الخميس، 8 مارس 2018

الرحلة الورثيلانية
فالرحلة الورثيلانية الموسومة بنزهة الأنظار في فضل علم التاريخ والأخبار (الجزء الرابع من الكتابة ) 

ينكر مما لله عليه خوفا من طغيان النفس الأمارة بالسوء حتى يتعجب فيسقط من عين الله وإن جحد فحلية الله أظهرته ، وكرامة الله شهرته ، ولو أغلق الباب عليه لكسروه ، وكذا لو اختفى في جحر ضب لأظهروه.
وقال الشيخ زروق ما خامر القلوب فعلى الوجه يلوح وآثار الأسرة تدل على السريرة وقال ذلك الرجل للنبي صلى الله عليه وسلم لما رأيته عرفته أنه ليس بوجه كذاب وقال تعالى في حق الصديقين (تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ) وفي حق المنافقين ولتعرفنهم في لحن القول ، الناس حوانيت مغلقة فإذا تكلم الرجلان تبين العطار من البيطار لأن الكلام صفة المتكلم ، ما كان فيك ظهر على فيك ، ويعرف صدق المرء بثلاث عند مغاضبته أن لزم الحق واتصف بالصدق وسامح الخلق فهو ذاك وإلا فليس هناك.
فإذا تمهد هذا فأعلم أن مدينة طرابلس خصها الله بالصالحين ومحبة أهل الخير حتى أنهم لا يصبرون عليهم فإذا شموا رائحة المعرفة في أحد سعوا إليه بالإحسان جزاهم الله أحسن الجزاء وذلك عام في عمالة طرابلس لا سيما الزاوية الغربية فإن فيها من الصالحين الموتى ما لا يستطيع أحد أن يعدهم وأما الأحياء فبحسب زماننا هم أكثر من غيرهم وقد قيل إنها تنبت الصالحين كما تبنت الأرض العشب هذا وإن أولاد (1) قد بالغوا في حبنا وصفوا في مودتنا حتى أنهم تمنوا أن يكون ما عندهم قد بذلوه لنا وجعلوه قرى لأصحابنا خصوصا سيدي محمد وسيدي بو بكر وسيدي علي حاصله تعلقوا بنا صغيرا وكبيرا ظنا أن لنا فيضة إن فاضت عمهم وأبلها نعم من لم يصبه من المحسنين وابل منا فطل بجاهه صلى الله عليه وسلم الذي تعلقنا به وذهبنا وتعبنا من أجله وإلا فو الله علمنا أنفسنا وأيقنا أنها مفلسة قال بعض
__________________
(1) بياض في جميع النسخ.

العارفين ويل لمن ترك يقين نفسه لظن غيره والويل واد في جهنم تستعيذ منه جهنم في كل يوم سبعين مرة وبالجملة ففيها أفاضل لا سيما سيدي ناصر الذي أعتزل بأهله وسكن بيت اخصاص إذ هو وزوجه عجوزة خفيف الحال أي لا مال له ولا أهل وقد تجرد للعبادة وأطعم لنا بسيسة من كديده رضي الله عنه وأرضاه بمنه وكرمه وأما سيدي محمد [فانه] أتى إلينا بحمل جمل شعيرا وضيافة من لحم وغيره نعم أولاد سيدي البشت وأولاد القمود كلهم في الزاوية الغربية على خير.
فإذا تمهد هذا العلم فاعلم أن في الزاوية الغربية الصالحين وأهل الخير لا نظير لهم فيما علمت غير أن أهل الجزائر يعني من سكن المدينة وكذا أهل وطننا فإنهم أعظم منهم لا سيما جبال زواوة فإنهم أكرم شيء في الوجود إذ يأكلون الردي ويطعمون الضيف الطيب ووطنهم في غاية الضيق من المعيشة إذ هم خلق كثير لم يكن وطن أكثر منه وقد سمعت ممن يوثق به ممن علم أرض مصر وجبال زواوة فقال هم أكثر من مصر فأضعاف وقد استنشقت بعض الأدلة على وجود الطائفة التي على الحق ولا يضرهم من خالفهم إلى قيام الساعة أن الكثير منها في عمالة طرابلس وعمالة زواوة من عمالة الجزائر فلا يشك من خالطهم وثابنهم (1) أفاض الله علينا من بركاتهم وجعلنا في زمرتهم.
تنبيه مخالطة المتمكن في طريق من طرق الحق تفيد صاحبها ذلك إذ من تحقق بحالة لا يخلو الحاضرون منها لأن المرء على دين خليله وكل خير وكل شرفي الخلطة واللقمة وكل ما شئت فمثله تفعل وصاحب من شئت فأنت على دينه انظر قواعد الشيخ زروق وقد منحت بعض الفتح منهم ومن غيرهم من الذين رأيناهم في مكة والمدينة ومصر وغيرها نعم من اعتقد فيهم وأحسن إليهم وسلم لهم وصدقهم رزق
__________________
(1) كذا في نسختين وفي واحدة من خالطهم وثابنهم وفي أخرى من خالطهم في ذلك.

عطفهم فلم يبق إلا التعلق بهم فلا يقال قد انعدم هؤلاء الآن وقد قل وجودهم أو على تقدير وجودهم قد ستروا بظلمة الزور والبهتان ودعاوي الزنادقة أو أنهم في الفلوات من الأرض أو ظهر بعضهم فقد منع الناس منهم الطعن فيهم لا سيما الفقهاء فإنهم قد طبعوا على القدح في جانبهم والخدش فيهم نعم لا تجد فيهم منورا من أجل ذلك إذ الفقهاء إن أحبوك مدحوك بما ليس فيك وإن بغضوك ذموك بما لم تتصف به وقبله العامة منهم وبالجملة فإن وجدت من فيه رائحة الذوق وظهرت علامة المعرفة فشد يدك عليه ولا تصبك غفلة وتفريط حتى تندم عليه لأنه أكسير زمانك فلا تهمل أمرك من هذا وألق السمع لما نبهناك عليه إذ هم الكعبة للزوار ولا تغمضهم (1) بعين الأزدراء وسوء الاعتقاد فتصير محروما مخذولا ممنوعا خصوصا إن أصابتك الواقعة (2) فيهم فيخاف عليك سوء الخاتمة والعياذ بالله تعالى هذا وإن من أحسن ظنه فيهم وجد في طلبهم مع الصدق وجدهم أقرب إليه من ريقه لفيه في محل لا يظنهم فيه فيحصل له سلم يرقى به إلى حضرة الله تعالى يعلم ذلك باليقين وإنما يجدهم مستورين بالقدح والخدش من هو مثل من يتعاطى الفقه والتطلب إذ خبرة خال عن الخميرة فهم الأسد ، في اجام الحسد ، وغيضة الاعتراض ، وغابة الانتقاض ، وقد علمت ما قالوا في الزباد من كونه نجسا لقربه من محل النجاسة ومعلوم كما سبق انه يحصل من غيره بمعاينة صدوره من قطعة من المبرزين في العدالة إذ عاينوه كذلك فهؤلاء أعظم منه نفعنا الله بهم.
تتمة فق لقي شيخ شيوخنا سيدي أحمد بن ناصر من فضلاء طرابلس سيدي أحمد بن عبد الواحد بن يوسف الزنزوري ثم الفزاني وهو ساكن بزاوية زنزور وأنشد له لنفسه حين وداع الشيخ :
__________________
(1) في نسخة لا تنظرهم.
(2) كذا في جميع النسخ ولعل الواقعة بدل الوقيعة.


أيا سيدي خفق باني عبيدكم
 

ذليل حقير بين قوم أراذل
 
ونفس له شيطانية قد بلي بها
 

هواه وإبليس ودنيا العلائل
 
أفيضوا عليه سيدي من نوالكم
 

عسى وعسى يعلو على كل كاهل
 
ويفهم مولاي علوما دقيقة
 

ويمشي خلي القلب من كل شاغل
 
ومن جملة أهل وده هناك من الأئمة الأعلام أبو عبد الله سيدي محمد بن مقيل وصهر الأجل سيدي أحمد بن محمد المكني تقبل الله عملهم وأصلح فعلهم إذ أحسنا إلينا غاية الإحسان وفي تلك السنة لحقه الشيخ أحمد بن محمد الهشتوكي أخ له في الله وفي تلك الأيام قرأ هو وأصحابه على شيخه أبي العباس سيدي أحمد القصري تآليف على الربع المجيب نفعنا الله بهم.
نكتة تقدم لنا أن ترجمة لفظة طرابلس ثلاث مدن والأشهر في ضبطها فتح الطاء وضم الباء واللام وبعضهم يزيد ألفا ويسكن الطاء وقال التجاني في رحلته وكذلك رأيت الأجدابي يكتبها حيثها وقعت في خطه وعلى ذلك قول أحمد بن يحيى من قديم شعرائها في قصيدة له وهي :
لقد طال شوقي إلى فتية
 

حسان الوجوه باطرابلس
 
وقد عيل صبري فما مسعدي (1)
 

على الشوق إلا دموعي الحبس
 
قال بعضهم المختار أن تكتب بزيادة ألف فرقا بينها وبين طرابلس الشام فإنها بغير ألف وبخارج البلد محارس قديمة ومساجد كثيرة مشهورة الفضل والبركة وأثنى البكري على المسجد المعروف منها بمسجد الشعاب إذ قال إنه أعمرها وأشهرها في ذلك الزمان وأما الآن فهو خال لا عمارة به وأما زماننا هذا
__________________
(1) في نسخة وما نالني ... إلا دموع الحبس وفي أخرى إلا أدمعي البجس.

فلم أسمع له ذكرا وفيه فيما مضى جملة وافرة من أكابر الصالحين والعلماء العاملين ومزارات مشهورة من جملتهم أبو محمد عبد الله الشعاب [أحد الصلحاء والفضلاء من أهل طرابلس وكان نجارا فحضرت له نية في إتمام هذا المسجد الذي نسب إليه وكان بعض الناس قبله ابتدأ بناءه ثم عجز عنه فرمى الشعاب الآلة من يده](1) وتوجه لإتمامه فأتمه وسكن به ويذكر أن الخضر كان يزوره ويحادثه وإنهما رئيا مجتمعين في المسجد المذكور وسمع يوما بكاء امرأة عند باب المسجد فسألها ما السبب فأخبرت أن لها ولدا أسره العدو وسألته الدعاء فدعا لها وأمنت على دعائه ثم انصرفت لبيتها فأصبح ولدها في السكك يسأل عن دار أمه فسئل فأخبر بفراره في البحر وسلامته ووصوله عن عهد قريب فتوجهت أمه إلى الشيخ تشكره وتعرفه بوصول ولدها وان ذلك إنما كان بدعائه فهنأها بسلامته وقال لها إنما نجاه الله بدعائك لما علم اضطرارك وكانت وفاته ورحمه الله سنة ثلاث وأربعين ومائتين ومنهم الشيخ حطاب البرقي الرجل الصالح يكنى أبا نزار وكان ذا كرامات وخصوصا في باب المرائي ظهرت له في ذلك عجائب وكان يخاطب في النوم بجميع ما يكون في اليقظة قبل وجوده والتقى بالخضر عليه السلام وذكر أنه عارضه سبع فقال له أبا الحارث إن كنت قد أمرت فينا بشيء فدونك وإلا فالطريق قال فقرب مني ووقف هنيئة ثم انصرف وحكي أنه قال بينما أنا في البرية إذ رأيت شخصا فاستغربت وجوده هناك وقصدته فوجدته مفرج بن بياضة فقلت له أبا عبد السلام هاهنا فقال نعم يا أبا نزار فاستغربت معرفته بي مع انه مكفوف البصر وكان مفرج هذا رجلا صالحا من أهل جزيرة تونس المعروفة بجزيرة باش وكان يخرج وحده من بلده إلى مكة فيحج ثم يعود قال فبتنا جميعا وتآنست به وسألته كيف يتهيأ له الحج مفردا فقال يا أبا نزار أني إذا خرجت من موضعي أسمع قائلا يقول لي يمينك
__________________
(1) ما بين القوسين ساقط في أربع نسخ.

شمالك أمامك خلفك حتى أصل إلى مكة أو كما قال ومنه أبو عثمان سعيد بن خلفون الحساني المعروف بالمستجاب وأصله من قرية حسان من قرى طرابلس كان زاهدا فاضلا منقطعا إلى الله سبحانه وظهرت بركته غاية فعرف بالمستجاب وقد قال الشيخ أبو عبد الله الخشاب القاضي رحمه الله خرجت مع أبي الحسن ابن النمر من طرابلس لزيارة الفقيه ابن أبي زيد رحمه الله تعالى وسماع العلم عليه فبينما نحن عنده يوما إذ تحدث أبو الحسن فقال أراد الشيخ أبو عثمان الحساني الحج مرة فاتفق مع جماعة من إخوانه أهل الدين والفضل وكنت معهم فخرجنا على الوحدة فقطعنا صدرا من الطريق وأقمنا ثلاثة لم نطعم فأنى الشيخ أبو عثمان إلى ربوة فمسح بوجهها بيده وجعل يأخذ من ترابها ويجعل في إناء كان معه ثم ثراه بشيء من ماء فقرأ عليه أو سمى وقال لنا سموا وكلوا قال فجعلنا نأكل ونتطعم منه طعم السويق قال فطرق الشيخ أبو محمد بن أبي زيد ساعة ثم رفع رأسه وقال هذا داخل في الإمكان لا سيما وقد ذكرتم أنكم أقمتم ثلاثا لم تطعموا وقرأ قوله تعالى : (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ).
ولما رجع المؤدب محرز بن خلف من الحج قيل له من رأيت في طريقك من الصالحين قال رأيت بطرابلس رجلا وامرأة فأما الرجل فأبو عثمان الحساني وأما المرأة فسمدونة وكانت عجوزا صالحة تسكن مسجد الشعاب المذكور وكان أبو نزار حطاب الرجل الصالح المذكور يزورها ويعتقد بركتها وهذا كما يحكى أن سحنون بن سعيد لما رجع من الحج قيل له من رأيت من الصالحين فقال لقد رأيت بطرابلس رجالا ما الفضيل بن عياض بأفضل منهم.
ومنهم أبو الحسن علي بن أحمد الخطيب الطرابلسي أقام ساكنا بمسجد المجاز بها فيما يقال أربعين سنة وكان فقيها صالحا عالما زاهدا وله في الفقه والفرائض والشروط

تأليف مفيدة وأقام أربعين سنة لم يضحك ونحو خمسين سنة لم يحلف بالله يمينا وقال له ابن أخيه عند ما أملى وصيته أنسيت الكفارة فقال لو لا أني في الموت ما أخبرتك ما حلفت بالله منذ كذا وكذا محقا ولا مبطلا وما علمت أن علي يمينا أكفرها.
ومنهم الشيخ الصالح أبو محمد عبد الوهاب القيسي رحمه الله وقبره خارج المدينة بين شرق وشمال يزار وأهل البلد يعظمونه كثيرا وحكى لي جماعة منهم أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام نحوا من أربعمائة مرة وانه كان يشاور النبي صلى الله عليه وسلم في أكثر أموره فلا يفعل ما يفعل إلا بإشارته قالوا ولم يسمع منه هذا في حياته ولكنه وجد بعد موته مكتوبا عنده بتواريخه يذكر كل ليلة وما رأى فيها ثم أوقفني بعد ذلك بعض أهل البلد على جزء من هذه المرائي وذكر أنه نقلها من خطه فرأيت فيها غرائب من سؤاله النبي صلى الله عليه وسلم عما يفعله في جميع ما يعرض له من أموره وإشارة النبي صلى الله عليه وسلم بذلك بما يراه ودوام ذلك واستمراره في كل جزئية من جزئياته.
ومنهم الفقيه الإمام أبو إسحاق إبراهيم بن إسماعيل بن أحمد بن عبد الله الأجذابي اللواتي الطرابلسي وقبره معظم يكثر الناس من زيارته والدعاء عنده وكان من أعلم زمانه بجميع العلوم كلاما وفقها ونحوا ولغة وعروضا ونظما ونثرا وله تآليف جليلة وأسئلة مفيدة في الفقه وغيره من جملة تآليفه كتابه المتداول المسمى بكفاية المتحفظ وكتابه في العروض وناهيك به حسنا وتهذيبا وهو نسختان كبرى وصغرى وكتابه في الرد على أبي حفص بن مكي في تثقيف اللسان وكتابه في شرح ما آخره ياء مشددة من الأسماء وبيان اعتلال هذه الياء استوفى فيه جميع أحكام هذه الياء على اختلاف أحوالها من تصغير وتكسير وغير ذلك ولما استوفى فيه ذلك استيفاء جمليا تعرض لشرح مقاطع الآي الواقعة في سورة مريم لاشتمالها على كثير

من تلك الأحكام فجاء هذا التأليف في غاية الإفادة والتحقيق وكتابه المختصر في علم الأنساب وله تأليف مختصر في الأنواء على مذهب العرب ورسالته المعروفة برسالة الحول تعرب عن أدب كثير وحفظ غزير وكان الفقيه أبو إسحاق هذا أحول وسبب تأليفه لها أنه حضر يوما طرابلس عند القاضي بها أبي عبد الله محمد بن محمد بن إبراهيم بن هانش (1) الطرابلسي فحكم أبو محمد بحكم أخطأ فيه فرد عليه أبو إسحاق فقال له أسكت يا أحول فما استدعيت ولا استفتيت فألف تلك الرسالة وأكثر هذه التآليف ملكتها بخطه وكان رحمه الله من أحسن الناس خطا وأخبرت أن الأمير أبا زكرياء رحمه الله كان شديد البحث على خطه وسمع أن كتاب الفصيح بيع بخطه بطرابلس [فأبرد بريدا إليه في البحث عليه ووجه به إليه](2) وأنه سمع أن بها من كتاب أمثلة الغريب (3) لأبي الحسن علي بن الحسين الهنائي المعروف بالكراع بخط الفقيه أبي إسحاق في ملك بعض بني النقاد من أعيان طرابلس فوجه إليه فيها فوجه النقادي بها إليه وملكت بخطه أيضا تأليفه الذي اختصر في كتاب أنساب قريش تأليف أبي عبد الله الزبير بن أبي بكر بن عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير بن العوام رحمه الله تعالى وحسبك بهذا التأليف الجليل علما وفائدة وهو كما كان الشيخ أبو الحسن بن مغيث رحمه الله يقول هذا كتاب العجب لا كتاب النسب ورأيت الفقيه أبا الحسن (4) قد أدخل من حفظه في نفس هذا المختصر زوائد تشتمل على فوائد نبّه عليها وكفى بهذا الرجل المعظم الغرد لهذا القطر ولم تكن له رحلة عن بلد طرابلس إلى غيرها وقد سئل أنّى لك هذا العلم ولم ترتحل فقال اكتسبته من بابي هوارة وزناتة وهما بابان من أبواب البلد نسبا إلى من نزل بهما أول الزمان يشير إلى أنه
__________________
(1) هكذا في جميع النسخ وفي الرحلة الناصرية أبي محمد عبد الله بن محمد إلخ.
(2) ما بين القوسين ساقط من جميع النسخ.
(3) في جميع النسخ العرب وفي الرحلة الناصرية الغريب كما في كشف الظنون.
(4) هكذا في الرحلة الناصرية وفي جميع النسخ إسحاق.

إنما استفاد من العلم بلقاء من يفد على طرابلس ويدخل (1) من هذين البابين من المشرقين والمغربيين (2) وكان له اعتناء بلقاء الوفود وقيام بضيافتهم (3) وأخبرني بعض الطلبة أن خط أبي إسحاق باق إلى الآن في بعض جدر داره من طرابلس وهي في وسط البلد بمقربة من الجامع الأعظم وعلى مسافة يسيرة منها من جهة غريبها دار الفقيه أبي الحسن علي بن محمد بن النمر (4) الطرابلسي [الفرضي المشهور بفضله وعلمه ورئاسته وهي مواجهة لمسجد يعرف بمسجد ابن فرج أضيف إلى الفقيه أبي مسلم موسى بن فرج الهواري الطرابلسي لا قرائه به وتوفي أبو مسلم هذا سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة](5) وكان مولد أبي الحسن بطرابلس قديما سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة وله تآليف في الحساب والأزمنة وغير ذلك سوى كتابه المشهور المسمى بالكافي في الفرائض وقد لقي الشيخ أبا محمد بن أبي زيد وقرأ عليه وارتحل إلى مكة سنة تسع وثمانين فلقي بها أحمد بن زريق (6) البغدادي وروى عن أبي القاسم عبد الرحمن (7) بن عبد الله الجوهري ثم عاد لطرابلس فلم يزل بها إلى سنة ثلاثين وأربعمائة فخرج منها لمحنة جرت عليه فتوجه إلى موضع يعرف بغنيمة (8) بالغين المعجمة والنون قرية من قرى مسلانة فسكن بها إلى أن توفي هنالك سنة اثنتين وثلاثين وقبره الآن على الطريق بها والناس إلى الآن يزورون قبره ويتوسلون إلى الله عنده ويذكر
__________________
(1) كذا في جميع النسخ وفي الرحلة الناصرية يرحل.
(2) كذا في الرحلة الناصرية وفي جميع النسخ المشرق والمغرب.
(3) كذا في جميع النسخ وفي الرحلة الناصرية أضافتهم.
(4) في كتاب المنهل العذب في تاريخ طرابلس الغرب لأحمد بك الأنصاري الطرابلسي المطبوع بدار الخلافة سنة 1317 المنمر.
(5) ما بين القوسين ساقط في ثلاث نسخ.
(6) في الرحلة الناصرية رزين.
(7) في الرحلة الناصرية القاسم بن عبد الرحمن.
(8) في جميع النسخ بغانيمة وفي الرحلة الناصرية بغانينة.

أهل تلك الجهة إن كل رفقة استصحبت شيئا من تراب ذلك القبر فإنها لا يتعدى عليها أحد فيهم لا يزالون ينقلون ترابه فيجدده من يقصد الأجر من أهل تلك الجهة أو من المجتازين عليه وهو أول من أظهر السنة بطرابلس لما كانت في أفريقية الوقعة المعروفة بوقعة الشارقة سنة سبع وأربعمائة قتل فيها الشيعة واتباعهم وعلى يد الفقيه أبي الحسن قتل بطرابلس من قتل منهم وأول من قطع من الآذان حي على خير العمل وأذن في ذلك اليوم أذان أهل السنة بنفسه وقد قتل بنو عبيد بشرا كثيرا أسقطوا هذه اللفظة من آذانهم تعمدا أو نسيانا وأول من أقام للناس بطرابلس صلاة القيام وقد كان رسم هذه الصلاة انمحى من أفريقية قال الشيخ أبو الحسن القابسي رحمه الله تعالى لما دخل بنو عبيد القيروان أرادوا أن يمنعوا الناس من هذه الصلاة قال وليس شيء أشد على بني عبيد من هذه الصلاة فقيل لهم أنكم توغرون بهذا الفعل قلوب العامة فإنهم يقولون منعونا من الصلاة فأمروا الأئمة أن يختموا كل ليلة ختمة كاملة وإن لا ينقصون شيئا منها فصلى الناس من أول ليلة بوفره فلما كانت الليلة الثانية نقصوا ولم يزالوا ينقصون لثقل ما كلفوا به حتى خلت المساجد منهم كما أرادوا وأسقط الناس القيام بهذه الصلاة فكان الشيخ أبو الحسن ابن النمر أول من أحيى رسمها بطرابلس وقدم أبا مسلم موسى بن فرج فصلاها بالجامع الأعظم ولم تكن قبل ذلك صليت به لأنه من بناء بني عبيد وأول من أطلق للناس صلاة الضحى جهارا ولم يكن أحد في مدة بني عبيد يصليها إلا مستخفيا بها فإن ظهروا عليه قتلوه ومر بعض عمالهم برجل على شاطئ البحر يصلي وقت الضحى فسأله عن صلاته فذكر انه كان جنبا فلما مر بالبحر نزل واغتسل وقضى صلاة الصبح فلم يقبل ذلك منه وأمر به فألقي في البحر إلى أن مات انتهى كلامه (1).
__________________
(1) من السطر التاسع من الصحيفة 166 إلى هنا بياض كثير في نسختين وقد اعتمدنا هنا على الرحلة الناصرية وعلى نسخة واحدة.

نكتة وهذه المزارات كلها خفية مندرسة غير جلية وكذلك غيرها مع ما احتوت عليه المدينة من المزارات الكثيرة وذوي المكانة المشهورة تأوي إليه الجهابذة من الزهاد [والأئمة الأفراد](1) لقصد الرباط وحراسة الإسلام لكونها ثغرا من الثغور العظام ولما تداولتها أيدي الكفرة خفيت مراسمها واندثرت معالمها وذكروا أن الاستيلاء الأخير [الذي استولى الكفرة دمرهم الله](2) عليها كان سنة ست عشرة وتسعمائة يوم ستة عشر من المحرم وافتكت منهم عام ثمانية وخمسين وتسعمائة (958) قال أبو سالم العياشي في رحلته وتاريخه فقط قولك جاء الترك بسن (3) وافتكها منهم درغوت باشا وكان بجربة ومراد باشا في مسلانة وبقي بها درغوت إلى أن توفي بها وقبره الآن بها يزار وعليه بناء عظيم وسبب أخذها من العدو أن مراكب المسلمين جاءت من أصطنبول مددا للعمارة المحاصرة لحلق الوادي بتونس فمرت بساحل طرابلس فكلمهم أهل السواحل في أعانتهم على النصارى فقالوا أنا لم نؤمر بذلك من السلطان فقال لهم الباشا مراد أعينوني في هذا الأمر فإن كانت عقوبة من السلطان فأنا المؤاخذ بها دونكم فحاصروها برا وبحرا إلى أن أخذوها فذهب معهم مراد باشا إلى السلطان فقال له إن كانت عقوبة فأنا المؤاخذ بها دون هؤلاء الأمراء فرضي عنه وعنهم وأكرمهم.
وأما أخذ النصارى لها فذكروا لذلك قضية غريبة وهي أن أهل هذه المدينة فيما مضى كانوا أهل دنيا عريضة فبينما يقال وليس فيهم غناء ولا لهم بالحرب خبرة فبينما هم كذلك إذ قدمت عليهم سفن النصارى تجارا بسلع كثيرة فنزلت بالمرسى فخرج
__________________
(1) لا يوجد ما بين القوسين إلا في الرحلة الناصرية.
(2) لا يوجد ما بين القوسين إلا في الرحلة الناصرية.
(3) هكذا في رحلة العياشي وفي الرحلة الناصرية جاء الترك بلس وفي نسخة نقطة بحسب الجمل وفي غيرها بياض.

إليهم رجل من التجار فاشترى منهم جميع ما بأيديهم من السلع ونقد لهم ثمنها ثم استضافهم رجل آخر فصنع لهم طعاما فاخرا فلما أخرج لهم الطعام أخذا ياقوتة ثمينة فدقها دقا ناعما وذرها على طعامهم فبهتوا من ذلك فلما فرغوا قدم لهم دلاعا فطلبوا سكينا لقطعها فلم توجد في داره سكين ولا عند جاره إلى أن خرجوا إلى السوق فأتوا بسكين فلما رجعوا إلى بلدهم سأله ملكهم عن حال البلد الذي قدموا منه فقولوا ما رأينا بلادا أكثر منها مالا وأقل سلاحا وأعجز أهلها عن مدافعة عدو فحكوا له الحكايتين فتأهب ملكهم لدخولها في مراكب في البحر فدخلا في ليلة واحدة بلا كثير مشقة واستولى عليها ولم ينج من أهلها إلا من تسور ليلا وانحاز المسلمون إلى تاجوراء وجبال غريان ومسلاتة فصارت المدينة للنصارى إلى أن كان من أمرها ما كان في التاريخ المذكور انتهى أدامها الله للإسلام وحاطها بالنبي عليه السلام.
ومن جملة أصحاب سيدي أحمد بن ناصر سيدي محمد المكني كان من أعلم أهل هذا الساحل فقيها لوذعيا خير خلف عن خير سلف تولى الفتوى ببلده مرارا واشتغل بالتدريس وله مشاركة حسنة في فنون العلم مات قريبا من عام ستة وخمسين وألف وله ولد اسمه محمد (1) اشتغل بالقراءة على سيدي محمد بن مساهل وعلى غيره وكان له ذكاء عقل وزيارة نبل فتمهر في كل فن وتولى القضاء (2) بعد عزل شيخه فحمدت سيرته وظهرت نجابته وسدده في فتواه.
ومن أحبابه أيضا سيدي محمد بن مقيل جد أخينا في الله وأصدق الإخلاء سيدي محمد المفتي الآن والسيد عبد السلام بن عثمان وممن أكرمه في رحلته هذه
__________________
(1) في الرحلة الناصرية أحمد.
(2) في الرحلة الناصرية الفتوى.

سيدي محمد المكني وسيدي محمد بن مقيل وأولاد ابن غلبون وأهل سيدي علي النجار وسيدي أحمد بن جابر وصهره سيدي عبد الظاهر وسيدي محمد بن عبد الله بن فرج الله وغيرهم وسيدي عبد الله بن يحيى وسيدي حامد بن محمد التواتي وابن عمه سيدي عبد اللطيف بن عبد القادر وكثير من الفضلاء ممن لقيه فالله ينظمنا وإياهم جميعا في سلك أهل ولايته المحفوفين بعنايته المحفوظين منه برعايته آمين انتهى كلامه باختصار بعضه باللفظ وبعضه بالمعنى.
انعطاف إلى ما نحن بصدده فأنا أقمنا بها ثمانية أيام أولها يوم جمعة وآخرها مثله غير أن بعض الركب خرج يوم الخميس إلى تاجوراء ونحن قد تخلفنا مع بعض أفاضل أصحابنا إلى صبيحة يوم السبت مشتغلين بأمر الزاد المبعوث في السفينة ومن يركب فيها من أصحابنا فل ننفصل عنهم حتى خفف الركب أثقالهم بوضعه في السفينة معتمدين علينا إذ عادة السفن في تلك المدينة تتأخر إلى آخر رمضان فربما عاقهم ذلك عن الحج فلما علمنا ذلك حضضا الأمر من صاحب الولاية محبنا في الله ومعتقدنا الأجل محب الصالحين سيدي علي باشا [بانفصالها](1) من غير تراخ بعد ذهابنا وأخذنا العهد منه على ذلك وقد أحسن إلينا هو وأصحابه بأن ركبوا فيها الفقراء والصعاليك بغير عوض وإنما ذلك لوجه الله ثم لوجهنا نحو الخمسين رجلا أو ما يقرب منها وقد ركب فيها من إخواننا الفضلاء ولد الأخ سيدي أحمد الطيب سيدي محمد (2) والفقيه الفاضل سيدي أحمد بن أبي القاسم ومثله في الفضل سيدي عبد الكريم ونظير الجميع سيدي محمد اليعلاوي والشريف الفاضل الأجل محب الخير وأهله أمير زواوة سيدي محمد بن بوختوش (3) رحمه الله إذ مات بعد رجوعنا
__________________
(1) ما بين القوسين ساقط في نسخة.
(2) كذا في جميع النسخ.
(3) في نسخة اخشوش وفي أخرى بخثوش وبخشوش.

من المدينة وسيدي محمد المحفوظ وغيرهم وأما العامة فنحو الثلاثمائة والحمد لله لم يمكثوا في البحر إلا اثني عشر يوما ونزلوا الإسكندرية عند الحاج أبي القاسم القراوي صاحب ولاية طرابلس إذ زبر له الأمير كتاب على ذلك فأكرمهم وأحسن إليهم جازاه الله أحسن الجزاء آمين وبالجملة فكان الإحسان من الأمير وعماله لنا ولأخواننا في الركب وللفقراء فكل ما سألناه وطلبناه لهم منهم إلا وجد بحب وكرامة رغبة في صالح الدعاء له ولذريته حتى انفصلنا عنها على أحسن حال وأكثر فرحي بهذا الأمير لما قام بحق الفقراء نعم أقام جماعة من بلد المنشية مع عامله القائد يحرسون الركب ليلا من السراق إلى أن ظعنا من عندهم وما فعله قط بركب من الأركاب إلا لنا حبا فينا ورغبة فيما لدينا شكر الله سعيه ولا خيب قصده وأدام الستر عليه وعلى أولاده إلى قيام الساعة مع عدم الضد ووجود الهداية والشفقة والعدل والرحمة لأنفسهم وللمؤمنين كان الله لنا ولهم وليا ونصير وقد أحسن إلينا جميع المحبين كل الإحسان بحيث أن من لم يصدر منه ضيافة تمنى أن يضيفنا أحسن الله إليهم لا سيما سيدي محمد بن مقيل وأصحابه وأما العارف بالله الذي علمه الله العلم اللدني فانه يفهم الدقائق من الحقائق والمعاريف (1) إذا لهم لطلب كل داء في الدين فلا يغفل طرفة عين عما يصلح به وبأحبائه حتى يكونوا على المحجة البيضاء يعلم ذلك من ثافنه وخالطه وأني صاحبت كثيرا من الناس غربا وشرقا وجوفا وقبلة ما رأيت من يفهم عن الله مثله فانه له ملكة عظيمة يفهم بها المعاريف (2) الإلهية حاصله قد فتح الله له في التعرف ما لم يكن لغيره ومع ذلك ليس قاصرا في العلم الظاهر فترى معاملته ومخالطته ليس إلا على الشريعة المحمدية ومع هذا لا يغفل عن المواساة لمن يعرفه ومن لا يعرفه خصوصا المحتاج فإنه أزيد رحمة وأقوى شفقة وأحسن رفقة وما
__________________
(1) كذا في جميع النسخ.
(2) كذا في جميع النسخ.

أشده صبرا وتحملا لإذاية الإخوان والأحباب خصوصا في السفر وهو الذي يؤدي حقوق الأخوة فيشاطر بالمال غير ما مرة إخوانه أولى من نفسه وهو معي بأزيد من هذا بحيث لا يملك لجانبا شيئا ومن كان معنا في الرفقة كان في داره ذهابا وإيابا وكذا ما معنا من العيال والدواب كل ذلك في عياله وأوصافه تقصر العبارة عنها لكن التلويح يغني عن التصريح نعم الكل شمل واحد وأمر الجميع متحد ومهما عزمت على شيء ووصلت إليه ذهب من غير موادعة ولا كلام منه إلى ولا مني إليه في جميع ما حتجت إليه فحزمت وجزمت وجزم أن قرابتي وقرابته أيد الله الجميع بالتمكين وحلى جميعنا بحلية المتقين وودعنا من في المدينة من العلماء والصلحاء لا أحصيهم عددا إذ كثير من يحبنا لا أعرف أسماءهم وأما في المنشية فأكثر من أن يحصى هذا وإن أهل الصلاح بالمنشية والساحل والهنشير وأفرون بحيث من فيه قوة الشم يعلمهم بنفس رؤيتهم إلا من أصابه زكام المعاصي وتراكمت عليه الحجب فلا يظهر له أحد وقد قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه المرء مخبوء تحت لسانه إن تكلم فمن حينه وإن سكت فمن يومه اه ـ أي إذا تكلم عرف حاله من كلامه إذ ما كان فيك ظهر على فيك كل إناء بما فيه يرشح إن عسلا فعسل وإن خمرا فخمر وإن سكت فمن يومه أعرفه من أفعاله كحركاته وسكناته إذ كل ذلك لا بد وأن يكون موافقا للسنة المحمدية إذ لا يجوز للإنسان أن يقدم على أمر حتى يعلم حكم الله فيه ولا شك أن كل حركة وسكون يصدر منك إلا وأنت مسئول عنه لم تحركت ولم سكنت وبالجملة فأهل هذا الوطن خيرهم ظاهر وحملهم بيّن وحبهم لأهل الله قوي.
ولما خرجنا من دار أخينا في الله والود من أجله سيدي محمد الشريف اجتمعت الشرفاء صغيرا وكبيرا وكذا جيرانهم وغيرهم من أهل الخير كالسوق وأعظم محبة في الله ورغبة فيما عنده [فكنا في التوديع من صبيحة ذلك اليوم حتى ارتفعت الشمس

ارتفاعا ظاهرا جليا ثم كذلك](1) في التوديع إلى أن وصلنا إلى قرب الهنشير خرج لتوديعنا أولاد الشيخ سيدي الصيد كأولاد سيدي أبي بكر نجل الشيخ سيدي عبد الحفيظ وأولاد سيدي عبد اللطيف فودعونا أيضا مع أصحابهم وهم من المحسنين إلينا ثم ذهبنا بعد ذلك مع التوديع إلى أن وصلنا أطراف تاجوراء فدخلنا لزيارة الفاضل الكامل الصالح الكبير السن عظيم الشأن واضح النجاح ظاهر الصلاح سيدي عبد اللطيف أنا وجماعة من طرابلس سيدي الشيخ المفتي سيدي محمد بن مقيل وعوض ولدنا سيدي محمد نجل الفاضل العالم محبنا سيدي محمد بن محمد العربي وجماعتهما فدعا لنا بالخير وقد رغب فينا رغبة عظيمة إذ كان محبا لنا فيما مضى ومحسنا إلينا غاية الإحسان فقد كان أصدق الناس لدينا غير أنه كان قبل ذلك يسمع ويبصر فالآن ثقل سمعه وضعف بصره فلا بد من مسمع والمسمع له ولد بنته إذ هو الذي يخبره أن هذا فلان وفلان ولما علم بنا شد يدي شدا وثيقا رغبة وحبا وشوقا وعشقا فينا وقد سر بنا سرورا عظيما أظنه والله أعلم انه من قوم لا يشقى بهم جليسهم حقق الله له ذلك بمنه وكرمه آمين فلما خرجنا من عنده لقينا جماعة من فضلاء تاجوراء كطلبة الشيخ سيدي محمد بن النعاس وبعض أولاده وأولاد أخيه وكذا أهل الفضل من تلك القرية من الفقراء والمرابطين والعلماء والصلحاء ومن فيه نسبة من النسب المعظمة شرعا إلا أتى إلينا رغبة في الدعاء من جانبنا ونحن كذلك بل أشد رغبة والفقير المضطر الخائف من ذنبه الوجل من عذاب ربه زابر هذا الكتاب فانه متعلق بهم ومريض بحبهم فليس مقصدي ومنيتي إلا السكنى في أرضهم لكثرة خصب أهل المحبة بحيث لا يصيبك ضيق ووحشة فإن حي ليلى عندهم عامر بما في القلب مشغوف إلا أن الموانع الشرعية منعتني من الإقامة هناك وقد كثر عيالي أعني بناتي وأولادي ومحاجري الذين قدّمت عليهم ونيّبت عنهم ولم
__________________
(1) ما بين القوسين ساقط في نسخة وفيها فكلنا في التوديع إلى أن وصلنا إلخ.

تكن لي رغبة بعد المجاورة عنده صلى الله عليه وسلم إلا في هذا المحل وإن كان وطننا كذلك في الحب وأهله غير انه كثرت فيه العوائق والعلائق حاصله كلت العبارة عن النزر القليل من أوصافهم الحسنة غير أن ما ذكرناه فيه الكفاية لمن كان له قلب أو ألقي السمع وهو شهيد.
[وتاجوراء هذه قرية طيبة فيها أشجار وفيها فاكهة ونخل ورمان نعم](1) رمانها لا نظير له فيما رأيت إلا في مواضع قليلة وقد وجد في قرية عندنا تسمى بقرية أمالو فإن رمانها أولى من هذا وأحلى منه وفيها مدرسة كان يقرأ فيها الشيخ النعاس وبعد ذلك قرابته وقد علمت أن محل العلم محل عظيم عند الله يجب علينا تعظيمه شرعا فإنهم قوم لا يشقى بهم جليسهم نعم صليت الظهر فيها وذهبنا منها.
تتمة أقول قال شيخ شيوخنا سيدي أحمد بن ناصر ف رحلته ما نصه أقول تاجورة بوزن باكورة قال التجاني وهي قرية عامرة وبها قصر متسع يجتمع على دور كثيرة وفي وسط هذا القصر حصن أقدم منه بناء يقال أن حميد بن جازية (2) ابتناه وشارك فيه في العمل بنفسه ليحصن أهل الموضع على إتمامه وهو الذي عمر هذه القرية ونقل إليها أهلها من أرض هنالك تعرف بأرض عبد ربه (3) وكان ابتداء عمارتها عام خمسين وخمسمائة (550) وهم يدعون أنهم من العرب ويتنسبون إلى تميم ويذكرون أنهم سكنوا الأرض المعروفة فأرض عبد ربه من حين الفتح الإسلامي ثم نقله منها حميد إلى هذه القرية قال وبتاجورة السفرجل الذي لا يوجد في بقاع الأرض مثله قال وليس يقرب منه إلا السفرجل الموجود في نفزاوة انتهى.
__________________
(1) ما بين القوسين ساقط في نسخة.
(2) في نسخة جارية.
(3) في نسختين عبد رب وفي أخرى عبده.

قلت والذي نعرفه في ضبط هذه البلدة تاجوراء كعاشوراء انتهى.
تتمة أننا نزلنا في وادي المسيد (1) فوق المسجد وهو واد متسع والركب سبقنا ونزل في وادي الرمل وهو واد متسع ماؤه لا ينقطع في جميع الأزمنة الأربعة وذلك بأواخر شعبان ومعنا جماعة من المحبين ذهبوا معنا لتوديعنا كالود الصدوق الشيخ المفتي سيدي محمد وخواص أصحابه وصاحب معه طعاما ولحما وليما وغير ذلك من أنواع الأطعمة ومعنا أصحاب سيدي محمد الشريف سيدي محمد بن عبد الخالق محب الجميع وبعض الأشراف وولد المحب في الله وهو أخ لنا وعوض ولدنا سيدي محمد نجل الشيخ الولي الصالح سيدي محمد ابن سيدي محمد المعزي (2) ثم رجع الجميع عنا وودعنا في يد الله تعالى أقول قال شيخ شيوخنا المذكور ما نصه ونزلنا غافقا بعد العصر قال التجاني وهو قصر خرب خال من العمارة انتهى وبه الآن بئر غزيرة الماء ينزل إليها بادرج وماؤها لا بأس به.
ثمر ارتحلنا منه ومررنا بواد يقال له وادي الرمل وهو واد متسع عذب الماء لا ينقطع ماؤه كما ذكرنا ومبدؤه من الجبل قاطعا إلى البحر لا بد لكل مشرق يجعل الجبل يمينه ومغرب يسرته وهو واد مخصب من أعلاه فيه مزارع تخرج إليه ماشية أهل طرابلس وسواحلها أيام الربيع وربما أخرج الحجاج إليه إبلهم مع رعاتها أيام أقامتهم بطرابلس واصل مائه من عيون تنبع في أثنائه تبتدئ من مسافة قريبة من الجبل إلخ ثم قال وقال التجاني وفي عالية عند سفح الجبل قصر يعرف بصيبان (3) بكسر الصاد المهملة تليها ياء معتلة ثم باء مفردة وهو معمور قال وبقرب البحر في
__________________
(1) في جميع النسخ المسيل.
(2) انظر ما قيل في الصحيفة 140 والسطر 1.
(3) في نسخة صيبار.

أسفل هذا الوادي بئر تعرف ببئر طشاتة (1) بضم الطاء المهملة وتشديد الشين المعجمة بإزاء قبر يعرف هذا الموضع به فصار القبر علما له وهو لرجل من العرب ثم من ذباب ثم من بني عيسى منهم واسمه شهران (2) بن عيسى بن عامر بن جابر بن فائد ابن رافع بن ذباب وكان هذا الرجل ذا رئاسة في قومه وصيت بعيد واشتهر بالكرم فلم يذكر منه في وقته غيره وفيه يقول شاعر العرب :
حمى الأرض شهران بن عيسى بن عامر
 

وعرض الفتى أن ضيع المجد تالف
 
والأعراب الآن نزلوا هناك ولم يكن لهم زاد أقاموا على قبره فنادوه يا شهران بن عيسى أقر ضيافك فيذكرون أنهم لم يبيتوا قط دون عشاء أما بصيد يباح لهم أو فضالة (3) يلقونها أو بغير ذلك قال وهذا الأمر حدثنا به جماعة منهم وهو مشابه لما يذكره المؤرخون على حاتم الطائي أنهم كانا ينزلون بقبره فيقريهم وفي ذلك يقول الشاعر يمدح عدي ابن حاتم :
أبوك أبو سباقة (4) الخير لم يزل
 

لدن شب حتى شاب في الخير راغبا
 
قرى قبره الأضياف إذ نزلوا به
 

ولم يقر قبر قبله الدهر راكبا
 
وحكى أبو عبيدة قال نزل أبو الخيبريّ في نفر من قومه بقبر حاتم فجعل يناديه يا أبا عدي أقر ضيافك وقال له أصحابه كيف تنادي رمة بالية فقال أن طيئا تزعم انه لم ينزل به أحد قط إلا قراه فناموا فانتبه أبو الخيبري مذعورا ينادي واراحلتاه
__________________
(1) في نسختين طشانة.
(2) في نسختين شهوان.
(3) في نسخة بضالة.
(4) هكذا في جميع النسخ وفي الرحلة الناصرية والمشهور سفانة وهو اسم بنت حاتم كما في ديوانه وفي كتاب الأغاني ج 16 وص 97 وكتاب الشعر والشعراء لابن قتيبة وغير ذلك من الكتب.

فاستفهمه أصحابه على أمره فقال خرج حاتم بالسيف وأنا أنظر إليه حتى نحر راحلتي فنظروا إلى راحلته تتشحط في دمها فقالوا له قد والله قراك وأخذوا يأكلون من لحمها ما شاءوا ثم ارتحلوا صباحا فنظروا إلى الركب يقود بعيرا وهو يسأل عن أبي الخيبري فقالوا له من أنت فقال أنا عدي بن حاتم وإن حاتما أتاني الليلة فذكر ما تقدم من ذبح بعيره وأتى له حينئذ بعوضه ولذا قال الشاعر (1) :
أبا الخيبريّ وأنت امرؤ
 

ولوم العشيرة شتامها
 
أتيت بصحبك تبغي القرى
 

لدى حفرة صرمت هامها
 
أتبغي لي الذم عند المبيت
 

وحولي طي وانعامها
 
وأنا نشبع أضيافنا
 

ونأتي المطي ونعتامها
 
وقد أمرني أن أحملك على بعير مكان راحلتك فدونكه اه ـ.
ومررنا بعد بوادي المسيد وهو كالذي قبله أو أخصب منه وماؤه غزير لا ينقطع على الدوام أيضا ويكثر في أوقات السيل لأنه يجتمع إليه ماء جبال مسلاتة من أعلاها إلى أن قال وبهذه المراحل شجر العشر كصرد القاموس فيه حرّاق كسرد ولم يقتدح الناس في أجود منه ويحشى في المخادّ ويخرج من زهره وعشبه سكر معروف وفيه مرارة قال التجاني وهو شجر ناعم النبات شديد الخضرة إلى السواد مائل هو ينبت صعدا وله أوراق عظيمة ونور مشرق حسن المنظر كنورة الدفلي وتمر أخضر تملأ الواحدة يد حاملها وهي مملوءة بشيء يشبه القطن تسميه العرب الخربع بضم الخاء المعجمة وسكون الراء وضم الباء وربما حشيت منه المرافق والوسائد.
قال وأخبرني من يوثق به أنه رأى ثيابا صنعت منه ولا يأكله حيوان وهو شجر
__________________
(1) في هذه الأبيات روايات أخرى في الكتب المذكورة آنفا في الصحيفة 174 وعدد 5.

كثير اللبن وليس شيء من اللبن على اختلاف أنواعه أكثر لبنا منه ويجنى منه مغافير واحدها مغفور بضم الميم وهو صمغ حلو كريه الرائحة يقال له سكر العشر وفي الحديث أكلت مغافير وهو من هذا ولا تكون المغافير إلا فيه وفي العرفط والرمث والثمام أكثرها مغافير وليس في كلام العرب مفعول بضم الميم إلا مغفور هذا ومغرود بالغين المعجمة لضرب من الكمأة ومنخور لغة في المنخر ومنابت الشعر القيعان وبطون الأودية وقد ينبت بالرمل.
قال ابن البيطار في أدويته ولم أر منه شيئا بالأندلس وأول ما وفقت عليه بظاهر طرابلس الغرب بالجهة الشرقية منها يشير إلى هذا الموضع ثم قال بعد ذلك بديار مصر بظاهر القاهرة إلى أن قال ثم قال التجاني وكانت العرب تستجلب المطر إذا احتبس عنهم بشجر العشر وشجر السلع بفتح اللام والسين قلت وفي القاموس السلع محركة شجر مر أو سم أو ضرب من الصبر بفتح الصاد وكسر الباء وبقلة خبيثة الطعم قال يعمدون إليها فيأخذون منها أغصانا فيجعلونها في أذناب البقر ويشعلون النار فيها ثم يصعدونها إلى الجبل فيزعمون أنهم يمطرون في وقتهم وهو قول أمية ابن أبي الصلت :
سنة أزمة تخيل بالناس م
 

ترى للعضاه منها صريرا
 
لا على كوكب يلوح ولا ريح م
 

جنوب ولا ترى طخرورا
 
ويسوقون باقر السهل للطود م
 

مهازيل أوشكت أن تبورا
 
عاقدين النيران في ثكن الأذناب م
 

منها لكي تهيج البحورا
 
سلعا ما ومثله عشرا ما
 

عائلا ما وعالت البيقورا
 
تخيل بالناس أي تطعمهم في المطر والطخرور القطعة من السحاب بالخاء المعجمة وبالحاء المهملة والبيقور جماعة البقر وهو ضرب من السحر ولله در القائل

يعيب عليهم فعلهم هذا :
لا دردر رجال خاب سعيهم
 

مستجلبون نزل الغيث بالعشر
 
أجاعل أنت بيقورا مسلعة
 

وسيلة لك بين الله والمطر
 
قلت وهذا من جهل العرب وهو كثيرا إلى أن قال وفي تورغت بئر عذب ماؤها حفرها الأخ في الله سيدي عبد السلام بن عثمان وغرس عليها شجرة من شجر التوت لقصد ابن السبيل فيشرب من ماء البئر ويستظل بظل الشجرة تقبل الله منه وشكر سعيه وقد صدق في ذلك لكون المحال معطشة في زمان القيظ.
غريبة وذكر شيخنا العياشي في رحلته قال أخبرني الشيخ الأجل قاضي مدينة المقدس محمد النفاتي التونسي أيام لقائي له بالقدس الشريف أنه حج في صغره مع أخيه أبي الحسن النفاني أمير الركب فمروا بهذا المكان في زمان القيظ فالجأهم العطش إلى بئر في وادي ينّوت إلى أن قال يعني أن الركب اضطرهم العطش إذ قليل ما يسقون منه فنزلوا عليها قائلة ووافقتهم هنالك فقول قدمت من فزان حاجتهم مثل حاجتهم فمن قائل يقول نرتحل هذا الوقت لندرك الماء قبل حلول الهلاك ومن قائل نؤخر إلى آخر النهار قال لي الشيخ فدخلت على أخي فأخبرته بذلك وقلت له أن الناس قد اشرفوا على الهلاك واضطرب أمرهم في الرحيل فأمرهم بالرحيل لئلا يهلكوا قال فاغتم لذلك واستند في خبائه كالنائم فلما أفاق قال لي ناد في الناس بالإقامة وقل لهم يذهبوا لسقي الماء فقلت له أبك جنون أنا أخبرك أنه لا قطرة فيها والناس قد اشرفوا على الهلاك فقال لي أفعل ما أمرتك به فقلت له لست بأحمق أنادي بالإقامة على غير ماء فلما أبيت نادى خديمه الغلام وقال له ناد في الناس بالإقامة والذهاب لسقي الماء فلما سمعت ذلك استحييت وتغيبت فأقام الناس وذهبوا إلى البئر فوجدوها قد امتلأت بالماء حتى كاد أن يفيض من جوانبها فاستقى الحجاج

وجميع القوافل والماء كما هو.
وقال لي الشيخ فلما رأيت ذلك ذهبت إليه وقصصت عليه الخبر فقال لي لما أغفيت عند ما أخبرتني بخبر الناس رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فقال لي مر الناس بالإقامة فعلمت أن الله سيجعل لهم من أمرهم فرجا قلت ولا يستعبد هذا في حق وفد الله وزوار نبيه صلى الله عليه وسلم فإن لله بهم عناية ولهم منه أعظم وقاية.
ولقد أخبرني عن أخيه هذا بأمور من جنس هذا في سفرته تلك وفيها توفي بقرية الينبوع التي ينزلها الحاج وقبره إلى الآن ظاهر عليه بناء خفيف على تل مشرف بحري منزل الركب المغربي وكنا نزور قبل ذلك المحل ولا نعلم من دفن فيه حتى أعلمني القاضي المذكور والله يغمرنا وإياه رحمته آمين اه ـ.
انعطاف إلى ما كنا بصدده وهو انه لما ودعنا أحباؤنا المذكورون توديع ذي كآبة عند الافتراق مررنا مسرعين لنلتحق الركب إذ سبقنا بساعات فعند الاصفرار لحقنا به فوجدناه في سفح الجبل أي قبل ابتداء محل الوعر فنزلنا عليه ففرح الركب بلحوقنا ونزولنا عليهم فلما أصبح الله بخير الصباح ظعنا منه ومررنا على تلك الأوعار ثم كذلك إلى وقت العصر فنزلنا ساحل حامد وفي تلك الأوعار كان أولاد الشيخ بو عصيدة الذين كانت عادتهم يضعون مائدة من العصيدة للركب بلحم وفي الحجة الأولى لقيت من أولاده الفاضلين الأخوين الشيخين ضل عني أسماؤهما لطول العهد فقال لي أحدهما عند الافتراق أنت تجاور مصر في شأن العلم وكنت قد عزمت على ذلك فأخبرني بما في قلبي وقال له الآخر فإنك لم تر شيئا وإنما هو إذا حج فيرجع فان فلانا قد مات أعني صاحب الوهب الرباني والجذب الصمداني وهو أمي لا يقرأ سيدي عبد الرحمان المجذوب الخلادي الملقب أقطال من جبال بجاية من

عمالة الجزائر نفعنا الله به آمين وقد مات ذلك العام قبل وصولنا مصر وقبره هناك بقرب من قبري (1) الشيخ الخرشي والشيخ عبد الباقي والشيخ خليل المالكي في القرافة الصغرى فيتولى هذا أمره وينتفع به أهل بلده فسكت الآخر وسلم له نفعنا الله بهما وبأسلافهما.
ثم إن ساحل حامد بلدة طيبة ذات زيتون ونخل وعمارة يبدو حسنها للرائي وهي في رأي العين لا نظير لها لكثرة مائها واتساع أرضها مع استوائها وجودة ترابها فبساتينها روضة من الرياض مجدولة جداويل (2) مع استواء بيوتها وتحسين أضلاعها فإن المرء إذا وصلها زال عليهم الهم والنكد لأن رؤية الخضرة والبحر والوجه الحسن تزيل الهم عن القلب وتفرج الغم عن الصدر وفي هذا الساحل أفاضل أحياء وأموات.
منهم أولاد الشيخ الفاضل ذي الفضائل والفواضل العلامة الكامل والفهامة الناقل ذي التآليف الحسنة والتصانيف المتقنة وقد رأيت بعضا منها كشرحه لابن عاشر فانه قد أجاد فيه وكذا كتابا في التنبيه على المحدثات في هذا الزمان من رقص الفقراء وتواجدهم ومعاملتهم فيما بينهم وادعائهم ما لم يصلوا إليه وعصيانهم وعدم امتثالهم ما يقتضيه الشرع وعدم اتعاظهم وسماعهم لذلك وبعدهم عن العلم وأهله وأنهم ظنوا أن الفتح على أيديهم وليس لغيرهم فيه نضيب غاية ما وصل إليه علماء زمانهم العلم الظاهر والسكون تحت النقول وذلك طريق العامة والمعتبر في زعمهم طريقهم إذ يعتقدون التنافي بين الشريعة والحقيقة والحق خلافه فإن الحقيقة لب الشريعة وغير ذلك من البدع.
__________________
(1) كذا في جميع النسخ.
(2) كذا في جميع النسخ.

وقد سلك في هذا التأليف مسلك أبي عبد الله ابن الحاج صاحب المدخل وابن أبي جمرة في شرحه لمختصر البخاري والشيخ عبد الكريم الزواوي في شرحه للوغليسية والشيخ الأخضري في قصيدته القدسية والشيخ زروق في عمدة المريد وكتاب البدع وغيرهم ممن بين أصل البدع وحوادث الأوقات وله أيضا كتاب في الطب وسمعت أيضا أن له شرحا على قصيدة البهلولي في أحكام العزية وقد استعرناه من ولده العلامة الفاضل والفهامة الكامل المحب الود في الله ومن أجله سيدي أحمد بن عبد الصادق من تونس لأنه قد سكن فيها وهو مدرس في المدرسة الباشية وغير ذلك من تآليفه رضي الله عنه وذلك السيد علي بن الصادق وقد زرنا قبره وأولاد وأصحابه وجيرانه وكل على خير وفضل وكرم وجود وحلم وعلم ومهما زرنا الشيخ إلا أحسن إلينا غاية الإحسان في الضيافة أغناهم الله غناء لا يتبعه فقر آمين بل ربما زادوا علف الدواب زادهم الله شرفا نعم بركة الشيخ ظاهرة عليهم ولا شك أن الشيخ قد أصابه وابل من أشياخه نسأل الله تعالى أن يمن عليهم بالوسع والتوفيق إذ فيهم غاية السخاء والتكلف بما لا يستطيعونه ولذا كان أخونا في الله طيب (1) الدين سيدي محمد (2) الشريف البلغيثي ثم النوفلي يستثقل زيارة الشيخ لما يعلم من وقوع أولاده في كلفة عظيمة فترك الزيارة حينئذ بهذه النية الحسنة زيارة ونحو اعتبرنا الظاهر فكان الحق معه علما منا بضعفهم وقلة ذات يدهم غير أن المعطي حي غني.
وقد ورد في الشرع المنع من أمور مطلوب فعلها لمشاهدة المحظورات كحضور الولائم فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال من دعي إلى وليمة ولم يجب فقد عصى أبا القاسم غير أنها إذا كان فيها محرمات كاختلاط النساء والرجال أو آلة محرمة يحرم
__________________
(1) في نسختين طبيب.
(2) في نسخة أحمد.

اتفاقا كالتماثيل وصور لا يجوز مشاهدتها إن كانت مستقلة ولها ظل وفي الجبل الذي غرب الساحل يمنة الماشي في الطلعة بلاد مسلاتة ذات زيتون كثير وزيته كاد أن لا تفرق بينه وبين السمن لا سيما الذي يضربونه في الماء وقد بين صفته الأخ السابق سيدي محمد الشريف وله أملاك هناك زاده الله فيها حتى يكون مشطرا لأهلها مع نفض اليد من الدنيا رأسا حتى تكون من الله وإليه وعلى هذه الحالة علمته الآن نعم مكنه الله من الزهد الحقيقي إذ الزهد على ثلاث مراتب زهد العامة في الدنيا فإنهم لا يفرحون إذا أتت ولا يحزنون إذا ذهبت وهذا الزهد أوجبه الله على كل مسلم وزهد الخاصة فإنهم يفرحون إذا ذهبت لأنها سم ويحزنون إذا أتت وأما الخاصة فلا يشاهدونها ذهابا واتيانا (1) لأنك إذا فرحت بذهاب أحد فليس ذلك إلا لكونه عظيما عندك وهذا معلوم في الشاهد وأخونا هذا غيبه الله عن الأكوان بمشاهدة المكون حقق الله لنا معه ذلك بمنه وكرمه أقول قال شيخ شيوخنا المذكور ما نصه عند ذكر ذلك الجبل الذي هو غرب ساحل حامد وفيه مسلاتة وغيرهم.
قال أبو سالم في رحلته وهو آخر الجبل الذي لا نظير له في الدنيا طولا وعرضا وخصبا وماء وقرى متصلة وعمرانا متراكبا وقبائل وافرة غالبها البربر وأوله من البحر المحيط أطراف السوس الأقصى ثم يمتد كذلك إلى أن يمر قبلي مراكش وهو المسمى جبل درن ثم يمتد كذلك إلى بلادنا ثم إلى أن يقارب البحر قرب تلمسان ثم لم يزل يساير البحر وإن كان يبعد عنه في بعض المواضع ويسمى في كل بلد باسم وربما تعددت أطرافه فيسمى كل طرف باسم إلى أن ينتهي هنا بأطراف برقة وقال صاحب تقويم البلدان أنه يمتد من أطراف السوس الأقصى من البحر المحيط إلى أن يبقى بينه وبين الإسكندرية خمس مراحل.
__________________
(1) في نسخة إيابا.

قلت وكأنه جعل بلاد برقة كلها والجبل الأخضر منه لأن ارض برقة مرتفعة على ما يجاورها من بلاد فزان ونواحيها والبحر من الناحية الأخرى إلى العقبة الصغيرة وبينها وبين الإسكندرية خمس مراحل والظاهر ما ذكرنها أولا وهو الذي اقتصر عليه غيره فغرب هذا الجبل في كل البلاد بلاد مخصبة ذات أنهار وعيون وأشجار وقبلته صحراء ذات نخيل ورمال في البحر المحيط من أطراف السوس الأقصى إلى آخر برقة انتهى إلى أن قال وفي سفح هذا الجبل الذي يلي ساحل حامد مدينة عظيمة يقال لها مدينة لبدة قد خلت في العصور الأوائل وبقيت آثارها ورسومها قد أكل البحر كثيرا منها وفيها مبان عظيمة ، وهياكل جسيمة ، وأبراج مبنية بالحجر المنحوت في غاية الإتقان قد هرم الدهر وما هرمت ، وتعاقبت عليها الأزمنة وما ثملت ، فترى الأبنية مائلة متقابلة على رؤوس الجبال مد البصر بحيث يحكم الحدس إن كل ما كان داخلها كان مدينة واحدة إلى البحر وترى أعمدة الرخام وغيره واقفة في وسط البحر قد أحاط بها الماء بحيث لا يرتاب أن البحر قد أكل كثيرا منها. ومن هذه المدينة ينقل كثير من أعمدة الرخام إلى طرابلس وإلى مصر وإلى غيرهما من البلدان ويقال أن بانيها الملك دقيوس وبعد وفاته تملكتها امرأة اسمها رومية وبعضهم ذكر أن (دمشق ابن) النمرود لما بنى دمشق بقي ثلاث سنين وبعث ولده وأمره أن يبني مدينة بالمغرب فبنى هذه المدينة وجلب إليها الماء من وادي كعام في بناء متقن يحار الناظر فيه وأثر البناء وممر الماء باق إلى اليوم متصل من جوف (1) الوادي إلى أطراف المدينة إلا أن ماء هذا الوادي إلا قليل آجن ويزعم أهل البلد أن ماء هذا الوادي كان حلوا غزيرا أيام عمارة المدينة وكان مما يؤثر عند أهلها أنه إذا بدأت الملوحة في ماء الوادي فذلك علامة خرابها فلما بدت فيه الملوحة أخذ أهلها في الانتقال منها والله أعلم أنى ذلك كان.
__________________
(1) في نسخة حرف.

وقد ذكر العبدري في رحلته هذه المدينة وذكر انه وجدها خالية والذي يظهر أنها خلت قبل الإسلام إذ لم يذكرها أحد ممن ذكر فتوح أفريقية والله اعلم بغيبه.
غريبة أخبرني بعض أهل تلك البلاد أن الملك الذي بنى هذه المدينة وقع موتان في عسكره حتى تفانوا ولم يدر ما سببه فأمر بشق بطن واحد منهم وشق قلبه فوجد فيه دودة فعلم أن ذلك سبب موتهم فأمر بصب جميع الأودية عليها واحدا فواحدا فلم تمت حتى أخرج زيتا كان عنده في قارورة جاء بها من أرض الشام فصب عليها قطرة منه فماتت فعلم أن دواء ذلك المرض أكل لزيت فبعث إلى الشام وجاءه غرس الزيتون فأمر بغرسه في تلك الأوطان كلها من مصر (1) إلى سوسة وتونس وأعمالهما ومن تلك الساعة بقي الزيتون في هذه البلاد والله اعلم انتهى كلامه.
قال (ابن ناصر) وفي غير هذه الحجة رأيناها ورأينا فيها العجب العجاب ، وموعظة وذكرى لأولي الألباب ، ولله در القائل (2) :
لدوا للموت وأبنوا للخراب
 

فكلكم يصير إلى ذهاب
 
ثم قال ونخل هذا الساحل ردي التمر كله لا يدخر ولا ييبس إلا بعد إزالة النوى منه فيبقى كقطع الجلدة لا قوة فيه ولا حلاوة ولا طعم قال الإمام أبو سالم لا تكاد تفرق بينه وبين لحاء الشجر.
قلت وفيه تمر جيد يجعلونه بمساليخ (3) وأما جل ما يتقوتون (4) به فكما قال قال
__________________
(1) كذا في جميع النسخ وفي الرحلة العياشية مسلاتة وفي الرحلة الناصرية مسراتة.
(2) هذا البيت أول بيت من قصيدة لأبي العتاهية كما في ديوانه وفي كتاب الأغاني ج 3 وص 161 والشطر الأول منسوب للإمام علي كما في ديوانه ص 8 وهو عجز قوله «له ملك ينادي كل يوم».
(3) في جميع النسخ لأنفسهم وقد تبعنا هنا الرحلة الناصرية.
(4) في جميع النسخ يستوقون إلا الرحلة الناصرية.

وبهذه البلدة قبر الولي الصالح ذي الكرامات الكثيرة ، والمآثر الشهيرة ، سيدي مفتاح وهو على تل مرتفع بساحل البحر بينه وبين البلد في مكان يعلوه البهاء ، ويتفجر منه السناء ، تسكن النفوس إذا حلت به ، وتطمئن به القلوب إذا نزلت بقربه ، وهذا السيد ممن تؤثر عنه الكرامات الكثيرة وجربت إجابة الدعاء عند قبره فلا ينبغي لمن مر بذلك البلد أن يهمل زيارته وقد قيل أن قبره كان مختفيا وأظهره سيدي عبد السلام الأسمر وكان قد أظهر قبورا كثيرة للأولياء بذلك الساحل وأظهرت فرسه أيضا آخرين وذلك انه إذا ركب على فرسه ربما تمر بمكان فتبحث برجلها في الأرض فيقول لهم الشيخ احفروا فإن هنا قبر ولي فيجدونه فظهرت بذلك مزارات كثيرة وفقراء الساحل إلى الآن يعرفونها ويقولون هذا من الذين أظهرهم فرس الشيخ ولا بدع في ذلك فإن الكرامة في ذلك لراكب الفرس لا للفرس فقد بركت ناقة النبي صلى الله عليه وسلم في مكان مسجده وعند ما دخلت الحرم يوم الحديبية وإذا كانت بركة النسبة للأنبياء عليهم السلام وللأولياء رضوان الله عليهم يظهر أثرها في العجماوات فما بالك في الآدمي الذي هو أشرف المخلوقات فلا تقصروا أخواني من خدمة الصالحين وزياراتهم وملاقاتهم وحبهم وحسن الاعتقاد فيهم فإن لذلك أثرا عجيبا في تليين القلوب وتسخير النفوس والله تبارك وتعالى يجعلنا من المحبين لأهل ولايته ويحشرنا مع حزبهم وفريقهم في دنياهم وآخرتهم.
وبازاء روضة هذا السيد بئر عذبة الماء باردة ثم قال ومررنا على أثار ساقية فيها قنوات تحمل الماء إلى المدينة المذكورة من عين هناك يقال لها عين كعام وفيها صنعة عجيبة وأبنية غريبة بحجارة منحوتة عظيمة تحار فيها العقول منها أحجار من أربعة أذرع فأكثر منقورة في وسطها نقرا متقنا والحجر في غاية الضلابة قريب من حجر الصوان.

قال شيخنا العياشي والحاصل أن من رأى ذلك استغرب أن تكون قدرة البشر واصلة إلى ذلك المقدار وعلم أن دهرا أفنى أولائك الأقوام جدير بأن يستأصل شأفة الأنام قال وفي هذا البلد تلقانا الشيخ الأخ في الله سيدي علي بن عبد الصادق في جماعة من طلبته وشيعنا وبات معنا وبالغ في القرى وأحضر تمرا وشعيرا وخبزا ودجاجا ولحما جيدا ودلاعا كثر الله خيره وهذه البلدة مثل التي قبلها انتهى بالمعنى وأكثره باللفظ مع زيادة من عندي ونقصان بما يناسب كل مقام.
تنبيه ما ذكره سيدي أحمد بن ناصر شيخ شيوخنا من أن سيدي علي بن عبد الصادق من بلدة زليتن فيه نظر أو أنه سبق قلم أو نسيان أو أنه أتى إليه ولقيه في ذلك الوطن وظن انه منه وأما احتمال أنه انتقل الشيخ من وطنه الذي هو ساحل حامد فأني قد سألت عنه وفحصت عن هذا الخبر فقال لي من يوثق بخبره أنه لم ينتقل من ساحل حامد أصلا غير انه يحتمل فاللائق الذي يعتمد لعيه هو الأول وإلا فالشيخ لا طيش معه لأنه في غاية التمكين رضي الله عنه ونفعنا به آمين.
تتمة بلدة زيلتن هذه الآن عامرة أكثر من ساحل حامد بزيادة عظيمة وشجرها أكثر منها وكذا كل نوع إلا أكثر ففيها الآن الخير العظيم دينا ودنيا.
وفي هذه البلدة فضلاء وصلحاء وعلماء وفي الرجعة اجتمعنا مع علماء الوقت كالفاضل الكامل الأديب الفقيه سيدي سالم وإخوانه وطلبته وقد عمر أوقاته بتدريس العلم نحوا وفقها وله فهم جيد.
وهذا سيدي سالم الفطيسي فانه أجاد في إكرامنا نهارا وعزم بنا إلى بيته تبركا بنا أحسن الله إليه إحسانا كليا وأتم عليه ما هو به وعلى ذريته وإخوانه إلى قيام الساعة فقد أقرى لنا لحما وكسكسا وتمرا ورمانا بحيث عدد علينا أنواع القرى والقرى

القوي هو الفرح والرغبة في العلم وأهله وكذا اجتمعنا مع فضلاء تلك البلدة كالمشارك في العلوم سيدي إبراهيم نجل الشيخ سيدي سالم فإن له اشتغالا بالتدريس نفعه الله ونفع به آمين وكذا جماعة من أهل الخير لا أعرف أسماءهم إلا أن الخير والفضل لائح على وجهوهم إذ أنوار الله لا تخفى على من له شم لرائحة الحقيقة وكذا لقينا إلى طريق الحاج محمدا رجل خير فاضل محب لصديقنا سيدي محمد الشريف البلغيثي وأتى إلينا بالرطب والخبز واللحم وجميع من مر من الركب أكل منه كثر الله خيره وبسط عليه رزقه.
هذا وأنا زرنا الولي الصالح والقطب الواضح سيدي عبد السلام الأسمر في الطلعة والرجعة أفاض الله علينا من بركاته وجعلنا في زمرته بجاه النبي صلى الله عليه وسلم وآله وآل البخاري ورجاله وبالجملة فكراماته مشهورة ومآثره كثيرة ومعاليه بينة عند الخاصة والعامة فلم يبق إلا التعلق به وبأمثاله لتجبر قلوبنا وتشفى أسقامنا لا سيما أسقام الدين فإنها قد عمت ظواهرنا وبواطننا مع أعظم المفسدات له وهو ادعاء النفس ما لم تصل إليه غير أن بعضهم لا يدعي ذلك قولا وإنما يدعيه حالا بحيث إذا ذم وحط عن ما تدعيه نفسه من المقامات العالية تغير وتكدر أمره غايته إن كان من أهل العلم سكت عن قول السوء ويحمل نفسه على الصبر ولو لا ادعاؤه ذلك ما تغير إذ غاية ما قيل فيه أنه كذلك في الواقع وأما الجاهل فلا يصبر بل يبادر للسوء ويغلظ القول عليه بل ربما آل أمرهم إلى الضرب مع الشتم بل إلى القتال كما عينا ذلك من كثير من فتنة المرابطين في وطننا وقتالهم فإن أهل ذلك كله هو رعونة الدعوى وتمكنا منه اللهم بجاهه عندك وبجاه أمثاله أن تمن علينا بالبرء من الدين وشفاء أسقامه واحفظنا من كل بلاء دينا ودنيا بمنك وكرمك.
نعم هو رجل كما قال أبو سالم في رحلته من أهل المائة العاشرة كثير الكرامات

عالي المقامات من أجل تلامذة سيدي أحمد بن عروس نزيل تونس والغالب عليه الجذب في أول أمره وآخره وله تصرف قوي ويؤثر عند أهل البلد من تصرفاته آثار كثيرة يطول استقصاؤها وأخباره في قهر الجبابرة وفك الأسارى من أيدي الفرنج في حياته وبعد مماته شهيرة وهو من بلدة يقال لها الفواتر وأمه مغربية درعية (1) ولم تزل هذه البلدة التي هو منها مأوى الصالحين ووكر العابدين من قديم الزمان تواتر عند أهل البلد أنها لا تخلو من سبعة من أكابر الصالحين قالوا وهم ظاهرون بها حتى الآن وليس عليهم سمة متفقرة الوقت بل هم على هيئة العوام في ملابسهم ومساكنهم وحرفهم إلا أنهم قائمون على منهاج الشريعة وكل من رام أهل هذه البلدة بسوء يقصمه الله ولا يدخلها أحد بتجبر وتكبر إلا أذله الله ويذكر عن أهلها كرامات كثيرة.
قال وقد ذكر لي بعض الإخوان أن سيدي عبد الحفيظ قدم لزيارة أهل هذه البلدة ومعه بشر كثير كما هو شأنه إذا خرج فلما قرب من البلد نزل عن فرسه ومشى راجلا متواضعا إلى أن زار وخرج فقيل له في ذلك فقال لو دخلتها على الحالة التي كنت عليها خارجا من الركوب كهيئة المتبوع تخشيت على نفسي أو كلاما هذا معناها وبلدة الفواتر هذه بإزاء زاوية سيدي عبد السلام قريب منها بنحو من فرسخين (2) وفيها مزارات كثيرة للأحياء والأموات.
لطيفة أخبر الإمام العياشي في رحلته أنه أخبره أخوه في الله المجذوب السالك سيدي أحمد بن محمد بو نجيب (3) انه لما حدج بقي أمام النبي صلى الله عليه وسلم
__________________
(1) في الرحلة العياشية دراوية.
(2) كذا في جميع النسخ وفي الرحلتين العياشية والناصرية فرسخ.
(3) كذا في الرحلة الناصرية وجميع النسخ وفي الرحلة العياشية مجيب.

فقال في نفسه أني لا أذهب لزيارة حمزة ولا لغيره هذا يكفيني قال فأخذتني سنة فرأيته صلى الله عليه وسلم فقال لي يا أحمد يا حبيبي عم الرجل عوض أبيه قال فقمت في الحين وذهبت لزيارة سيدنا حمزة وحدي وكان وقت خوف ولقيت هناك ثلاثة رجال أحدهم الخضر عليه السلام.
ونقل عنه عن اللقاني أن الوزغ يتغذى بعينيه وانه أي اللقاني كان ذات يوم يأكل ووزغ ينظر إليه من السقف فأمر من قلته قال وشقوا بطنه فوجدوا فيه من الخضرة التي كان الشيخ يأكل منها انتهى.
وممن لقيه هذا الشيخ في هذه البلدة سيدي محمد بن سالم الزليتني وكان متبعا للسنة كثيرا وآثار الصلاح على وجهه تلوح وعرف الفلاح من بشره يتضوع ويفوح وكان من أهل الكشف نفعنا الله به ثم قال.
نادرة كان سيدي عبد السلام الأسمر الشيخ الأكبر يستعمل السماع بالدف إلا أنه كان رضي الله عنه ذا حال صادقة لا يقتدي به في ذلك وأراد خلفه والمنتسبون إليه اقتفاء أثره في ذلك فحقهم إتباع السنة واجتناب مواقع الظنة وليست الأحوال مما يورث ولا مما يصح فيه التقليد لأنها واردات من الحق تستعمل العبد بمقتضى وقته استعمالا جبريا فليس لغيره أتباعه في ذلك إن لم تظهر له موافقته المشروع.
ومما يحكى من ذلك عن الشيخ سيدي عبد السلام انه سمع ذات يوم بالدف فلما نقره سمعه كل من حضره يقول الله الله بحيث لا يمترون في ذلك قاله في رحلته شيخنا أبو سالم قال وهذا شاهد صدق في صحة سماعه وصدق حاله مع الله ومثل هذا له أن يسمع بأي شيء أراد من دف ومزمار لانقلاب سمة الملاهي في حقه ترياقا فعادت المخالفة للمشروع بانعكاس الثمرة وفاقا فسبحان من يخرج من بين فرث

ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين ومن بين الدف والمزمار أحوالا سنية للمقربين.
وكان حج مع شيخنا الوالد رضي الله عنه وأرضاه بعض أهل زاويته وكان يسمع بالدف على عادتهم فبعث إليه الشيخ فقال له أن أردت مرافقتنا فأترك هذا السماع وإلا فاعتزلنا فاعتذر بان ذلك من عادة أسلافه فلم يقبل منه الشيخ ذلك ولم يزل به حتى ترك السماع.
قلت وقد عمت البلوى والعياذ بالله بانكباب أبناء الطوائف على السماع بالدفوف والمزامير وسائر الآلات والأشعار والألحان واتخذوا ذلك صراطا مستقيما ، وأتبعوا فيه شيطانا رجيما ، ونبذوا السنة وراء ظهورهم ، وزالت هيئة الشريعة من صدورهم ، وكان لهم ذلك ديدنا في سائر الأزمان ، فصاروا مسخرة للشيطان ، وفي الرسالة لأبي إسحاق الاولاسي قال رأيت إبليس في المنام على بعض سطوح الأولاس وأنا على سطح وعلى يمينه جماعة وعلى يساره جماعة وعليهم ثياب لطاف فقال لطائفة منهم قولوا فقالوا وغنوا فاستفزعني صيته (1) وهممت أن أطرح نفسي من السطح ثم قال ارقصوا فرقصوا أطيب ما يكون قال لي يا أبا الحارث ما أصبت شيئا أدخل به عليكم إلا هذا انتهى.
ولعمري كيف تسلم ديانة من يتعاطى السماع بالأغاني وإنشاد الألحان والأشعار إذ هو معشش الدسائس وأحق بالنزاع ومغرس التخليط والتلبيس وأدخل في الابتداع إلا من عصمه الله وقليل ما هم فلذلك كان إنكار السماع من كثير من العلماء وتحذيرهم منه لا سيما في حق العوام الباقية نفوسهم القائمة حظوظهم وكثير استعماله لكثرة الغرور وطفوح الجهل حتى ربما رأوه من أركان الطريق وربما
__________________
(1) في الرحلة الناصرية استفرغتني طيبة.

توغلوا فيه حتى تعاطوه بالآلات الملهية والأصوات الحسنة من الأحداث الملاح حتى كأنهم محاضر المنادمة وما أبعد هذا عن الدين وأهله وقد يكون الفتى من أهل البطالة والغواية واللهو والشرب ثم انه يتوب على أيديهم فيحضرونه في أمثال هذه المجالس وهذا الغناء وهذا اللهو فلا تزداد نفسه إلا قوة وجموحا ، ولا شهوته إلا كلبا وطفوحا ، نعم كان قبل التوبة منكسر القلب معترفا على نفسه بالإساءة متمنيا للخير والصلاح واللحاق بأهله والخير كله في هذا الوصف وفي الحديث القدسي أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي ثم الحالة الأولى إلى الثانية وهذا العجب والاغترار هو العيب كله والشيطان يكتفي منه بذلك فلا يوسوس له أن يتعاطى تلك المعاصي السابقة لأن هذا العجب والاغترار أعجب إليه إذ لا يتمنى الانتقال والتوبة عن هذه الحالة أصلا وعدم الوسوسة بذلك تزيده اغترارا وإعجابا فيكون في مرضاة إبليس ما دام على تلك الحال وفي سخط الكبير المتعال نسأله العافية.
ولهذا قال أمام الطريقة الجنيد رضي الله عنه إذا رأيت المريد يحب السماع فاعلم أن فيه بقية من البطالة.
وقال الشيخ الإمام القدوة الهمام أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه سألت أستاذي رضي الله عنه عن السماع فأجابني بقوله تعالى : (إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (69) فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ).
وقال أيضا رضي الله عنه رأيت في النوم كأن بين يدي كتاب الفقيه ابن عبد السلام وأوراقا فيها شعر مرجز وإذا بأستاذي رحمه الله واقف فتناول كتاب الفقيه بيمينه وتناول الأوراق بشماله فقال كالمنتهر أتعدلون عن العلوم العزية الزكية وأشار بيده إلى كتاب الفقيه إلى الأشعار ذوات الأهواء المردية وأشار بيده إلى أوراق الشعر ثم رمى بها الأرض ومن أكثر من هذه فهو عبد مركوز لهواه ، أسير شهوته ومناه ،

يسترقون به قلوب الغفلة والنسوان ، ولا إرادة لهم في الخير واكتساب العرفان ، يتمايلون عند سماعها تمايل اليهود ، ولم يحظ أحد منهم بما حظي به أهل الشهود ، لئن لم ينته الظالم ليقلبن أرضه سماء ، فأخذني حال وجد وبكاء ، وأنا أقول إلا أن النفس أرضية ، والروح سماوية ، فقال بلى إذا كانت الروح بأمطار العلوم دارة ، والنفس بأعمال الصالحات نباتة ، فقد ثبت الخير كله ، وإذا كانت النفس غالبة ، والروح مغلوبة ، فقد وقع القحط والجدب وانقلب الأمر وجلب الشر كله فعليك بكتاب الله الهادي ، وكلام رسوله الشافي ، ولم تزل بخير ما لزمتهما ، وقد أصاب الشر من عدل عنهما ، وأهل الحق إذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وإذا سمعوا الحق أقبلوا عليه ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا انتهى.
وقال الإمام أبو العباس زروق وقد اتفقوا على منعه لما حدث فيه وبه من المفاسد حتى قال الشيخ محيى الدين رحمه الله السماع في هذا الزمان لا يقول به مسلم ولا يقتدى بشيخ يعمله أو يقول به.
وقال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه في قوله تعالى : (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) نزلت في اليهود ومن كان من فقراء هذا الزمان مؤثرا للسماع بهواه آكلا مما حرمه مولاه فهي نزعة يهودية لأن القوال يذكر العشق وما هو بعاشق ويذكر المحبة وما هو بمحب والوجد وما هو بمتواجد فالقول يقول الكذب والمستمع سماع له ومن أكل من الفقراء طعام الظلمة حين يدعى إلى السماع يصدق عليه قوله تعالى : (لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ) الآية.
قال وعبر بعض الصحابة على بعض اليهود فسمعهم يقرأون التوراة فتخشعوا فلما دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل عليه جبريل عليه السلام فقال أقرأ قال وما أقرأ قال أقرأ (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ)

فعوتبوا إذ تخشعوا من غيره وهم إنما تخشعوا من التوراة وهي كلام الله فما ظنك بهذا أتعرض عن كتاب الله وتخشع بالملاهي والغناء انتهى كلامه.
وقال الإمام محيى الدين وكل ما سمع من الخشوع فهو على أحد أمرين أما قبل أو تحصل له مرتبة التمكين فالسماع عندنا حرام في ذلك الوقت أو سمع بعد التمكين بشروطه المعروفة التي قد ذكرناها في غير هذا الموضع فيعلم من هذا انه قد نزل من المقام الأعلى إلى مقام هو أسفل وأدنى لحظ نفسه ثم ذكر السماع وانه نزول كله وإن من لم يجد حاله إلا في السماع ويفقده إذا فقده فقد مكر به واستدرج فليبك على نفسه وليبحث على ما جنته يده فيجد ذنبا ضرورة لا بد من ذلك ثم قال والله يلبسنا وإياكم رداء التقوى والعافية ، ويحلنا وإياكم المراتب السامية ، ولا يجعلنا وإياكم ممن له إلى السماع أذن واعية ، فيكون من أهل القلوب الملهية انتهى.
وله في التدبيرات الإلهية السامعون شخصان شخص يسمع بنفسه وشخص يسمع بعقله وليس من سامع آخر ومن قال أنه يسمع بربه فهو نهاية درج سمع العقل لكن للعقل سمعان سمع من حيث فطرته وسمع من حيث الوضع فالذي له من حيث الوضع هو الذي قيل عنه أنه يسمع بربه وقوفا عند قوله عليه السلام عن ربه كنت سمعه الذي يسمع به فالذي يسمع بعقله يسمع في كل شيء ومن كل شيء وعلى كل شيء لا يتقيد وعلامته في ذلك البهت وخمود البشرية والذي يسمع بنفسه لا بعقله لا يسمع إلا في النغمات والأصوات العذبة الشهية وعلامته أن يتحرك عند السماع بحالة فنائه عن الإحساس ومهما أحس المتحرك في السماع فانه مسخرة للشيطان وإن لم يحس وفني عن كل شيء فهو صاحب نفس وتحت سلطانها وحاله صحيح الفناء ولا يأتي بعلم أبدا عقب هذا الفناء والحركة في السماع فان ادعى انه أتى بعلم فلم يكن فانيا ولم يكن سمع بعقله فانه تحرك ولم يبق له إلا أن يكون كاذبا

فإن سماع النفس لا يأتي بعلم البتة وسماع العقل لا تكون معه حركة فمن جمع بين الحركة والعلم فهو كاذب جاهل بالحقائق انتهى الغرض منه فقس هذا الكلام على أهل زمانك تر العجب العجاب والله يلهمنا الصواب ويعصمنا من الزلل ويوفقنا لصالح القول والعمل.
قال الشيخ أبو القاسم القشيري سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق رحمه الله تعالى يقول السماع حرام على العوم لبقاء نفوسهم مباح للزهاد لحصول مجاهدتهم مستحب لأصحابنا لحياة قلوبهم انتهى.
قلت وإلى هذا الكلام والله اعلم يشير صاحب نظم المباحث الأصلية حيث يقول :
وإنما أبيح للزهاد
 

وندبه إلى الشيوخ باد
 
فهو على العوام كالحرام
 

عند الشيوخ الأجلة الأعلام
 
قال الإمام زروق أما أباحته للزهاد الذين لا أرب لهم في الشهوات المستلذات ولم يبلغوا مرتبة التحقيق والذوق فانه لا يضرهم فيمنع ولا ينفعهم فيندب وأما الشيوخ فانه يثير منهم الحقائق فتنتشر في عوالم الأجسام ثم تتسع في ميادين الحضرة فيكون للحضار منها نصيب لأن من تحقق بحالة لا يخلو حاضروه منها وكل ما أفضى إلى الكمال فهو كمال وأما تحريمه على العوام فمن جهة انه يثير نفوسهم ويحرك شهواتهم وغيرها من الطبائع والعوائد الردية وهذا فيما يحتمل وصوّر له وفيما يوافق الحق بمعناه من حيث الطباع لأن الشعر من محامد النفس فهو يقويها ما لم تكن ميتة.
وفي ذلك قالوا أن الغناء مرقاة الزنى وانه ينبت النفاق في القلب انتهى قلت وكلام أبي علي الدقاق هذا هو فصل الخطاب والتوسط بين الخطاء والصواب.

ونحوه قول الشبلي وقد سئل عن السماع قال ظاهره فتنة وباطنه عبرة فمن عرف الإشارة حل له استماع العبرة وإلا فقد استدعى الفتنة وتعرض للبلية وقال بعضهم لا يصح السماع إلا لمن كانت له نفس ميتة وقلبه حي فنفسه ذبحت بسيوف المجاهدة وقلبه حي بنور الموافقة.
واتفقوا انه لا بد للسماع من زمان ومكان وإخوان ولذلك قيل للجنيد رضي الله عنه ما لك لا تسمع فقال ممن قيل من الله فقال ومع من وقولوا السماع على قسمين سماع بشرط العلم والصحو فمن شرط صاحبه معرفة الأسامي والصفات وإلا وقع في الكفر المحض وسماع بشرط الحال فمن شرط سامعه الفناء عن أحوال البشرية والتنقي عن آثار الحظوظ بظهور أحكام الحقيقة وهذا والله اعلم هو في سماع الأشعار المشتملة على الأوصاف الصالحة لأهل النفوس ولأهل الأرواح قد علم كل أناس مشربهم كسماع أبي الحسن في الطريق قول القائل :
رأى المجنون في البيداء كلبا
 

 ـ الأبيات والقصة
 
وأما الأشعار الوعظية المشتملة على التذكير بالله تعالى والترغيب فيما عنده والتنفير عن الدنيا والتحضيض على التقوى فهي سليمة الجناب تصلح للعوام والعباد والزهاد وبالجملة فالسماع ورطة لأهل النفوس والشهوات وروضة لأهل الفهم عن الله تعالى وهؤلاء يسمعون من كل شيء ولا يتوقف سماعهم على طيب النغم كما تقدم عن صاحب التدبيرات ويشهد له حكاية يا ستعر بري وما فهم منه كل من الثلاثة المذكورين في حكاية أنظرها في لطائف المنن انتهى.
أقول وحاصل معناه أن شخصا نادى آخر يبيع السعتر البري فالمريد فهم أسع تر بري والسالك فهم الساعة ترى بري والواصل فهم ما أوسع بري فكل قد فهم بحسب مقامه وشربه قد علم كل أناس مشربهم فالمريد مأمور بالعمل ليرى

الإحسان من الله والبرور والسالك ينظر الفتح ولذلك فهم الساعة ترى بري والواصل في حال شهوده وتجلي المحبوب على قلب ففهم في حال شهوده من هذا اللفظ ما أوسع بري.
هذا معنى قوله يسمع من كل شيء ولا شك أن في كل شيء آية تدل على الله في الجملة وعند أهل الحق لهم خطاب منهما يخصهم بحسب مقامهم من الحب وغيره.
وقد قال بعض العارفين مكثت أربعين سنة أخاطب الخلق بخطاب الحق وذلك لغلبة الشهود عليه والحضور لديه فلم يصح تصور الغفلة عليه ولا النسيان منه ولذلك كان به ومنه وإليه فكان الله سمعه وبصره كما هو في الحديث القدسي فليس عند هذا في الوجود إلا الحق أن سمع سمع به والباطل منعدم البتة في حقه فلا تقسيم فيه وإنما التقسيم فيمن يغيب عن نفسه تارة بمشاهدة محبوبه ويشاهدها أخرى فإن كان يسمع بالله ومن الله فسماعه حق لا يقول مسلم بحرمته وإنما هو آثار عليه حال الشهود وإنما الكلام في غيره والتفصيل فيه بين الزهاد وغيرهم وأهل التمكين وسواهم فاعلمه فانه مما يجب التفطن إليه وقد أشار إليه قبل غير أنه لا يفهم ما قاله كل قاصر في هذا العلم والمتبصر يعلم الحقائق على حالها.
وبالجملة فالبحث بالإباحة والتحريم والندب إنما هو فيمن يلتبس عنا قصده وحاله ففيه التفصيل السابق والكلام حينئذ على أسلوبه والجري على نمطه نعم قرائن الأحوال تميز أحوال السامعين فمن علم انه قصد أمرا مذموما في الشرع منع باتفاق ومن علم أن قصده صحيح لا علة فيه شرعا كالزهاد والعباد جاز قطعا من غير خلاف لكونه ترياقا مجربا أقل ما فيه من الدواء استراحة النفس مما حصل لها من التعب في حال المجاهدات وكذا أهل التمكين من الشيوخ فإنما سماعهم من الحق ولا شك أنه مطلوب منهم لتتسع دائرة علومهم وتتقوى أنوار معارفهم وهذا إذا سلم

الموضع من الفتن الدينية كحضور الشبان الناعمة من النساء لا سيما إذا كانت مكشوفة العورة فإن ذلك حرام من غير خلاف إلا إذا كان صاحب الوجد زال عنه عقل التكليف وحركه الحق فلا أثم عليه لأنه ليس بمكلف إذ هو مضطر مقلوب ولا يقتدي به فلا بأس عليه من النساء وغيرهن وإنما الكلام مع من بقي معه التكليف.
حاصله أمر السماع في زماننا وغيره مع القصد الصحيح بشروطه وانتفاء الموانع كخلو المكان ممن يفتتن به من النساء والشبان ممن لا قصد له قصدا خبيثا فهو على التقسيم المتقدم بين الإباحة والندب وإما مع القصد الفاسد فلا يجوز اتفاقا.
لطيفة وتنبيه مما يجب التنبه (1) إليه اجتماع النساء والرجال في بلدنا في الظاهر على طريق الخير والصلاح والتشبه بالقوم الأول وفي الواقع ما اتخذوا ذلك إلا للتوصل للزنى ومقدماته يشهد لذلك من رآه بالعيان لأنهم فساق فلما تعذر عليهم الوصول إلى الشر من بابه اتخذوا سلما يرقون به وهو السماع ليتوصلوا لأغراضهم الفاسدة ويتجردون للزنى نحو اليومين والثلاثة ليتمكن لهم الاختلاء (2) وقد قال صلى الله عليه وسلم ما اختلى (3) رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما وقال أيضا باعدوا بين أنفاس النساء وأنفاس الرجال وقال أيضا لو كان عرق الرجل في المشرق وعرق المرأة في المغرب أو بالعكس لتحانا أو كلاما هذا معناه فإذا كان الأمر كذلك فكيف يحل لمسلم يرى ذلك منهم أن يترك حريمه أي زوجته أو أخته أو ابنته أو ابنه معهم حاصله أي قريب كان ذكرا أو أنثى فلا يتركه أن يحضر ذلك السماع المعلوم بهذه
__________________
(1) في نسخة التفطن.
(2) في أربع نسخ الاختيال.
(3) في ثلاث نسخ اختال.

المفاسد بل يمنعه منعا مؤزرا أن قدر عليه بنفسه وإلا طلب المعين أن يعينه فيه من جماعة المسلمين إن لم يكن حاكم إن كان فيهم إيمان وإن كان فيهم حاكم بلغ إليه الأمر فيجب على من ولاه الله أمور المسلمين أن يرفع (1) ذلك بالسيف من كل وطن من أوطاننا لا سيما وطن عامر وبني دراج وطننا أي بني ورثيلان وكذا ما يصير في بجاية آخر رمضان ومسجد البلوط في بني يعلى وكذا محل الأولياء في كل مكان كقبر جدنا سيدي أحمد الشريف وسيدي يحيى العيدلي وسيدي علي بن شداد وسيدي علي بن موسى وسيدي عبد الرحمان الثعالبي في الجزائر وسيدي سعيد السفري (2) في قسنطينة وجبل المثقوب في بني ورثلان وغيرهم.
نعم الذي ذكرناه إنما هو في حق المخذول الذي لم يخف الله ونبذ وراء ظهره حجاب الهيبة ففعل ما بدا له وإلا فمن غلبه الحال والوارد والشوق من وطننا أو غيره رجلا أو امرأة مع الرجال أو النساء أم لا فلا كلام لي معه إذ هو مقهور وبحب الله مغلوب مضطر فحشاه أن أمس جانبه أو أشير إليه وكذا غيري ممن نبه عليه ممن ذم السماع وحرمه إذ مقصودهم ومقصودنا سد الذرائع وسد الباب على مثل المجوزين ذلك مطلقا لا سيما المفتونين المخذولين المتحيلين للوصول إلى الأغراض الفاسدة أو يعتقد من له توجه صدق ورغبة في الخيران ما هم عليه هو الدين القويم والصراط المستقيم فيدخل في زمرتهم ويجعل نفسه منهم فإن أصابه بعض الفتن والبلاء من الشغف بحب النساء ممن يحضر ذلك الموضع فيتشتت أمره ويتكدر عليه وقته حتى يغلبه حال الشيطان فيقع في مهواة الضلال وربما سقط من عين الله إلا أن يتداركه الله بفضله بان لا يجد سبيلا (3) لمراده إذ من العصمة أن لا تجد موقعا في
__________________
(1) في نسخة يدفع.
(2) في نسخة الصفراوي.
(3) في نسخة سبا.

فساد (1) وندم على ذلك وانكسر قلبه من أجله فيأخذ الله بيده لما علمه من قلبه فذل بسبب ذلك فتكون معصيته أولى من طاعة غيره لأن المعصية مع الذل والاحتقار أولى من الطاعة مع العز والاستكبار لأن المقصود من العبودية التذلل والخضوع والاحتقار فلما كانت المعصية بذلك صارت خيرا من الطاعة التي مع العلو والاستكبار.
أقول قال الشيخ زروق الولي ولي وأن أتى حدا أي ما يستوجب الحد لأنه ليس بمعصوم إلا إذا أصر على ذلك فينتفي عنه الحكم بالولاية وبالجملة فالحذر مطلوب والسلامة في الفرار من تلك الجموع أولى والديانة في عدم زيارة النساء ولا حضور سماعهن وأما السماع الخالي عنهن وعن الأحداث غير انه بذكر الغناء بالخدود والقدود مع الأصفياء الأتقياء ففيه الكلام بالإباحة وضدها لا سيما مع آلة اللهو فمنهم من رغب فيه لما يزيد ذا الشوق شوقا وذا المعرفة معرفة ومنهم من ذمه نظرا لما يقتضيه اللفظ من المعاني المعلومة شرعا (2).
وبالجملة فالذي فيه الخلاف إنما هو ما كان بآلة اللهو والغناء بالأشعار التي فيها ذكر الخدود والقدود وتسمية المحبوبة من النساء المرغوب فيها الفساد غير انه سالم من النساء التي يدعن من فتن وأهله أنقياء أنقياء وليس لهم غرض إلا سماع ما يدل على الحب والشوق هذا الذي فيه كلام مع أهل العلم فمنهم من يستدل على مدحه (3) شرعا ومنهم من يستدل على ذمه (4) كذلك وأما إذا كان فيه النساء الأجانب التي فيهن الفتنة لا سيما مع الشبان فيحرم اتفاقا وفيه سخط الله قطعا إلا إذا كان الحاضر
__________________
(1) في نسخة مفاسد.
(2) في نسخة شرا.
(3) في نسخة منعه.
(4) في نسخة إباحته.

له مغلوبا مقهورا بالوارد والحال فلا حكم في حقه إذ هو مكره غير انه لا يقتدى به في ذلك لأنه مريض لما علمت من الفقه إذا تيمم المريض وإن كان ممالكا أو أبا حنيفة أو الشافعي أو أحمد فلا يأتي الصحيح ويتيمم اقتداء بهؤلاء الأئمة إذ هم مرضى وهو صحيح فالمغلوب لا حرج عليه دينا.
وأما السماع الذي فيه الوعظ والذكر ومدح الرسول صلى الله عليه وسلم فلا خلاف في ندبه ومطلوبيته وأما للزهاد (1) والعباد الذي فيه الخلاف فمباح لهم من غير شك فافهمه وهذا حاصل ما فيه كلامهم ولو لا الإطالة لأتيت على كل قولة بدليل.
فأقول قال شيخ شيوخنا المذكور ما نصه وهذا كله مع شروطه المقررة وقد عدمت الآن فتعرض لمتعاطيه عند تعاطيه تر ما ذكرت لك عيانا نسأل الله تعالى السلامة والعافية ويتعاطون ذلك بآلات ملهيات وكيفيات منكرات وأما التصفيق وهز الرأس والرقص والتحرك فإن كان بغلبة فالمغلوب معذور وإن كان بغير غلبة وهو للإيهام فهو حرام لما دخله من الرياء والتصنع والتظاهر بما ليس له حقيقة عنده وإن كان مع بيان الحال بحيث يعلم الحاضرون أنه غير مغلوب وإنما أراد إراحة نفسه فهو للباطل أقرب وليس من الحق في شيء ولذلك لما سئل بعض العلماء عمن يفعل ذلك ضحك حتى بدت أنيابه ثم قال أمجانين هم وأما الدفوف والطنابير والمزامير والمزاهر والطرور فكان الوالد يضرب فيها بالعصا والنعال ويجلي فيها وينفي متعاطيه ويغري عليهم ويبحث في نفيهم ويبالغ في زجرهم ولا يسكت عنهم بحال إلا أنه يخفف في رفع أصواتهم بالأذكار عند الاجتماع المجرد عن الزعفات والهاعات وصرب الأكف وغير ذلك من الآلات وإن طرأ شيء من ذلك سمعه بالغ في الزجر بل المرضى عنده ترك كل شيء من ذلك واختلاء المرء بسره والإخفاء
__________________
(1) في نسخة الزهاد.

لذكره وكان الفقراء ذات يوم مجتمعين بالزاوية على الكيفية التي ذكرنا انه يخففها ويسكت عنها وجلس وراءهم خفية عنه وظفر به بعض أصحابه فقال له يا سيدي ما أجلسك هذا المجلس فقال أطلب الله في هؤلاء وادعو لهم وفي المباحث الأصلية.
ولا يجوز عنده التكلم
 

ولا التلاهي لا ولا التبسم
 
قلت وإن كان ولا بد فمن أسلم الهيآت وأحسنها وأبعدها من الظنة (1) وذكر الإمام الساحلي رضي الله عنه وهو أن الفقير إذا اشتغل بالإرادة فحقه أن يقطع العلائق كلها وينبذ اللذات والراحات ويهجر المألوفات ويستعمل العزلة والخلوة وذلك أمر شاق على النفس في الابتداء فإنها شديدة الحنين إلى ما تألفه من البطالة والأنس بالخلق ويخشى عليها من هجم عليها بقطع جميع ذلك على الدوام أن تنفر فوجب ترويحها حينا بعد حين بالاجتماع ليكون ذلك استجماعا (2) ولا يكون ذلك على الدوام لئلا ترجع إلى طبعها من الألفة بل يكون ذلك بحسب الحاجة ثم يجب أن لا يكون الاجتماع بالبطالة وترك ما هو عليه فانه لا بد من مواصلة الأوراد والدوام على العمل بلا فترة فلزم أن يكون الاجتماع على الذكر الذي كان يستعمله المريد في خلوته بنفسه حتى كأنه لم يخرج عن خلوته ولم ينتقل عن حالته غير أن ما كان يعمله وحده عمله مع إخوانه ليفيد النفس تأنيسا بهم وصفة الاجتماع أن يعقدوا الميعاد ليوم معلوم فيحضرون ويجمعون من الطعام ما تيسر مع غاية البعد عن التكلف والرياء والتباهي إلى أن قال وصفة الذكر أن يجلسوا حلقة ثم يرفعوا أصواتهم بذكر واحد من الأذكار التي عندهم كالهيللة والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم خافضين رءوسهم غاضين أبصارهم على غاية الوقار والسكينة والخشوع من غير اضطراب ولا حركة إلى أن ينزل على أحد حالة غالبة تزعجه من غير اختيار وليس
__________________
(1) في الرحلة الناصرية الضنة.
(2) وفيها أيضا استجماما.

لأحد أن يتمنى نزول ذلك ولا إن يتعاطاه بل يستعيذ بالله من شر الوسواس والخواطر الشيطانية.
وأما السماع بالأغاني وإنشاد الأشعار فهو أدخل في الابتداع وأحق بالنزاع وهو معشش الوساويس ومغرس التخليط والتلبيس إلا من عصمه الله وقليل ما هم أنظر تمامه انتهى.
انعطاف وقد ظعنا من الساحل ونزلنا قرب السبخة ثم بعد ذلك ظعنا بعد ملاقاة الأفاضل وزيارة الشيخ الولي الكبير القطب الشهير سيدي عبد السلام كما تقدم لنا ونزلنا قرب مسراتة ثم بعد ذلك ارتحلنا ونزلنا أبعد من قبر (1) الشيخ الولي الصالح ، البدر الواضح ، ذي التصانيف المفيدة ، والتآليف العديدة ، ذي الترياق والدواء المجرب أبي العباس سيدي أحمد زروق البرنسي ثم الفاسي فبعد نزولنا هنيئة توجهنا لزيارته والتبرك بضريحه قدس الله روحه فانه لا شك أنه حي في قبره يستشعر ذلك من له ذوق سليم ، وطبع مستقيم ، فأن الحواس الباطنية تشهد بذلك وتتخيل روحانية الداخل روحانية المزار فإنها تتلاقى بغير حجاب في حضرة الشهود ، في مرقى الصعود بتأييد الرب المعبود ، فتستفيد النفس الزيارة من الروح المزارة من الأمداد الإلهية والأنوار الصمدانية واللطائف الرحمانية والعلوم اللدنية ما كتب لها فتستعد بذلك للدخول في زمرة النبئين والصديقين ، والشهداء والصالحين ، فترجع ذات أنوار وأسرار تظهر بسبب المحقق العلامة المدقق العارف بالله قطب مغربنا ، وشمس سرائرنا ، وإمام أئمتنا ، وحضرة ودنا ، وعروة اعتصامنا ، ومحل اعتقادنا ، شيخ الطريقة ، وأمام الحقيقة ، سلطان العارفين ، والمحققين ، قوي الله فيه محبتنا ، وحقق إليه نسبتنا ، الشيخ المذكور فانه من قوم لا يشقى بهم جليسهم ، ولا شك أن
__________________
(1) في نسخة ونزلنا قرب قبر.

زائرهم ، ومحبهم ، وخديمهم ، ومتشبثهم ، هو منهم ، فإن هذا الولي قد ظهر أمره في الأفاق ، واشتهر سره في الأقطار والرفاق ، وتقوى نوره في عصره إلى زماننا هذا بل علمه وأسراره قد عمت مشارق الأرض ومغاربها فصار مغيثا ومعينا لكل من التجأ إليه نعم إليه يهرع المنكسرون على انه حصن للضعفاء والمساكين لأنه يأخذ بيد الجميع ولم تر في الناس من رفيق ، أولى منه في إصابة الحق وبيان الطريق ، ولا أدخل في أتباعها بل أجد في بيان البدع المضلة ، ودسائس اللعين المعلة ، حتى جمع بين الشريعة والحقيقة جمعا متواطئا فالملازم لتآليفه بصدق التوجه وخلوص الاعتقاد يشرح الله نوره للإسلام فحينئذ يكون على نور من ربه وبالجملة هو طبيب نبوي ، وترياق رباني ، يعلم ذلك من شمر أزاره لمطالعة أحواله وأسراره وتوجهاته وكلامه في سائر تأليفه لأن تآليفه تكاد أن تكون معجزة إذ لا يقدر ولا يستطيع أحد أن ينقل كلامه ولا يسلمه إلا من طبع على قلبه إذ هو لسان الحق وعين التحقيق فلم يبق لمن كانت بصيرته نافذة إلا سلوك طريقه لتستنير سريرته وتعلو همته ويظهر أمره عند الأكوان فيكون شمسا لها وغيثا لقلوبها ودواء لعللها فيرحم الله به أمة ضعيفة ويسقي به قلوبا ضمآنة من لم يصبها وابل فطل ويغني أشخاصا فقيرة ويعز أناسا ذليلة ويجبر أفئدة كسيرة (1) فإن الشيخ المستمد منه بحر المعارف وسلطان العوارف إذ هو حجة الله في أرضه فمن يصل إليه ويستعن به يعن به (2) على أموره الظاهرة والباطنة وينتصر على أعدائه وذلك مجرب عند العباد كلهم بل قد أرتفع صيته عند العامة والخاصة فهو كعبة الزوار ، وحرم الأنوار ، ومعدن الأسرار ، جعله الله لنا ولذريتنا ولطلبتنا ، وكل من تعلق بنا ذخرا في دنيانا وذخرا يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
__________________
(1) في نسخة منكسرة.
(2) في نسخة بإسقاط يعن به.

وها أنا أتوجه إلى الله وأسأله بجاه وعلومه وإتباعه ومحبته أن يشفي الله أسقامنا الظاهرة والباطنة وبمنه وكرمه وأن لا يجعل في رأينا ما يكون هلاكا في ديننا ودنيانا وأن يرزقنا بجاه سره ما فيه رضاه مع العافية التامة والنعمة الشاملة والمغفرة الواسعة والرحمة القوية لنا ولمن تشبث بنا مع الغنى عن الناس والإياس مما في أيديهم وحسن الخاتمة آمين يا رب العالمين.
أقول قال شيخ شيوخنا سيدي أحمد بن ناصر ما نصه لما نان بروضة الشيخ حجة تسع وتسعين وألف خطر لنا ما سبب سكنى هذا الإمام الأعظم ، والشيخ المكرم ، في هذه البلدة البعيدة عن المدن والحواضر فنطق أخونا في الله سيدي عبد الله بن غلبون كأنه مطلع على ما في ضمائرنا والله عليم بذات الصدور فقال سئل الشيخ رضي الله عنه عن سكناه بهذه البلدة فقال أما ما ذكرت من استيطاننا في هذه البلدة فأمر خارج عن قياس النظر غير مصحوب بالحزم ولا معقود لشيء نعلمه بل اتفاقي ظهر وجوده فلزم موجوده إلى ما يقتضيه الحق.
وما أنا بالباغي بسلمى (1) بديلة
 

بليلى ولكن للضرورة أحكام
 
قلت ولعل فائدة استيطانه هذه البلدة والله اعلم استيناس الأركاب بزيارته واستمدادهم من معونته وتقويتهم على ما هم بصدده بمطالعة حضرته.
وقد شاع عند الحجاج أن من مر بقبره وأودع عنده نفسه وماله لا يصيبه مكروه حتى يرجع ويفعلون ذلك إذا مروا به في البر أو حاذوه في البحر فيجدون بركته ولا بدع في ذلك ولا غرابة فإن الله تعالى حفيظ لا يضيع ودائع والأولياء أبواب الله فمن أودع الله شيئا عند باب من أبوابه كيف لا يحفظه فيه والله خير حفظا وهو أرحم
__________________
(1) في الرحلة الناصرية سليمى بدل بسلمى.

الراحمين.
واطلعنا أصحابنا هنالك على نسخة من شرحه على الرسالة بخط يده الكريمة وعلى وصيته على أولاده لما حضرته الوفاة نفعنا الله به آمين.
فائدة قال أبو سالم في رحلته وجدت ورقة فيها زمام تركة الشيخ وعدة أولاده ونسائه ومن خلفه من بعده وعدد متخلفه من كتبه وأمتعته ولننقلها هنا بحروفها لما اشتملت عليه من الفوائد منها استفادة عدد أولاده وأين استوطنوا بعده فأني لم أجد ذلك بعد الفحص الشديد عنه ومنها التأسي به في قلة ما خلفه من الدنيا مع كونه ذا أولاد ونساء في بلد يشق فيه العيش ولا يعوزه ما يخلفه لهم لو شاء لانتشار صيته وخدمة الدنيا وأهلها له ومع ذلك لم يخلف منها إلا ما ستراه.
ونصه بعد الافتتاح بعد أن توفي إلى عفو الله الشيخ الفقيه العالم العلامة الصالح العارف المحقق القدوة المتبرك به أبو الفضل أحمد بن الشيخ المقدس المرحوم أبي العباس بن محمد بن عيسى البرنسي الفاسي الشهير بزروق غفر الله له ولوالديه انحصر أرثه في زوجته أمة الله الجليل ابنة أحمد المكرم أبي العباس أحمد بن الفقيه العدل أبي زكرياء الغلياني (1) المسراتي وأولاده منهما أحمد أبي الفضل وأحمد أبي الفتح وعائشة وزوجته فاطمة ابنة أبي عبد الله محمد الزلاعية الفاسية وولده منها الفقيه الشاب الطالب الأسعد أبي العباس أحمد الأصغر وابنه الشيخ الفقيه القدوة المدرس أبي العباس أحمد الأكابر لا غيرهم في علم شهوده.
ثم توفي أحمد أبو الفتح المذكور وانحصر أرثه في والدته أمة الجليل وشقيقه أبي
__________________
(1) كذا في الرحلة العياشية وفي الناصرية الغلباني وفي بعض النسخ العلباني وفي أخرى بن علبان.

الفل وعائشة المذكورين وأخيه لأمه أحمد بن الشيخ الفقيه الأجل الأسعد الصالح أبي علي منصور ابن أحمد بن محمد البجائي لا غيرهم في علم شهوده.
ثم توفيت عائشة المذكورة وانحصر أرثها في أمها أمة الجليل المذكورة وشقيقها أبي الفضل وأخيها لأمها أحمد بن الشيخ منصور المذكور ثم توفي أبو الفضل المذكور وانحصر أرثه في والدته امة الجليلة وأخيه لأمه أحمد بن الشيخ منصور المذكورين وأخويه لأبيه أحمد الأكبر وأحمد الأصغر المذكورين لا غيرهم في علم شهوده وكان من مخلف الشيخ أحمد المذكور نصف الفرس الشهباء كبيرة السن شركة بينه وبين الحاج عبد الله ابن عزازة التكيراني المسراتي بالنصف الثاني مع برنس أبيض وجبة صوف بزرّ مختم مع ثوب بالغزل وسبحة فقل كان أخذها الشيخ أحمد المذكور من الشيخ سيدي أحمد بن عقبة الحضرمي اليمني نفعنا الله به آمين مع أربعة عشر سفرا وكناش فمن الكتب في الفقه من مختصر ابن عرفة رحمه الله وأسفار في الكبير مع حاشية الوانوغي والمشد إلي على المدونة مع سفر فيه مختصر الشيخ خليل والشامل للشيخ بهرام رحمهما الله مع شرح ابن عسكر في الفقه للشيخ أحمد المذكور ألفه ومن غير الفقه الديباج المذهب في التعريف برجال المذهب لابن فرحون رحمه الله ومعه تأليف للشيخ أحمد المذكور القواعد في علم التصوف ومعه شيء من علم الطب مع سفر فيه قواعد الوانشريسي والمذكور شيء من علم الطب مع سفر فيه الزركشي والسبكي في أصول الفقه وبلوغ المرام لابن حجر والبلالي اختصار الأحياء مع سفر فيه شرح التفتازاني في أصول الدين والحكم لابن عطاء الله والمنهل الروي في علم الحديث وغيره مع سفر من ملتم (1) الحديث بخط الشيخ أحمد المذكور وتأليف الشيخ سيدي عبد الرحمان الثعالبي مع إجازة له وشيء من ابن حجر في علم اللغة رحمهم
__________________
(1) كذا في الرحلة الناصرية وفي بعض النسخ وفي نسخة بإسقاط ملتم وفي الرحلة العياشية منصى منبها عليه بقوله يكتب هكذا مصحفا لأنه اعتذر عن التصحيف أخيرا.

الله وسفر فيه تفسير القرآن وكناشه محتو على وطائفه وغير ذلك.
وقد كان استوطن الشيخ أحمد الأكبر بعد موت أبيه ببلاد المغرب واستقر آخر ذلك بمدينة قسنطينة حرسها الله وأرسل مراسيل للإتيان بالمخلف المذكور بخط يده وثبت منها بالعدالة حسبما بيانه كما أذن بأن يوجه له ذلك مع من أمكن وكان جميع ذلك تحت يد الشيخ منصور المذكور وامتنع من ذلك لعدم الأمن والأمين حتى وصل الفقيه الطالب أبو العباس أحمد الأصغر المذكور في عام تاريخه لمدينة طرابلس حرسها الله تعالى ولم يأت بموجب يقتضي له قبض ذلك لأخيه فتوقف أصحاب الشيخ المذكور فطلب الشاب أحمد المذكوران يعطي ذلك في زمامه يطلب نصيبه ونصيب والدته فاطمة المذكورة لكونه وراثها ونصيب أخيه أحمد الأكبر المذكور فوافقوه على ذلك بعد ثبوت الأذن المذكور بان يعطي ذلك لأخي حضر إلي شهيديه الفقيه أحمد المذكور الأصغر نائبا عن نفسه وعن أحمد الأكبر وأشهد أنه قبض جميع المخلف المذكور عدا نصف الفرس فانه قبض ثمن ذلك وهو ثمانية دنانير ذهبنا منجزة (1) من الشيخ منصور المذكور قبضا تاما وأبراه بتاريخ أوائل ذي الحجة الحرام متم عام ثلاثة عشر وتسعمائة انتهى وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله نقلت الرسم المذكور بحروفه من غير زيادة ولا نقصان مع وجود بعض التصحيف به ولم أغير شيئا بل تركته كما وجدته ولم أكتب من الرسم الأصلي بل من رسم نقل منه والله أعلم انتهى.
لطيفة أقول في مدحه والاستغاثة به لتزول عنا حجب الغفلة وكدرات النفس وغطاء البشريات ولعلي أرقى إلى مراتب التجليات وأشرب من عين اليقين وأتحلى
__________________
(1) كذا في جميع النسخ وفي الرحلتين مشحرّة.

بحلية المعارف ولذلك قلت وعلى الله اعتمدت (1) :
ألا أيها القطب الهمام تعلقت
 

مجامع قلبي (2) بالسعيد المنور
 
شغفت بحبه لأنه مذبدا
 

يقوم بأوراد ويسعى باجدر (3)
 
فقد دنفت نفسي بأوصاف ما به
 

تحلى أمامنا من كل مصور
 
من الذي أبدع الإله في رسمه
 

من أحسن زينة وأحلى تذكر
 
فطبعه قد أسبى (4) من الناس أفكارا
 

ولفظه قد أعمى بصائر بالسحر
 
ولكنه سحر من الحق قد أتى
 

ليجذب أقواما تأيّدوا (5) بالنصر
 
على عدو لسنا نراه تحققا
 

وإنما يختفي ليقطع بالفكر (6)
 
فصده قد بدا عن كل كريمة (7)
 

ولعنته حق من الله للغدر
 
فمكره بيّن لكل من الملا
 

وغايته العصيان منهم إلى الكفر
 
ونفسنا قد جرت علينا بوصفها
 

وأخمدت أنوار لبعدها عن ذكر
 
فصحصحت في نجوى الضلال (8) نايئة
 

عن الحق والتحقيق بل هي بالنكر
 
فاودعت سموما فليس لنا تخفى (9)
 

فقد مزجت بكل حلو مع الضر
 
وفي كل رتبة تلوح بفكرها
 

وأنها تثبط العباد عن الظفر
 
__________________
(1) تنبيه يوجد في هذه القصيدة خلل كثير تعذر إصلاحه.
(2) في نسخة نحو الجسم.
(3) في نسخة بأسطر.
(4) في نسخة أبلى.
(5) في أربع نسخ تؤيد.
(6) في نسخة وإنما يخفى ليقطع بالكفر.
(7) كذا في أربع نسخ وفي نسخة فقد بدا قصده عن كل كريهة.
(8) في نسخة فأصبحت في بحر الظلام.
(9) في نسخة فليس منا تخفى.


فكيدها قوي وليس له دواء
 

إلا عصمة من الله لي بالنصر
 
ودنياك عدو لترمي بحبلها (1)
 

بسجن من الهوى وقيد من الكبر
 
فكل خطيئة بحبها يا فتى
 

وأنها تضليل وصد عن البر
 
وأنها لعنة من الحق بالقلا
 

فمن حيث أنها تصد عن الشكر
 
فيشكر ذو نعمى بخدمة ربها
 

وصرف من أجلها ليلحق بالظفر
 
وإلا فكفران من المولى ظاهر
 

وليس لها قيد يحدها بالجبر
 
وأكبر أعداء من الناس يا هذا
 

عداوة حساد مليمة بالضر
 
فإنه لن يرضى (2) من الله بشيء
 

سوا نعمة تزول بالكشط بالظفر
 
عداوة إنسان تصد عن الهدى
 

وليس لها دوا إلا الطب بالصبر
 
فهذه أعداء لإنسان قد رمي
 

بسهم من النوى وقطع عن الذكر
 
فصرت أسيرا للشقاوة والهوى
 

فمنعت أثوابا من التقى بالضجر
 
ولست أمورا من العلى بالدعوى (3)
 

وزعم ليس له من الحق ما يبري
 
ولا شك أنه من الداء معضل
 

ويمنع أذواقا من الله للسر (4)
 
ويحجب أرواحا عن كل رائقة
 

ويسري إلى العمى عن الحق في السير (5)
 
فليس له فتح ما دام بزعمه
 

وليس له نور ما دام بذا السكر
 
ولا أنت تعتبر حلاوة كلمة
 

فإنها عند الله أدهى من الصبر
 
فمدع كذبا من الله لا يرى
 

في دهره أحوالا تحق من النور
 
__________________
(1) في نسخة بحبها.
(2) في نسخة لم يرض.
(3) في نسخة لبست من العلى أمورا فيها دعوى.
(4) في نسخة بالسر.
(5) في نسخة اليسر.


وإن كان واقعا بمكر نزل به
 

وحسبه (1) من أفك وعلة في الصدر
 
ومكر به أجل (2) ووصمة بالهوى
 

فأقوى في قطعه من القطع للظهر
 
فدعوة كاذب (3) تسد لأبواب
 

من الفتح من الله وقته بالعسر
 
فأوقاته مقت وقطع لوصله
 

ونوره ظلمة وصفوه بالكدر
 
ووصفه عجب وسمعة وريا (4)
 

وكبر وبغض ثم حقد مع المكر
 
وبخل وجبن ثم أقباح خلق
 

وسوء بظن في العموم من الغير
 
وشك في رزقه وما به قد قضى
 

من السعد والشقا وقدر من العمر
 
وضدها أمال وطول في حضه
 

يعلل بسوف طول عمر من الدهر (5)
 
فطبه تفويض لما به قد قضى
 

وحقه تسليم لربه بالقدر
 
سعادة لامرئ وضدها يا أخي (6)
 

عند اختتام الأعمال بالموت بالقهر
 
وكلها علل وأسقام للفتى
 

وقاتلها سم وأسرع من سقر
 
وكلها آفة ونقمة أبدا
 

تنافي رضى المولى وتوذيك في القبر
 
وزد لها أمراضا من الدنيا (7) تعتبر
 

أمورا وعلة مع (8) الذل والفقر
 
وهتك لأعراض من الناس مع أذى
 

لنفس ومال فهو أبلغ للضر
 
ونقض لحق يستحقه ذو العلا
 

بعلم وقدر لا يعاين بالنكر
 
__________________
(1) في ثلاث نسخ وحقه.
(2) في نسخة ومكر نزل به.
(3) في ثلاث نسخ كاذبة.
(4) في نسخة ووصفه فيه رياء وسمعة.
(5) في نسخة يعلل يسوف وصول من الدهر.
(6) في نسخة سعادة المرء ضدها يا أخي أتى.
(7) في نسخة أمورا صعابا مسكن.
(8) في نسخة وزد لها أمر طالب دنيا.


وموته أحلى من حياته في الورى
 

لرافع مثله يعامل للخير (1)
 
وعامله رفع وليس بخافض
 

فجره عصره بلا عامل الجر
 
فحزنه دائم وعلته بدت
 

فصبر جميل حتى يرفع بالنصر
 
فعلة كسره بلا سبب ترى
 

وتكن لالتقاء الساكنين بالضر (2)
 
فهذه ثلمة وليس يسدها
 

إلا عالم قد فاز في الكون بالظفر
 
فانه ترياق لكل من البلا
 

وطبه نبوي فيبري من الضر (3)
 
فلا غرو أن نزلت ثم برحبه
 

يكون لك طبا لأمراض في السر (4)
 
ويمنحكم عزا في ذلك بالهوان (5)
 

ويبدلكم يسرا في أزمنة العسر
 
ويغني أقواما بفتح من المولى
 

ويكسي عريانا بأجمل من ستر (6)
 
ويظهر خاملا بأعظم سطوة
 

ويجبر مكسورا في وقت من الدهر
 
ويرفع مخفوضا ويروي من السما
 

وأمواج نفعه أجل من البحر (7)
 
فأنوار بحره تحق بأهلها
 

وأسرار علمه تعد من النهر
 
فأنواره تبدو في كل من الفنون
 

وأضواء شمسه تعالت عن البدر (8)
 
__________________
(1) في نسختين بعامل البحر.
(2) هذا البيت ساقط من بعض النسخ.
(3) في نسخة وطبه نبي يبدي سقما من الضر.
(4) في نسخة
فأيقن أن نزلت تمس برحبه
 

يكون طب الأمراض في السر والجهر
 
(5) في نسخة وممنحك عزا في ذلكم الهوان.
(6) في نسخة ويكسي العريان ثوب أجمل من ستر.
(7) في نسخة بأمواج نفع هي أجل من البحر.
(8) في نسختين الحر.


فهو أبو السراج في سماء العلا
 

وليس معه نجم يلوح إلى قطر (1)
 
فإنه ضيغم لكل من العدا
 

فمن رآه (2) حقا فيخضع بالصدر
 
قمين بعلمه وليس بعارض
 

يعارض أصله وفرعه بالنكر
 
وقد أطبق كل بصحة نقله
 

فليس له نقض لما صح من خبر
 
فوده قد بدا يعظم في الورى
 

يوده (3) سيد مع اسمه في الذكر
 
فانه بقدر يبين في الملا (4)
 

وليست عبارة توفي بذي الفخر
 
فكل طنين المدح أعلى وأكملن
 

في علم عالم الكال في السر والجهر (5)
 
فانه نبراس من الله في الورى
 

ويزداد شوقنا لعلمه بالذكر
 
ومذ رمى (6) وصله إلى الهدى طائعا
 

فهو دليل ليس ينقض بالغير
 
وكم من ضعيف قد أذاق بحبه
 

وقلبه عرش للتجلي من السر
 
فكل من انتمى إليه فيرتقى
 

ويسعى لحضرة مؤئدا بالنور
 
فيشهد أمور تغيب عن الفتى
 

في أيام غفلة وذلك بالفقر
 
ويشرب من عين اليقين بعلمه
 

وسطوة حبه مع الجد بالفكر
 
فيسكر من ذوق الحقيقة معلنا
 

ويفهم أسرارا في حاله بالسكر
 
ويدعى بين الورى عزيزا مكرما
 

بالحاظ شيخنا المعظم في القدر
 
__________________
(1) في ثلاث نسخ يلوح بأنوار.
(2) في نسخة يراه.
(3) في نسخة
فمن حين قد بدا يعظم في الورى
 

يقارن
 
(4) في نسختين ففي الملاء بين نجم بقدره.
(5) في علم للكل في السر والجهر.
(6) في نسخة رمت.


ويجلي أنوار من العلم في العلا
 

ويحظي بأسرار تعز عن النشر
 
فيسري بروحه إلى سماء السنا
 

فما ينطق إذا (1) عن الهوى بالضر
 
فليس لنا سعد إلا الليث في الورى
 

وليس بنا جاه إلا سيد النصر
 
وقد شنف سمعي لذكره في الملا
 

وأضناني حبه في جسمي مع الصدر
 
وحركني ذكر الأغاني لحضرة
 

يجول فيها المسكين من غير ما زجر
 
ورؤية علمه تذوق أرواحنا
 

وتذكر بالعهد القديم من الظفر (2)
 
وذلك في يوم الست بربكم
 

ولم تنكر أبدا لعقدها المنتشر
 
فانه إنسان من الجسم في الهوى
 

فلا حجب تبدو من القفص بالسر
 
فانه استار من الجسم مع هوى
 

وان هوان المرء من ذلك بالستر
 
إلا أيها الإنسان فاسأل بجاهه
 

وبالذي قد علاه في كل مضمر
 
وعزه في الورى بكل ما قد ترى
 

وعظمه المولى بكل مسير (3)
 
وقد أسمع صم القلوب بذكره
 

وأبصر أعينا بحكم المنور
 
وأنطق أفواها بذكر حبيبنا
 

فما هو في السنا بأحسن مفخر (4)
 
وحرك أرجلا لا زخر روضة (5)
 

وفيهن أعظم الخليفة في القدر
 
على أنه حي يمتع بالرؤيا (6)
 

ويطعم بطعم الجنان مع الفكر
 
وكل موجه لقبره يا فتى
 

يراه بعينه عيانا بلا خدر (7)
 
__________________
(1) في نسخة أيضا.
(2) في نسختين الظهر.
(3) في ثلاث نسخ ماسر.
(4) في نسخة من فخر.
(5) في نسخة ومركز إجلالا لا فخر روضة.
(6) في نسخة بالنظر.
(7) في نسخة بلا خزر.


فحق لنا بالشكر من حيث أننا
 

وفقنا بروضة الخليل بذا البحر (1)
 
وفضله في الورى يعمنا كلنا
 

ويحيى أموات القلوب من الذكر
 
طريقته تعلو على كل رتبة
 

وأنوار سره تعد من الجهر
 
وها أنا عبدكم قريع لبابكم
 

ليحظى بعزكم ويصحو من السكر
 
وقد اسكرتني المعاصي من الشقا
 

وخلفني ذنبي عن الفوز بالظفر
 
وأني ذو لؤم سفيه بين الورى
 

وأني محجوب في صرف من العمر
 
عساكم ترحموا عبيدكم قد أسا
 

تجوله (2) منكم لضعفه كالسفر
 
وأني خديكمم بما عله يكن (3)
 

محر ككم للجبر منا من الكسر
 
ولحظكم عز ومنحكم رفعة
 

وجودكم جمع فيغني من الفقر
 
ولست أعني به إلا الذي قد علا
 

وهو الذي يدعي بالزروق في النثر
 
وقد سألت رضى الكريم بجاهه
 

وتوفيقي للهدى وحظا من النصر
 
وسترا من المولى مع الجد في العمل
 

ورزقنا موسعا مقارنا بالستر
 
وسعدا من المولى في كل مهمة
 

ومغفرة لنا مع البرء في الصدر
 
وخاتمة حسنى وأزكى عافية
 

وطفا جميلا في اخترام وفي القبر
 
وكونه في الدنيا يناسب حالنا
 

ويرفع قدرنا عن كل محذر (4)
 
وهب لنا ربنا بعلم مع التقى
 

لكل نجل لنا وطالب مضطر
 
ويا ربنا احفظنا من كل بلية
 

من الدين والدنيا وخلق من الشر (5)
 
__________________
(1) في نسخة الخليل بذا الخبر.
(2) في نسخة نحو له.
(3) في نسخة بما عنه يكتنى.
(4) في نسخة محظر.
(5) في نسختين خلو.


ويا ربنا سلم وصل على الذي
 

برحمته أهدى الخليقة بالأمر
 
وصل على آل وصحبه أجمعا (1)
 

في مدة مرور الجديدين في الدهر
 
أقول مدحت الشيخ زروق بهذه القصيدة ولعل الله أن يكسوني بكسوة المعارف وأن يحليني بما حلى به أولياءه المقربين ويذيقني ذوق العارفين بالله تعالى وأن تكون لنا حجابا وبراءة من نار الافتراق ونار الاحتراق وان يورثنا بها سعادة الدارين ولكل من تعلق بنا مع النظر إلى وجه الكريم آمين يا رب العالمين.
لطيفة فائدة استقرار الشيخ في هذه البلدة وهي بلدة مسراتة إذ هي ليست من الأمصار ومع ذلك أن الأكابر يختارون سكنى الأمصار للتذكر والاعتبار قلت وفي المدن من الخيرات الدنيوية والأخروية ما لا يحصى فإنها محل العلم وأهله وأنها أيضا مواطن الزيارة لما فيها من قبور الصالحين والمؤلفين لا سيما أفريقية ومصر وبغداد ودمشق والبصرة والكوفة وغيرها من مدن المشرق وكذا مراكش في المغرب وفاس وأرض الجدار تسلمان لأن فيها أبا مدين الغوث والشيخ السنوسي والإمام ابن زكري والإمام ابن مرزوق والعقبانيين وغيرهم وكذا بجاية لأنها من أعظم المدن وفيها أبو زكرياء يحيى الزواوي والشيخ عبد الحق الأشبيلي صاحب العاقبة وأبو حامد الصغير صاحب التذكرة وهو أبو علي المسيلي والشيخ عبد الحق بن أبي ربيعة والشيخ الوغليسي والشيخ الصباغ والشيخ الفملي (2) وغيرهم وهؤلاء كلهم مؤلفون إلا القليل وإن الدعاء مقبول عندهم وقد زرنا جمعيهم والحمد لله.
وبجاية كانت من المدن المعتبرة وإن الإسكندرية كانت من عمالتها وكذا المغرب وان عساكرها قد أحرقوا باب فاس وإلى الآن يسمى باب المحروق وقد أفردها
__________________
(1) في نسخة وعلى آله وصحبه كلهم أجمعا وفي أخرى كذا الآن والأصحاب طرا باجمع.
(2) في نسخة العلمي.

بعض بالتأليف ومن أراد العجب العجاب فليطالع نبذة المحتاجة في ملوك صنهاجة.
انعطاف إلى ما كنا بصدده فلما استقررنا بوطن مسراتة وأقمنا فيه يومين انتظارا لبعض الحجاج من الأشراف أعني صهر أخينا في الله سيدي محمد الشريف النوفلي المذكور البلغيثي والحاج أحمد السعداوي وأن أهل مسراتة أقبلوا علينا بالزيارة والكبير والصغير لقوة اعتقادهم فينا أصلح الله حال الجميع وزرق لهم الخصب والرخاء بمنة العليم السميع وقد كثر فيهم محب الخير ومن فيه سيمة الصلاح ومن كل صنف منهم من الطلبة والفقراء والعامة وأولاد الأتراك.
حاصله بلدة طيبة ورب غفور وقد ظهر عليهم جاه الشيخ زروق إذا عنايته ظاهرة على من زاره وعبر عنه فضلا عن جيرانه وقد شهدنا بركته معنا وانه من الذين يتصرفون بالخير لدينا وما مررنا عليه إلى الحج وأصابنا شيء إلا فرج في الحين وق وقعت في أيدي الحرامية أي المحاربين من العرب وتمكنوا من هلاكي فنجاني الله منهم بجاهه وجاه أمثاله إذ محبتي فيه قوية ومددي منه عظيم وقد وجدته من نفسي وقد قلت في بعض الأسفار فيه.
فيالها من بشرة تفوق
 

لكوننا استودعنا الزروق
 
ومن العلامات الظاهرة والكرامات الباهرة أن أهل وطنه أقبلوا علينا وظهرت محبتهم لدينا وأنهم أكرمونا غاية الإكرام بالأرزاق الحسية والمعنوية والمعتبر الثاني قل يفضل الله برحمته فبذلك فليفرحوا وهو خير لهم مما يجمعون هذا وأن أرض الشيخ منورة به يشهد ذلك من له ذوق سليم وطبع مستقيم.
ثم ظعنا منه أواخر شعبان عام التاريخ وهو عام تسعة وسبعين ومائة وألف

(1179) (1) وودعنا من فيها من الأحباب من صلاة الصبح إلى قرب الضحى فمنهم من رجع بالتوديع ومنهم من سار معنا مدة لغلبة سلطان المحبة في قلبه وهذا كله بعد أن ودع أصحابنا قضوا حوائجهم التي اشتغلوا عليها وكذا الإجمال الضعيفة عند أحبابنا في الله تعالى من مسراتة وأن أهل الركب أيضا رفعوا الماء من سيدي أحمد زروق إلى معطن الزعفران خمسة أيام ولا ماء في هذه المدة إلا ما لا يصلح للشراب لمرارته وملوحته.
ثم مررنا صبيحة ذلك اليوم بالشيخ الولي أبي شعيفة (2) في جماعة من الفضلاء وشيخ الركب وصلينا الضحى عنده وقبره على شاطئ البحر وقد ذكر شيخ شيوخنا سيدي أحمد بن ناصر أنه اجتمع مع الأفاضل في وطن الشيخ زروق وسماهم.
تتمة وقد ذكر شيخ شيوخنا سيدي أحمد بن ناصر أيضا ما نصه خذوا ماء خمسة أيام إلى مورد الزعفران إذ ليس بينكم وبينه من الماء إلا ماء العريعر على نصف ميل وق ما يمر به الركب وبالقرب منه ماء يسمى بالسميرة وهو قليل آجن وبعده بيوم ونصف ماء الهائشة وهو أقبح ماء لا يشربه إلا من اضطر إليه وبعه بيوم بئر حسّان وقل أن يوجد فيها ماء ومن هنا يستقبل الحاج مسافة برقة العريضة الطول والعرض ولا ترى العمارة من قصر أحمد إلى الإسكندرية إلا أن يلقى الناس أحياء من العرب إلى أن قال وبإزاء روضة أبي شعيفة المذكور مزارة في مغارة بساحل البحر يتعبد بها الصالحون لا يكاد يطلع عليها أحد إلا من عرفها لأنها صغيرة مستقبلة البحر يغلب على الجالس بها الحضور إذ لا يرى إلا البحر ولا يسمع إلا تسبيحه وتحميده لربه وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم لغفلتكم عنه ومن امتزج
__________________
(1) في نسخة عام 1199.
(2) في نسخة شقيفة.

تعظيم الحق وتسبيحه بلحمه ودمه وأنس بذلك سمع تسبيح كل شيء أما بحالة أو بمقالة وفي الفتوحات المكية للإمام الأكبر والعقلاء من الأنس أصحاب الأفكار من أهل النظر والأدلة المقصورة على الحواس والضرورات والبديهات يقولون لا بد أن يكون المكلف عاقلا بحيث يفهم ما يخاطب به وقد صدقوا وكذلك الأمر عندنا العالم كله عاقل حي ناطق من جهة الكشف بخرق العادة التي هم الناس عليها أعني حصول العلم بهذا عندنا غير أنهم قالوا هذا جماد لا يعقل ووقفوا عند ما أعطاهم بصرهم والأمر عندنا بخلاف ذلك فإذا جاء عن نبي أن حجرا كلمه وكتف شاة وجذع نخلة وبهيمة يقولون خلق الله فيه الحياة والعلم في ذلك الوقت والأمر عندنا ليس كذلك بل سر الحياة في جميع العالم وان كل من يسمع المؤذن من ورطب ويابس يشهد له ولا يشهد إلا من علم هذا عن كشف عندنا لا عن استنباط من فكر بما يقتضيه من ظاهر خير ولا غير ذلك ومن أراد أن يقف عليه فليلزم طريقة الرجال وليلزم الخلوة والذكر فإن الله سيطلعه على ذلك كله عينا فيعلم أن الناس في عماية عن إدراك هذه الحقائق انتهى كلامه.
قال الشعراني في لواقح الأنوار القدسية المتنقاة من الفتوحات المكية بعد ما تقدم وقد وقع لي ذلك سنة تسع (1) وعشرين وتسعمائة فسمعت تسبيح الجمادات والحيوانات كلها في سائر أقطار الأرض وذلك في صلاة المغرب واستمر ذلك إلى آخر الليل حتى خفت على عقلي وسألت الله الحجاب عن سماع ذلك فحجبه عني رحمة بي وأبقى علي علم ذلك وكان من جملة ما سمعت من تسبيح الحيوانات في البحر المحيط سبحان الله خالق الأرزاق والأقوات والنبتات والحيوانات انتهى كلامه.
__________________
(1) في الرحلة الناصرية سبع.

قال الشيخ أبو سالم وق أخبرني سيدي أبو تركية مفتتح هذه المغارة رجل من العباد اسمه سيدي فرج وهو الآن بالجزائر وكانت قبل ذلك مغلقة لا علم لأحد بها انتهى.
قلت إلى أن قال وإنما زرنا أبا شعيفة على تل مرتفع على ساحل البحر ثم استقبلنا المغارة وتوسلنا إلى الله تعالى بمن يأوي إليها من العباد والزهاد واعتمدنا على تلك الأقطاب والأبدال انتهى.
قلت ولما زرنا أبا شعيفة ومن معه رأينا سفينة مرساة بالبحر ذهب محبنا في الله سيدي محمد بن قسوم من أصحاب المخزن غرير أنه يحب الخير وأهله وكان محبنا وينتسب إلينا وهو رجل ذار متمسك بأهل السنة (1) وقد حج بعياله وأولاده جميعا ذهب إلى تلك السفينة فلما رجع إلينا ولحق بنا في الطريق طفق يخبرنا على ما شاهده من أمر المغارة إذ تعجب من أمرها وما شاهد من تجليات الحق فيها كأنه أصابته هيبة وجلال حين رآها كاد أن لا يملك نفسه ونحن لا نعرفها ولذا استخففنا بأمرها وإلا لبحثنا عنها (2) عند الرجوع نعم من عادتي إذا دخلت وطنا أو زرت مقبرة أو صالحا نويت من كان في ذلك الوطن من الصالحين وأهل الخير جميعا سواء كان حيا أو ميتا ظاهرا أو خفيا ذكرا أو أنثى من أول عمارة ذلك المحل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.
وقد كان سيدي أحمد بن ناصر حين رجع مع أصحابه ذهبوا إلى تلك المغارة فلم يجدوها لعدم من يخبرهم بها ومن أهل البلد فيزوروها والشيخ من بعد هذا وأنا ركبنا من الشيخ أبي شعيفة وذهبنا على ساحل البحر مع فضلاء الركب والحمد لله
__________________
(1) في نسخة النسبة.
(2) في نسخة بإسقاط ولبحثنا عنها.

من حين خرجنا من بلدنا إلا وصلاة الجماعة لم تفتنا في كل الأوقات ليلا ونهارا تقبل الله من جميعنا ذلك بمنه وكرمه آمين.
ونزلنا أبا كدية قبالة تورغا وهي بلدة عظيمة كثيرة النخل جدا وتمره أحسن من تمرها وطن طرابلس كلها وفي هذا الموضع ماء قبيح لا يشرب وأن أبا كدية هذا معلوم خبث مائه (1) وتورغا هذه بلدة عظيمة كثيرة النخل.
قال سيدي أحمد بن ناصر ما نصه تورغا وهي بلدة منقطعة أول برقة وفيها نخيل كثير وتمرها أطيب من تمر غيرها من بلاد الساحل وأجود منه وإن كان على وصفه من عدم اذخاره إلا بإزالة النوى وطيبه والله اعلم لبعده شيئا ما عن البحر ورطوبته ودخوله قليلا إلى الصحراء حيث تكاد اليبوسة تستولي على أبدان الحيوانات فضلا عن النبات قاله الشيخ أبو سالم في رحلته.
وماء هذه البلدة غزير في وسط السبخة وهم ساكنون في الأخصاص ولا يبنون بالطين إلا مواضع الخزين يبنونها بالطين والأحجار يحفرون عليها فيستخرجونها بنحت الأرض وهي أحجار سود وبناؤهم لا يكاد ينهدم وهي واسعة جدا لا يقدر الإنسان أن يحيط بها في يوم واحد وعينهم غزيرة تسع ألف ساقية فيما ذكروا ولا يحرثون حرثا ولا يغرسون غرسا إلا النخل فقط وخراجهم للأتراك كل عام ثلاثمائة وصيف وخمسة آلاف ريال وهذا العدد الأخير أحد ثوه ولم يكن قبل عليهم وهي إلى الخراب أقرب للعداوة المغراة بينهم لا تخلو من فتنة وقت الخريف مع تداول الأتراك والأعراب عليهم انتهى إلى أن قال قال سيدي العياشي وهي سبخة مستطيلة وعلى جوانبها بناء وقصور خالية وفيها نخل متفرق وكأنه رءوس الشياطين لا ترى
__________________
(1) في نسخة لا يشرب معلوم خبثه.

أوحش منه ولا أثقل طلعة على الحاج في ذهابه لا سيما المعاود لما يستشعر بعده من المهامه والمفاوز والمعاطش التي يحار فيها الدليل كما لا آنس منه ولا أبهى منه في منظر الائب أي الراجع من الحج لدلالته على انقضاء المفازة وقرب العمارة ونخيله آخر نخيل يراه الذاهب وأول ما يراه الحاج قال وبآخر الهائشة واد من الملح يجري الماء على أرض من الملح فلا الماء يجمد ملحا ولا الملح يذوب ماء وأظن ذلك لقوة ملوحة الماء ونداوة الملح (1) انتهى كلامه.
أقول وظعنا من أبي كدية ومررنا على العوينات وماؤها كثير ومع كثرته متفرق غير أن فيه ملوحة إذ لا تستطيع الدواب شربه إلا واحدا أو أثنين من أطرافها من جهة تورغا فماؤه طيب إذ أهل البلد أخبرونا به وأيضا سيدي محمد الشريف صاحبنا يرصده فسقينا منه الدواب وكذا رفع منه من خصه الماء للزاد وما أحسسنا بحر الشمس إلا في هذه السبخة المذكورة إذ سافرنا بها زمان الشتاء وان الإبل أيضا قد بقي منها كثير لأنها عطبت من حمل الأثقال العظيمة من مدينة بسكرة إلى طرابلس وإنما خفف الكرب من الأحمال ببعثها في السفينة إلى الإسكندرية ثم إلى مصر غير أنها أضناها ذلك الثقل أيضا وأنها جاعت أيضا في إقامة الركب في طرابلس لقلة عيشها وبعد ذلك وبعد تلك المرحلة والمرحلتين بقي جمل للأخ في الله الفاضل الفقيه سيدي محمد نجل الفقيه الشيخ سيدي أحمد بن المبارك وتركه في الطريق إلى المبيت فلما أخبرني بذلك أخبرت سيدي محمد الشريف فبعثنا إليه رجلا بدويا من عرب ذلك الوطن أعطيناه له بالنصف فلما رجعنا استخبرنا عنه قالوا أتى به وأعطاه إلى بعض أحبابنا من مسراتة ثم إن المكرم محب الصالحين آغة أعطى ناقة للفاضل الفقيه أخيه سيدي عبد الكريم لوجوهنا رغبة في دعاء الخير منا وهو يتولى ذلك الجهل
__________________
(1) كذا في جميع النسخ وفي الرحلتين العياشية والناصرية المحل وهو أصوب.

وفقه الله وستره وجعل البركة في أولاده بفضله ورحمته.
وبعد السبخة بئر حسّان أقول فيه ما قال شيخ شيوخنا سيدي أحمد بن ناصر بئر حسان بئر (1) منقور في حجر تجتمع فيه مياه المطر فإذا فرغ المجتمع فيه بقي محله يرشح بماء قليل يجم في قعره يبل به الظمآن فمه وبإزاء هذا الماجل قرى خالية لم يبق إلا رسومها تسمى فيها مضى قرى حسان إضافة إلى بانيها وكان عاملا لبني أمية لما نقض أهل أفريقية العهد في آخر خلافة بني مروان بنى هنالك قصورا وأقام فيها نحوا من ثلاثين سنين حتى افتتحها بعد ذلك حسبما ذكر من أرخ فتوح أفريقية وسمي المكان باسمه إلى الآن وقد تقدمت أشارة إلى شيء من ذلك أقول وبإزاء هذه الطريق بئر مطراو (2) وقد اسقينا خيلنا منه في الرجعة أنا وسيدي محمد الشريف وصهره الشريف من مسراتة وسيدي أحمد بن حمود وغيرهم وماؤه طيب غير انه واحد ومع وحدته لا يكفي الركب وليس لقلة مائه وإنما هو لكثرة الازدحام والتشاجر.
وبعد ذلك نزلنا الزعفران فوجدنا فيه الخصب العظيم ما رأيناه قط وأنوار النبات تغشي الناظر فلما نزلنا به ورأينا ذلك اطمأنت قلوب الحجاج لأن رؤية الخضرة والبحر والوجه الحسن تزيل الهم والغم والأحزان وماؤه أطيب المياه وأحسنها وهو أبيض كاللبن لكونه في رمل صاف ما علمت ماء في برقة كهو في جملة أبارها.
وظعنا منه فلما وصلنا وقت الضحى مررنا على معطن الأحمر ووجدنا فيه عربا كثيرا وهم عرب عبد الهادي وسيف النصر وهم عرفاؤهم وشيوخهم وهما قد
__________________
(1) في الرحلة الناصرية ماجل.
(2) في نسختين مطراق.

اصطلحا بعد العداوة البينة وطلبوا منها النزول للتسوق فامتنع (1) الحجاج استعجالا وفي ذلك الموضع تلاقينا مع الركب الفاسي والفيلالي مغربين ووقفنا مع أميرهما ساعة زمانية استخبارا عن مصر وأرض الحجاز وأنهم طلبوا منا النزول والمبيت جميعا لقضاء كل ما أراد غير أن ركبنا لما رأى العرب نازلين هابوا منهم وجدوا في السير حتى فاتوا ولم يمكنا النزول فلما مكثنا معهم حينا افترق الكل على أسعد حال وأتمه وبقي سيدي محمد الشريف وأصحابه يطلب شراء الإبل إذ جماله ضعيفة فتأخر من غير علم منا ثم بعد قضاء حاجته جاء وراءنا ولم يلحق بنا إلا بعد النزول.
هذا وإن شيخ شيوخنا سيدي أحمد بن ناصر قال وفي قرب الزعفران رأينا سانية غزيرة الماء إلا أن ماءها ليس بذلك فسقى الناس إبلهم ودوابهم وملئوا أسقيتهم وهي أول عمالة سرت واكتفى الناس بما ملئوا منها عن ماء الزعفران لضيق الوقت وحيدودته عن الطريق لناحية البحر وهي أحساء في ساحل البحر ماؤها طيب وعليها كثبان من رمل أحمر تظهر من بعيد من وراء الكثبان من ناحية البر قصور سرت تخزن فيها الأعراب ميرتها أي أرزاقها وهي الآن خالية لا عمارة بها.
وبلاد سرت هذه من أخصب البلاد وأمراها أي أكثر أرزاقها ذات مزارع كثيرة بالبعل أي بلا سقي وإنما تسقى بالمطر وعربها أهل رفاهية إلا أن الجور أجلاهم من بلادهم وشتتت شملهم ولا يكاد أمرهم ينتظم ولهم جدار وعقار كثيرة بساحل أحمد ثم قصير الذبان بعد المغرب انتهى.
ثم ظعنا ونزلنا النعيم وماؤها حلو طيب أحلى ما يذاق وأرضه طيبة غير أن الظلم أخلى هذه المواطن لقوله صلى الله عليه وسلم لم يكن شيء أسرع بصاحبه
__________________
(1) في نسخة في أمتعة.

كالظلم ولقوله عز وجل : (وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً) الآية.
وبعد النعيم مفازة عظيمة يعسر أمرها على الحجاج لا سيما زمان الحرف إن الشّوب قل من يسلم منه الناس إذ مقطع الكبريت صراط الدنيا لقلة مائة مرارته على تقدير وجوده والماشي فيها يستوحش من تغير لون السماء أكثر من أغبرار الأرض ومع هذا فهو أخفض (1) المفازات وأبعدها من تغير الهواء وإنما ينجو منها الإنسان بفضل الله وكثرة التزود من ماء النعيم إلى معطن المنعم نعم سر الله مع وفده وإلا فبضاعة الإنسان لا تستطيع المفاوز والمعاطب (2) والله يقول : (إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) ولو لا فضل الله ما سلم في مثلها أحد من المارين بها فإن الماشي بها كان الشمس نازلة إليه ومتوجهة لديه فلا يكاد الإنسان يعبر عما أدركه من ذلك ولا يعرف مقدار ما يصيبه إلا من ذاق من ذلك وشاركه في ذلك السبب الخاص.
ولذا قال شيخ شيوخنا سيدي أحمد بن ناصر ما نصه وتسمى هذه المسافة مقطع الكبريت تغليبا وإلا فالمسمى بذلك موضع واحد في هذه المسافة مياه كثيرة إلا أنها تقل في بعض الأحيان وبعضه أجاج فيحتاط الناس بأخذ الماء الطيب وهي مفازة قبيحة تهب فيها السموم إلى أن قال ونزلنا غربي اليهودية ثم قال قال أبو سالم في رحلته وفي الرسالة القشيرية عن بعض الفقراء انه قال دخلت مدينة اليهودية بأرض المغرب وساق الحكاية إلى آخرها ولعل تلك المدينة هي هذه إذ لا نعلم بأرض المغرب مدينة تسمى اليهودية والله اعلم بحقيقة ذلك قلت وأني قد وقفت ببعض
__________________
(1) في نسخة أحفظ.
(2) في نسخة العاصف.

مواضع قرب تونس قبر الشيخ البركة الولي الصالح والبدر الواضح سيدي حسن السجومي نفعنا الله به وأفاض علينا من بركاته من أصحاب القطب الرباني والغوث الصمداني أبي الحسن الشاذلي من الأربعين يسمى اليهودية حسبما اشتهر ذلك في أول الزمان إلى الآن ويحتمل ما ذكر في الرسالة هذين الموضعين إذ كلاهما من أفريقية غير أن سيدي أحمد بن ناصر لا يعلم هذا الموضع. ثم قال وماؤها لا فرق بينه وبين ماء البحر ثم قال الشيخ بن ناصر قلت وبرقة مسافة شهرين من الإسكندرية إلى أفريقية وكانت متصلة العمارة لا تكاد تسير فيها بريدا ليس فيه أثر بناء ورسوم عمارة داثرة وقد جاء الإسلام وغالبا عامر ثم لم تزل عمارتها تضعف من موج الرعية وظلم بعضهم بعضا إلى أن خرج عرب هلال من مصر أواخر الرابعة وأوائل الخامسة فخربوا البلاد واستولوا على القرى فأفسدوها وخلت البلاد من يومئذ والبقاء لله الواحد القهار وبعد اليهودية الكحيلة وماؤها ذو حمأة لا يكاد يشرب وفي قربها الحدادية وهي بئر مستطيلة وماؤها ذو حمأة أيضا وهذه السواني كلها باقية إلى الآن وقد سقينا دوابنا من الجميع حال رجوعنا وأما الطلعة فقد كثر ماء السماء فاستغنينا به عن جميع الآبار إذ هذه المياه لا تصلح إلا للمضطر إذ ماؤها مر ومع ذلك فيه بعض الملوحة لكن يختلف ذوقه وقد يتقوى ذلك بحسب كثرة الأمطار وقلتها.
ثم بعد ذلك مررنا على سبخة مقطع الكبريت وفي أعلاها معدن الكبريت في آبار كثيرة يحمل منها الطين ومن هناك يحمل إلى طرابلس وكذلك إلى مصر والإسكندرية ويذهب منها مع الركب إلى مصر في كل سنة أحمال كثيرة غير أن الذي يريده يتقدم الركب إلى أن يقضي حاجته فيلحق الركب في الذهاب والإياب لما في الكبريت من منافع الإبل.
وبعد ذلك نزلنا المنعم وهي أحساء بساحل البحر ماؤها طيب عليها كثبان من

الرمل ينزل الناس وراءها فيمرون إلى الماء من بينها وقل ما يخلو من عمارة الأعراب وسقينا واستقينا وظعنا منه صبيحة.
ومررنا على السبخة والسبخة صعبة جدا كثيرة الوحل وفيها غور في بعض المواضع ولا ينجو منه إلا من يعرفها أو يقدم خبيرا يعرف المسالك لأن طريقها أقرب وإلا فليترك سبيلها وليذهب حذوها يمينا عنها حال الطلوع وبينها وبين البحر جبال من الرمل تصعب على الإبل طلوعا وهبوطا يعلم ذلك بالعيان وقد تشتت حال الركب فيها.
ثم سرنا يومين ونزلنا معطن اجدابية عند الزوال وسقى الناس واستقوا وملئوا أسقيتهم مارين مستعجلين إلى سلوك ووقفنا على مسجد بها يزعم الناس أن الإمام سحنون درس فيه ثلاث سنين ومن المنعم فارقنا البحر فلا تراه إلا عند التميمي.
أقول قال الشيخ العياشي وهذه اجدابية آثار عمارة كثيرة وآبار عظيمة منقورة في الحجر وبنيان هائل بالحجر المنحوت وهناك رسم مسجد قديم تهدم ووجدنا في بعض حجاراته تاريخ بنيانه منقوش سنة ثلاثمائة قال وهذه المدينة هي مدينة برقة المذكورة في كتب الفقه وقيل أنها مدينة بالجبل الأخضر في الجانب البحري.
وقد أخبرني صاحبنا سيدي عبد الله بن غلبون أنه رآها وأن رسومها تدل على عمارة قوية وبها آثار سور وأبراج ورخام كثير وقال أن بها قبرا مشهورا يزار ويزعم أعراب البلد انه قبر نبي فقلت له الغالب انه قبر صحابي فقد نص المؤرخون على أن رويفع بن ثابت بن السكن الأنصاري الصحابي قد توفي ببرقة وهو أمير عليها من قبل مسلمة بن مخلد وقتل ببرقة أيضا من الصحابة زهير بن قيس البلوي ندبه عبد العزيز بن مروان إلى برقة فلقي الروم فقاتل حتى قتل وما ذاك إلا قبر أحدهما فان

كثيرا من العوام يطلقون باسم النبي على الصحابي وقد شاهدنا كثيرا منهم يعتقدون في أبي بكر وعمر وعلي أنهم أنبياء ويظنون أن أسم النبي والصحابي مترادفان فلما أخبرته ب ذلك فرح وقال لي ليس الأمر إلا كما ذكرت.
قال ولما رجعنا من الحجاز سنة أربع وسبعين لقيته بمسراتة وقال لي ذهبت بعدك إلى المكان المذكور وتأملت القبر وعليه كتابة وأمارات ربما تدل على صحة ما ذكرت قال لي وذكرت كلامك لبعض الأمراء في درنة ففرح بذلك وأمر بالبناء على القبر والتنويه به والله لا يضيع أجر من أحسن عملا ونية المؤمن ابلغ من عمله فان صح أن هذا القبر قبر الصحابي المذكور بتلك المدينة هي برقة المشهورة لا أجدابية والأمر في ذلك قريب فان بين المدينتين نحوا من خمسة أيام فكلاهما يصح أن يقال بينها وبين كل من مصر وأفريقية شهر إذ بذلك يعرفها الفقهاء إلا أن التي بالجبل أقرب إلى مسمى المدينة لما بإزائها من المياه والأماكن المخصبة والمزارع الكثيرة الغياض الملتقبة من أنواع الأشجار بخلاف اجدابية فإنها في صحراء من الأرض مقفرة والله اعلم بغيبه ومسمى برقة على التعيين عند عرب البلد اليوم هي مسيرة ستة أيام من المنعم إلى سلوك وفيها رسم أبنية كثيرة وإطلاق برقة على ما سواها مجاز علاقته المجاورة (العلاقة بفتح العين المناسبة) وهذا مما يقوي أن مدينة برقة هي اجدابية وبإزاء المسجد الذي بها قبر محوط عليه بالحجارة يزار يقال لصاحبه سيدي يونس وهو من عرب الفواخر.
وقد وجدنا ركب أهل تونس الذين مروا أمامنا قد أوفدوا عليه شمعا كثيرا وبقيت منه بقية فأردنا أخذها للحاجة إليها ثم توقفت في ذلك وبعد ذلك ظهر لي جواز أخذه فبعثت إليه فوجدت الغير أخذه انتهى كلام العياشي.
وذكر شارح الشقراطسية الشيخ محمد بن علي برقة فقال أما وصفها فقال

البكري رحمه الله واسم برقة بالرومية الإغريقية بنطابلس تفسيره خمس مدن وذكر أن مدينة برقة في صحراء حمراء التربة والمباني فتحمر لذلك ثياب ساكنيها والمتصرفين لها وعلى ستة أميال منها الجبل وهي دائمة الرخاء كثيرة الخير تصلح بها الماشية وتنمى على مراعيها وأكثر ذبائح أهل مصر منها ويحمل منها إلى مصر الصوف والعسل والقطران وهو يعمل بها بقرية من قراها بقرب جبل وعر ما يرقى إليه فارس على حال وهي كثيرة الثمار من الجوز والأترج والسفر جل وأصناف الفواكه ويتصل بها شعر عويصة من شجر العرعر وببرقة قبر رويفع صاحب النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما فتحها فاعلم أن عمرو بن العاص افتتحها في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وذلك سنة إحدى وعشرين وصالح أهلها على ثلاثة عشر ألف دينار وعلى أن يبيعوا من أبنائهم في جزيتهم.
قال ووجه عمرو بن العاص عقبة بن نافع حتى بلغ زويلة وصار ما بين برقة وزويلة للمسلمين وزويلة مدينة غير مسورة في وسط الصحراء وهي أول حد بلاد السودان وبها جامع وحمام وأسواق يجتمع بها الرفاق من كل جهة منها يتفرق قاصدهم ويتشعب طريقهم وبها نخيل وبسيط الزرع وبرقة بفتح الباء المنقوطة بواحدة وسكون الراء المهملة بعدها فاف والإغريقية بكسر الهمزة وسكون الغين المعجمة وكسر الراء المهملة وكسر القاف وتشديد الباء قيل المراد بالرومية الإغريقية القديمة التي هي أصل لغة الروم والله اعلم وبنطابلس بفتح الباء المنقوطة بواحدة وسكون النون بعها طاء مهملة وباء منقوطة بواحدة مضمومة ولام مضمومة وآخرها سين مهملة كذا وقع في كتاب البكري والذي وقع في المدونة انطابلس بالهمزة قال وجباب انطابلس ومراجل برقة إلا أن هذا الذي في المدونة يؤذن أنهما مدينتان بخلاف ما قال البكري لكن يحتمل أن تكون إحدى تلك المدن برقة

وانطابلس اسم لجميعها كما يقال قسطيلية وتوزر لإحدى بلد قسطيلية والشعر الشجر الكثير وأرض كثيرة الشعار أي الشجر انتهى كلامه.
قلت وفي رحلة شيخنا العياشي وأرض برقة منقسمة على أقسام أولها من حسان إلى ما وراء الأحمر بيومين يسمى سرت ومن هناك إلى قرب المنعم يسمى برقة البيضاء ومن هناك إلى سلوك يسمى برقة الحمراء ومنه إلى التميمي (1) يسمى الجبل الأخضر ومنه إلى العقبة الكبرى يسمى البطنان ومن العقبة الكبرى إلى الصغرى يسمى بين الأعقاب ومن العقبة الصغرى إلى الإسكندرية يسمى العقبة الصغيرة وقد ذكر العبدري تقسيما غير هذا جار على اصطلاح أهل زمانه انتهى.
قلت وسلوك المذكورة آبار متعددة كآبار اجدابية في صفتها ومائها وبإزائها أيضا رسوم بناء إلا أنها قليلة بالنسبة إلى اجدابية وماؤها يقل في أيام الحر وبه تتعرض الأعراب للإركاب لقصد التسوق ويجلبون إليها الكثير من السمن والزرع واللحم والإبل ومنه يتوجه القاصد مرسى ابن غازي وهي مرسى حسنة بسفح الجبل الأخضر بينها وبين سلوك مسافة يوم وفيها عامل وعسكر لصاحب طرابلس وفي تلك المرسى تصب أودية السمن والعسل والشحم والودك من الجبل الأخضر الذي لا أخصب منه ولا أكثر منه أداما فيما رأينا من البلاد وتحمل كل ذلك السفن إلى طرابلس وجربة وما بإزائهما من البلدان ومن هذا الجبل غالبا أدامهم ولحمانهم قال شيخنا العياشي رحمه الله وقد دخلنا طرفا من هذا الجبل سنة تسع وخمسين في شدة الحر وتسوقنا طائفة من أهله بما قضينا منه العجب من السمن والغنم والإبل لم نعهد مثل ذلك في بلد من البلدان ولا رأينا أرخص منه سعرا ولا أقل معرفة بالبيع والشراء من أهله يؤخذ منهم زهاء قنطار من السمن بالثمن التافه من بز أو عروض
__________________
(1) في الرحلة الناصرية ومن التميمي.

أو غير ذلك من الحوائج ولا يعرفون للدراهم قدرا وكانوا لذلك كنعمهم غفلا لم يدخل التجار بلدهم ولا صادرتهم العمال عن أموالهم إذ لا حكم لأحد من العمال عليهم إلا أشياء قليلة يؤدونها في بعض الأحيان لصاحب أو جيلة وأوجلة قرية كبيرة أو بلد عظيم لا يخلو من العلماء والصلحاء بقرب برقة تتسوقه الناس مع كل بلد وهو في حكم طرابلس لأن غير أن حكمه فيه ضعيف نفعنا الله بأهله.
وأما صاحب طرابلس فلم يكن له عليهم إذ ذاك حكم وأما الآن فهم تحت أيالته وفي أسر طاعته يؤدون الخراج ويدخل التجار من أهل طرابلس ومسراتة بلدهم لشراء الإبل والبقر والغنم والصوف والأدام فبذلك حصل لهم بعض الخبرة بقيم الأشياء ومقاديرها وعرفوا الدينار والدرهم وأما قبل ذلك فهم كالأنعام بل هم أضل سبيلا.
غريبة عرب هذا الجبل من أشد العرب كفرا ونفاقا لا يعلمون حدود ما أنزل الله على رسوله ليس عندهم من الدين إلا اسمه لا حرفة لهم بعد تنمية المواشي إلا النهب والغارة قل ما مر بهم ركب فسلم من انشاب الحرب بينهم وبينه بسبب غدرهم وفتكهم عن اشتغال الناس بالسوق معهم وقد وقع ذلك معهم مرارا قال وأغرب من ذلك أنهم لا يعرفون السرقة فيحترس الناس منهم نهارا خشية النهب والغارة وبالليل يبيت الناس رقودا مطمئنين لا تسرق لهم حاجة وما ذاك والله اعلم إلا لانقطاعهم عن العمران وتوحشهم والسرقة في الغالب إنما تعهد حيث يكثر العمران وتجتمع أجناس من الناس وتعمر أسواق ويوجد بيع وشراء.
وأما هؤلاء فأعداؤهم بعيدون منهم لا يقدرون منهم إلا على الغارة المرة بعد المرة وفيما بينهم يامن بعضهم بعضا فالقوا ذلك نوادر هذا الجبل في رخاء الأدام وغفلة أهله عن قيمته وكثرة خصبه وبيعهم لبناتهم وأخواتهم وغير ذلك أشهر من

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مشاركة مميزة

بناء شخصية  الأطفال   ...