؤها يزيل البخر إذا شرب على الريق ، وإن احتقن به يزيل بواسير الباطن. والعود لا رائحة له بها ولو كان من أجود العود ، وتذكو بها رائحة المسك والعنبر وسائر أصناف الطيب ، ودجاجها لا يأكل العذرة. وبها حيّات صغار وثّابات.
ينسب إليها سلطان العارفين أبو يزيد طيفور بن عيسى البسطامي صاحب العجائب ؛ قيل له : ما أشدّ ما لقيت في سبيل الله من نفسك؟ قال : لا يمكن وصفه. فقيل : ما أهون ما لقيت نفسك منك في سبيل الله؟ قال : أمّا هذا فنعم.
دعوتها إلى شيء من الطاعات فلم تجبني ، فمنعتها الماء سنة. وحكي أن أبا يزيد رأى في طريق مكّة رجلا معه حمل ثقيل ، فقال لأبي يزيد : ما أصنع بهذا الحمل؟ فقال له : احمله على بعيرك واركب أنت فوقه. ففعل الرجل ذلك وفي قلبه شيء ، فقال له أبو يزيد : افعل ولا تمار ، فإن الله هو الحامل لا البعير! فلم يقنع الرجل بذلك فقال أبو يزيد : انظر ماذا ترى؟ فقال : أرى نفسي والحمل يمشي في الهواء والبعير يمشي فارغا. فقال له : أما قلت لك إن الله هو الحامل فما صدقت حتى رأيت!
وحكي انّه سمع أن بعض مريديه شرب الخمر ، فقال له : اخرج معي حتى أعلّمك شرب الخمر! فخرج معه فأدخله بعض المواخير وشرب جميع ما في دنانها ، ثمّ تنكّس فجعل رأسه على الأرض ورجليه نحو الهواء ، وقرأ القرآن من أوّله إلى آخره وقال للمريد : إذا أردت شرب الخمر فهكذا!
مات سنة إحدى وستّين ومائتين ببسطام ، وكان له هناك مشهد مزار متبرّك به ، وذكر بعض الصوفية ان من نام في مشهد أبي يزيد ، فإذا استيقظ يرى نفسه خارجا من المشهد.

البصرة
هي المدينة المشهورة التي بناها المسلمون ؛ قال الشعبي : مصرت البصرة قبل الكوفة بسنة ونصف. وهي مدينة على قرب البحر كثيرة النخيل والأشجار ، سبخة التربة ملحة الماء لأن المدّ يأتي من البحر ، يمشي إلى ما فوق البصرة بثلاثة أيّام. وماء دجلة والفرات إذا انتهى إلى البصرة خالطه ماء البحر فيصير ملحا.
وأمّا نخيلها فكثير جدّا ؛ قال الأصمعي : سمعت الرشيد يقول : نظرنا فإذا كلّ ذهب وفضّة على وجه الأرض لا يبلغ ثمن نخل البصرة!
ومن عجائبها أمور ثلاثة : أحدها أن دجلة والفرات يجتمعان قرب البصرة ، ويصيران نهرا عظيما يجري من ناحية الشمال إلى الجنوب ، فهذا يسمّونه جزرا ، ثمّ يرجع من الجنوب إلى الشمال ويسمّونه مدّا. يفعل ذلك في كلّ يوم وليلة مرّتين ، فإذا جزر نقص نقصا كثيرا بحيث لو قيس لكان الذي ذهب مقدار ما بقي أو أكثر ، وينتهي كلّ أوّل شهر في الزيادة إلى غايته ، ويسقي المواضع العالية والأراضي القاصية ثمّ يشرع في الانتقاص ، فهذا كلّ يوم وليلة انقص من الذي كان قبله إلى آخر الأسبوع الأوّل من الشهر ، ثمّ يشرع في الزيادة فهذا كلّ يوم وليلة أكثر من الذي قبله إلى نصف الشهر ، ثمّ يأخذ في النقص إلى آخر الأسبوع ثمّ في الزيادة إلى آخر الشهر ، وهكذا أبدا لا ينحلّ هذا القانون ولا يتغيّر.
وثانيها انّك لو التمست ذبابة في جميع بيادرها وربطها المعوّذة وغيرها على نخلها في جميع معاصرها ، ما وجدت إلّا في الفرط ، ولو ان معصرة دون الغيط أو تمرة منبوذة دون المسناة لما استبنتها من كثرة الذبّان ، وذكروا أن ذلك لطلسم.
وثالثها أن الغربان القواطع في الخريف تسوّد جميع نخل البصرة وأشجارها ، حتى لا يرى غصن إلّا وعليه منها ، ولم يوجد في جميع الدهر غراب ساقط على نخلة غير مصرومة ، ولو بقي عليها عذق واحد. ومناقير الغربان كالمعاول ،

والتمر في ذلك الوقت على الأعذاق غير متماسك ، فلولا لطف الله تعالى لتساقطب كلّها بنقر الغربان ثمّ تنتظر صرامها ، فإذا تمّ الصرام رأيتها تخلّلت أصول الكرب فلا تدع حشفة إلّا استخرجتها. فسبحان من قدر ذلك لطفا بعباده!
قال الجاحظ : من عيوب البصرة اختلاف هوائها في يوم واحد ، فإنّهم يلبسون القمص مرّة والمبطنات مرّة لاختلاف جواهر الساعات. ومن ظريف ما قيل في اختلاف هواء البصرة قول ابن لنكك :
نحن بالبصرة في لو
 

ن من العيش ظريف
 
نحن ما هبّت شمال
 

بين جنّات وريف
 
فإذا هبّت جنوب
 

فكأنّا في كنيف
 
ومن متنزّهاتها وادي القصر ؛ ذكر الخليل أن أباه مرّ بوادي القصر فرأى أرضا كالكافور وضبّا محترشا وغزالا وسمكا ، وصيادة وغناء ملّاح على سكانه وحداء جمّال خلف بعيره فقال :
يا وادي القصر نعم القصر والوادي
 

في منزل حاضر إن شئت أو بادي
 
ترفا به السّفن والظلمان حاضرة
 

والضّبّ والنّون والملّاح والحادي
 
حكي أن عبيد الله بن زياد ابن أبيه بنى بالبصرة دارا عجيبة سمّاها البيضاء ، والناس يدخلونها ويتفرّجون عليها ، فدخلها اعرابيّ قال : لا ينتفع بها صاحبها! ودخلها آخر وقال : أتبنون بكلّ ريع آية تعبثون؟ فقيل ذلك لعبيد الله ، قال لهما : لأيّ شيء قلتم ما قلتم؟ قال الأعرابي : لأني رأيت فيها أسدا كالحا وكلبا نابحا وكبشا ناطحا! وكان كما قال ما انتفع بها عبيد الله أخرجه أهل البصرة منها.
وقال الآخر : آية من كتاب الله عرضت لي قرأتها ، فقال : والله لأفعلنّ بك ما في الآية الأخرى : وإذا بطشتم بطشتم جبّارين. فأمر أن يبنى عليه ركن من أركان قصره.

وينسب إليها أبو سعيد الحسن بن أبي الحسن البصري أوحد زمانه. سأله الحجّاج وقال : ما تقول في عثمان وعليّ؟ قال : أقول ما قال من هو خير مني عند من هو شرّ منك! قال : من هو؟ قال : موسى ، عليه السلام ، حين سأله فرعون : ما بال القرون الأولى؟ قال : علمها عند ربي في كتاب لا يضلّ ربي ولا ينسى. علم عثمان وعليّ عند الله. فقال : أنت سيّد العلماء يا أبا سعيد!
وحكي أن رجلا قال للحسن : فلان اغتابك! فبعث إلى ذلك الرجل طبق حلاوى وقال : بلغني أنّك نقلت حسناتك إلى ديواني فكافيتك بهذا. وحكي ان ليلة وفاته رأى رجل في منامه مناديا ينادي : إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ، واصطفى الحسن البصري على أهل زمانه.
توفي سنة عشر ومائة عن ثمان وثمانين سنة.
وينسب إليها أبو بكر محمّد بن سيرين ، وهو مولى أنس بن مالك. كان شابّا حسن الوجه بزّازا ، طلب منه بعض نساء الملوك ثيابا للشري ، فلمّا حصل في دارها مع ثيابه راودته عن نفسه فقال : أمهليني حتى أقضي حاجتي فإني حاقن! فلمّا دخل بيت الطهارة لطخ جميع بدنه بالنجاسة وخرج ، فرأته على تلك الحالة فنفرت منه وأخرجته.
وحكي انّه رأى يوسف الصدّيق ، عليه السلام ، في نومه فقال له : يا نبي الله حالك عجيب مع أولئك النسوة! فقال له : وحالك أيضا عجيب! أعطاه الله علم تأويل الرؤيا ، جاءه رجل قال : رأيت في نومي كأني أعلّق الجواهر على الخنازير! فقال له : تعلّم الحكمة لمن ليس أهلا لها! وجاءه رجل آخر وقال :رأيت كأني أختم أفواه الرجال وفروج النساء! فقال : مؤذن أنت؟ قال : نعم.
فقال : تؤذن في رمضان قبل طلوع الفجر. وجاءه رجل آخر وقال : رأيت كأني أصبّ الزيت في وسط الزيتون. فقال له : عندك جارية؟ قال : نعم.
قال : اكشف عن حالها كأنّها أمّك. توفي ابن سيرين سنة مائة وعشر عن سبع وسبعين سنة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مشاركة مميزة

بناء شخصية  الأطفال   ...