الخميس، 8 مارس 2018

كتاب التاريخ والجغرافيا :  للمؤلف عبد زكرياء بن محمّد بن محمود القزويني بعنوان  -  اثار البلاد واخبار العباد ( الجزء الثاني من الكتابة )
رؤوسا دنا أوان حصادها ، وأنا الذي أحصدها. فدخل القوم منه رعب ، فما زال بهم حتى أراهم الكواكب بالنهار.
ولمّا بنى واسط عدّ في حبسه ثلاثة وثلاثون ألف إنسان ، حبسوا بلا دم ولا تبعة ولا دين ، ومات في حبسه واحد وعشرون ألفا صبرا ، ومن قتله بالسيف فلا يعدّ ولا يحصى! وقال يوما على المنبر في خطبته : أتطلبون مني عدلّ عمر ولستم كرعية عمر؟ وإنّما مثلي لمثلكم كثير ، لبئس المولى ولبئس العشير! وكان في مرض موته يقول :
يا ربّ قد زعم الأعداء واجتهدوا
 

أيمانهم أنّني من ساكني النّار
 
أيحلفون على عمياء؟ ويحهم
 

ما علمهم بعظيم العفو غفّار؟
 
وحكى عمر بن عبد العزيز أنّه رأى الحجّاج في المنام بعد مدّة من موته ، قال :فرأيته على شكل رماد على وجه الأرض ، فقلت له : أحجّاج؟ قال : نعم ، قلت : ما فعل الله بك؟ قال : قتلني بكلّ من قتلته مرّة مرّة ، وبسعيد بن جبير سبعين مرّة ، وأنا أرجو ما يرجوه الموحّدون!
وينسب إلى الطائف سعيد بن السائب ، كان من أولياء الله وعباد الله الصالحين ، نادر الوقت عديم النظير ، وكان الغالب عليه الخوف من الله تعالى لا يزال دمعه جاريا ، فعاتبه رجل على كثرة بكائه فقال له : إنّما ينبغي أن تعاتبني على تقصيري وتفريطي لا على بكائي!
وقال له صديق له : كيف أصبحت؟ قال : أصبحت أنتظر الموت على غير عدة! وقال سفيان الثوري : جلسنا يوما لحدّث ومعنا سعيد بن السائب ، وكان يبكي حتى رحمه الحاضرون ، فقلت له : يا سعيد لم تبكي وأنت تسمع حديث أهل الخير؟ فقال : يا سفيان ما ينفعني إذا ذكرت أهل الخير وأنا عنهم بمعزل؟


طيفند
قلعة في بلاد الهند منيعة ، على قلّة جبل ليس لها إلّا مصعد واحد ، وعلى رأس الجبل مياه ومزارع وما احتاجوا إليه ، غزاها يمين الدولة محمود بن سبكتكين سنة أربع عشرة وأربعمائة ، وحاصرها زمانا وضيّق على أهلها ، وكان عليها خمسمائة قيل فطلبوا الأمان فآمنهم ، وأقرّ صاحبها فيها على خراج ، فأهدى صاحب القلعة إلى السلطان هدايا كثيرة ، منها طائر على هيئة القمري ، خاصيّته إذا أحضر الطعام وفيه سمّ دمعت عيناه وجرى منهما ماء وتحجّر ، فإذا تحجّر سحق وجعل على الجراحات الواسعة الحمها ، وهذا الطائر لا يوجد إلّا في ذلك الموضع ولا يتفرّج إلّا فيه.
عدن
مدينة مشهورة على ساحل بحر الهند من ناحية اليمن ، سميّت بعدن بن سنان بن إبراهيم ، عليه السلام ، لا ماء بها ولا مرعى ، شربهم من عين بينها وبين عدن مسيرة يوم ، وكان عدن فضاء في وسط جبل على ساحل البحر ، والفضاء يحيط به الجبل من جميع الجوانب ، فقطع لها باب بالحديد في الجبل فصار طريقا إلى البرّ.
وإنّها مرفأ مراكب الهند وبلدة التجار ومرابح الهند ، فلهذا يجتمع إليها الناس ويحمل إليها متاع الهند والسند والصين والحبشة وفارس والعراق ، وقال الاصطخري : بها مغاص اللؤلؤ.
بها جبل النار وهو جبل أحمر اللّون جدّا في وسط البحر ؛ قالوا : هو الجبل الذي تخرج منه النار التي هي من اشراط الساعة ، وسكّان عدن يزعمون أنّهم من نسل هارون ، عليه السلام ، وهم المربّون.
وبها البئر المعطّلة التي ذكرها الله تعالى في القرآن. ومن حديثها أن قوم


صالح ، عليه السلام ، بعد وفاته تفرّقوا بفلسطين ، فلحقت فرقة منهم بعدن ، وكانوا إذا حبس عنهم المطر عطشوا وحملوا الماء من أرض بعيدة ، فأعطاهم الله بئرا فتعجّبوا بها وبنوا عليها أركانا على عدد القبائل ، كان لكلّ قبيلة فيها دلو.
وكان لهم ملك عادل يسوسهم ، فلمّا مات حزنوا عليه فمثل لهم الشيطان صنما على صورة ذلك الملك ، وكلّم القوم من جوف الصنم : إني ألبسني ربي ثوب الالهيّة والآن لا آكل ولا أشرب ، وأخبركم بالغيوب فاعبدوني فإني أقربكم إلى ربكم زلفى! ثمّ كان الصنم يأمرهم وينهاهم فمال إلى عبادة الصنم جميعهم ، فبعث الله إليهم نبيّا فكذّبوه ، فقال لهم نبيّهم : إن لم تتركوا عبادة الصنم يغور ماء بئركم! فقتلوه فأصبحوا لم يجدوا في البئر قطرة ماء.
فمضوا إلى الصنم فلم يكلّمهم الشيطان لمّا عاين نزول ملائكة العذاب ، فأتتهم صيحة فأهلكوا ، فأخبر الله تعالى عنهم وعن أمثالهم : وكأيّن من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطّلة وقصر مشيد. والقصر المشيد بحضر موت وقد مرّ ذكره ، ويقال : إن سليمان بن داود ، عليه السلام ، حبس المردة مصفّدين في هذه البئر وهي محبسهم.
فاس
مدينة كبيرة مشهورة في بلاد بربر على برّ المغرب بين ثنيتين عظيمتين ، والعمارة قد تصاعدت حتى بلغت مستواها ، وقد تفجّرت كلّها عيونا تسيل إلى قرارة إلى نهر منبسط إلى الأرض ينساب إلى مروج خضر ، وعليها داخل المدينة ستمائة رحى ، ولها قهندز في أرفع موضع منها ، ويسقيها نهر يسمّى المفروش.
قال أبو عبيد البكري : فاس منقسمة قسمين ، وهي مدينتان مسورتان ، يقال لإحداهما عدوة القروبيين وللأخرى عدوة الأندلسيّين ، وفي كلّ دار جدول ماء وعلى بابها رحى وبستان ، وهي من أكثر بلاد المغرب ثمارا وخيرا


وأكثر بلاد المغرب يهودا ، منها يختلفون إلى سائر الآفاق ، بها تفّاح حلو يعرف بالاطرابلسي حسن الطعم جدّا ، يصلح بعدوة الأندلسيّين ولا يصلح بعدوة القروبيين ، وسميذ عدوة الأندلسيّين أطيب من سميذ عدوة القروبيين ، ورجال الأندلسيّين أشجع من رجال القروبيين ، ونساؤهم أجمل ، ورجال القروبيين أحمد من رجال الأندلسيّين ؛ قال إبراهيم الأصيلي :
دخلت فاسا وبي شوق إلى فاس
 

والجبن يأخذ بالعينين والرّاس
 
فلست أدخل فاسا ما حييت ولو
 

أعطيت فاسا وما فيها من النّاس
 
فيصور
بلاد بأرض الهند يجلب منها الكافور القيصوري وهو أحسن أنواعه.
وذكروا أن الكافور يكثر في سنة فيها رعود وبروق ورجف وزلازل ، وان قلّ ذلك كان نقصا في وجوده.
قبا
قرية على ميلين من مدينة رسول الله ، صلّى الله عليه وسلّم. بها مسجد التّقوى وهو المسجد الذي ذكره الله تعالى : لمسجد أسس على التقوى من أوّل يوم أحقّ أن تقوم فيه ، فيه رجال يحبّون أن يتطهّروا ، والله يحبّ المطّهّرين.
ولمّا قدم رسول الله ، عليه السلام ، قبا مهاجرا يريد المدينة ، أسّس هذا المسجد ووضع بيده الكريمة أوّل حجر في محرابه ، ووضع أبو بكر ، رضي الله عنه ، حجرا ، ثمّ أخذ الناس في البناء وهو عامر إلى زماننا هذا ، وسئل أهله عن تطهّرهم فقالوا : إنّا نجمع بين الحجر والماء.
وبها مسجد الضّرار ويتطوّع الناس بهدمه ، وبها بئر غرس كان رسول الله ، صلّى الله عليه وسلّم ، يستطيب ماءها وبصق فيها ، وقال : إن فيها عينا من عيون الجنّة.


قزدار
ناحية بأرض الهند. قال أبو الحسن المتكلّم : كنت مجتازا بناحية قزدار ، فدخلت قرية من قراه فرأيت شيخا خياطا في مسجد فأودعت ثيابي عنده ومضيت.
ثمّ رجعت من الغد فرأيت باب المسجد مفتوحا والرزمة يشدّها في المحراب ، فقلت : ما أجهل هذا الخيّاط! فقال : افتقدت منها شيئا؟ قلت : لا.
قال : فما سؤالك؟ فأقبلت أخاصمه وهو يضحك. قال : أنتم نشأتم في بلاد الظلم ، وتعوّدتم أخلاق الأراذل التي توجب السرقة والخيانة وانّها لا تعرف ههنا ، ولو بقيت ثيابك في المحراب حتى بليت ما مسّها أحد! وإذا وجدنا شيئا من ذلك في مدد متطاولة نعلم أنّه كان من غريب اجتاز بنا ، فنركب خلفه ولا يفوتنا ، فندركه ونقتله. فسألت عن غيره سيرة أهل البلد فقال كما ذكره الخيّاط. وكانوا لا يغلقون الأبواب باللّيل ، وما كان لأكثرهم أبواب بل شيء يردّ الوحش والكلاب.
قشمير
ناحية بأرض الهند متاخمة لقوم من الترك ، فاختلط نسل الهند بالترك ، فأهلها أكثر الناس ملاحة وحسنا. ويضرب بحسن نسائهم المثل ، لهنّ قامات تامّة وصور مستوية وملاحة كثيرة وشعور طوال غلاظ ، وهذه الناحية تحتوي على نحو ستّين ألفا من المدن والضياع ، ولا سبيل إليها إلّا من جهة واحدة ، ويغلق على جميعها باب واحد.
وحواليها جبال شوامخ لا سبيل للوحش أن يتسلّق إليها فضلا عن الانس.
وفيها أودية وعرة وأشجار ورياض وأنهار.
قال مسعر بن مهلهل : شاهدتها وهي في غاية المنعة. ولأهلها أعياد في رؤوس


الاهلة وفي نزول النيرين شرقهما ، ولهم رصد كبير في بيت معمول من الحديد الصيني ، لا يعمل فيه الزمان ، ويعظّمون الثريا ولا يذبحون الحيوان ولا يأكلون البيض.
قمار
مدينة مشهورة بأرض الهند. قال ابن الفقيه : أهلها على خلاف سائر الهنود ولا يبيحون الزنا ويحرّمون الخمر ، وملكها يعاقبهم على شرب الخمر ، فيحمي الحديدة بالنار وتوضع على بدن الشارب ولا تترك إلى أن تبرد ، فربّما يفضي إلى التلف! وينسب إليها العود القماري وهو أحسن أنواع العود.
كلبا
مدينة بأرض الهند ؛ قال في تحفة الغرائب : بها عمود من النحاس وعلى رأس العمود تمثال بطّة من النحاس ، وبين يدي العمود عين. فإذا كان يوم عاشوراء في كلّ سنة ينشر البطّ جناحيه ويدخل منقاره العين ويعبّ ماءها ، فيخرج من العمود ماء كثير يكفي لأهل المدينة سنتهم ، والفاضل يجري إلى مزارعهم.
كله
مدينة عظيمة منيعة عالية السور في بلاد الهند كثيرة البساتين ، بها اجتماع البراهمة حكماء الهند ؛ قال مسعر بن مهلهل : إنّها أوّل بلاد الهند ممّا يلي الصين ، وانّها منتهى مسير المراكب إليها ولا يتهيّأ لها أن تجاوزها وإلّا غرقت.
بها قلعة يضرب بها السيوف القلعيّة وهي الهنديّة العتيقة ، لا تكون في سائر الدنيا إلّا في هذه القلعة ، وملكها من قبل ملك الصين ، وإليه قبلته وبيت عبادته


ورسومه رسوم صاحب الصين ، ويعتقدون أن طاعة ملك الصين عليهم مباركة ومخالفته شؤم ، وبينه وبين الصين ثلاثمائة فرسخ.
كنزة وقرّان
موضعان باليمامة ، بهما نخل كثير ومواش ، قال أبو زياد الكلابي : نزل بهم رجل من بني عقيل كنيته أبو مسلم كان يصطاد الذئاب ، قالوا له : إن ههنا ذئبا لقينا منه التباريح ، إن أنت اصطدته فلك في كلّ غنم شاة! فنصب له الشبكة وحبله وجاء به يقوده ، وقال : هذا ذئبكم فأعطوني ما شرطتم. فأبوا وقالوا : كل ذئبك! فشدّ في عنق الذئب قطعة حبل وخلّى سبيله وقال : ادركوا ذئبكم! فوثبوا عليه وأرادوا قتله ، فقال : لا عليكم ان وفيتّم لي رددته! فخلّوه ليردّه ، فذهب وهو يقول :
علّقت في الذّئب حبلا ثمّ قلت له
 

الحق بأهلك واسلم أيّها الذّئب!
 
إن كنت من أهل قرّان فعد لهم
 

أو أهل كنزة فاذهب غير مطلوب
 
المخلفين لما قالوا وما وعدوا
 

وكلّ ما يلفظ الإنسان مكتوب
 
سألته في خلاء : كيف عيشته؟
 

فقال : ماض على الأعداء مرهوب
 
لي الفصيل من البعران آكله
 

وإن أصادفه طفلا فهو مصقوب
 
والنّخل أفسده ما دام ذا رطب
 

وإن شتوت ففي شاء الأعاريب
 
يا أبا مسلم أحسن في أسيركم
 

فإنّني في يديك اليوم مجنوب
 
كولم
مدينة عظيمة بأرض الهند ، قال مسعر بن مهلهل : دخلت كولم وما رأيت بها بيت عبادة ولا صنما وأهلها يختارون ملكا من الصين ، إذا مات ملكهم.
وليس للهند طبيب إلّا في هذه المدينة ، عماراتهم عجيبة ، أساطين بيوتهم من


خرز أصلاب السمك ، ولا يأكلون السمك ولا يذبحون الحيوان ، ويأكلون الميتة ، وتعمل بها غضائر تباع في بلادنا على انّه صيني وليس كذلك ، لأن طين الصين أصلب من طين كولم وأصبر على النار ، وغضائر كولم لونها أدكن وغضائر الصين أبيض وغيره من الألوان.
بها منابت الساج المفرط الطول ربّما جاوز مائة ذراع وأكثر. وبها البقم والخيزران والقنا بها كثير جدّا ، وبها الراوند وهو قرع ينبت هناك ، ورقه الساذج الهندي العزيز الوجود لأجل أدوية العين ، ويحمل إليها أصناف العود والكافور واللبان ، والعود يجلب من جزائر خلف خطّ الاستواء ، لم يصل إلى منابته أحد ولا يدرى كيف شجره ، وإنّما الماء يأتي به إلى جانب الشمال.
وبها معدن الكبريت الأصفر ومعدن النحاس ينعقد دخانه توتياء جيّدا.
مدينة يثرب
هي مدينة الرسول ، صلّى الله عليه وسلّم ، وهي في حرّة سبخة مقدار نصف مكّة. من خصائصها أن من دخلها يشمّ رائحة الطيب ، وللعطر فيها فضل رائحة لم توجد في غيرها ، وأهلها أحسن الناس صوتا. قيل لبعض المدنيّين :ما بالكم أنتم أطيب الناس صوتا؟ فقال : مثلنا كالعيدان خلت أجوافنا فطاب صوتنا.
بها التمر الصّيحاني لم يوجد في غيرها من البلاد. وبها حبّ البان يحمل منها إلى سائر البلاد. وعن ابن عبّاس ان النبيّ ، عليه السلام ، حين عزم الهجرة قال : اللهمّ إنّك قد أخرجتني من أحبّ أرضك إليّ فأنزلني أحبّ أرضك إليك! فأنزله المدينة. ورأى النبيّ ، صلّى الله عليه وسلّم ، بلال بن حمامة وقد هاجر فاجتوى المدينة وهو يقول :
ألا ليت شعري! هل أبيتنّ ليلة
 

بفخّ وحولي إذخر وجليل؟
 
وهل أردن يوما مياه مجنّة؟
 

وهل يبدون لي شامة وطفيل؟
 



فقال ، صلّى الله عليه وسلّم : خفت يا ابن السوداء! ثمّ قال : اللهمّ حبّب إلينا المدينة كما حبّبت مكّة وأشدّ ، وصحّحها وبارك لنا في صاعها ومدّها ، وانقل حمّاها إلى خيبر والجحفة.
وعن أبي هريرة أن رسول الله ، صلّى الله عليه وسلّم ، قال : إن إبراهيم عبد الله وخليله وأنا عبد الله ورسوله ، وان إبراهيم حرّم مكّة واني حرّمت المدينة ما بين لابتيها عضاهها وصيدها ، لا يحمل فيها سلاح لقتال ولا تقطع منها شجرة إلّا لعلف البعير.
وعن أبي هريرة عن النبيّ ، صلّى الله عليه وسلّم : من صبر على لأواء المدينة وشدّتها كنت له يوم القيامة شفيعا أو شهيدا.
والمدينة مسوّرة ، ومسجد النبيّ ، عليه السلام ، في وسطها وقبره في شرقي المسجد ، وبجنبه قبر أبي بكر وبجنب قبر أبي بكر قبر عمر.
وكتب الوليد بن عبد الملك إلى صاحب الروم يطلب منه صنّاعا لعمارة مسجد رسول الله ، صلّى الله عليه وسلّم ، فبعث إليه أربعين رجلا من صنّاع الروم وأربعين من صنّاع القبط ، ووجّه معهم أربعين ألف مثقال ذهبا وأحمالا من الفسيفساء. فجاء الصنّاع وخمّروا النورة سنة للفسيفساء ، وجعلوا أساسها بالحجارة ، وجعلوا أسطوانات المسجد من حجارة مدوّرة في وسطها أعمدة حديد ، وركّبوها بالرصاص ، وجعلوا سقفها منقّشة مزوّقة بالذهب ، وجعلوا بلاط المحراب مذهبا ، وجعلوا وجه الحائط القبلي من داخله بازار رخام من أساسه إلى قدر قامة ، وفي وسط المحراب مرآة مربعة ذكروا أنّها كانت لعائشة ، والمنبر كان للنبي قد غشي بمنبر آخر ، وقال ، عليه السلام : ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنّة.
بها بئر بضاعة. روي أن النبيّ ، عليه السلام ، توضّأ بمائها في دلو وردّ الدلو إلى البئر ، وشرب من مائها وبصق فيها ، وكان إذا مرض المريض في أيّامه يقول : اغسلوه بماء بضاعة ، فإذا غسل فكأنّما أنشط من عقال. وقالت أسماء


بنت أبي بكر : كنّا نغسل المرضى من بئر بضاعة ثلاثة أيّام فيعافون.
بها بئر ذروان ، ويقال لها بئر كملى هي البئر المشهورة. عن ابن عبّاس :طبّ رسول الله ، صلّى الله عليه وسلّم ، حتى مرض مرضا شديدا ، فبينا هو بين النائم واليقظان رأى ملكين أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه ، فقال الذي عند رجليه للذي عند رأسه : ما وجعه؟ فقال : طبّ! قال : ومن طبّه؟ قال لبيد بن الأعصم اليهودي. قال : وأين طبّه؟ قال : في كربة تحت صخرة في بئر كملى ، وهي بئر ذروان. فانتبه النبيّ ، صلّى الله عليه وسلّم ، وحفظ كلام الملكين ، فبعث عليّا وعمّارا مع جمع من الصحابة إلى البئر فنزحوا ماءها حتى انتهوا إلى الصخرة فقلبوها ووجدوا الكربة تحتها ، وفيها وتر فيها إحدى عشرة عقدة ، فأحرقوا الكربة بما فيها فزال عنه ، عليه السلام ، ما كان به وكأنّه أنشط من عقال. فأنزل الله تعالى عليه المعوّذتين إحدى عشرة آية على عدد عقده.
بها بئر عروة ، تنسب إلى عروة بن الزّبير ؛ قال الزبير بن بكّار : ماء هذه البئر من مرّ بالعقيق يأخذه هدية لأهله ، ورأيت أبي يأمر به فيغلى ثمّ يأخذه في قوارير يهديه إلى الرشيد وهو بالرقّة ، وقال السري بن عبد الرحمن الأنصاري :
كفّنوني إن متّ في درع أروى
 

واجعلوا لي من بئر عروة مائي
 
سخنة في الشّتاء باردة الصّي
 

ف سراج في اللّيلة الظّلماء
 
وأهل المدينة الأنصار ، عليهم الرحمة والرضوان ، ان الله تعالى أكثر من الثناء عليهم في القرآن.
وقد خصّ بعضهم بخاصيّة لم توجد في غيرهم ، منهم حميّ الدّبر وهو عاصم بن الأفلح ، رضوان الله عليه ، استشهد وأراد المشركون أن يمثّلوا به فبعث الله الزنابير أحاطت به ومنعت المشركين الوصول إليه.


ومنهم بليع الأرض وهو حبيب بن ثابت ، رضوان الله عليه ، صلبه المشركون فبعث رسول الله ، صلّى الله عليه وسلّم ، من يأخذه ويدفنه ، فأخذوه وقبل دفنه فقدوه وبلعته الأرض.
ومنهم غسيل الملائكة وهو حنظلة بن راهب ، رضوان الله عليه ، استشهد يوم أحد فبعث الله تعالى فوجا من الملائكة ، رفعوه من بين القتلى وغسلوه فسمّي غسيل الملائكة.
ومنهم ذو الشهادتين وهو خزيمة بن ثابت ، رضوان الله عليه ، اشترى رسول الله ، صلّى الله عليه وسلّم ، فرسا من أعرابي ، والاعرابي أنكر الشراء ، فقال رسول الله ، عليه السلام : إني اشتريت منك! فقال الاعرابي : من يشهد بذلك؟ فقال خزيمة بن ثابت : إني أشهد أن رسول الله ، صلّى الله عليه وسلّم ، اشترى منك. فقال له رسول الله ، عليه السلام : كيف تشهد وما كنت حاضرا؟
فقال : يا رسول الله إني أصدّقك في أخبار السموات والاخبار عن الله تعالى فما أصدقك في شراء فرس! فأمر الله تعالى نبيّه ، عليه السلام ، أن يجعل شهادته مكان شهادتين.
ومنهم من اهتزّ العرش لموته وهو سعد بن معاذ ، رضوان الله عليه ، سيّد الأوس ؛ قال رسول الله ، صلّى الله عليه وسلّم : اهتزّ العرش لموت سعد ابن معاذ.
المشقّر
حصن بين نجران والبحرين على تلّ عال ، يقال انّه من بناء طسم ، يقال له فجّ بني تميم لأن المكعبر عامل كسرى غدر بني تميم فيه ، وسببه أن وهرز عامل كسرى على اليمن بعث أموالا وطرفا إلى كسرى ، فلمّا كانت ببلاد بني تميم وثبوا عليها وأخذوها ؛ فأخبر كسرى بذلك فأراد أن يبعث إليهم جيشا ، فأخبر أن بلادهم بلاد سوء قليلة الماء.


فأشير إليه بأن يرسل إلى عامله بالبحرين أن يقتلهم ، وكانت تميم تصير إلى هجر للميرة ، فأمر العامل أن ينادي : لا تطلق الميرة إلّا لبني تميم! فأقبل إليه خلق كثير فأمرهم بدخول المشقّر ، وأخذ الميرة والخروج من باب آخر ، فيدخل قوم بعد قوم فيقتلهم حتى قتلوا عن آخرهم ، وبعث بذراريهم في السفن إلى فارس.
مغمّس
موضع بين مكّة والطائف به قبر أبي رغال ، مرّ به النبيّ ، صلّى الله عليه وسلّم ، فأمر برجمه ، فصار ذلك سنّة من مرّ به يرجمه. قيل : إن أبا رغال اسمه زيد بن محلف ، كان ملكا بالطائف يظلم رعيته ، فمرّ بامرأة ترضع يتيما بلبن ما عز لها ، فأخذ الماعز منها فبقي اليتيم بلا لبن فمات ، وكانت سنة مجدبة فرماه الله تعالى بقارعة أهلكته.
وقيل : إن أبرهة بن الصبّاح لمّا عزم هدم الكعبة مرّ بالطائف بجنوده وفيو له ، فأخرج إليه أبو ممنعود الثقفي في رجال ثقيف سامعين مطيعين ، فطلب أبرهة منهم دليلا يدلّه على مكّة ، فبعثوا معه رجلا يقال له أبو رغال حتى نزل المغمّس ، فمات أبو رغال هناك ، فرجم العرب قبره ؛ وفيه قال جرير ابن الخطفى :
إذا مات الفرزدق فارجموه
 

كما ترمون قبر أبي رغال
 
مرّاكش
مدينة من أعظم مدن بلاد المغرب ، واليوم سرير ملك بني عبد المؤمن ، وهي في البرّ الأعظم ، بينها وبين البحر عشرة أيّام في وسط بلاد البربر. وإنّها كثيرة الجنان والبساتين ويخرق خارجها الخلجان والسواقي ، ويأتيها الارزاق من الأقطار والبوادي ، مع ما فيها من جني الأشجار والكروم التي يتحدّث


بطيبها في الآفاق. والمدينة ذات قصور ومبان محكمة.
بها بستان عبد المؤمن بن عليّ أبي الخلفاء ، وهو بستان طوله ثلاثة فراسخ ، وكان ماؤه من الآبار فجلب إليها ماء من أعماق تسير تسقي بساتين لها. وحكى أبو الربيع سليمان الملتاني ان دورة مرّاكش أربعون ميلا.
ينسب إليها الشيخ الصالح سني بن عبد الله المراكشي ، وكان شيخا مستجاب الدعوة ، ذكر أن القطر حبس عنهم في ولاية يعقوب بن يوسف فقال : ادع الله تعالى ان يسقينا. فقال الشيخ : ابعث إليّ خمسين ألف دينار حتى أدعو الله تعالى أن يسقيكم في أيّ وقت شئتم! فبعث إليه ذلك ، ففرّقها على المحاويج ، ودعا فجاءهم غبث مدرار أيّاما ، فقالوا له : كفينا ادع الله أن يقطعه! فقال :
ابعث إليّ خمسين ألف دينار حتى أدعو الله أن يقطعه. ففعل ذلك ففرّق المال على المحاويج ، ودعا الله تعالى فقطعه. والله الموفق.
مكّة
هي البلد الأمين الذي شرّفه الله تعالى وعظّمه وخصّه بالقسم وبدعاء الخليل ، عليه السلام : ربّ اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات. واجعله مثابة للناس ، وأمنا للخائف ، وقبلة للعباد ، ومنشأ لرسول الله ، صلّى الله عليه وسلّم.
وعن رسول الله ، عليه السلام : من صبر على حرّ مكّة ساعة تباعدت عنه جهنم مسيرة عام ، وتقرّبت منه الجنّة مائتي عام! إنّها لم تحلّ لأحد كان قبلي ، ولا تحلّ لأحد كان بعدي ، وما أحلّت لي إلّا ساعة من نهار ، ثمّ هي حرام لا يعضد شجرها ويحتشّ خلاها ولا يلتقط ضالتها إلّا لمنشد.
وعن ابن عبّاس : ما أعلم على الأرض مدينة يرفع فيها حسنة مائة إلّا مكّة ، ويكتب لمن صلّى ركعة مائة ركعة إلّا مكّة ، ويكتب لمن نظر إلى بعض بنيانها عبادة الدهر إلّا مكّة ، ويكتب لمن يتصدّق بدرهم ألف درهم إلّا مكّة!


وهي مدينة في واد والجبال مشرفة عليها من جوانبها ، وبناؤها حجارة سود ملس وبيض أيضا. وهي طبقات مبيّضة نظيفة حارّة في الصيف جدّا ، إلّا أن ليلها طيّب وعرضها سعة الوادي وماؤها من السماء ، ليس بها نهر ولا بئر يشرب ماؤها ، وليس بجميع مكّة شجر مثمر ، فإذا جزت الحرم فهناك عيون وآبار ومزارع ونخيل ، وميرتها تحمل إليها من غيرها بدعاء الخليل ، عليه السلام : ربّنا إني أسكنت من ذرّيتي بواد غير ذي زرع ، إلى قوله من الثمرات.
وأمّا الحرم فله حدود مضروبة بالمنار قديمة ، بيّنها الخليل ، عليه السلام ، وحدّه عشرة أميال في مسيرة يوم ، وما زالت قريش تعرفها في الجاهليّة والإسلام.
فلمّا بعث رسول الله ، صلّى الله عليه وسلّم ، أقرّ قريشا على ما عرفوه ، فما كان دون المنار لا يحلّ صيده ولا يختلى خشيشه ، ولا يقطع شجره ولا ينفّر طيره ، ولا يترك الكافر فيه. ومن عجيب خواص الحرم ان الذئب يتبع الظبي ، فإذا دخل الحرم كفّ عنه!
وأمّا المسجد الحرام فأوّل من بناه عمر بن الخطّاب في ولايته ، والناس ضيّقوا على الكعبة ، وألصقوا دورهم بها فقال عمر : إن الكعبة بيت الله ولا بدّ لها من فناء. فاشترى تلك الدور وزادها فيه واتّخذ للمسجد جدارا نحو القامة ، ثمّ زاد عثمان فيه ، ثمّ زاد عبد الله بن الزبير في اتقانه ، وجعل فيها عمدا من الرخام وزاد في أبوابه وحسنه. ثمّ زاد عبد الملك بن مروان في ارتفاع حيطانها وحمل السّواري إليها من مصر في الماء إلى جدّة ، ومن جدّة إلى مكّة على العجل ، وأمر الحجّاج فكساها الديباج ، ثمّ الوليد بن عبد الملك زاد في حلى البيت لمّا فتح بلاد الأندلس ، فوجد بطليطلة مائدة سليمان ، عليه السلام ، كانت من ذهب ولها أطواق من الياقوت والزبرجد ، فضرب منها حلى الكعبة والميزاب ، فالأولى المنصور وابنه المهدي زادوا في اتقان المسجد وتحسين هيئته ، والآن طول المسجد الحرام ثلاثمائة ذراع وسبعون ذراعا ، وعرضه ثلاثمائة ذراع وخمس عشرة ذراعا ، وجميع أعمدة المسجد أربعمائة وأربعة وثلاثون


عمودا ، وأمّا الكعبة زادها الله شرفا فإنّها بيت الله الحرام. إن أوّل ما خلق الله تعالى في الأرض مكان الكعبة ، ثمّ دحا الأرض من تحتها ، فهي سرة الأرض ووسط الدنيا وأمّ القرى ؛ قال وهب : لمّا أهبط آدم ، عليه السلام ، من الجنّة حزن واشتدّ بكاؤه ، فعزّاه الله بخيمة من خيامها وجعلها موضع الكعبة ، وكانت ياقوتة حمراء ، وقيل درّة مجوّفة من جواهر الجنّة ، ثمّ رفعت بموت آدم ، عليه السلام ، فجعل بنوه مكانها بيتا من حجارة فهدم بالطوفان وبقي على ذلك ألفي سنة ، حتى أمر الله تعالى خليله ببنائه ، فجاءت السكينة كأنّها سحابة فيها رأس يتكلّم ، فبنى الخليل وإسمعيل ، عليهما السلام ، على ما ظلّلته.
وأمّا صفة الكعبة فإنّها في وسط المسجد مربع الشكل ، بابه مرتفع على الأرض قدر قامة ، عليه مصراعان ملبّسان بصفائح الفضّة طليت بالذهب ، وطول الكعبة أربعة وعشرون ذراعا وشبر ، وعرضها ثلاثة وعشرون ذراعا وشبر ، وذرع دور الحجر خمسة وعشرون ذراعا ، وارتفاع الكعبة سبعة وعشرون ذراعا.
والحجر من جهة الشام يصبّ فيه الميزاب ، وقد ألبست حيطان الحجر مع أرضه الرخام ، وارتفاعه حقو ، وحول البيت شاذروان مجصّص ارتفاعه ذراع في عرض مثله ، وقاية للبيت من السيل. والباب في وجهها الشرقي على قدر قامة من الأرض ، طوله ستّة أذرع وعشر أصابع ، وعرضه ثلاثة أذرع وثماني عشرة إصبعا. والحجر الأسود على رأس صخرتين ، وقد نحت من الصخر مقدار ما دخل فيه الحجر. والحجر الأسود حالك على الركن الشرقي عند الباب في الزاوية ، وهو على مقدار رأس إنسان ، وذكر بعض المكيّين حديثا رفعوا على مشايخهم انّهم نظروا إلى الحجر الأسود عند عمارة ابن الزبير البيت ، فقدروا طوله ثلاثة أذرع وهو ناصح البياض إلّا وجهه الظاهر ، وارتفاع الحجر من الأرض ذراعان وثلث ذراع ، وما بين الحجر والباب الملتزم ، سمّي بذلك لالتزامه الدعاء. كانت العرب في الجاهليّة تتحالف هناك ، فمن دعا على ظالم


هناك أو حلف اثما عجّلت عقوبته ، وداخل البيت في الحائط الغربي الجزعة ، على ستّة أذرع من قاع البيت ، وهي سوداء مخطّطة ببياض طولها اثنا عشر في مثل ذلك ، وحولها طوق من ذهب عرضه ثلاث أصابع ، ذكر أن النبي ، عليه السلام ، جعلها على حاجبه الأيمن.
والميزاب متوسّط على جدار الكعبة بارز عنه قدر أربعة أذرع ، وسعته وارتفاع حيطانه كلّ واحد ثماني أصابع ، وباطنه صفائح الذهب ، والبيت مستّر بالديباج ظاهره وباطنه ، ويجدّد لباسه كلّ سنة عند الموسم. فإذا كثرت الكسوة خفّف عنه وأخذها سدنة البيت ، وهم بنو شيبة. وهذه صفة الكعبة والمسجد الحرام حولها ، ومكّة حول المسجد ، والحرم حول مكّة ، والأرض حول الحرم هكذا.

روي عن النبيّ ، عليه السلام ، ان الله تعالى قد وعد هذا البيت أن يحجّه في كلّ سنة ستمائة ألف ، فإن نقصوا كمّلهم بالملائكة ، وان الكعبة كالعروس المزفوفة ، وكلّ من حجّها متعلّق بأستارها يسعون معها حتى تدخل الجنّة فيدخلون معها.
وعن عليّ : ان الله تعالى قال للملائكة : إني جاعل في الأرض خليفة ، قالوا : أتجعل فيها من يفسد فيها؟ فغضب عليهم وأعرض عنهم. فطافوا بعرش الله سبعا كما يطوف الناس بالبيت اليوم يسترضونه ، يقولون : لبيك اللهمّ لبيك! ربّنا معذرة إليك! نستغفرك ونتوب إليك! فرضي عنهم وقال :ابنوا في الأرض بيتا يطوف به عبادي ، من غضبت عليه أرضى عنه كما رضيت عنكم.
وأمّا خصائص البيت وعجائبه فإن أبرهة بن الصبّاح قصده وأراد هدمه ، فأهلكه الله تعالى بطير أبابيل. وذكر أن أساف بن عمرو ونائلة بنت سهيل زنيا في الكعبة ، فمسخهما الله تعالى حجرين نصب أحدهما على الصّفا والآخر على المروة ليعتبر بهما الناس. فلمّا طال مكثهما وعبدت الأصنام ، عبدا معها إلى أن كسرهما رسول الله فيهما كسر من الأصنام.
ومن عجائب البيت أن لا يسقط عليه حمام إلّا إذا كان عليلا ، وإذا حاذى الكعبة عرقة من طير تفرّقت فرقتين ولم يعلها طائر منها. وإذا أصاب المطر أحد جوانبها يكون الخصب في تلك السنة في ذلك الجانب ، فإذا عمّ المطر جميع الجوانب عمّ الخصب جميع الجوانب ، ومن سنّة أهل مكّة ان من علا الكعبة من عبيدهم يعتقونه ، وفي مكّة من الصلحاء من لم يدخل الكعبة تعظيما لها.
وعن يزيد بن معاوية : ان الكعبة كانت على بناء الخليل ، عليه السلام ، إلى أن بلغ النبيّ ، صلّى الله عليه وسلّم ، خمسا وثلاثين سنة ، فجاءها سيل عظيم هدمها ، فاستأنفوا عمارتها ، وقريش ما وجدوا عندهم مالا لعمارة الكعبة إلى أن رمى البحر بسفينة إلى جدّة ، فتحطّمت فأخذوا خشبها واستعانوا


بها على عمارتها ، فلمّا انتهوا إلى موضع الركن اختصموا وأراد كلّ قوم أن يكونوا هم الذين يضعونه في موضعه ، وتفاقم الأمر بينهم حتى تناصفوا على أن يجعلوا ذلك لأوّل طالع ، فطلع عليهم النبيّ ، صلّى الله عليه وسلّم ، فاحتكموا إليه فقال : هلموا ثوبا! فأتي به فوضع الركن فيه ثمّ قال : لتأخذ كلّ قبيلة بناحية من الثوب ، ففعلوا ذلك حتى إذا رفعوه إلى موضعه أخذ النبيّ ، عليه السلام ، الحجر بيده ووضع في الركن.
وعن عائشة قالت : سألت رسول الله ، صلّى الله عليه وسلّم ، عن الحجر أمن البيت هو؟ قال : نعم. قلت : فما بالهم لم يدخلوه في البيت؟ فقال ، صلّى الله عليه وسلّم : إن قومك قصرت بهم النفقة. قلت : فما شأن بابه مرتفعا؟
قال : فعلوا ذلك ليدخلوا من شاؤوا ويمنعوا من شاؤوا ، ولولا أن قومك حديثو عهد بالجاهليّة أخاف أن تنكر قلوبهم لنظرت اني أدخل الحجر في البيت.
فأدخل عبد الله بن الزبير عشرة من الصحابة حتى سمعوا منها ذلك ، ثمّ هدم البيت وبناها على ما حكت عائشة. فلمّا قتل الحجّاج ابن الزبير ردّها على ما كان ، وأخذ بقيّة الأحجار وسدّ بها الغربي ورصّف الباقي في البيت ، فهي الآن على بناء الحجّاج.
وأمّا الحجر الأسود فجاء في الخبر انّه ياقوتة من يواقيت الجنّة ، وانّه يبعث يوم القيامة وله عينان ولسان يشهد لمن استلمه بحقّ وصدق.
روي أن عمر بن الخطّاب قبّله وبكى حتى علا نشيجه ، فالتفت فرأى عليّا فقال : يا أبا الحسن ههنا تسكب العبرات ، واعلم انّه حجر لا يضرّ ولا ينفع! ولولا اني رأيت رسول الله ، صلّى الله عليه وسلّم ، يقبّله ما قبّلته! فقال عليّ : بلى هو يضرّ وينفع يا عمر ، لأن الله تعالى لمّا أخذ الميثاق على الذرية كتب عليهم كتابا وألقمه هذا الحجر ، فهو يشهد للمؤمن بالوفاء وعلى الكافر بالجحود ، وذلك قول الناس عند الاستلام : اللهمّ إيمانا بك وتصديقا بكتابك ووفاء بعهدك.


قال عبد الله بن عبّاس : ليس في الأرض شيء من الجنّة إلّا الركن الأسود والمقام ، فإنّهما جوهرتان من جواهر الجنّة ولولا مسّهما من أهل الشرك ما مسّهما ذو عاهة إلّا شفاه الله تعالى. ولم يزل هذا الحجر محترما في الجاهليّة والإسلام يقبّلونه إلى أن دخلت القرامطة مكّة سنة سبع عشرة وثلاثمائة عنوة ، فنهبوها وقتلوا الحجّاج وأخذوا سلب البيت وقلعوا الحجر الأسود ، وحملوه إلى الاحساء من أرض البحرين حتى توسّط فيه الشريف أبو عليّ عمر بن يحيى العلوي ، بين الخليفة المطيع لله وبين القرامطة ، سنة خمس وثلاثين فأخذوا مالا عظيما وردّوه. فجاءوا به إلى الكوفة وعلّقوه على الأسطوانة السابعة من أساطين الجامع ثمّ حملوه على مكانه.
وحكي أن رجلا من القرامطة قال لبعض علماء الكوفة وقد رآه يقبّل الحجر ويتمسّح به : ما يؤمنكم انّا غيّبنا ذلك الحجر وجئنا بمثله؟ فقال : ان لنا فيه علامة وهي انّا إذا طرحناه في الماء يطفو ، فجاءوا بماء وألقي فيه فطفا.
وأمّا المقام فإنّه الحجر الذي وقف عليه الخليل ، عليه السلام ، حين أذّن في الناس بالحجّ. وذرع المقام ذراع وهو مربع سعة أعلاه أربع عشرة إصبعا في مثلها ، ومن أسفله مثل ذلك ، وفي طرفيه طوق من ذهب وما بين الطرفين بارز لا ذهب عليه ، طوله من نواحيه كلّها تسع أصابع وعرضه عشر أصابع ، وعرضه من نواحيه إحدى وعشرون إصبعا ، والقدمان داخلتان في الحجر سبع أصابع ، وبين القدمين من الحجر إصبعان ، ووسطه قد استدقّ من التمسّح.
وهو في حوض مربّع حوله رصاص ، وعليه صندوق ساج ، في طرفه سلسلتان يقفل عليهما قفلان.
قال عبد الله بن شعيب بن شيبة : ذهبنا نرفع المقام في عهد المهدي فانثلم وهو حجر رخو ، فخشينا أن يتفتّت ، فكتبنا به إلى المهدي فبعث إلينا ألف دينار فصببناها في أسفله وأعلاه ، وهو الذي عليه اليوم.
وبها جبل أبي قبيس ، وهو جبل مطلّ على مكّة تزعم العوامّ ان من أكل


عليه الرأس المشوي يأمن من وجع الرأس ، وكثير من الناس يفعلون ذلك ، والله أعلم بصحّته.
وبها الصّفا والمروة وهما جبلان ببطحاء مكّة. قيل : ان الصفا اسم رجل والمروة اسم امرأة زنيا في الكعبة فمسخهما الله تعالى حجرا ، فوضعا كلّ واحد على الجبل المسمّى باسمه لاعتبار الناس. وجاء في الحديث : ان الدابّة التي هي من اشراط الساعة تخرج من الصفا ، وكان عبد الله بن عبّاس يضرب عصاه على الصفا ويقول : إن الدابّة لتسمع قرع عصاي هذا.
والواقف على الصفا يكون بحذاء الحجر الأسود ، والمروة تقابل الصفا.
وبها جبل ثور أطحل ، وهو جبل مبارك بقرب مكّة ، يقصده الناس لزيارة الغار الذي كان فيه النبيّ ، صلّى الله عليه وسلّم ، مع أبي بكر ، حين خرج من مكّة مهاجرا. وقد ذكر الله تعالى في كتابه العزيز : إذ أخرجه الذين كفروا (الآية) يزوره الناس متبرّكين به.
وبها ثبير ، وهو جبل عظيم بقرب منى ، يقصده الناس زائرين متبرّكين به لأنّه أهبط عليه الكبش الذي جعله الله فداء لإسمعيل ، عليه السلام ، وكان قرنه معلّقا على باب الكعبة إلى وقت الغرق قبل المبعث بخمس سنين. رآه كثير من الصحابة ثمّ ضاع بخراب الكعبة بالغرق. وتقول العرب : أشرق ثبير كيما نغير ، إذا أرادوا استعجال الفجر.
وبها جبل حراء وهو جبل مبارك على ثلاثة أميال من مكّة ، يقصده الناس زائرين. وكان النبيّ ، عليه السلام ، قبل أن يأتيه الوحي حبّب إليه الخلوة ، وكان يأتي غارا فيه. وأتاه جبرائيل ، عليه السلام ، في ذلك الغار ، وذكر ان النبيّ ، صلّى الله عليه وسلّم ، ارتقى ذروته ومعه نفر من أصحابه فتحرّك فقال عليه السلام : اسكن حرا فما عليك إلّا نبيّ أو صدّيق أو شهيد! فسكن.
وبها قد قد ، وهو من الجبال التي لا يوصل إلى ذروتها ، وفيه معدن البرام يحمل إلى سائر بلاد الدنيا.


وبها بئر زمزم وهي البئر المشهورة المباركة بقرب الكعبة ؛ قال مجاهد : ماء زمزم إن شربت منه تريد شفاء شفاك الله ، وان شربته لظمإ أرواك الله ، وان شربته لجوع أشبعك الله.
قال محمّد بن أحمد الهمذاني : كان ذرع زمزم من أعلاها إلى أسفلها أربعين ذراعا ، وفي قعرها ثلاث عيون : عين حذاء الركن الأسود ، وأخرى حذاء أبي قبيس ، وقلّ ماؤها في سنة ثلاث وعشرين ومائتين ، فحفروا فيها تسعة أذرع فزاد ماؤها ، ثمّ جاء الله تعالى بالأمطار والسيول في سنة خمس وعشرين ومائتين فكثر ماؤها ، وذرعها من رأسها إلى الجبل المنقور فيه إحدى عشرة ذراعا وهو مطويّ ، والباقي وهو تسع وعشرون ذراعا منقور في الحجر ، وذرع تدويرها إحدى عشرة ذراعا ، وسعة فمها ثلاث أذرع وثلثا ذراع ، وعليها ميلان ساج مربعة فيها اثنتا عشرة بكرة يستقى عليها. وأوّل من عمل الرخام عليها وفرش به أرضها المنصور. وعلى زمزم قبّة مبنيّة في وسط الحرم عند باب الطواف تجاه باب الكعبة.
في الخبر : ان الخليل ، عليه السلام ، ترك إسمعيل وأمّه عند الكعبة وكرّ راجعا. قالت له هاجر : إلى من تكلنا؟ قال : إلى الله. قالت : حسبنا الله! فأقامت عند ولدها حتى نفد ماؤها فأدركتها الحنّة على ولدها ، فتركت إسمعيل بموضعه وارتقت إلى الصفا تنظر هل ترى عينا أو شخصا ، فلم تر شيئا فدعت ربّها واستسقته ، ثمّ نزلت حتى أتت المروة ففعلت مثل ذلك ، ثمّ سمعت صوت السباع فخشيت على ولدها ، فأسرعت نحو إسمعيل فوجدته يفحص الماء من عين قد انفجرت من تحت خدّه ، وقيل بل من تحت عقبه. فلمّا رأت هاجر الماء يسري جعلت تحوّطه بالتراب لئلّا يسيل. قيل : لو لم تفعل ذلك لكان عينا جارية. قالوا : وتطاولت الأيّام على ذلك حتى عفتها السيول والأمطار ولم يبق لها أثر.
وعن عليّ ، كرّم الله وجهه : ان عبد المطلب بينا هو نائم في الحجر إذ


أمر بحفر زمزم. قال : وما زمزم؟ قالوا : لا تنزف ولا تهدم يسقي الحجيج الأعظم عند نقرة الغراب الأعصم. فغدا عبد المطّلب ومعه الحرث ابنه ، فوجد الغراب ينقر بين أساف ونائلة ، فحفر هناك ، فلمّا بدا الطيّ كبّر ، فاستشركه قريش وقالوا : انّه بئر أبينا إسمعيل ولنا فيه حقّ! فتحاكموا إلى كاهنة بني سعد باشراف الشام وساروا حتى إذا كانوا ببعض الطريق نفد ماؤهم وظمئوا وأيقنوا بالهلاك ، فانفجرت من تحت خفّ عبد المطّلب عين ماء فشربوا منها وعاشوا. وقالوا : قد والله قضي لك علينا لا نخاصمك فيها أبدا ، إن الذي سقاك الماء بهذه الفلاة لهو الذي سقاك زمزم! فانصرفوا فحفر عبد المطّلب زمزم ، فوجد فيها غزالين من ذهب وأسيافا قلعيّة كانت جرهم دفنتها فيها وقت خروجهم من مكّة ، فضرب الغزالين بباب الكعبة وأقام سقاية الحاج بمكّة ، والله الموفق.
وينسب إلى مكّة المهاجرون الذين أكثر الله تعالى عليهم من الثناء في كتابه المجيد ، وخصّ بعضهم بمزيد فضيلة وهم المبشرة العشرة ، ذكر أن رسول الله ، صلّى الله عليه وسلّم ، قال : إنّهم في الجنّة وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعليّ وطلحة والزبير ، وسعيد وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة بن الجرّاح ، رضوان الله عليهم أجمعين.
ملتان
هي آخر مدن الهند ممّا يلي الصين ، مدينة عظيمة منيعة حصينة جليلة عند أهل الصين والهند ، وانّها بيت حجّهم ودار عبادتهم كمكّة لنا. وأهلها مسلمون وكفّار. والمدينة في دولة المسلمين ، وللكفّار بها القبّة العظمى والبدّ الأكبر ، والجامع مصاقب لهذه القبّة ، والإسلام بها ظاهر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شامل ؛ كلّ ذلك عن مسعر بن مهلهل.
وقال الاصطخري : مدينة حصينة منيعة ، دار الملك ومجمع العسكر ،


والملك مسلم لا يدخل المدينة إلّا يوم الجمعة ، يركب الفيل ويدخل المدينة لصلاة الجمعة.
بها صنم يعظّمه الهند ويحجّ إليه من أقصى بلاد الهند ، ويتقرّب إليه كلّ سنة بأموال عظيمة ، لينفق على بيت الصنم والمعتكفين منهم. وبيت الصنم قصر مبنيّ في أعمر موضع بين سوق العاجنين وسوق الصّفّارين ، وفي وسط القصر قبّة فيها الصنم.
قال مسعر بن مهلهل : سمك القبّد في الهواء ثلاثمائة ذراع ، وطول الصنم عشرون ذراعا ، وحول القبّة بيوت يسكنها خدم الصنم العاكفون عليه ، وليس في ملتان عبّاد الصنم إلّا في هذا القصر.
وصورة الصنم إنسان جالس مربّعا على كرسي ، وعيناه جوهرتان ، وعلى رأسه إكليل ذهب ، مادّ ذراعيه على ركبتيه ، منهم من يقول من خشب ، ومنهم من يقول من غير خشب ، ألبس بدنه مثل جلد السختيان الأحمر ، إلّا أن يديه لا تنكشفان وجعل أصابعه من يديه كالقابض أربعة في الحساب ، وملك ملتان لا يبطل ذلك الصنم لأنّه يحمل إليه أموالا عظيمة يأخذها الملك ، وينفق على سدنة الصنم شيئا معلوما. وإذا قصدهم الهند محاربين أخرج المسلمون الصنم ويظهرون كسره أو إحراقه فيرجعون عنهم.
حكى ابن الفقيه أن رجلا من الهند أتى هذا الصنم ، وقد اتّخذ لرأسه تاجا من القطن ملطخا بالقطران ولأصابعه كذلك ، وأشعل النار فيها ، ووقف بين يدي الصنم حتى احترق.
وينسب إليها هارون بن عبد الله مولى الأزد ، كان شجاعا شاعرا ، ولمّا حارب الهند المسلمين بالفيل لم يقف قدام الفيل شيء ، وقد ربطوا في خرطومه سيفا هذاما طويلا ثقيلا ، يضرب به يمينا وشمالا لا يرفعه فوق رأس الفيالين على ظهره ويضرب به ، فوثب هارون وثبة أعجله بها عن الضرب ولزق بصدر الفيل ، وتعلّق بأنيابه ، فجال به الفيال جولة كاد يحطمه من شدّة ما جال به.


وكان هارون شديد الخلق رابط الجأش فاعتمد في تلك الحالة على نابيه ، وأصلهما مجوّف ، فانقلعا من أصلهما وأدبر الفيل وبقي النابان في يد هارون ، وكان ذلك سبب هزيمة الهند ، وغنم المسلمون ، فقال هارون في ذلك :
مشيت إليه رادعا متمهّلا
 

وقد وصلوا خرطومه بحسام
 
فقلت لنفسي : إنّه الفيل ضاربا
 

بأبيض من ماء الحديد هذام
 
فإن تنكإي منه فعذرك واضح
 

لدى كلّ منخوب الفؤاد عبام
 
ولمّا رأيت السّيف في رأس هضبة
 

كما لاح برق من خلال غمام
 
فعافسته حتى لزقت بصدره
 

فلمّا هوى لازمت أيّ لزام
 
وعذت بنابيه وأدبر هاربا
 

وذلك من عادات كلّ محامي
 
مليبار
ناحية واسعة بأرض الهند تشتمل على مدن كثيرة ، بها شجرة الفلفل وهي شجرة عالية لا يزول الماء من تحتها ، وثمرتها عناقيد إذا ارتفعت الشمس واشتدّ حرّها تنضمّ على عناقيدها أوراقها ، وإلّا أحرقتها الشمس قبل إدراكها ، وشجر الفلفل مباح إذا هبّت الريح سقطت عناقيدها على وجه الماء ، فيجمعها الناس ، وكذلك تشنّجها ، ويحمل الفلفل من أقصى المشرق إلى أقصى المغرب ، وأكثر الناس انتفاعا به الفرنج يحملونه في بحر الشام إلى أقصى المغرب.
منى
بلدة على فرسخ من مكّة طولها ميلان ، وهي بين جبلين مطلّين عليها ، بها مصانع وآبار وخانات وحوانيت تعمر أيّام الموسم ، وتخلو بقيّة السنة إلّا ممّن يحفظها.
من عجائبها أن الجمار التي ترمى منذ حجّ الناس إلى زماننا هذا لا يظهر بها


من غير أن تكسحها السيول أو يأخذها الناس ، ولولا الآية الأعجوبة التي فيها لكان ذلك الموضع كالجبال الشاهقة.
وبها مسجد الخيف ومسجد الكبش ، وقلّ أن يكون في الإسلام بلد إلّا ولأهله مضرب.
مندورفين
مدينة بأرض الهند ؛ قال مسعر بن مهلهل : بها غياض هي منابت القنا ، ومنها يحمل الطباشير ، والطباشير رماد هذا القنا ، وذلك انّها إذا جفّت وهبّت بها الرياح احتكّ بعضها ببعض واشتدّت فيها الحرارة ، فانقدحت فيها نار ربّما أحرقت مسافة خمسين فرسخا ، فرماد هذا القنا هو الطباشير يحمل إلى سائر البلاد.
مندل
مدينة بأرض الهند يكثر بها العود حتى يقال للعود المندل ، وليس هي منبته ، فإن منابته لا يصل إليها أحد ، قالوا : ان منابت العود جزائر وراء خطّ الاستواء ويأتي به الماء إلى جانب الشمال ، فما انقلع رطبا فإذا أصابته ريح الشمال يبقى رطبا وهو الذي يقال له القامروني ، وما جفّ ورمته يابسا فإنّه المندلي الثقيل المصمت ، فإن رسب في الماء فهو غاية جدّا ليس فوقه خير منه.
المنصورة
مدينة مشهورة بأرض السند كثيرة الخير ، بناها المنصور أبو جعفر الثاني من خلفاء بني العبّاس ، وفيها ينزل الولاة ، لها خليج من نهر مهران يحيط بالمدينة ، وهي في وسطه كالجزيرة إلّا أنّها شديدة الحرّ كثيرة البقّ.
بها ثمرتان لا توجدان في مدينة غيرها : إحداهما الليمو على قدر التفّاح ،


والأخرى الانبج على شبه الخوخ.
وأهل المدينة موافقون على أنّهم لا يشترون شيئا من المماليك السنديّة ، وسببه أن بعض رؤسائها من آل مهلّب ربّى غلاما سنديّا ، فلمّا بلغ رآه يوما مع زوجته فجبّه ثمّ عالجه حتى هدأ ، وكان لمولاه ابنان : أحدهما بالغ ، والآخر طفل ، فأخذ الغلام الصبيّين وصعد بهما إلى أعالي سور الدار ثمّ قال لمولاه : والله لئن لم تجبّ نفسك الآن لأرمينّ بهما! فقال الرجل : الله الله فيّ وفي ولديّ! فقال : دع عنك هذا ، والله ما هي إلّا نفس ، وإني لأسمح بها من شربة ماء! وأهوى ليرمي بهما فأسرع الرجل وأخذ مدية وجبّ نفسه ، فلمّا رأى الغلام ذلك رمى بالصبيّين وقال : فعلت بك ما فعلت بي وزيادة قتل الولدين. فقتل الغلام بأفظع العذاب وأخرج من المدينة جميع المماليك السندية ، فكانوا يتداولون في البلاد ولا يرغب أحد بالثمن اليسير في شرائهم.
بها نهر مهران عرضه كعرض دجلة أو أكثر ، يقبل من المشرق آخذا جهة الجنوب متوجها إلى المغرب حتى يقع في بحر فارس أسفل السند ؛ قال الاصطخري : مخرجه من ظهر جبل يخرج منه بعض أنهار جيحون ، ويظهر بملتان على حدّ سمندور ثمّ على المنصورة ، ثمّ يقع في البحر ، وهو نهر كبير عذب جدّا يقال فيه تماسيح كما في النيل ، وجريه مثل جريه ، يرتفع على الأرض ثمّ ينصبّ ويزرع عليه مثل ما يزرع على النيل بأرض مصر.
وقال الجاحظ : ان تماسيح نهر مهران أصغر حجما من تماسيح النيل وأقلّ ضررا ، وذكر أنّه يوجد في هذا النهر سبائك الذهب. والله الموفق.
مهيمة
قرية بين مكّة والمدينة على ميل من الأبواء. بها ماء مهيمة ، وهو ماء ساكن لا يجري إذا شربته الإبل يأخذها الهيام ، وهو حميّ الإبل ، لا تعيش الإبل بها.
والقرية موبأة لفساد مائها.


نجران
من مخاليف اليمن من ناحية مكّة ، بناها نجران بن زيدان بن سبا بن يشجب ، قال ، صلّى الله عليه وسلّم : القرى المحفوظة أربع : مكّة والمدينة وإيليا ونجران ، وما من ليلة إلّا وينزل على نجران سبعون ألف ملك ، يسلّمون على أصحاب الأخدود ثمّ لا يعودون إليها أبدا.
كان بها كعبة نجران ، بناها عبد المدان بن الريان الحرثي مضاهاة للكعبة ، وعظّموها وسمّوها كعبة نجران ، وكان بها أساقفة مقيمون ، وهم الذين جاءوا رسول الله ، صلّى الله عليه وسلّم ، للمباهلة.
قال هشام بن الكلبي : انّها كانت قبّة من أدم من ثلاثمائة جلد ، إذا جاءها الخائف أمن ، أو طالب حاجة قضيت حاجته أو مسترفد أرفد. وكانت القبة على نهر يستغلّ عشرة آلاف دينار تستغرق القبّة جميعها.
ينسب إليها عبد الله بن النامر ، سيّد شهداء نجران ؛ قال محمّد بن القرطي : كان أهل نجران أهل الشرك ، وكان عندهم ساحر يعلّم صبيانهم السحر ، فنزل بهم رجل صالح وابتنى خيمة بجنب قرية الساحر ، فجعل أهل نجران يبعثون أولادهم إلى الساحر لتعلّم السحر ، وفيهم غلام اسمه عبد الله ، وكان ممرّه على خيمة الرجل الصالح ، فأعجبه عبادة الرجل ، فجعل يجلس إليه ويسمع منه أمور الدين حتى أسلم ، وتعلّم منه الشريعة والاسم الأعظم.
فقال له الرجل الصالح : عرفت الاسم الأعظم فاحفظ على نفسك ، وما أظن أن تفعل. فجعل عبد الله إذا رأى أحدا من أصحاب العاهات يقول له : إن دخلت في ديني فإني أدعو الله ليعافيك! فيقول : نعم. فيدخل فيشفى حتى لم يبق بنجران أحد ذو ضربة ، فرفع أمره إلى الملك فأحضره وقال : أفسدت على أهل نجران وخالفت ديني ودين آبائي ، لأمثلنّ بك! فقال عبد الله : أنت لا تقدر على ذلك! فجعل يلقيه من شاهق فيقوم سليما ويرميه في ماء مغرق


فيخرج سليما! فقال له عبد الله : لا تقدر على قتلي حتى تؤمن بمن آمنت به.
فوحّد الله ودخل في دينه ثمّ ضربه بعصا كانت في يده فشجّه شجّة يسيرة ، فمات عليها. فلمّا رأى أهل نجران ذلك قالوا : آمنّا بربّ عبد الله. فحفر الملك اخدودا وملأها حطبا وأضرم فيه النار وأحضر القوم ، فمن رجع عن دينه تركه ، ومن لم يرجع ألقاه في النار ؛ فذلك قوله تعالى : قتل أصحاب الأخدود. وذكر أن عبد الله بن النامر أخرج في زمن عمر بن الخطّاب وإصبعه على شجّته ، كما وضعها عليها حين قتل.
النّدهة
أرض واسعة بالسند بها خلق كثير إلّا أنّهم كالزطّ. وبها خير كثير ، وأكثر زروعهم الرزّ. وبها الموز والعسل والنارجيل. وبها الجمل الفالج ذو السنامين ، وهذا الصنف من الإبل لا يوجد إلّا هناك ، يجلب منها إلى خراسان وفارس ، ويجعل فحلا للنوق العربيّة فتولد منهما البخاتي.
الهند
هي بلاد واسعة كثيرة العجائب. تكون مسافتها ثلاثة أشهر في الطول وشهرين في العرض ، وهي أكثر أرض الله جبالا وأنهارا ، وقد اختصّت بكريم النبات وعجيب الحيوان ، ويحمل منها كلّ طرفة إلى سائر البلاد مع أن التجّار لا يصلون إلّا إلى أوائلها. وأمّا أقصاها فقلّما يصل إليها أهل بلادنا لأنّهم كفّار يستبيحون النفس والمال.
والهند والسند كانا أخوين من ولد توقير بن يقطن بن حام بن نوح ، عليه السلام ، وهم أهل ملل مختلفة : منهم من يقول بالخالق دون النبيّ ، وهم البراهمة ، ومنهم من لا يقول بهما ، ومنهم من يعبد الصنم ، ومنهم من يعبد القمر ، ومنهم من يعبد النار ، ومنهم من يبيح الزنا.


بها من المعدنيات جواهر نفيسة ، ومن النبات أشياء غريبة ، ومن الحيوانات حيوانات عجيبة ومن العمارة رفيعة ؛ قال أبو الضلع السندي يذكر بلاد الهند وما يجلب منها :
لقد أنكر أصحابي وما ذلك بالأمثل
إذا ما مدح الهند وسهم الهند في المقتل
لعمري إنّها أرض إذا القطر بها ينزل
يصير الدّرّ والياقوت والدّرّ لمن يعطل
فمنها المسك والكافور والعنبر والمندل
وأصناف من الطيّب ليستعمل من يتفل
وأنواع الأفاويه وجوز الطّيب والسّنبل
ومنها العاج والسّاج ومنها العود والصّندل
وإنّ التّوتيا فيها كمثل الجبل الأطول
ومنها الببر والنّمر ومنها الفيل والدّغفل
ومنها الكرك والببغاء والطّاووس والجوزل
ومنها شجر الرّانج والسّاسم والفلفل
سيوف ما لها مثل قد استغنت عن الصّيقل
وأرماح إذا ما هزّت اهتزّ بها الجحفل
فهل ينكر هذا الفضل إلّا الرّجل الأخطل
ومن عجائب الهند حجر موسى ، فإنّه يوجد بالليل ولا يوجد بالنهار ، يكسر كلّ حجر ولا يكسره حجر.
ومن عجائبها شجرة كسيوس فإنّها شجرة حلوة الثمرة تقع الحمام عليها وتأكل من ثمرتها فيغشى على الحمام فتأتي الحيّة لقصد الحمام ، فإن كان على


غصن الشجرة أو ظلّها لا تقدر الحيّة أن تقربها.
ومن عجائبها البيش ، وهو نبت لا يوجد إلّا بالهند ، سمّ قاتل ، ايّ حيوان يأكل منه يموت ، ويتولد تحته حيوان يقال له فأرة البيش ، يأكل منه ولا يضرّه ، وممّا ذكر أن ملوك الهند إذا أرادوا الغدر بأحد عمدوا إلى الجواري إذا ولدن ، وفرشوا من هذا النبت تحت مهودهن زمانا ، ثمّ تحت فراشهن زمانا ، ثمّ تحت ثيابهن زمانا ، ثمّ يطعمونهن منه في اللبن ، حتى تصير الجارية إذا كبرت تتناول منه ولا يضرّها ، ثمّ بعثوا بها مع الهدايا إلى من أرادوا الغدر به من الملوك فإنّه إذا غشيها مات.
وبها غنم لها ستّ ألايا : إحداها على المكان المعهود ، والثانية على الصدر ، والثالثة والرابعة على الكتفين ، والخامسة والسادسة على الفخذين ، رأيت واحدة منها حملت إلى بلادنا.
وبها حيّات إذا لسعت إنسانا يبقى كالميت ، فيشدّونه على لوح ويلقونه في الماء ، والماء يذهب به إلى موضع فيه مارستان ، وعلى الماء من يترصّد الملسوعين فيأخذهم ويعالجونهم ، فيرجع بعد مدّة إلى أهله سالما.
وبها طير عظيم الجثّة جدّا ؛ قالوا : إنّه في بعض جزائرها إذا مات نصف منقاره يتّخذ مركبا يركب الناس فيه في البحر ، وعظم ريشه يتّخذ آزون الطعام ويسع الواحد منه أحمالا كثيرة.
ومن عجائبها مدينة إذا دخلها غريب لم يقدر على المجامعة أصلا ، ولو أقام بها ما أقام ، فإذا خرج عنها زال عنه المانع ورجع إلى حاله.
قال صاحب تحفة الغرائب : بأرض الهند بحيرة مقدار عشرة فراسخ في مثلها ، ماؤها ينبع من أسفلها لا يأتيها شيء من الأنهار. وفي تلك البحيرة حيوانات على صورة الإنسان ، إذا كان الليل يخرج منها عدد كثير يلعبون على ساحل البحر ويرقصون ويصفّقون باليدين ، وفيهم جوار حسناوات. ويخرج منها أيضا حيوانات على غير صورة الإنسان عجيبة الأشكال ، والناس في الليلة


القمراء يقعدون من البعد وينظرون إليهم ، وكلّما كان النظار أكثر كان الخارجون أكثر. وربّما جاءوا بالفواكه الكثيرة أكلوها وتركوا ما فضل منها على الساحل ، وإن مات منهم أحد أخرجوه من البحيرة وستروا سوأته بالطين ، والناس يدفنونه ، وما دام يبقى على الساحل لا يخرج من الماء أحد البتة.
قال صاحب عجائب الأخبار : بأقصى بلاد الهند أرض رملها مخلوط بالذهب ، وبها نوع من النمل عظام ، وهي أسرع عدوا من الكلب! وتلك الأرض شديدة الحرارة جدّا ، فإذا ارتفعت الشمس واشتدّت الحرارة تهرب النمل إلى أسراب تحت الأرض وتختفي فيها إلى أن تنكسر سورة الحرّ فتأتي الهند بالدواب عند اختفاء النمل ويحمل من ذلك الرمل ، ويسرع في المشي مخافة أن يلحقهم النمل فيأكلهم.
قال المسعودي : بأرض الهند هيكل عظيم عندهم يقال له بلاذري ، ليس لهم هيكل أعظم منه ، له بلد قد وقف عليه ، وحوله ألف مقصورة فيها جوار موقوفة على الصنم لمن جاءه زائرا. ومن جاء سجد له وأقام في ضيافته ثلاثا وبات عند جارية من جواريه ثمّ رجع.
بها جبل ؛ قال صاحب تحفة الغرائب : على هذا الجبل صورة أسدين يخرج من فمهما ماء كثير يصير ساقيتين ، عليهما شرب قريتين ، على كلّ ساقية قرية ، فوقعت بين القريتين خصومة فكسروا فم أحدهما فانقطع ماؤه ، فأصلح المكسور ليرجع إلى حاله فما أفاد شيئا.
وبها نهر كبك ، وهو نهر عظيم ، وللهند فيه اعتقاد عظيم ، من مات من عظمائهم يلقون عظامه في هذا النهر ، ويقولون إنّها تساق إلى الجنّة ، وبين هذا النهر وسومناة مائتا فرسخ ، يحمل كلّ يوم من مائه إلى سومناة ليغسلوا به بيوت الأصنام وغيرها يتبرّكون به.
وبها عين العقاب ؛ قال صاحب تحفة الغرائب : بأرض الهند جبل فيه عين ماء إذا هرمت العقاب تأتي بها أفراخها هذه العين وتغسلها فيها ، تمّ تضعها في الشمس


فإن ريشها يتساقط عنها وينبت لها ريش جديد ، ويزول عنها الضعف وترجع إلى القوّة والشباب.
حكي انّه ذكر في مجلس كسرى أنوشروان أن بأرض الهند جبلا فيه شجر ثمرتها تحيي الموتى ، فبعث رجلا إلى بلاد الهند ليأتيه بصحة هذا الكلام ، فذهب إلى بلاد الهند يسأل عن الجبل حتى اجتمع ببعض البراهمة ، فقال له : هذا الكلام مرموز من كلام الحكماء ، أرادوا بالجبل الرجل العالم ، وبالشجرة علمه ، وبثمرتها فائدة علمه ، وبالحياة حياة الآخرة. فقال كسرى : صدق عالم الهند ؛ الأمر كما ذكر.
يترب
قرية من قرى اليمامة كثيرة النخل ؛ قال ابن الكلبي : كان بها رجل من العمالقة يقال له عرقوب ، فأتاه أخ له مستميحا ، فقال له عرقوب : إذا أطلعت نحلي فلك طلعها. فلمّا أطلعت قال : دعها حتى تصير بلحا ؛ فلمّا أبلحت قال :دعها حتى تصير زهوا ، ثمّ حتى تصير بسرا ، ثمّ حتى تصير رطبا ثمّ تمرا.
فلمّا أتمرت عمد إليها ليلا فجدّها ، فصار مثلا في الخلف ؛ قال الأصمعي :
وعدت وكان الخلف منك سجيّة
 

مواعيد عرقوب أخاه بيترب
 
اليمامة
ناحية بين الحجاز واليمن ، أحسن بلاد الله وأكثرها خيرا ونخلا وشجرا.
كانت في قديم الزمان منازل طسم وجديس ، وهما من ولد لاوذ بن ارم بن لاوذ بن سام بن نوح ، عليه السلام. أقاموا باليمامة فكثروا بها وملك عليهم رجل من طسم يقال له عمليق بن حيّاش ، وكان جبّارا ظلوما يحكم بينهم بما شاء.
حكي انّه احتكم إليه رجل وامرأة في مولود بينهما ، فقال الزوج واسمه قابس :أيّها الملك أعطيتها المهر كاملا ولم أصب منها طائلا إلّا ولدا جاهلا ، فافعل


ما كنت فاعلا! فقالت الزوجة واسمها هزيلة : أيّها الملك هذا ولدي حملته تسعا ووضعته دفعا وأرضعته شبعا ، ولم أنل منه نفعا ، حتى إذا تمّت فصاله واشتدّت أوصاله أراد زوجي أخذه كرها وتركي ولهى! فقال الزوج : إني حملته قبل أن تحمله وكفلت أمّه قبل أن تكفله! فقالت الزوجة : إنّه أيّها الملك حمله خفّا وأنا حملته ثقلا ، ووضعه شهوة وأنا وضعته كرها! فلمّا رأى عمليق متانة حجّتها تحيّر ، ورأى أن يجعل الغلام في جملة غلمانه حتى يتبيّن له الرأي فيه ، فقالت له هزيلة :
أتينا أخا طسم ليحكم بيننا
 

فأظهر حكما في هزيلة ظالما
 
ندمت وكم أندم وأنّى بعثرتي
 

وأصبح بعلي في الحكومة نادما
 
فلمّا سمع عمليق ذلك غضب على نساء جديس ، وأمر أن لا تزوّج بكر من نساء جديس حتى تدخل عليه فيكون هو مفترعها! فلقوا من ذلك ذلّا حتى تزوّجت غفيرة بنت غفار ، أخت الأسود بن غفار سيّد جديس ، فلمّا كانت ليلة الزفاف أخرجت لتحمل إلى الملك والقينات حولها يضربن بمعازفهن ويقلن :
ابدي بعمليق وقومي واركبي
 

وبادري الصّبح بأمر معجب!
 
فسوف تلقين الذي لم تطلبي
 

وما لبكر دونه من مهرب!
 
فأدخلت على عمليق فامتنعت عليه ، وكانت أيّدة فافترعها بحديدة وأدماها ، فخرجت ودمها يسيل على قدميها فمرّت باكية إلى أخيها وهو في جمع عظيم ، وهي تقول :
لا أحد أذلّ من جديس
 

أهكذا يفعل بالعروس؟
 
فقال أخوها : ما شأنك؟ فأنشأت تقول :



أيجمل أن يؤتى إلى فتياتكم
 

وأنتم رجال فيكم عدد الرّمل؟
 
أيجمل تمشي في الدّماء فتاتكم
 

صبيحة زفّت في العشاء إلى بعل؟
 
فلو أنّنا كنّا رجالا وكنتم
 

نساء لكنّا لا نقرّ على الذّلّ!
 
فدبّوا إليهم بالصّوارم والقنا
 

وكلّ حسام محدث الأمر بالصّقل
 
ولا تجزعوا للحرب قومي فإنّما
 

يقوم رجال للرّجال على رجل!
 
فلمّا سمعت جديس ذلك امتلأت غيظا ، قال الأسود لجديس : يا قوم اتبعوني فإني عبر الدّهر! فقال القوم : إنّا لك مطيعون لكن عرفت أن القوم أكثر منّا عددا وعددا! فقال الأسود : اني أرى أن أتّخذ للملك طعاما ، فإذا حضروا أنا أقوم إلى الملك وكلّ واحد منكم إلى رئيس من رؤسائهم ونقتلهم! فصنع الأسود طعاما وأمر أن يدفن كلّ واحد سيفه تحت الرمل مكان جلوسه ، فلمّا جاءهم الملك وقومه وجلسوا للأكل قتل الأسود الملك ، وقتل كلّ واحد منهم شريفا من أشراف طسم ، فلمّا فرغوا منهم شرعوا في بقايا طسم فهرب واحد منهم اسمه رياح بن مرّة حتى لحق بحسّان بن تبّع الحميري وقال له :عبيدك ورعيتك قد اعتدى علينا جديس ، فقال له : ما شأنك؟ فرفع عقيرته ينشد :
أجبني إلى قوم دعونا لغدرهم
 

إلى قتلهم فيها لك الأجر
 
فإنّك لن تسمع بيوم ولن ترى
 

كيوم أباد الحيّ طسما به المكر
 
أتيناهم في أزرنا ونعالنا
 

علينا الملاء الحمر والحلل الخضر
 
بصرنا طعوما بالعراء وطعمة
 

ينازع فينا الطّير والذّئب والنّمر
 
فدونك قوما ليس لله فيهم
 

ولا لهم منه حجاب ولا ستر
 
فأجابه حسّان إلى سؤاله ووعده بنصره ثمّ سار في جيوشه إليهم ، فصبحهم واصطلمهم ، فهرب الأسود بن غفار بأخته في نفر منهم وقتل البقيّة وسباهم.
وينسب إليها زرقاء اليمامة ، وانّها كانت ترى الشخص من مسيرة يوم


وليلة ، ولمّا سار حسّان نحو جديس قال له رياح بن مرّة : أيّها الملك إن لي أختا مزوّجة في جديس واسمها الزرقاء ، وانّها زرقاء ترى الشخص من مسيرة يوم وليلة ، أخاف أن ترانا فتنذر القوم بنا. فمر أصحابك ليقطعوا أغصان الأشجار وتستّروا بها لتشبّهوا على اليمامة. وساروا بالليل فقال الملك : وفي الليل أيضا؟ فقال : نعم! ان بصرها بالليل أنفذ! فأمر الملك أصحابه أن يفعلوا ذلك ، فلمّا دنوا من اليمامة ليلا نظرت الزرقاء وقالت : يا آل جديس سارت إليكم الشجراء وجاءتكم أوائل خيل حمير. فكذّبوها فأنشأت تقول :
خذوا خذوا حذركم يا قوم ينفعكم
 

فليس ما قد أرى مل أمر يحتقر
 
إني أرى شجرا من خلفها بشر
 

لأمر اجتمع الأقوام والشّجر
 
فلمّا دهمهم حسّان قال لها : ماذا رأيت؟ قالت : الشجر خلفها بشر! فأمر بقلع عينيها وصلبها على باب جوّ ، وكانت المدينة قبل هذا تسمّى جوّا ، فسمّاها تبّع اليمامة وقال :
وسمّيت جوّا باليمامة بعد ما
 

تركت عيونا باليمامة همّلا
 
نزعت بها عيني فتاة بصيرة
 

رعاما ولم أحفل بذلك محفلا
 
تركت جديسا كالحصيد مطرّحا
 

وسقت نساء القوم سوقا معجّلا
 
أدنت جديسا دين طسم بفعلها
 

ولم أك لولا فعلها ذاك أفعلا
 
وقلت خذيها يا جديس بأختها!
 

وأنت لعمري كنت في الظّلم أوّلا!
 
فلا تدع جوّا ما بقيت بإسمها
 

ولكنّها تدعى اليمامة مقبلا
 
وينسب إليها مسيلمة الكذّاب الذي يقال له رحمن اليمامة ، ادّعى النبوة في عهد رسول الله ، صلّى الله عليه وسلّم ، فطلبوا منه المعجزة فأخرج قارورة ضيّقة الرأس فيها بيضة ، فآمن به بعضهم ، وهم بنو حنيفة أقلّ الناس عقلا ،


فاستخفّ قومه فأطاعوه! وبنو حنيفة اتّخذوا في الجاهليّة صنما من العسل والسمن يعبدونه ، فأصابتهم في بعض السنين مجاعة فأكلوه ، فضحك على عقولهم الناس وقالوا فيهم :
أكلت حنيفة ربّها
 

زمن التّقحّم والمجاعه
 
لم يحذروا من ربّهم
 

سوء العواقب والتّباعه
 
والبيضة إذا تركت في الخلّ زمانا لانت ، فأدخلها في القارورة ثمّ صبّ الماء عليها فعادت إلى حالها ، وكان ظهوره في السنة العاشرة من الهجرة ، وحكي انّه كتب إلى رسول الله ، صلّى الله عليه وسلّم : من مسيلمة رسول الله إلى محمّد رسول الله. سلام عليك! أمّا بعد فإني أشركت في الأمر معك ، وان لنا نصف الأرض ولقريش نصفها ، لكن قريشا يعتدون ؛ وانفذه مع رسولين فكتب إليه رسول الله ، صلّى الله عليه وسلّم : من محمّد رسول الله إلى مسيلمة الكذّاب ، السلام على من اتّبع الهدى! أمّا بعد فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتّقين. قتل مسيلمة خالد بن الوليد في زمن أبي بكر.
وحكي أنّه رأى حمامة مقصوصة الجناح فقال : لم تعذّبون خلق الله؟ لو أراد الله من الطير غير الطيران ما خلق لها جناحا ، وإني حرّمت عليكم قصّ جناح الطائر! فقال بعضهم : سل الله الذي أعطاك آية البيض أن ينبت له جناحا! فقال : إن سألت فانبت له جناحا فطار تؤمنون بي؟ قالوا : نعم. فقال : إني أريد أناجي ربّي ، فأدخلوه معي هذا البيت حتى أخرجه وافي الجناح حتى يطير.
فلمّا خلا بالطائر أخرج ريشا كان معه وأدخل في قصبة كلّ ريشة مقطوعة ريشة ممّا كان معه ، فأخرجه وأرسله فطار فآمن به جمع كثير.
وحكي أنّه قال في ليلة منكرة الرياح مظلمة : إن الملك ينزل إليّ الليلة ولأجنحة الملائكة صلصلة وخشخشة ، فلا يخرجن أحدكم فإن من تأمّلهم اختطف بصره. ثمّ اتّخذ صورة من الكاغد لها جناحان وذنب ، وشدّ فيها


الجلاجل والخيوط الطوال فأرسل تلك الصورة وحملتها الريح ، والناس بالليل يرون الصورة ويسمعون صوت الجلاجل ولا يرون الخيط. فلمّا رأوا ذلك دخلوا منازلهم خوفا من أن تختطف أبصارهم ، فصاح بهم صائح : من دخل منزله فهو آمن! فأصبحوا مطبقين على تصديقه ؛ قال الهذلي :
ببيضة قارور وراية شادن
 

وتوصيل مقصوص من الطير جازف
 
فلمّا سمع سورة والذاريات قال : وقد أنزل عليّ مثلها ، وهي :والزارعات زرعا. فالحاصدات حصدا. فالطاحنات طحنا. فالخابزات خبزا.
فالآكلات أكلا! فقال بعض أهل المجون : قل والخاريات خريا!
ولمّا سمع سورة الفيل قال : قد أنزل عليّ مثلها ، وهي : الفيل. وما أدراك ما الفيل! له ذنب طويل ومشفر وثيل ، وان ذلك من خلق ربنا النبيل! ولمّا سمع سورة الكوثر قال : قد أنزل عليّ مثلها ، وهي : إنّا أعطيناك الجواهر ، فصلّ لربّك وهاجر ، ان شانئك هو الكافر!
فسبحان من أظهر إعجاز القرآن ، فلو كان من عند غير الله لكان مثل هذا.


الاقليم الثالث
أوّله حيث يكون الظلّ نصف النهار إذا استوى الليل والنهار ثلاثة أقدام ونصف وعشر وسدس عشر قدم ، وآخره حيث يكون ظلّ الاستواء فيه نصف النهار أربعة أقدام ونصفا وعشرين وثلاثة عشر قدما. وهو يبتدىء من المشرق فيمرّ على شمال بلاد الصين ثمّ الهند ثمّ السند ، ثمّ كابل وكرمان وسجستان وفارس والاهواز ، والعراقين والشام ومصر والاسكندريّة وبرقة وإفريقية ، وينتهي إلى حدّ البحر المحيط. وأطول نهار هؤلاء في أوّل الإقليم ثلاث عشرة ساعة ونصف وربع ، وفي وسطه أربع عشرة ساعة ، وفي آخره أربع عشرة ساعة وربع ، وطوله من المشرق إلى المغرب ثمانمائة ألف وسبعمائة وأربعة وسبعون ميلا وخمس وأربعون دقيقة ، وتكسيره مساحة ثلاثمائة ألف ألف وستّة آلاف وأربعمائة وثمانية وخمسون ميلا وتسع وعشرون دقيقة ، ولنذكر بعض بلاده مرتبا على حروف المعجم.
أبرقوه
بلدة مشهورة بأرض فارس. هم يسمّونها دركوه يعني قرب الجبل ، لأن بها تلّا عظيما. حكي في أخبار الفرس أن سعدى بنت تبّع كانت زوجة كيكاوس ، ملك الفرس ، عشقت ابن زوجها سياوش وراودته عن نفسه ، فامتنع عليها فأخبرت أباه أنّه راودها كذبا عليه. فغضب الملك على ابنه فأجّج سياوش نارا عظيمة بأبرقوه ليدخلها ، فإن كان بريئا لا تعمل فيه النار ، وإن كان خائنا يحترق ، وكان هذا يمينهم ، فدخلها سياوش وخرج منها سالما فانتفت


منه التهمة ، فتأذّى من أبيه وفارقه ، وذهب إلى افراسياب ملك الترك فأكرمه وزوّجه ببنته ، ثمّ قيل لافراسياب : انّه يريد الغدر بك ، فأخذه وقتله ، فوقعت الخصومة بين الفرس والترك إلى هذا الوقت ، فذكر أن التلّ العظيم بأبرقوه رماد نار سياوش.
ومن عجائب ابرقوه أن المطر لا يقع في داخلها إلّا قليلا ، وإنّما يقع في حواليها دون السور ، ويزعمون أن ذلك بدعاء الخليل ، عليه السلام ، وزعموا أن الخليل ، عليه السلام ، منعهم عن استعمال البقر في الزرع ، وهم لا يستعملونها مع كثرتها بها.
أبسوج
قرية بمصر في غربي النيل ، بها بيعة خاصيّتها دفع الفأر ، وذاك على بابها صورة فأرة في جحر ، والناس يأخذون طين النيل ويطبعونه على صورة الفأرة التي في الجحر ، ويحملونه إلى بيوتهم ، وتهرب الفأر عن بيوتهم.
وذكر أهل القرية أن مركبا كان فيه شعير وقف تحت هذه القرية ، فقصد صبيّ من المركب وأخذ شيئا من طين النيل وطبع به الفأرة ، ونزل المركب بالطين المطبوع فتبادرت فأر المركب ترمي نفسها في الماء. فتعجّب الناس من ذلك وجربوه في البيوت أيضا ، وكان أي طابع حصل في دار لم تبق فيها فأرة إلّا خرجت ، فتقتل أو تفلت إلى موضع لا طابع فيه. فأخذ أكثر الناس الطابع وتركوه في بيتهم.
أبيار
مدينة بقرب الإسكندريّة. بها معدن النطرون. من عجائبه أن كلّ شيء يقع فيه يصير نطرونا حتى لو وقع فيه ثور يصير نطرونا بجميع أجزائه ، والنطرون نوع من البورق يستعمل في الأدوية.


أجر
قرية في إفريقية بقرب القيروان ، لها حصن وقنطرة عجيبة في موضع زعر كثير الحجارة ، من عجائبها ان الريح العاصف دائمة الهبوب بها ، وأرضها مأسدة ، الأسود بها كثيرة ، فلا تخلو من الريح العاصف والأسد القاصف.
إخميم
بلدة صغيرة عامرة بالنخيل والزروع على النيل الشرقي. من عجائبها الجبل الذي في غربيها ، من أصغى إليه سمع صوتا كخرير الماء ولغطا شبيها بكلام ، ولم تعرف حقيقة ذلك.
وبها البرابي التي هي من عجائب مصر. والبربا عبارة عن بيت عمل فيه شجر أو طلسم. وبربا اخميم بيت فيه صور ثابتة في الحجارة بادية إلى الآن موجود. ذكر في كتاب أخبار مصر انّه لمّا أغرق الله تعالى فرعون وجنوده في البحر ، خلت مصر عن الرجال الأجناد. وكانت امرأة من بيت الفراعنة يقال لها دلوكة أرادت أن يبقى عليها اخميم ، لا يطمع فيها الملوك لعدم الأجناد.
وكان في زمانها ساحرة يقدّمها سحرة مصر في علم السحر ، يقال لها تدورة ، فقالت لها دلوكة : احتجنا إليك في شيء تصنعينه يكون حرزا لبلادنا ممّن يرومه من الملوك ، إذ بقينا بغير رجال. فأجابتها إلى ما أرادت وصنعت لها بربا ، وهو بيت له أربعة أبواب إلى أربع جهات ، وصوّرت فيها السفن والرجال والخيل والبغال والحمير وقالت : قد عملت لك شيئا يغنيك عن الرجال والسلاح والحصن ، فإن من أتاكم من البر يكون على الخيل والبغال والحمير ، وان من أتاكم من البحر يكون في السفن ، فعند ذلك تحرّكت الصور التي هي مثلهم وتشاكلهم فما فعلتم بالصور أصابهم مثل ذلك في أنفسهم. فكان بعد ذلك إذا أتاهم عدوّ تحرّكت الصور فقطعوا سوق الدواب ، وفقأوا عيون الرجال وبقروا بطونهم


فيصيبهم مثل ذلك. وهذه الحكاية وإن كانت شبه الخرافات لكنها في جميع كتب أخبار مصر مكتوبة والبيت باق إلى الآن.
وينسب إليها أبو الفيض ذو النون المصري ابن إبراهيم الاخميمي. انّه كان أوحد وقته علما وورعا وأدبا. وله حالات عجيبة أعجب من البرابي ، حكى سالم بن عبد الله المغربي قال : سألت ذا النون عن سبب توبته فقال : انّه عجيب لا تطيقه! فقلت : وحقّ معبودك الّا أخبرتني! فقال : خرجت من مصر أريد بعض القرى ، فنمت في بعض الطريق ففتحت عيني ، فإذا أنا بقنبرة عمياء سقطت من وكرها على الأرض ، فانشقّت الأرض فخرجت منها سكرّجتان إحداهما ذهب والأخرى فضّة ، وفي إحداهما سمسم وفي الأخرى ماء ، فجعلت تأكل من هذا وتشرب من هذا ، فقلت : حسبي لزمت الباب حتى قبلني. 1 توفي سنة خمس وأربعين ومائتين.
وحكى يوسف بن الحسين قال : بلغني أن ذا النون يعرف اسم الله الأعظم ، فقصدت مصر وخدمته سنة ثمّ قلت له : أيّها الأستاذ أثبتّ عليك حقّ الخدمة ، أريد أن تعرفني اسم الله الأعظم ولا تجد له موضعا مثلي. فسكت حتى أتى على هذا ستّة أشهر ، ثمّ أخرج لي يوما طبقا ومكنّة مشدودا في منديل ، وكان ذو النون بالجيزة ، قال لي : أتعرف صديقنا فلانا بالفسطاط؟ قلت : نعم. قال : أريد أن تؤدي إليه هذا. قال : فأخذت الطبق وامشي طول الطريق وأتفكّر في ذلك ، فلم أصبر حتى حللت المنديل ورفعت المكنّة ، فإذا فأرة على الطبق أفلتت ومرّت فاغتظت من ذلك وقلت له : إنّه يسخر بي! فرجعت إليه مغتاظا.
فلمّا رآني عرف ما في وجهي فقال : يا أحمق ائتمنتك على فأرة فخنتني! أفآتمنك على اسم الله الأعظم؟ مرّ عني لا أراك.


أرّجان
مدينة مشهورة بأرض فارس ، بناها قباذ بن فيروز والد أنوشروان العادل ؛ قال ابن الفقيه : من عجائبها كهف في حبل ينبع منه ماء شبيه بعرق يترشّح من حجارته ، يكون منه الموميا الجيّد الأبيض ، وعلى هذا الكهف باب حديد وحفظة ، يغلق ويختم بختم السلطان إلى يوم من السنة يفتح فيه ويحضر القاضي ومشايخ البلد ويدخل الكهف رجل عريان ، فيجمع ما قد اجتمع فيه من الموميا ويجعله في قارورة ، فيكون مقدار مائة مثقال أو دونها ، ثمّ يغلق الباب ويختم إلى القابل.
وخاصّيّته أن الأنسان إذا سقي منه مقدار عدسة وقد انكسر من أعضائه شيء أو انهشم ينزل كما يشربه إلى الكسر والهشم ويصلحه.
وبها قنطرة عجيبة على نهر طاب ، وهي قوس واحدة سعة ما بين القائمتين ثمانون خطوة ، وارتفاعها مقدار ما يخرج منها راكب الجمل وبيده أطول الأعلام.
وبها بئر صاهك. ذكر أهل ارجان : أنّهم امتحنوا قعرها بالمثقلات والارسان فلم يقفوا منها على قرار. يفور الدهر كلّه منها ماء رحى يسقي تلك القرية.
وإليها ينسب الفضل بن علان من أعيان أرجان ، كان به حمّى الربع.
قيل له : ان النعمان بن عبد الله يقدم غدا والوجه أن تتلقّاه. فقال : كيف ذلك وغدا نوبة الحمى؟ لكن يا غلام هات اللحاف حتى أحمّ اليوم ، وغدا أتلقى الرجل!
الأردنّ
ناحية بأرض الشام في غربي الغوطة وشماليها ، وقصبتها طبريّة ، بينها وبين بيت المقدس ثلاثة أيّام ، بها البحيرة المنتنة التي يقال لها بحيرة طبريّة.
ودورة البحيرة ثلاثة أيّام ، والجبال تكتنفها فلا ينتفع بهذه البحيرة ولا يتولّد فيها حيوان ، وقد يهيج في بعض الأعوام فيهلك أهل القرى الذين هم حولها


كلّهم حتى تبقى خالية مدّة ، ثمّ يأتي يسكنها من لا رغبة له في الحياة. وان وقع في هذه البحيرة شيء لا يبقى منتفعا به ، حتى الحطب إذا وقع فيها لا تعمل النار فيه البتّة ، وذكر ابن الفقيه أن الغريق فيها لا يغوص بل يبقى طافيا إلى أن يموت ، ويخرج من هذه البحيرة حجر على شكل البطيخ يقال له الحجر اليهودي ، ذكره الفلاسفة واستعمله الأطباء لحصاة المثانة ، وهو نوعان : ذكر وأنثى ، فالذكر للرجال والأنثى للنساء.
وبها منزل يعقوب النبيّ ، عليه السلام ، وبها جبّ يوسف الصدّيق ، وإلى الآن باق ، والناس يزورونها ويتبرّكون بها.
وينسب إليها الحواريّون القصّارون ؛ قال لهم عيسى ، عليه السلام : من انصاري إلى الله؟ قال الحواريّون : نحن أنصار الله.
أريحا
مدينة بقرب بيت المقدس من أعمال الأردن بالغور. ذات نخل وموز وسكر كثير ، وهي قرية الجبّارين التي أمر الله موسى ، عليه السلام ، بدخولها ، فقال موسى لبني إسرائيل : يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ، يعني أرض الشام ، فخرج موسى من مصر بستمائة ألف مقاتل عازما للشام ، فلمّا وصلوا إلى البرية التي بين مصر والشام ، بعث موسى اثني عشر نقيبا من كلّ سبط واحدا رسولا إلى الجبّارين ، ليعرفوا حالهم ، فلمّا قربوا من أريحا تلقّاهم رجل من العمالقة ، سألهم عن حالهم فقالوا : إنّا رسل موسى رسول الله إليكم. فجعلهم في كمّه كما يجعل أحدنا في كمّه العصافير ، وذهب بهم إلى ملك العمالقة ونفضهم بين يديه ، وقال : هؤلاء الذين يريدون قتالنا! أتأذن لي أن أطأهم بقدمي أفسّخهم؟ فقال الملك : لا ، اتركهم حتى يرجعوا إلى قومهم يعرّفونهم حالنا وقوّتنا وضعفهم. فرجع النقباء وذكروا للقوم ما شاهدوا ، فامتنع القوم عن دخول الشام وقالوا : إن فيها قوما جبّارين. وكان


من النقباء يوشع بن نون ابن عمّ موسى وكالب بن يوفنّا زوج أخت موسى ، قالا : يا قوم ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنّكم غالبون! وجدّ موسى وهارون جدّا عظيما ، فقالوا : إنّا لن ندخلها أبدا ما داموا فينا فاذهب أنت وربّك فقاتلا إنّا ههنا قاعدون. فحبسهم الله تعالى في التيه أربعين سنة فماتوا كلّهم سوى يوشع وكالب ، وأوحى الله تعالى إلى يوشع فدخل الشام بأولاد الممتنعين وفتحها ، فأمرهم الله تعالى أن يدخلوا مدينة أريحا سجّدا لله تعالى شكّرا قائلين : حطّة! أي سؤالنا حطّ ذنوبنا. وكانوا يدخلونها على استاههم قائلين حنطة ، فسخط الله عليهم ورماهم بالطاغين ، فهلك منهم آلاف مؤلفة وذلك قوله تعالى : فبدّل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون.
الإسكندريّة
وهي المدينة المشهورة بمصر ، على ساحل البحر. اختلف أهل السير في بانيها : فمنهم من ذهب إلى أن بانيها الإسكندر الأوّل ، وهو ذو القرنين اشك بن سلوكوس الرومي ، الذي جال الأرض وبلغ الظلمات ومغرب الشمس ومطلعها ، وسدّ على يأجوج ومأجوج كما أخبر الله تعالى عنه ، وكان إذا بلغ موضعا لا ينفذ اتّخذ هناك تمثالا من النحاس مادّا يمناه مكتوبا عليها : ليس ورائي مذهب.
ومنهم من قال بناها الإسكندر بن دارا ابن بنت الفيلسوف الرومي ، شبّهوه بالإسكندر الأوّل لأنّه ذهب إلى الصين والمغرب ومات وهو ابن اثنتين وثلاثين سنة ، والأوّل كان مؤمنا والثاني كان على مذهب أستاذه أرسطاطاليس ، وبين الأوّل والثاني دهر طويل.
قيل : إن الإسكندر لمّا همّ ببناء الإسكندريّة ، وكانت قديما مدينة من بناء شدّاد بن عاد كان بها آثار العمارة والأسطوانات الحجريّة ، ذبح ذبائح كثيرة للقرابين ، ودخل هيكلا كان لليونانيّين وسأل ربّه أن يبيّن له أمر


هذه المدينة هل يتمّ أم لا؟ فرأى في منامه قائلا يقول له : إنّك تبني هذه المدينة ويذهب صيتها في الآفاق ، ويسكنها من الناس ما لا يحصى عددهم ، وتختلط الرياح الطيّبة بهوائها ويصرف عنها السموم ، ويطوى عنها شدّة الحرّ والزمهرير ويكعم عنها الشرور حتى لا يصيبها من الشياطين خبل ، وان جبلت الملوك إليها جنودهم لا يدخلها ضرر.
فأتى الإسكندر موضعها وشاهد طيب هوائها وآثار العمارة القديمة وعمدا كثيرة من الرخام ، فأمر بحثّ الصّنّاع من البلاد وجمع الآلة واختيار الوقت لبنائها ، فاختاروا وقتا وعلّقوا جرسا حتى إذا حرّك الجرس الصنّاع ، يضعون البناء من جميع أطرافها في وقت واحد ، فإذا هم مترقّبون طار طير وقع على الجرس فحرّكه فوضعوا البناء.
قيل ذلك للاسكندر فقال : أردت طول بقائها وأراد الله سرعة خرابها ، ولا يكون إلّا ما أراد الله فلا تنقضوها. فلمّا ثبت أساسها وجنّ الليل خرجت من البحر دابّة وخربت ما بنوا ، فلم يزل يحكمها كلّ يوم ويوكل بها من يحفظها ، فأصبحوا وقد خربت. فأمر الإسكندر باتّخاذ عمد عليها طلسم لدفع الجنّ ، فاندفع عنها أذيّتهم.
قال المسعودي : الأعمدة التي للطلسم عليها صور وأشكال وكتابة باقية إلى زماننا ، كلّ عمود طوله ثمانون ذراعا ، عليها صور وأشكال وكتابة ، فبناها الإسكندر طبقات تحتها قناطر بحيث يسير الفارس تحتها مع الرمح. وكان عليها سبعة أسوار ، وهي الآن مدينة كثيرة الخيرات ، قال المفسّرون : كانت هي المراد من قوله تعالى : وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوّآ لقومكما بمصر بيوتا.
وكان بها يوم الزينة واحتجاج موسى والسحرة. وكان موسى قبل الإسكندر بأكثر من ألف سنة.
بها مجلس سليمان ، عليه السلام ، قال الغرناطي : إنّه خارج الإسكندريّة ، بنته الجنّ منحوتا من الصخر بأعمدة الرخام لا مثل لها ، كلّ عمود على قاعدة


من الرخام وعلى رأسه مثل ذلك ، والرخام أبيض منقط بحمرة وسواد مثل الجزع اليماني ، طول كلّ عمود ثلاثون ذراعا ودورته ثمانية أذرع ، وله باب من الرخام وعتبته وعضادتاه أيضا من الرخام الأحمر الذي هو أحسن من الجزع ، وفي هذا المجلس أكثر من ثلاثمائة عمود كلّها من جنس واحد وقدّ واحد ، وفي وسط هذا المجلس عمود من الرخام على قاعدة رخاميّة ، طوله مائة وإحدى عشرة ذراعا ودوره خمسة وأربعون شبرا ، إني شبرتها بشبري.
ومن عجائبها عمود يعرف اليوم بعمود السواري قريب من باب الشجرة من أبواب الإسكندريّة ، فإنّه عظيم جدّا كأنّه منارة عظيمة ، وهو قطعة واحدة منتصب على قاعدة من حجر عظيم مربع ، وعلى رأسه حجر آخر مثل القاعدة كأنّه بيت ، فإن تحت ذلك من مقطعه وانتصابه ورفع الحجر الفوقاني على رأسه يدلّ على أن فاعليه كانوا في قوّة شديدة ، وكانوا بخلاف أهل زماننا.
ومن عجائبها ما ذكر أبو الريحان في الآثار الباقية ان بالإسكندريّة اسطوانة متحرّكة ، والناس يقولون إنّها تتحرّك بحركة الشمس ، وإنّما قالوا ذلك لأنّها إذا مالت يوضع تحتها شيء ، فإذا استوت لا يمكن أخذها ، وإن كان خزفا أو زجاجا يسمع تقريعه ، وكانت الإسكندريّة مجمع الحكماء ، وبها كان معاريجهم مثل الدرج ، يجلس عليها الحكماء على طبقاتهم فكان أوضعهم علما الذي يعمل الكيمياء ، فإن موضعه كان على الدرجة السفلى.
ومن عجائبها المنارة أسفلها مربع من الصخر المنحوت ، وفوق ذلك منارة مثمّنة ، وفوق المثمّنة منارة لطيفة مدوّرة ، طول الأولى تسعون ذراعا ، والمثمّنة مثل ذلك ، وطول اللطيفة المدوّرة ثلاثون ذراعا ، وعلى أعلى المنارة مرآة وعليها موكّل ينظر إليها كلّ لحظة ، فإذا خرج العدوّ من بلاد الروم وركب البحر ، يراه الناظر في المرآة ويخبر القوم بالعدوّ فيستعدّون لدفعه. وكانت المرآة باقية إلى زمن الوليد بن عبد الملك بن مروان ، فأنفذ ملك الروم شخصا من خواصه ذا دهاء ، فجاء إلى بعض الثغور وأظهر أنّه هارب من ملك الروم ورغب في


الإسلام ، وأسلم على يد الوليد بن عبد الملك واستخرج له دفائن من أرض الشام.
فلمّا صارت تلك الأموال إلى الوليد شرهت نفسه فقال له : يا أمير المؤمنين إن ههنا أموالا ودفائن للملوك الماضية. فسأله الوليد عن مكانه فقال : تحت منارة الإسكندريّة ، فإن الإسكندر احتوى على أموال شدّاد بن عاد وملوك مصر والشام فتركها في آزاج وبنى عليها المنارة. فبعث الوليد معه قوما لاستخراجها فهم نقضوا نصف المنارة وأزيلت المرآة ، فضجّت الناس من أهل الإسكندريّة. فلمّا رأى العلج ذلك وعلم أن المرآة أبطلت هرب بالليل في مركب نحو الروم وتمّت حيلته.

والمنارة في زماننا حصن عال على نيق جبل مشرف على البحر في طرف جزيرة ، بينها وبين البر نحو شوط فرس ، ولا طريق إليها إلّا في البحر المالح ، وهي مربّعة ولها درج واسعة يصعدها الفارس بفرسه. وقد سقّفت الدرج بحجارة طوال مركبة على الحائطين المكتنفين للدرجة ، فترتقي إلى طبقة عالية مشرفة على البحر بشرفات محيطة ، وفي وسطه حصن آخر يرتقى إليه بدرجة أخرى فيصعد إلى طبقة أخرى لها شرفات ، وفي وسطها قبّة لطيفة كأنّها موضع الديدبان.

وحكي أن عبد العزيز بن مروان لمّا ولّي مصر جمع مشايخها وقال : إني أريد أن أعيد بناء الإسكندريّة إلى ما كانت. فقالوا : انظرنا حتى نتفكّر. فقال : أعينوني بالرجال وأنا أعينكم بالمال. فذهبوا إلى ناووس وأخرجوا منه رأس آدمي وحملوه على عجلة ووزنوا سنّا من أسنانه فوجدوها عشرين رطلا على ما بها من

النخر والقدم ، فقالوا : جئنا بمثل هؤلاء الرجال حتى نعيدها إلى ما كانت. فسكت.
بها عين مشهورة بعين الإسكندريّة ، فيها نوع من الصدف يوجد في كلّ وقت لا يخلو منه في شيء من الأوقات ، يطبخ وتشرب مرقته تبرىء من الجذام. والله الموفق.
أسيوط
مدينة في غربي النيل من نواحي الصعيد في مستوى ، كثيرة الخيرات عجيبة المتنزّهات ، وعجائب عماراتها وصورها ممّا يرى لا ممّا يذكر. ولمّا صوّرت الدنيا للرشيد لم يستحسن غير كورة اسيوط ، لكثرة ما بها من الخيرات والمتنزّهات.
فيها سبع وخمسون كنيسة للنصارى.
ومن عجائبها ان بها ثلاثين ألف فدّان ، ينشر ماؤها في جميعها وإن كان قليلا لاستواء سطح أرضها ، ويصل الماء إلى جميع أقطارها.
وبها الأفيون المصري الذي يحمل إلى سائر البلاد ، وهو عصارة ورق الخشخاش الأسود والخس. وبها سائر أنواع السكر ومنها يحمل إلى جميع الدنيا.
وبها مناسج الديبقي والثياب اللطيفة التي لا يوجد مثلها في شيء من البلاد.
إصطخر
مدينة بأرض فارس قديمة لا يدرى من بناها ، كان سليمان ، عليه السلام ، يتغدى بأرض الشام ببعلبك ويتعشّى بإصطخر.
بها بيت نار عظيم للمجوس ويقولون إنّه كان مسجد سليمان ، عليه السلام ؛ قال المسعودي : إنّه خارج المدينة ، دخلته فرأيت بنيانا عجيبا وأساطين صخر عجيبة على أعلاها صور من الصخر عظيمة الأشكال. ذكر أهل الموضع أنّها صور الأنبياء ، وهو في سفح جبل وهو هيكل عظيم ، من عجائبه أن الريح

لا تفارق ذلك الهيكل ليلا ولا نهارا ، ولا تفترّ عن الهبوب ساعة ، يقولون : ان سليمان ، عليه السلام ، حبس الريح فيه.
وذكر ابن الأثير الجزري في تاريخه : أن السلطان الب أرسلان لمّا فتح قلعة اصطخر وجد بها قدح فيروزج اسم جمشيد الملك مكتوب عليه.
ومن عجائبه تفّاح بعضه حلو وبعضه حامض ، قال الاصطخري : حدّث بذلك الأمير مرداس بن عمرو فأنكر الحاضرون ، فأحضر حتى رأوه وزال إنكارهم.
وينسب إليها الاصطخري صاحب كتاب الأقاليم ، فإنّه ذكر في كتابه النواحي المعمورة وذكر بلادها وقراها والمسافات بينها وخواصّ موضع ان كان له خاصّيّة ، وما قصّر في جميع ذلك الكتاب.
إفريقيّة
مدينة كبيرة كثيرة الخيرات طيّبة التربة وافرة المزارع والأشجار والنخل والزيتون ، وكانت افريقية قديما بلادا كثيرة ، والآن صحارى مسافة أربعين يوما بأرض المغرب. بها برابر وهم مزاتة ولواتة وهوّارة وغيرهم. وماء أكثر بلادها من الصهاريج.
وبها معادن الفضّة والحديد والنحاس والرصاص والكحل والرخام. ومن عجائبها بحيرة بنزرت ، حدّثني الفقيه أبو الربيع سليمان الملتاني : انّه يظهر في كلّ شهر من السنة فيها نوع من السمك يخالف النوع الذي كان قبله ، فإذا انتهت السنة يستأنف الدور فيرجع النوع الأوّل ، وهكذا كلّ سنة.
وكذلك نهر شلف فإنّه في كلّ سنة في زمان الورد يظهر فيه صنف من السمك يسمّى الشهبوق ، وهو سمك طوله ذراع ، ولحمه طيّب إلّا أنّه كثير الشوك ويبقى شهرين. ويكثر صيدها في هذا الوقت ويرخص ثمنها ثمّ ينقطع إلى القابل ، فلا يوجد في النهر شيء منها إلى السنة القابلة أوان الورد.

وذكر أبو الحسن علي الجزري في تاريخه : انّه نشأت بافريقية في شهر ربيع الآخر سنة إحدى عشرة وأربعمائة سحابة شديدة الرعد والبرق ، فأمطرت حجارة كثيرة وأهلكت كلّ من أصابته.
أفيق
قرية من قرى مصر. ذكر بعض الصالحين انّه رأى في نومه ملكا نزل من السماء وقال له : أتريد أن تغفر ذنوبك؟ قال الرجل : منيتي ذلك! فقال : قل مثل ما يقوله مؤذّن افيق. قال : فذهبت إلى افيق فرأيت المؤذّن لمّا فرغ من الأذان قال : لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، يحيي ويميت وهو حيّ لا يموت ، بيده الخير ، وهو على كلّ شيء قدير. بها أشهد مع الشاهدين ، وأحملها مع الجاحدين ، وأعدّها ليوم الدين. وأشهد أن الرسول كما أرسل ، والكتاب كما أنزل ، والقضاء كما قدّر ، وان الساعة آتية لا ريب فيها ، وان الله يبعث من في القبور ، على ذلك أحيا وأموت وأبعث إن شاء الله تعالى.
أنصنا
مدينة قديمة على شرقي النيل بأرض مصر ؛ قال ابن الفقيه : أهل هذه المدينة مسخوا حجرا! فيها رجال ونساء مسخوا حجرا على أعمالهم : فالرجل نائم مع زوجته ، والقصّاب يقطع لحمه ، والمرأة تخمّر عجينها ، والصبي في المهد ، والرغفان في التنور كلّها انقلبت حجرا صلدا.
وبأنصنا شجر اللبخ وهو عود ينشر لألواح السفينة ، ربّما أرعف ناشره فيكون له قيمة ، وإذا شدّ لوح بلوح وترك في الماء سنة صار لوحا واحدا ، فإذا اتّخذ منها سفينة وبقي في الماء مدّة صار كأنّ السفينة قطعة واحدة ، فلعلّ عزّتها من هذه الجهة ، ولشجرته ثمرة تشبه البلح في لونه وشكله وطعمه.

أنطاكية
مدينة عظيمة من أعيان المدن على طرف بحر الروم بالشام. موصوفة بالنزاهة والحسن وطيب الهواء وعذوبة الماء ، وفي داخلها مزارع وبساتين.
وانّها بنتها انطاكية بنت الروم بن اليقن بن سام بن نوح ، عليه السلام ، ذات سور وفصيل. ولسورها ثلاثمائة وستّون برجا ، يطوف عليها أربعة آلاف حارس من عند صاحب القسطنطينة ، يضمنون حراستها سنة ويستبدل بهم في السنة الثانية ، وسورها مبني على السهل والجبل من عجائب الدنيا. دورتها اثنا عشر ميلا. وكلّ برج من أبراجها منزل بطريق فسكنه بخدمه وخوله ، وجعل كلّ برج طبقات أسفله مرابط الخيل ، وأوسطه منزل الرجال ، وأعلاه موضع البطريق. وكلّ برج كحصن عليه أبواب حديد ، وفيها ما لا سبيل إلى قطعه من الخارج. والمدينة دائرة نصفها سهليّ ونصفها جبليّ ، وقطر الدائرة فاصلة بين السهليّ والجبليّ.
ولها قلعة عالية جدّا تتبيّن من بعد بعيد تستّر الشمس عن المدينة ، فلا تطلع عليها إلّا في الساعة الثانية.
وبها بيعة القسيان ، وهو الملك الذي أحيا ولده رئيس الحواريّين فطرس ، كما جاء في القصّة في قوله تعالى : واضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون.
وعلى باب بيعة القسيان صحنان لساعات الليل والنهار ، يعمل كلّ واحد اثنتي عشرة ساعة ، وفي بيعة القسيان من الخدم والمسترزقة ما لا يحصى ، ولها ديوان فيه بضعة عشر كاتبا. والمدينة خمس طبقات ، على الطبقة الخامسة الحمامات والبساتين ومناظر حسنة ، وسبب ذلك أن الماء ينزل من الجبل المطلّ عليها ، وقد عملوا على الماء الحمامات والبساتين. وفيها من الكنائس ما لا يعدّ ، كلّها معمولة بالفصّ المذهّب والزجاج الملوّن والبلاط المجزّع. وحماماتها

أطيب الحمامات لأن ماءها العذب السيح ووقودها الآس.
قال المسعودي : رأيت فيها من الماء ما يستحجر في مجاريها المعمولة من الخزف.
وحكي أنّه كان بأنطاكية إذا أخرج الإنسان يده إلى خارج السور وقع عليه البقّ ، وإذا جذبها إلى داخل لا يبقى عليه شيء من البقّ ، إلى أن كسروا عمودا من رخام ، فوجدوا في أعلاه حقّة من النحاس فيها بقّ من نحاس مقدار كفّ ، فبطلت تلك الخاصيّة من ذلك الوقت ، فالآن يعمّ البقّ جميع المدينة.
وبها نوع من الفأر يعجز السنّور عنه.
وبها مسجد حبيب النجّار صاحب يونس ، رحمة الله عليه ، الذي قال :يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربّي وجعلني من المكرمين. فلمّا قتلوه أهلكهم الله تعالى بصيحة ، وكان بأنطاكية مؤمنون وكفّار ، فالصيحة ما أيقظت المؤمنين عن نومهم ، وأهلكت الكفّار كما قال تعالى : ان كانت إلّا صيحة واحدة فإذا هم خامدون. ومسجد حبيب في وسط سوق انطاكية ، فيه قبره يزور الناس ، وبها قبر يحيى بن زكرياء ، عليه السلام.
أنطرطوس
حصن على بحر الروم لأهل حمص ، وهو ثغر به مصحف عثمان بن عفّان يذهب الناس إليه تبرّكا به.
أورم الجوز
قرية من نواحي حلب ، بها بنية كأنّها كانت في القديم معبدا ، يرى المجاورون لها من أهل القرى بالليل منها ضوء نار ساطعا ، فإذا جاؤوها لم يروا شيئا البتّة ، وفي هذه البنية ثلاثة ألواح من حجارة عليها مكتوب بلفظ القديم ما استخرج وفسّر ، وكان ما على اللوح القبلي : الاله واحد ، كملت هذه البنية في تاريخ ثلاثمائة وعشرين لظهور المسيح ، عليه السلام ، وعلى اللوح الذي

على وجه الباب : سلام على من كمل هذه البنية. واللوح الشمالي : هذا الضوء المشرق الموهوب من الله لنا في أيّام البربرة في الدور الغالب ، المتجدّد في أيّام الملك اناوس الحرين المنقولين وقلاسس وحنا وقاسوس وبلانيا في شهر أيلول في الثاني عشر من التاريخ المتقدّم ، والسلام على شعوب العالم والوقت الصالح.
الأهواز
ناحية بين البصرة وفارس ، ويقال لها خوزستان ، بها عمارات ومياه وأودية كثيرة ، وأنواع الثمار والسكر والرز الكثير لكنها في صيفها لا يفارق الجحيم.
ومن محنها شدّة الحرّ وكثرة الهوام الطيارة والحشرات القتّالة ؛ قالوا : ذبابها كالزنبور وطنينها كصوت الطنبور ، لا ترى بها شيئا من العلوم والآداب ولا من الصناعات الشريفة.
وأهلها ألأم الناس. لا ترى بها وجنة حمراء. وهواؤها قتال خصوصا للغرباء ، لا تنقطع حمّاها ولا ينكشف وباؤها البتّة ، وأهلها في عذاب اليم.
وحكى مشايخ الأهواز انّهم سمعوا القوابل ان المولود ربّما يولد فنجده محموما تلك الساعة. ومن تمام محنهم أن مأكول أهلها الرزّ ، وهم يخبزونه كلّ يوم لأنّه لا يطيب إلّا مسخّنا ، فيسجّر كلّ يوم في ذلك الحرّ الشديد خمسون ألف تنور ، فيجتمع حرّ الهواء وحرّ النيران ودخانها والبخار المتصاعد من سباخها ومناقعها ومسايل كنفها ومياه أمطارها ، فإذا طلعت الشمس ارتفعت بخاراتها واختلطت بهوائها الذي وصفناه ، فيفسد الهواء أيّ فساد ويفسد بفساده كلّ ما اشتمل عليه.
وتكثر الأفاعي في أراضيها ، والجرّارات من العقارب التي لا ترفع ذنبها كسائر العقارب بل تجرّه. ولو كان في العالم شيء شرّا من الأفاعي والجرّارات لما قصرت قصبة الاهواز عن توليده ، وإذا حمل إلى الاهواز الطيب تذهب

رائحته ولا يبقى منتفعا به.
ينسب إليها أبو الحسن الاهوازي المنشىء صاحب الكلام المرصّع ، له رسالة حسنة في ذلك الأسلوب وهو متفرّد به.
أيلة
مدينة على ساحل بحر القلزم ممّا يلي الشام ، كانت مدينة جليلة في زمن داود ، عليه السلام ، والآن يجتمع بها حجيج الشام ومصر من جاء بطريق البحر ، وهي القرية التي ذكرها الله تعالى حاضرة البحر.
كان أهلها يهودا حرّم الله تعالى عليهم يوم السبت صيد السمك ، وكانت الحيتان تأتيهم يوم السبت شرّعا بيضا سمانا كأنّها الماخض حتى لا يرى وجه الماء لكثرتها ، ويوم لا يسبتون لا تأتيهم. فكانوا على ذلك برهة من الدهر ، ثمّ إن الشيطان وسوس إليهم وقال : إنّما نهيتم عن صيدها يوم السبت فاتّخذوا حياضا حول البحر ، وسوقوا إليها الحيتان يوم السبت ، فتبقى فيها محصورة واصطادوا يوم الأحد ، وفي غير يوم السبت لا يأتيهم حوت واحد ، ففعلوا ما أمرهم الشيطان خائفين. فلمّا رأوا أن العذاب لا يعاجلهم أخذوا وأكلوا وملحوا وباعوا.
وكان أهل القرية نحوا من سبعين ألفا فصاروا أثلاثا : ثلث ينهون القوم عن الذنب ، وثلث قالوا : لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذّبهم؟ وثلث يباشرون الخطيئة. فلمّا تنبّهوا قال الناهون : نحن لا نساكنكم. فقسموا القرية للناهين باب وللمتعدّين باب ، ولعنهم داود ، عليه السلام. فأصبح الناهون ذات يوم في مجالسهم لم يروا من المتعدّين أحدا ، فقالوا : إن للقوم شأنا ، لعلّ الخمر غلبتهم! فعلوا الجدار ونظروا فإذا هم قردة فدخلوا عليهم ، والقردة تعرف أنسابها والأنساب لا يعرفونها. فجعلت القردة تأتي نسيبها من الانس فتشمّ ثيابه وتذرف دمعة ، فيقول نسيبها : ألم أنهك عن السوء؟ فتشير القردة برأسها يعني نعم. ثمّ ماتت بعد ثلاثة أيّام.

باميان
ناحية بين خراسان وأرض الغور ، ذات مدن وقرى وجبال وأنهار كثيرة من بلاد غزنة. بها بيت ذاهب في الهواء وأساطين نقش عليها صور الطير ، وفيه صنمان عظيمان من الحجر : يسمّى أحدهما سرج بت ، والآخر خنك بت ، وما عرف خاصيّة البيت ولا خاصيّة الصنم.
قال صاحب تحفة الغرائب : بأرض باميان ضيعة غير مسكونة ، من نام فيها يزبنه أخذ برجله ، فإذا انتبه لا يرى أحدا ، فإن نام يفعل به ذلك مرّة أخرى حتى يخرج منها.
بها معادن الزئبق ذكره يعقوب البغدادي.
قال في تحفة الغرائب : بأرض باميان عين ينبع منها ماء كثير ولها صوت وغلبة ويشمّ من ذلك الماء رائحة الكبريت ، من اغتسل به يزول جربه ، وإذا رفع من ذلك الماء شيء في ظرف وشدّ رأسه شدّا وثيقا وترك يوما يبقى الماء في الظرف خاثرا مثل الخمير ، وإذا عرضت عليه شعلة النار يشتعل.
ينسب إليها الحكيم أفضل البامياني. كان حكيما فاضلا عارفا أنواع الحكمة.
طلبه صاحب فارس أتابك سعد بن زنكي وأكرمه وأحسن إليه وقال له : أريد أن تحكم على مولودي. فقال أفضل : الأحكام النجوميّة لا يوثق بها ، قد تصيب وتخطىء ، لكني أفعل ذلك لسنة أو سنتين من الماضي ، فإن وافق عملت للمستقبل.
فلمّا فعل ذلك قال الملك : ما أخطأت شيئا منها! وكان عنده حتى مات.
بدا
قرية بتهامة على ساحل البحر ممّا يلي الشام ، وهي قرية يعقوب النبيّ ، عليه السلام ، كان بها مسكنه في أيّام فراق يوسف ، عليه السلام ، ويقال لهذه القرية بيت الأحزان ، لأن يعقوب كان بها حزينا مدّة طويلة ، ومنها سار إلى

مصر إلى يوسف ، عليه السلام.
فجاءت الفرنج في زمن الملك صلاح الدين يوسف بن أيّوب وقد عمروها ، وجعلوا لها حصنا حصينا ؛ قال بعض الشعراء :
هلاك فرنج أتى عاجلا
 

وقد آن تكسير صلبانها
 
ولو لم يكن حينها قد أنى
 

لما عمرت بيت أحزانها
 
وكان الأمر كما قال الشاعر. قصدها الملك صلاح الدين وفتحها وخرّبها وكسر صلبانها.
براق
قرية من قرى حلب. حدّث غير واحد من أهل حلب أن بها معبدا يقصده المرضى والزمنى ، يبيتون فيه فيرى المريض من يقول له : شفاؤك كذا وكذا! وربّما يرى شخصا يمسحه بيده فتزول منه الآفة. وهذا شيء مستفاض في أهل حلب.
البشمور
كورة بمصر ، بها قرى وريف وغياض ، بها كباش ليس في جميع البلاد مثلها عظما وحسنا وكبر ألايا ، حتى لا يستطيع حملها ، فيتّخذ لآليته عجلة تحمل عليها أليته ، وتشدّ العجلة بحبل إلى عنقه ، فيظلّ يرعى ويجرّ العجلة التي عليها أليته ، فإذا نزعت العجلة سقطت الالية على الأرض وربض الكبش ولم يمكنه القيام ، ولا يوجد مثل هذا الصنف في شيء من البلاد.

بعلبكّ
مدينة مشهورة بقرب دمشق ، وهي قديمة كثيرة الأشجار والمياه والخيرات والثمرات ، ينقل منها الميرة إلى جميع بلاد الشام. وبها أبنية وآثار عجيبة وقصور على أساطين الرخام لا نظير لها. قيل : انّها كانت مهر بلقيس! وبها قصر سليمان بن داود ، عليه السلام ، وقلعتها مقام الخليل ، عليه السلام ، وبها دير الياس النبيّ ، عليه السلام.
قالوا : إن ذلك الموضع يسمّى بك في قديم الزمان حتى عبد بنو إسرائيل بها صنما اسمه بعل ، فأضافوا الصنم إلى ذلك الموضع ، ثمّ صار المجموع اسما للمدينة ، وأهلها على عبادة هذا الصنم ، فبعث الله إليهم الياس النبيّ ، عليه السلام ، فكذّبوه ، فحبس عنهم القطر ثلاث سنين.
فقال لهم نبيّ الله : استسقوا أصنامكم ، فإن سقيتم فأنتم على الحقّ ، وإلّا فإني أدعو الله تعالى ليسقيكم ، فإن سقيتم فآمنوا بالله وحده! فأخرجوا أصنامهم واستسقوا وتضرّعوا فما أفادهم شيئا ، فرجعوا إلى نبيّ الله فخرج ودعا فظهر من جانب البحر سحابة شبه ترس ، وأقبلت إليهم. فلمّا دنا منهم طبّق الآفاق وأغاثهم غيثا مريعا أخصب البلاد وأحيا العباد ، فما ازدادوا إلّا شركا ، فسأل الله تعالى أن يريحه منهم فأوحى الله تعالى إليه : ان اخرج إلى مكان كذا. فخرج ومعه اليسع فرأى فرسا من نار فوثب عليه وسار الفرس به ، ولم يعرف بعد ذلك خبره.
بلقاء
كورة بين الشام ووادي القرى. بها قرية الجبّارين ومدينة الشراة. وبها الكهف والرقيم فيما زعم بعضهم. وحديث الرقيم ما روى عبد الله بن عمر أنّه قال : سمعت رسول الله ، صلّى الله عليه وسلّم ، يقول : انطلق ثلاثة نفر ممّن كان قبلكم حتى آواهم المبيت إلى غار ، فدخلوا فانحدرت صخرة من الجبل

وسدّت عليهم الغار ، فقالوا : لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله تعالى بصالح أعمالكم! قال رجل منهم : اللهم إنه كان لي أبوان شيخان كبيران فكنت لا أغبق قبلهما أهلا ولا ولدا ، فباتا في ظلّ شجر يوما فلم أبرح عليهما حتى ناما ، فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين ، فكرهت أن أغبق قبلهما أهلا ولا ولدا ، فلبثت والقدح في يدي أنتظر استيقاظهما حتى طلع الفجر ، والصبية يتضاغون ، فاستيقظا وشربا غبوقهما! اللهمّ إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرّج عنّا ما نحن فيه من هذه الصخرة! فانفرجت شيئا لا يستطيعون الخروج منه.
وقال الآخر : اللهمّ إنه كانت لي ابنة عمّ كانت من أحبّ الناس إليّ ، فراودتها عن نفسها فامتنعت مني حتى ألمّت بنا سنة من السنين ، فجاءتني فأعطيتها مائة وعشرين دينارا على أن تخلي بيني وبين نفسها ، ففعلت حتى إذا قدرت عليها قالت : لا يحلّ لك أن تفضّ الخاتم إلّا بحقّه! فتخرّجت من الوقوع عليها وانصرفت عنها ، وهي أحبّ الناس إليّ ، وتركت الذهب الذي أعطيتها. اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرّج عنّا ما نحن فيه! فانفرجت الصخرة غير أنّهم لا يستطيعون الخروج منها.
وقال الثالث : اللهمّ إنّك تعلم أني استأجرت أجرا فأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب ، فنمت أجرته حتى كثرت منه الأموال.
فجاءني بعد حين وقال : يا عبد الله هات أجرتي! فقلت له : كلّ ما ترى من الإبل والبقر والغنم والرقيق من أجرتك! فقال : يا عبد الله لا تستهزىء بي! فقلت : لا أستهزىء! فاستاق كلّه ولم يترك منه شيئا. اللهمّ إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرّج عنّا ما نحن فيه! فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون.

بلينا
مدينة بصعيد مصر على شاطىء النيل. قالوا : إن بها طلسما لا يمرّ بها تمساح إلّا ينقلب على ظهره. والتمساح إذا انقلب على ظهره لا يقدر على الانقلاب إلى بطنه ، فيبقى كذلك حتى يموت أو يصطاد.
بلرم
مدينة بجزيرة صقلية في بحر المغرب ؛ قال ابن حوقل الموصلي : بها هيكل عظيم سمعت أن أرسطاطاليس فيه في شيء من الخشب معلّق ، والنصارى تعظّم قبره وتستسقي به لاعتقاد اليونانيّين به ، قال : ورأيت فيها من المساجد أكثر ما رأيت في شيء من البلاد ، حتى رأيت على مقدار غلوة سهم أكثر من عشرة مساجد ، ورأيت بعضها تجاه بعض. فسألت عن ذلك فقالوا : القوم لانتفاخ أدمغتهم لا يرضى أحدهم أن يصلّي في مسجد غيره ، ويكون له مسجد لا يصلّي فيه غيره.
بنارق
قرية بين بغداد والنعمانية مقابل دير قنّى على دجلة ، والآن خراب ، ذكر أبو بكر النحوي البنارقي أن عساكر السلجوقية كثرت بطرقهم على قريتنا ، والقرية لا سور لها ، كلّما جاؤوا دخلوا وثقلوا علينا ، فأجمعنا على مفارقتها والعسكر قريب منّا وتهيّأنا لذلك إلى الليل لنعبر دجلة ونلتحق بدير قنّى ، فإنّها كانت ذات سور ، فاستصحبنا من أمتعتنا ما خفّ على الأكتاف ولدواب ، فإذا نيران عظيمة ملأت البرية ، فظننّاها نار العسكر وندمنا على الخروج ، وقلنا الآن يأخذون جميع ما معنا! ونحن في هذا الحديث والنيران قد دهمتنا ، فإذا هي سائرة بنفسها ولا حامل لها ، وسمعنا من خلالها أصواتا حزينة كالنياحة ،

يقول بعضهم :
فلا ثقبهم ينسدّ ولا ماؤهم يجري
 

وخلّوا منازلهم وساروا مع الفجر
 
فعلمنا أنّهم الجنّ ، وكان الأمر كما قالوا ، فإن الأنهار فسدت ، وما يفرغ الملوك لإصلاحها ، وبقيت القرى إلى الآن خرابا ، وذلك في سنة خمس وأربعين وخمسمائة.
بنزرت
مدينة بافريقية على ساحل البحر ، يشقّها نهر كبير كثير السمك ، لها قلاع حصينة يأوي إليها أهل النواحي إذا خرج الروم غزاة ، وبها رباطات للصالحين ، وانفردت بنزرت ببحيرة تخرج من البحر الكبير إلى مستقرّ تجاهها ، يخرج منها في كلّ شهر صنف من السمك لا يشبه الصنف الذي كان في الشهر الماضي إلى تمام السنة ، ثمّ يعود الدور إلى الأوّل ، والسلطان ضمنه باثني عشر ألف دينار.
بيت لحم
قرية على فرسخين من بيت المقدس ، كان بها مولد عيسى ، عليه السلام.
وبها كنيسة فيها قطعة من النخل ، زعموا أنّها النخلة التي أكلت منها مريم لمّا قيل لها : وهزّي إليك بجذع النخلة.
بها الماء الذي يقال له المعبوديّة ، وهو ماء ينبدي من حجر ، وإنّه عظيم القدر عند النصارى.
بيت المقدس
هي المدينة المشهورة التي كانت محلّ الأنبياء وقبلة الشرايط ومهبط الوحي.
بناها داود وفرغ منها سليمان ، عليه السلام ؛ وعن أبيّ بن كعب : ان الله تعالى

أوحى إلى داود : ابن لي بيتا. فقال : يا ربّ أين؟ قال : حيث ترى الملك شاهرا سيفه! فرأى داود ملكا على الصخرة بيده سيف ، فبنى هناك ، ولمّا فرغ سليمان من بنائها أوحى الله تعالى إليه : سلني أعطك! فقال : يا ربّ أسألك أن تغفر لي ذنبي! فقال : لك ذلك! قال : وأسألك أن تغفر لمن جاء هذا البيت يريد الصلاة فيه ، وأن تخرجه من ذنوبه كيوم ولد! فقال : لك ذلك! قال : وأسألك لمن جاءه فقيرا أن تغنيه! قال : ولك ذلك! قال : وأسألك إن جاءه سقيما أن تشفيه! قال : ولك ذلك.
وعن ابن عبّاس : البيت المقدس بنته الأنبياء وسكنته الأنبياء ، وما فيه موضع شبر إلّا وصلّى فيه نبيّ أو قام فيه ملك.
واتّخذ سليمان فيها أشياء عجيبة : منها قبّة ، وهي قبّة كانت فيها سلسلة معلّقة ينالها المحقّ ولا ينالها المبطل حتى اضمحلّت بالحيلة المعروفة ، ومنها أنّه بنى فيها بيتا وأحكمه وصقله ، فإذا دخله الورع والفاجر كان خيال الورع في الحائط أبيض ، وخيال الفاجر أسود.
ومنها أنّه نصب في زاوية عصا آبنوس ، من زعم صادقا أنّه من أولاد الأنبياء ومسّها لم يضرّه ، وإن لم يكن من أولاد الأنبياء إذا مسّها احترقت يده.
ثمّ ضرب الدهر ضربانه واستولت عليها الجبابرة وخربوها ، فاجتاز بها عزير ، عليه السلام ، فرآها خاوية على عروشها ، فقال : أنّى يحيي هذه الله بعد موتها؟ فأماته الله مائة عام ثمّ بعثه ، وقد عمرها ملك من ملوك الفرس اسمه كوشك ، فصارت أعمر ممّا كانت وأكثر أهلا ، والتي عليها الآن أرضها وضياعها جبال شاهقة ، وليس بقربها أرض وطئة ، وزروعها على أطراف الجبال بالفؤوس لأن الدوابّ لا عمل لها هناك.
وأمّا نفس المدينة ففي فضاء في وسط ذلك ، وأرضها كلّها حجر ، وفيها عمارات كثيرة حسنة ، وشرب أهلها من ماء المطر. ليس فيها دار إلّا وفيها صهريج.
مياهها تجتمع من الدروب ، ودروبها حجريّة ليست كثيرة الدنس ، لكن مياهها

رديئة. وفيها ثلاث برك : بركة بني إسرائيل ، وبركة سليمان ، وبركة عياض.
قال محمّد بن أحمد البشّاري المقدسي ، وله كتاب في أخبار بلدان الإسلام : إنّها متوسطة الحرّ والبرد ، وقلّما يقع بها ثلج ، ولا ترى أحسن من بنيانها ولا أنظف ولا أنزه من مساجدها! قد حمع الله فيها فواكه الغور والسهل والجبل والأشياء المتضادّة : كالأترج واللوز والرطب والجوز والتين والموز ، إلّا أنّ بها عيوبا منها ما ذكر في التوراة : انّها طست ذهب مملوء عقارب ، ثمّ لا يرى أقذر من حمّاماتها ولا أثقل مونة منها! وهي مع ذلك قليلة العلماء كثيرة النصارى ، وفيهم جفاء على الرحبة والفنادق والضرائب ثقال على ما يباع فيها ، وليس لمظلوم ناصر وليس بها أمكن من الماء والأذان.
بها المسجد الأقصى الذي شرّفه الله تعالى وعظّمه وقال : إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله. وقال ، صلّى الله عليه وسلّم : لا تشدّ الرحال إلّا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ، والمسجد الأقصى ، ومسجدي هذا. وهو في طرف الشرق من المدينة ، أساسه من عمل داود ، عليه السلام. طول كلّ حجر عشرة أذرع ، وفي قبلته حجر أبيض عليه مكتوب : محمّد رسول الله ، خلقة لم يكتبه أحد. وصحن المسجد طويل عريض طوله أكثر من عرضه ، وهو في غاية الحسن والإحكام ، مبنيّ على أعمدة الرخام الملوّنة ، والفسيفساء الذي ليس في شيء من البلاد أحسن منه.
وفي صحن المسجد مصطبة كبيرة في ارتفاع خمسة أذرع ، يصعد إليه من عدّة مواضع بالدرج ، وفي وسط هذه المصطبة قبّة عظيمة مثمّنة على أعمدة رخام مسقفة برصاص ، منمّقة من داخل وخارج بالفسيفساء ، مطبقة بالرخام الملوّن. وفي وسطها الصخرة التي تزار ، وعلى طرفها أثر قدم النبيّ ، عليه السلام ، وتحتها مغارة ينزل إليها بعدّة درج يصلّى فيها. ولهذه القبّة أربعة أبواب ، وفي شرقيها خارج القبّة قبّة أخرى على أعمدة حسنة يقولون :انّها قبّة السلسلة. وقبّة المعراج أيضا على المصطبة ، وكذلك قبّة النبيّ ، عليه

السلام. كلّ ذلك على أعمدة مطبقة أعلاها بالرصاص ، وذكر أن طول قبّة الصخرة كان اثني عشر ميلا في السماء ، وكان على رأسها ياقوتة حمراء كان في ضوئها تغزل نساء أهل بلقاء.
وبها مربط البراق الذي ركبه النبيّ ، عليه السلام ، تحت ركن المسجد.
وبها محراب مريم ، عليها السلام ، الذي كانت الملائكة تأتيها فيه بفاكهة الشتاء في الصيف وبفاكهة الصيف في الشتاء.
وبها محراب زكرياء ، عليه السلام ، الذي بشرته الملائكة بيحيى. عليه السلام ، وهو قائم يصلّي في المحراب. وبها كرسي سليمان الذي كان يدعو الله عليه.
وعن رسول الله ، صلّى الله عليه وسلّم ، أن الله تعالى أرسل ملك الموت إلى موسى ، عليه السلام ، فصكّه ، فرجع إلى ربّه وقال : أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت! فقال : ارجع إليه وقل له حتى يضع يده على متن ثور ، فله بما غطّت يده بكلّ شعر سنة. قال : اي ربّ! ثمّ ماذا؟ قال : ثمّ الموت! فسأل الله تعالى أن يقبره من الأرض المقدسة رمية حجر ، فلو كنت ثمّة لأريتكم قبره إلى جنب الطريق تحت الكثيب الأحمر.
أمّا المسجد فطوله سبعمائة ذراع وأربعة وثمانون ذراعا ، وعرضه أربعمائة وخمسة وخمسون ذراعا ، وعدّة ما فيه من العمد ستمائة وأربعة وثمانون ، وداخل الصخرة ثلاثون عمودا ، وقبّة الصخرة ملبّسة بصفائح الرصاص ، عليها ثلاثة آلاف صفيحة واثنتان وتسعون ، ومن فوق ذلك الصفائح النحاس مطليّة بالذهب ، وفي سقوف المسجد أربعة آلاف خشبة ، وعلى السقوف خمسة مطليّة بالذهب ، وفي سقوف المسجد أربعة آلاف خشبة ، وعلى السقوف خمسة وأربعون ألف صفيحة رصاص.
حجر الصخرة ثلاثة وثلاثون ذراعا في سبعة وعشرين ، والمغارة التي تحت الصخرة تسع تسعا وستين نفسا. ويسرج في المسجد ألف وخمسمائة قنديل ، ويسرج في الصخرة أربعمائة وأربعة وستون قنديلا. وكانت وظيفته كلّ شهر مائة قسط زيتا ، وفي كلّ سنة ثمانمائة ألف ذراع حصيرا ، وكان له من الخدم

مائتان وثلاثون مملوكا ، أقامهم عبد الملك بن مروان من خمس الأسارى ، ولذلك يسمّون الأخماس ، كان رزقهم من بيت المال.
وبها قمامة ، وهي كنيسة عظيمة للنصارى في وسط البلد ، لا ينضبط صفتها حسنا وعمارة وتنميقا وكثرة مال. في موضع منها قنديل يزعمون أن نورا من السماء ينزل في يوم معلوم ويشعله ، وهذا أمر مشهور عندهم. حكي أن بعض أصحاب السلطان ذهب إليها ذلك اليوم وقال : إني أريد أن أشاهد نزول هذا النور ، فقال له القسّ : إن مثل هذه الأمور لا تخفى على أمثالك! لا تبطل ناموسنا فإنّا نشبه على أصحابنا لتمشية أمرنا ، فتجاوز عنه!
وبها عين سلوان يتبرّك بها الناس ؛ قال ابن البشّار : سلوان محلّة في ربض بيت المقدس ، تحتها عين غزيرة تسقي جنانا كثيرة ، وقفها عثمان بن عفّان على ضعفاء بيت المقدس. قالوا : إن ماءها يفيد السلوّ إذا شربه الحزين ، ولهذا قال رؤبة : لو أشرب السلوان ما سلوت.
بلاد بربر
بلاد واسعة من برقة إلى آخر بلاد المغرب والبحر المحيط. سكّانها أمّة عظيمة يقال إنّهم من بقيّة قوم جالوت ، لمّا قتل هرب قومه إلى المغرب فحصلوا في جبالها ، وهم أحفى خلق الله وأكثرهم بطشا ، وأسرعهم إلى الفتنة وأطوعهم لداعية الضلالة! ولهم أحوال عجيبة واصطلاحات غريبة ، سوّل لهم الشيطان الغوايات وزيّن لهم أنواع الضلالات.
عن أنس بن مالك قال : جئت إلى رسول الله ، عليه السلام ، ومعي وصيف ، فقال ، صلّى الله عليه وسلّم : يا أنس ما جنس هذا الغلام؟ قلت : بربريّ يا رسول الله! فقال : بعه ولو بدينار! قلت : ولم يا رسول الله؟ قال : إنّهم أمّة بعث الله إليهم رسولا فذبحوه وطبخوه ، وأكلوا لحمه وبعثوا مرقه إلى نسائهم! قال الله تعالى : لا اتّخذت منكم نبيّا ولا بعثت إليكم رسولا.

وعن رسول الله ، صلّى الله عليه وسلّم : ولأن أتصدّق بعلاقة سوطي في سبيل الله أحبّ إليّ من أن أعتق رقبة بربريّة!
ولكثرة ما تخالف حالاتهم وعاداتهم سائر الناس قال بعض المغاربة :
رأيت آدم في نومي فقلت له :
 

أبا البريّة إنّ النّاس قد حكموا
 
أنّ البرابر نسل منك ؛ قال : أنا!
 

حوّاء طالقة إن صحّ ما زعموا
 
ومن عاداتهم العجيبة ما حكى ابن حوقل الموصلي التاجر وقد طاف بلادهم : إن أكثر البربر يضيفون المارة ويكرمون الضيف ويطعمون الطعام ولا يمنعون أولادهم الذكور من طالب التبديل ، لو طلب هذا المعنى ممّن هو أكبرهم قدرا وأكثرهم حميّة وشجاعة لم يمتنع عليه. وقد شاهدهم أبو عبد الله الشعبي على ذلك حتى بلغ بهم أشدّ مبلغ فما تركوه. ومن العجب أنّهم يرون ذلك كرما والامتناع عنه لؤما ونقصا ، ونسأل الله السلامة!
وحكي أيضا أن أحدهم إذا أحبّ امرأة وأراد التزوّج بها ولم يكن كفؤا لها ، عمد إلى بقرة حامل من بقر أبيها ، ويقطع من ذنبها شيئا من الشعر ويهرب ، فإذا أخبر الراعي أهل المرأة بذلك خرجوا في طلبه ، فإن وجدوه قتلوه ، وان لم يظفروا به يمضي هو على وجهه ، فإن وجد أحدا قطع ذكره وأتى القوم به قبل أن تلد البقرة ، ظفر بالجارية وزوّجوها منه ولا يمكنهم الامتناع البتّة ، وإن ولدت البقرة ولم يأت بالذكر المقطوع بطل عمله ولم يمكنه الرجوع إليهم ، وإن رجع قتلوه ، وترى في تلك البلاد كثيرا من المجبوبين يكون جبّهم بهذا السبب ، فإذا حصلوا في بلاد المغرب التمسوا القرآن والزهد.
البيضاء
مدينة كبيرة بأرض فارس ، بناها العفاريت من الحجر الأبيض لسليمان عليه السلام ، فيما يقال. وبها قهندز يرى من بعد بعيد لشدّة بياضه. وهي

مدينة طيّبة كثيرة الخيرات وافرة الغلّات صحيحة الهواء عذبة الماء طيبة التربة ، لا تدخلها الحيّات والعقارب ولا شيء من الحيوانات المؤذية.
من عجائبها ما ذكر أنّه في رستاقها عنب كلّ حبّة منها عشرة مثاقيل ، وتفّاح دورته شبران.
ينسب إليها الحسين بن منصور الحلّاج ، صاحب الآيات والعجائب.
فمن المشهور أنّه كان يركب الأسد ويتّخذ الحيّة سوطا ، وكان يأتي بفاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء ، ويمدّ يده إلى الهواء ويعيدها مملوءة دراهم احدية : قل هو الله أحد ، مكتوب عليها. ويخبر الناس بما في ضمائرهم وبما فعلوا. وحكي أنّه خرج يوما من الحمّام ، فلقيه بعض من ينكره صفعه في قفاه صفعة قويّة ، فقال له : يا هذا لم صفعتني؟ قال : الحقّ أمرني بذلك! فقال : بحقّ الحقّ أردفها بأخرى! فلمّا رفع يده للصفع يبست! فلمّا ظهر قوله أنا الحقّ أنكره الناس وتكلّموا فيه ، وقالوا : قل أنا على الحقّ! فقال : ما أقول إلّا أنا الحقّ! وسمع منه أشعار مثل قوله :
أنا من أهوى ومن أهوى أنا
 

نحن روحان حللنا بدنا
 
ومثل قوله :
عجبت منك ومنّي
 

أفنيتني بك عنّي
 
أدنيتني منك حتّى
 

ظننت أنّك أنّي
 
فلمّا سمع أمثال هذه بعض الناس أساؤوا الظنّ فيه. حكى أبو القاسم بن كجّ أن جمعا من الصوفية ذهبوا إلى الحسين بن منصور وهو بتستر ، وطلبوا منه شيئا ، فذهب بهم إلى بيت نار المجوس فقال الديراني : ان الباب مغلق ومفتاحه عند الهربد! فجهد الحسين فلم يجبه ، فنفض الحسين كمّه نحو القفل فانفتح ، فدخلوا البيت ، فرأوا قنديلا مشتعلا لا ينطفىء ليلا ولا نهارا ، فقال : انّها

من النار التي ألقي فيها الخليل ، عليه السلام. نحن نتبرّك بها وتحمل المجوس منها إلى جميع بلادهم.
فقال له : من يقدر على إطفائها؟ قال : قرأنا في كتابنا أنّه لا يقدر على إطفائها إلّا عيسى بن مريم ، عليه السلام. فأشار الحسين إليها بكمّه فانطفت ، فقامت على الديراني القيامة وقال : الله الله! قد إنطفت في هذه الساعة جميع نيران المجوس شرقا وغربا! فقال له : من يقدر على ردّها؟ فقال : قرأنا في كتابنا أنّه يقدر على ردّها من يقدر على إطفائها! فلم يزل يتضرّع إلى الحسين ويبكي فقال له : هل عندك شيء تدفعه إلى هذه المشايخ وأردّها؟ وكان عنده صندوق من دخل البيت من المجوس طرح فيه دينارا ، ففتحه وسلّم ما فيه إلى المشايخ وقال : ما هاهنا غير هذا. فأشار الحسين بكمّه إليها ، فاشتعلت وقال :
دنيا تخاد عني كأني لست أعرف حالها
حظر المليك حرامها فأنا اجتنيت حلالها
مدّت إليّ يمينها فرددتها وشمالها
فمتى طلبت زواجها حتى أردت وصالها
ورأيتها محتاجة فوهبت جملتها لها!
ومن ظريف ما نقل عنه أنّه قال له بعض منكريه : إن كنت صادقا فيما تدعيه فامسخني قردا! فقال : لو هممت بذلك لكان نصف العمل مفروغا عنه.
فلمّا تكلّم الناس في حقّه بقوله أنا الحقّ قال :
سقوني وقالوا : لا تغنّ! ولو سقوا
 

جبال سراة ما سقيت لغنّت!
 
تمنّت سليمى أن أموت بحبّها
 

وأسهل شيء عندنا ما تمنّت!
 
وحكى أبو عبد الله محمّد بن خفيف قال : دخلت على الحسين بن منصور

وهو في الحبس مقيّدا. فلمّا حضر وقت الصلاة رأيته نهض ، فتطايرت منه القيود وتوضّأ وهو على طرف المحبس ، وفي صدر ذلك المحبس منديل. وكان بينه وبين المنديل مسافة ، فوالله ما أدري أن المنديل قدم إليه أو هو إلى المنديل!
فتعجّبت من ذلك وهو يبكي بكاء فقلت له : لم لا تخلّص نفسك؟ فقال :ما أنا محبوس! أين تريد يا ابن خفيف؟ قلت : نيسابور! فقال : غمّض عينيك! فغمّضتهما. ثمّ قال : افتحهما. ففتحت فإذا أنا بنيسابور في محلّة أردتها.
فقلت : ردّني. فردّني وقال :
والله لو حلف العشّاق أنّهم
 

موتى من الحبّ أو قتلى لما حنثوا
 
قوم إذا هجروا من بعد ما وصلوا
 

ماتوا وإن عاد وصل بعده بعثوا
 
ترى المحبّين صرعى في ديارهم
 

كفتية الكهف لا يدرون كم لبثوا
 
ثمّ قال : يا ابن خفيف ، لا يكون الحزن إلّا لفقد محبوب أو فوت مطلوب! والحقّ واضح والهوى فاضح. والخلق كلّهم طلّاب وطلبهم على قدر هممهم ، وهممهم على قدر أحوالهم ، وأحوالهم مطبوعة على علم الغيب ، وعلم الغيب غائب عنهم ، والخلق كلّهم حيارى. وأنشأ يقول :
أنين المريد لشوق يزيد
 

أنين المريض لفقد الطّبيب
 
قد اشتدّ حال المريدين فيه
 

لفقد الوصال وبعد الحبيب
 
ثمّ قال : يا ابن خفيف ، حججت إلى زيارة القديم فلم أجد لقوم موضعا من كثرة الزائرين ، فوقفت وقوف البهيت ، فنظر إليّ نظرة فإذا أنا متّصل به ، ثمّ قال : من عرفني ثمّ أعرض عني فإني أعذّبه عذابا لا أعذّبه أحدا من العالمين.
وجعل يقول :
عذابه فيك عذب
 

وبعده منك قرب
 



وأنت عندي كروحي
 

بل أنت منها أحبّ
 
وأنت للعين عين
 

وأنت للقلب قلب
 
حتى من الحبّ إني
 

لما تحبّ أحبّ
 
وحكي أن حبسه كان في عهد المقتدر بالله ، وكان الوزير حامد بن العبّاس سيء الظنّ فيه ، فأحضر عند الوزير وقاضي القضاة أبي عمرو وقالوا له :بلغنا أنّك قلت : من كان له مال يتصدّق به على الفقراء خير من أن يحجّ به! فقال الحسين : نعم! أنا قلت ذلك! فقالوا له : من أين قلت هذا؟ فقال :من الكتاب الفلاني! فقال القاضي : كذبت يا زنديق! ذلك الكتاب سمعناه فما وجدنا فيه هذا! فقال الوزير للقاضي : اكتب انّه زنديق! فأخذ خط القاضي وبعث إلى الخليفة فأمر الخليفة بصلبه ، ولمّا أخرج استدعى بعض الحجّاب وقال :إني إذا أحرقت يأخذ ماء دجلة في الزيادة حتى تكاد تغرق بغداد ، فإذا رأيتم ذلك خذوا شيئا من رمادي واطرحوه في الماء ليسكن! وكان ينشد هذين البيتين :
اقتلوني يا ثقاتي ، إنّ في موتي حياتي
 

ومماتي في حياتي ، وحياتي في مماتي
 
والذي حيّ قديم غير مفقود الصّفات
 

وأنا منه رضيع في حجور المرضعات
 
وحكي أن بعض من كان ينكره لمّا صلب وقف بإزائه يقول : الحمد لله الذي جعلك نكالا للعالمين وعبرة للناظرين! فإذا هو بالحسين ورآه واضعا يديه على منكبيه يقول : ما قتلوه وما صلبوه ولكن شبّه لهم!
فلمّا صلب وأحرق أخذ الماء في الزيادة حتى كادت تغرق بغداد! فقال الخليفة :هل سمعتم من الحلّاج فيه شيئا؟ قال الحاجب : نعم يا أمير المؤمنين إنّه قال كذا وكذا. فقال : بادروا إلى ما قال! فطرحوا رماده في الماء فصار رماده على وجه الماء على شكل الله مكتوبا وسكن الماء. وكان ذلك في سنة تسع وثلاثمائة ، والله الموفق.

تاهرت
اسم مدينتين مقابلتين بأقصى المغرب ، يقال لإحداهما تاهرت القديم ، وللأخرى الحديث ، وهما كثيرتا الأشجار وافرتا الثمار. سفرجلهما يفوق سفرجل الآفاق طعما وحسنا ، وبهما كثرة الأمطار والانداء والضباب وشدّة البرد ، قلّما ترى الشمس بها.
وذكر أن اعرابيّا دخلها ، وتأذّى من شدّة بردها فخرج منها إلى أرض السودان ، فأتى عليه يوم شديد الحرّ فنظر إلى الشمس راكدة على قمم رؤوسهم ، فقال مشيرا إلى الشمس : والله لئن عززت في هذا المكان لطالما رأيتك ذليلة بتاهرت!
وأهلها موصوفون بالحمق ، حكي انّه رفع إلى قاضيهم جناية فما وجدها في كتاب الله ، فجمع الفقهاء والمشايخ فقالوا بأجمعهم : الرأي للقاضي! فقال القاضي : اني أرى أن أضرب المصحف بعضه ببعض ثمّ أفتحه ، فما خرج عملنا به. فقالوا : وفّقت افعل! ففعل ذلك فخرج : سنسمه على الخرطوم ؛ فجدع أنفه.
تدمر
مدينة بأرض الشام قديمة ، أبنيتها من أعجب الأبنية ، موضوعة على العمد الرخام. زعموا أنّها ممّا بنته الجنّ لسليمان ، عليه السلام ؛ قال النابغة الذبياني :
إلّا سليمان قد قال الإله له :
 

قم بالبريّة فاحددها عن الفند
 
وخيّس الجنّ إني قد أمرتهم
 

يبنون تدمر بالصّفّاح والعمد
 
حكى إسماعيل بن محمّد بن خالد التستري قال : كنت مع مروان بن محمّد ،

آخر ملوك بني أميّة ، حين هدم حائط تدمر ، فأفضى الهدم إلى خرق عظيم ، فكشفوا عنه صخرة فإذا بيت مجصّص كأن اليد قد رفعت عنه ، وإذا سرير عليه امرأة مستلقية على ظهرها عليها سبعون حلّة ، ولها غدائر مشدودة بخلخالها ، قال : فكانت قدمها ذراعا من غير أصابع ، وفي بعض غدائرها صفيحة ذهب فيها مكتوب : باسمك اللهم! أنا تدمر بنت حسّان أدخل الله الذلّ على من يدخل عليّ! فأمر مروان بالخرق فأعيد كما كان ، ولم يأخذ شيئا من حليّها! قال :فوالله ما مكثنا بعد ذلك إلّا أيّاما حتى أقبل عبد الله بن علي وحارب مروان وفرّق جيوشه ، وأزال الملك عن بني أميّة.
وبها تصاوير كثيرة ، منها صورة جاريتين من حجارة نمّق الصانع في تصويرهما ، مرّ بهما أوس بن ثعلبة فقال :
فتاتي أهل تدمر خبّراني
 

ألمّا تسأما طول المقام
 
قيامكما على غير الحشايا
 

على حبل أصمّ من الرّخام
 
فكم قد مرّ من عدد اللّيالي
 

لعصر كما وعام بعد عام
 
وإنّكما على مرّ اللّيالي
 

لأبقى من فروع ابني شمام
 
فسمع هذه الأبيات يزيد بن معاوية فقال : لله درّ أهل العراق! هاتان الصورتان فيكم أهل الشام ، لم يذكرهما أحد منكم ، فمرّ بهما هذا العراقي وقال ما قال!
تستر
مدينة مشهورة قصبة الاهواز ، الماء يدور حولها. بها الشاذروان الذي بناه شابور ، وهو من أعجب البناء وأحكمها ، امتداده يقرب من ميل حتى يردّ الماء إلى تستر ، وهي صنعة عجيبة مبنيّة بالحجارة المحكمة وأعمدة الحديد وملاط الرصاص ، وإنّما رجع الماء إلى تستر بسبب هذا الشاذروان ، وإلّا لامتنع

لأنّه على نشز من الأرض.
وإنّها مدينة آهلة كثيرة الخيرات وافرة الغلّات ، وغزا بعض الأكاسرة الروم وحمل الأسارى إلى تستر وأسكنهم فيها فظهرت فيها صنائع الروم وبقيت في أهلها إلى زماننا هذا. يجلب منها أنواع الديباج والحرير والخزّ والستور والبسط والفرش.
وحكي أن أبا موسى الأشعري لمّا فتح تستر وجد بها ميتا في آبزون من نحاس ، معه دراهم من احتاج إلى تلك الدراهم أخذها ، فإذا قضى حاجته ردّها ، فإن حبسها مرض. فكتب أبو موسى بذلك إلى عمر بن الخطّاب ، فكتب في جوابه : ان ذلك دانيال النبيّ! أخرجه وغسّله وكفّنه وصلّ عليه وادفنه.
وينسب إليها سهل بن عبد الله التستري ، صاحب الكرامات الظاهرة ، من جملتها إذا مسّ مريضا عافاه الله ، وقد سمع من كثير من أهل تستر أن في منزل سهل بيتا يسمّى بيت السباع ، كانت السباع تأتيه وهو يضيفها فيه ، حكى سهل ابتداء أمره قال : قال لي خالي محمّد بن سوار : ألا تذكر الله الذي خلقك؟ قلت : كيف أذكره؟ فقال : قل بقلبك عند تقلّبك في ثيابك ثلاث مرّات من غير أن تحرّك به لسانك : الله معي! الله ناظر إليّ! الله شاهدي! قلت ذلك ثلاث ليال ثمّ أعلمته. قال : قل ذلك كلّ ليلة سبع مرّات ، فقلت ذلك ثمّ أعلمته. فقال : قل كلّ ليلة إحدى عشرة مرّة ، فقلت ذلك ثمّ أعلمته ، فوقع في قلبي حلاوة. فلمّا كان بعد سنة قال لي خالي : احفظ ما علمتك ودم عليه حتى تدخل القبر ، فإنّه ينفعك في الدنيا والآخرة! فبقيت على ذلك سنين ، فوجدت لها حلاوة في سرّي. ثمّ قال لي يوما : يا سهل من كان الله معه وناظرا إليه وشاهده لا يعصي! إيّاك والمعصية! قال : كنت أشتري بدرهم شعيرا فيخبز لي منها أفطر كلّ سحر على قدر أوقية منها بغير ملح ولا ادام ، فيكفيني الدرهم سنة ، ثمّ عزمت على أن أطوي ثلاث ليال وأفطر ليلة ثمّ خمسا ثمّ سبعا ثمّ خمسا وعشرين. بقيت على ذلك عشرين سنة. توفي سنة ثلاث وثلاثين ومائتين.

وحكى الأستاذ أبو عليّ الدقّاق : أن يعقوب بن ليث الصفّار مرض مرضا شديدا عجز الأطباء عن معالجته ، فقيل له : إن في ولايتك رجلا يدعو الله تعالى للمرضى فيشفون ، فلو دعا الله لك ترجو العافية. فطلب سهلا وسأله أن يدعو له فقال له سهل : أنّى يستجاب دعائي لك وعلى بابك مظلومون! فأمر برفع الظلامات وإخراج المحبّسين ، فقال سهل : يا ربّ كما أريته ذلّ المعصية فأره عزّ الطاعة! ومسح بطنه بيده فعافاه الله ، فعرض على سهل مالا كثيرا فأبى أن يأخذ منه شيئا ، فقالوا له لمّا خرج : لو قبلت وفرّقت على الفقراء!
فقال له : انظر إلى الأرض. فنظر فرأى كلّ مكان وضع قدمه عليه صار ترابه دنانير. فقال : من أعطاه الله هذا أي حاجة له إلى مال يعقوب؟وقال : دخلت يوم الجمعة على سهل بن عبد الله فرأيت في بيته حيّة فتوقّفت ، فقال لي : ادخل ، لا يتمّ إيمان أحد ويتّهم شيئا على وجه الأرض. فدخلت فقال لي :هل لك في صلاة الجمعة؟ قلت : بيننا وبين الجامع مسيرة يوم. فأخذ بيدي ، فما كان إلّا قليلا حتى كنّا في الجامع فصلّينا صلاة الجمعة ، فرأى الخلق الكثير فقال : أهل لا إله إلّا الله كثير ، لكن المخلصون قليل.
تلمسان
قرية قديمة بالمغرب. ذكروا أن القرية التي ذكرها الله تعالى في قصّة الخضر وموسى : فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيّفوهما ، فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقضّ فأقامه. قيل : إنّه كان جدارا عاليا عريضا مائلا ، فمسحه الخضر ، عليه السلام ، بيده فاستقام.
وحدّثني بعض المغاربة أنّه رأى بتلمسان مسجدا يقال له مسجد الجدار ، يقصده الناس للزيارة.

تنس
مدينة بافريقية حصينة ، ولها قهندز صعب المرتقى ، ينفرد بها العمال لحصانتها خوفا من الرعيّة ، هواؤها وبيّ وماؤها رديّ ، وماؤهم من واد يدور حول المدينة ، وإليه مذهب مياه حشوشهم وشربهم منه ، والحمّى لا تفارق أهلها في أكثر الأوقات.
وبها ذئب كثير يأكل أهلها ، وبرغوث كثير ، وهم في عذاب من الذئب والبراغيث ؛ قال بعض من دخلها وفارقها :
لا سقى الله بلدة كنت فيها!
 

البراغيث كلّهم أكلوني!
 
قرصوني حتّى تنمّر جلدي
 

لو خلعت الثّياب لم تعرفوني
 
إن صعدت السّطوح لم يتركوني
 

وأراهم على الدّرج يسبقوني
 
تونس
مدينة بأرض المغرب كبيرة على ساحل البحر ، قصبة بلاد افريقية. اصلح بلادها هواء وأطيبها ماء وأكثرها خيرا! وبها من الثمار والفواكه ما لا يوجد في غيرها من بلاد المغرب حسنا وطعما : فمن ذلك لوز عجيب يفرك باليد ، وأكثرها في كلّ لوزة حبّتان. وبها الرمان الذي لا عجم له مع صدق الحلاوة ، والأترج الذكي الرائحة البديع المنظر ، والتين الحازمي الأسود الكبير الرقيق القشر الكثير العسل ، لا يكاد يوجد فيه بزر ، والسفرجل الكبير جدّا العطر الرائحة ، والعنّاب الكبير كلّ حبّة منه على حجم جوزة ، والبصل العلوري على حجم الأترج مستطيل صادق الحلاوة.
وبها أنواع من السمك عجيبة لا ترى في غيرها ، يرى في كلّ شهر نوع من السمك خالفا لما كان قبله ، فيملّح ويبقى سنين صحيح الجرم طيّب الطعم.

ومنها نوع يقال له البقونس ، يقولون : لولا البقونس لم تخالف أهل تونس.
وأهلها موصوفون باللؤم ودناة النفس والبخل الشديد ، والشغب والخروج على الولاة ؛ قال بعض ولاتهم وقد خرجوا عليه ولقي منهم التباريح فقال :
لعمرك ما ألفيت تونس كاسمها
 

ولكنّني ألفيتها وهي توحش
 
وبين تونس والقيروان ثلاثة أيّام ، بينهما موضع يقال له محقّة ، بها أمر عجيب ، وهو أنّه إذا كان أوان الزيتون قصدته الزرازير ، وقد حمل كلّ طائر معه زيتونتين في مخلبيه يلقيهما هناك ، ويحصل من ذلك غلّة قالوا : تبلغ سبعين ألف درهم!
التّيه
هو الموضع الذي ضلّ فيه موسى ، عليه السلام ، مع بني إسرائيل ، بين أيلة ومصر وبحر القلزم وجبال السراة أربعون فرسخا في أربعين فرسخا لمّا امتنعوا من دخول الأرض المقدّسة ، حبسهم الله تعالى في هذا التيه أربعين سنة ، كانوا يسيرون في طول نهارهم ، فإذا انتهى النهار نزلوا بالموضع الذي رحلوا عنه ، وكان مأكولهم المنّ والسلوى ، ومشروبهم من ماء الحجر الذي كان مع موسى ، عليه السلام ، ينفجر منه اثنتا عشرة عينا ، على عدد الأسباط ، كلّ سبط يأخذ منه ساقية ، ويبعث الله تعالى سحابة تظلّهم بالنهار وعمودا من النور يستضيئون به بالليل. هذا نعمة الله تعالى عليهم ، وهم عصاة مسخوطون ، فسبحان من عمّت رحمته البرّ والفاجر!
قيل : لمّا خرج بنو إسرائيل من مصر عازمين الأرض المقدسة كانوا ستمائة ألف ، وما كان فيهم من عمره فوق الستّين ولا دون العشرين ، فمات كلّهم في أربعين سنة. ولم يخرج ممّن دخل مع موسى إلّا يوشع بن نون وكالب بن يوفنّا ، وهما الرجلان اللذان كانا يقولان : ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنّكم غالبون ، فدخل يوشع ، عليه السلام ، بعقبهم وفتح أرض الشام.

الجابية
قرية من قرى دمشق ، بها تلّ يسمّى تلّ الجابية ، بها حيّات صغار نحو الشبر كثيرة النكاية ، يسمّونها أمّ الصويت لأنّها إذا نهشت صوّت اللديغ صوتا خفيّا ومات لوقته ، وروي عن ابن عبّاس أنّه قال : أرواح المؤمنين بالجابية بأرض الشام ، وأرواح الكفّار ببرهوت بأرض حضرموت ، وقد مرّ ذكرها في حضرموت.
جاشك
جزيرة آهلة بقرب جزيرة قيس ، لأهلها جلادة وخبرة في حرب البحر وعلاج السفن ، جلادة ليس لغيرهم مثلها ، حتى إن الواحد منهم يسبح في الماء أيّاما ويجالد بالسيف مجالدة من هو على الأرض.
ويقول أهل قيس : ان بعض ملوك الهند أهدى إلى بعض الملوك جواري ، فلمّا وصل المركب إلى جاشك خرج الجواري يتفسحن ، فاختطفهن الجنّ وافترشوهن ، فولدن الذين بها ، فلهذا يأتون بما عجز عنه غيرهم.
جالطة
جزيرة على مرسى طبرقة من أرض افريقية ، طولها ثمانية أميال وعرضها خمسة أميال. بها ثلاث أعين عذبة الماء ، وبها مزارع وآثار قديمة. وبها من الايّل ما لا يحصى. حدّثني الفقيه سليمان الملتاني أن بها عنزا كثيرة إنسية توحشت ، إذا قصدها قاصد أهوت نفسها من جبال شاهقة ، ووقفت على قوائمها بخلاف الايّل فإنّها تقف على قرونها.

جزيرة تنّيس
جزيرة قريبة من البرّ بين فرماء ودمياط في وسط بحيرة منفردة عن البحر الأعظم ، بينها وبين البحر الأعظم برّ مستطيل ، وهو جزيرة بين البحرين ، وأوّل هذا البرّ قرب الفرماء. وهناك فوّهة يدخل منها ماء البحر الأعظم إلى بحر تنيس في موضع يقال له القرباج ، وهو يحول بين البحر الأعظم وبحيرة تنيس.
يسار في ذلك البرّ ثلاثة أيّام إلى قرب دمياط ، وهناك فوّهة أخرى تأخذ الماء من البحر الأعظم إلى بحيرة تنيس ، وبقرب تلك الفوّهة النيل ينصبّ إلى بحيرة تنيس ، والبحيرة مقدار إبلاغ يوم في عرض نصف يوم ، ويكون ماؤها أكثر السنة ملحا لدخول ماء البحر إليه عند هبوب الشمال ، فإذا انصرف نيل مصر عند دخول الشتاء وهبوب الرياح الغربيّة خلت البحيرة وخلا سيف البحر الملح مقدار بريدين ، وعند ذلك تكامل النيل وغلبت حلاوته ماء البحيرة ، فصارت البحيرة حلوا. فحينئذ تذخر أهل تنيس المياه في صهاريجهم ومصانعهم لشرب سنتهم وهذه صورتها :
ذكروا انّه ليس بجزيرة تنيس شيء من الهوام المؤذية ، لأن أرضها سبخة شديدة الملوحة ، وقد صنّف في أخبار تنيس كتاب ذكر فيه انّها بنيت في سنة ثلاثين ومائتين بطالع الحوت اثنتا عشرة درجة حد الزهرة ، وشرفها والمشتري فيها وهو صاحب البيت ، فلذلك كان مجمعا للصلحاء وخيار الناس ، قال يوسف بن صبيح : رأيت بها خمسمائة صاحب محبرة يكتبون الحديث ، ولم يملكها أعجميّ ولا كافر قطّ ، لأن الزهرة تدلّ على الإسلام ، تجلب منها الثياب النفيسة الملوّنة والفرش الحسن والثياب الا بوقلمون. ولها موسم يكون عنده من أنواع الطير ما لا يوجد في موضع آخر وهي مائة ونيف وثلاثون نوعا.
أنواع الطيور التي توجد بجزيرة تنيس
السلوى ، البقح المملوح ، النصطفير ، الزرزور ، الباز الرومي ، الصفري ، الدبسي ، البلبل ، السقاء ، القمري ، الفاخت ، النواج ، الزريق ، الهوني ، الزاغ ، الهدهد ، الحسيني ، الجرادي ، الابلق ، الراهب ، الحساف ، البرين ، السلسلة ، دردراي ، الشماس ، البصبص ، الأخضر ، الأبهق ، الأزرق ، الحضير ، أبو الحناء ، أبو كلب ، أبو دينار ، وارية الليل ، برقع أمّ عليّ ، برقع أمّ حبيب ، الدوري ، الزنجي ، وارية النهار ، الشامي ، شقرق ، صدر النحاس ، البلطين ، الخضراء السئة ، السوداء السئة ، الأطروش ، الخرطوم ، ديك الكرم ، الضريس ، الحمراء الرقشة ، الزرقاء الرقشة ، جوز الكسر ، ابن السمان ، ابن المرعة ، النوسية ، السن ، الوروار ، الصردة ، الحمراء الحصية ، القبرة ، المطوّق ، السقسق ، السلار ، المرغ ، السكسكة ، الأرجوحة ، الخوخة ، فرد قفص ، الاورث ، السلونية ، السكة البيضاء ، اللبس ، العروس ، الوطواط ، عصفور ، الزوب ، اللقاب ، الجوين ، القليلة ، العسر ، الأحمر ، الأزرق ، الشرير ، البون ، البرك ، البرسي ، الحصاري ، الرجاحي ، البح ، الحمر ، الرومي ، الملاعقي ، البط الصيني ، العراق ، الاقرح ، البلبو ،

الشطرف ، البشروش ، وزّ الفرط ، أبو قلمون ، أبو قير ، أبو منجل ، البجع ، الكركي ، الغطاس ، اللجوبة ، البطميس ، البحبوبة ، الرقادة ، الكروان البحري ، أبو مسكة ، الكروان الحرحي ، القرلي ، الخروطة ، الحلف ، الارميل ، الفلفوس ، الازد ، العقعق ، البوم ، الورشان ، القطا ، الدرّاج ، الحجل ، البازي ، الصردي ، الصقر ، الهام ، الغراب ، الأبهق ، الباشق ، الشاهين ، العقاب ، الحداء ، الرخمة ، سبحان من خلق الذي نعلم والذي لا نعلم.
ويعرف بها من السمك تسعة وسبعون نوعا :
البوري ، البلمو ، البرو ، اللبت ، البلس ، السكسا ، الأران ، الشموس ، النسا ، الطوبار ، اليقشمار ، الاحناش ، الانكليس ، المعية ، البنيّ ، الابليل ، الفويص ، الدونيس ، المرتنوس ، الاسقلموس ، النفط ، الجبالى ، البلطي ، الحجف ، القلارية ، الرحض ، العبر ، التون ، اللت ، القجاج ، القروص ، الكليس ، الأكلس ، الفراخ ، القرقاح ، الزليخ ، اللاج ، الاكلت ، الماضي ، الجلاء ، السلّاء ، البرقش ، الصد ، البلك ، المشط ، القفا ، السور ، حوت الحجر ، البشين ، الشربوت ، النسّاس ، الرعاد ، الشعور ، المحبرة ، اللبس ، السطور ، الراس ، الريف ، اللبيس ، الأبرميس ، الأبونس ، اللبّاء ، العميان ، المناقير ، القلميدس ، الحلبوة ، الرقاص ، القرندس ، الجتر ؛ هو كبارة ، القبج ، المجزع الدليس ، الاشبالة ، البسال الأبيض ، الرقروق ، أمّ عبيد ، البلو ، أمّ الإنسان ، الانسارية ، اللجاه.
جزيرة الجسّاسة
في بحر القلزم ، قالوا : ان الدجّال محبوس في هذه الجزيرة. والجسّاسة دابّة تجسّ الأخبار وتأتي بها الدجّال. روى الشعبي عن فاطمة بنت قيس أنّها قالت : خرج علينا رسول الله ، صلّى الله عليه وسلّم ، وقت الظهيرة وخطبنا وقال :

إني لا أجمعكم لرغبة ولا لرهبة ، ولكن بحديث حدّثنيه تميم الداري ، فمنعني سروره القائلة. حدّثني أن نفرا من قومه أقبلوا في البحر فأصابتهم ريح عاصف ألجأتهم إلى جزيرة ، فإذا هم بدابّة قالوا لها : ما أنت؟ قالت : أنا الجسّاسة! قالوا : أخبرينا الخبر. قالت : إن أردتم الخبر فعليكم بهذا الدير ، فإن فيه رجلا بالأسواق إليكم. قال : أتيناه فقال : أنّى تبعتم؟ فأخبرناه فقال : ما فعلت بحيرة طبرية؟ قلنا : تدفق بين أجوافها. قال : ما فعلت نخل عمان؟ قلنا : يجتنيها أهلها! قال : ما فعلت عين زغر؟ قلنا : يشرب منها أهلها. فقال :لو يبست أنفذت من وثاقي فوطئت بقدمي كلّ منهل إلّا مكّة والمدينة.
جزيرة الكنيسة
في بحر المغرب ؛ قال أبو حامد الأندلسي : على البحر الأسود من ناحية أندلس جبل عليه كنيسة منقورة من الصخر في الجبل ، وعليها قبّة كبيرة ، وعلى القبّة غراب مفرد لا يبرح من أعلى القبّة. وفي مقابلة الكنيسة مسجد يزوره الناس ويقولون : إن الدعاء فيه مستجاب. وقد شرط على القسيسين الذين يسكنون تلك الكنيسة ضيافة كلّ مسلم يقصد ذلك المسجد. فكلّما وصل أحد إلى ذلك المسجد أدخل الغراب رأسه في روزنة على تلك القبّة ، ويصيح بعدد كلّ رجل صيحة ، فيخرج الرهبان بالطعام إلى أهل المسجد ما يكفيهم. وتعرف تلك الكنيسة بكنيسة الغراب ، وزعم القسيسون أنّهم ما زالوا يرون غرابا على تلك الكنيسة ولا يدرون من أين مأكله!
جفار
أرض بين فلسطين ومصر مسير سبعة أيّام ، كلّها رمال سائلة نبض فيها قرى ومزارع ونخل كثير. وأهلها يعرفون آثار الأقدام في الرمل حتى يعرفون وطء الشباب من الشيخ ، والرجل من المرأة ، والبكر من الثيب ، ومع كثرة

بساتينهم لا حاجة لهم إلى النواطير ، لأن أحدهم لا يقدر أن يعدو على غيره ، لأن الرجل إذا أنكر شيئا من بستانه يمشي على آثار القدم ، ويلحق سارقه ولو سار يوما أو يومين.
بها نوع من الطير يأتيهم من بلاد الروم يسمّى المرغ ، يشبه السلوى ، يأتي في وقت معين يصيدون منها ما شاء الله ويملّحونها ، ويأتيهم أيضا من بلاد الروم على البحر في وقت من السنة جوارح كثيرة الشواهين والصقور والبواشق. وقلّما يقدرون على البازي ، وما سواه يصيدونها وينتفعون بها.
جنّابة
بليدة على ساحل بحر فارس سيّئة الهواء رديئة الماء ، لا زرع بها ولا ضرع لأن أرضها سبخة ، وماءها ملح ، رأيتها ، ذكروا أنّهم إذا أرادوا ماء عذبا بها حفروا حفيرة كبيرة وطموها بالطين الحرّ يأتون به من غير أرضهم ، فإذا طمّوا الحفرة بالطين الحرّ حفروها بئرا فيها يكون ماؤها طيبا. وأهلها لفيف متفرّق من الجور والبدّ والفسق ، والفجور فيها أظهر من الصلاة والأذان في غيرها.
ينسب إليها أبو الحسن القرمطي الجنّابي ، خرج إلى البحرين ودعا العرب إلى نحلته ، فاجتمع عليه خلق كثير وكسر عسكر الخليفة وقتل على فراشه ، فقام ابنه سليمان وقتل حجّاج بيت الله الحرام ، ونهب حلى الكعبة وقلع الحجر الأسود ونقله إلى الاحساء وبقي عندهم إحدى وعشرين سنة ، ثمّ ردّوه بمال عظيم.
وظهر في أوّل رمضان سنة تسع عشرة وثلاثمائة غلام فاجر ، يقال له ابن أبي زكرياء الطمّامي ، دعا الناس إلى ربوبيّته ، وذاك الغلام الفاجر يأمر بعبادة النار وقطع يد من أطفأ نارا أو لسان من أطفأها بالنفخ. وأمر الغلمان بطاعة طلابهم ومن امتنع أمر بذبحه ، ثمّ سلّط الله عليه من تولّى إظهاره فذبحه ورجع عن القرمطة.

جور
مدينة نزهة بأرض فارس كثيرة المياه والبساتين ؛ قال الاصطخري : ان الرجل يسير من كلّ جانب منها نحو فرسخ في بساتين وقصور. بناها أردشير بابك. وفي وسط المدينة بناء عال يسمّى الطربال. والإنسان إذا علا ذلك البناء أشرف على المدينة وعلى رساتيقها وبنى في أعلاها بيت نار. وبحذاء المدينة جبل استنبط منه الماء وعلاه إلى رأس الطربال.
وبها البئر العجيبة التي ليس في شيء من البلاد مثلها ، وهي على باب المدينة ممّا يلي شيراز ، وقد أكبّوا على قعرها قدرا من نحاس ، يخرج من ثقبة ضيقة في ذلك القدر ماء حاد جدّا ويصل إلى صفة البئر بنفسه ، ولا يحتاج إلى استقاء الماء منها.
وبها الورد الجوري وهو ورد أحمر صافي اللون من أجود أنواع الورد ، يتمثّل بطيب رائحته ؛ قال الشاعر :
أطيب ريحا من نسيم الصّبا
 

جاءت بريّا الورد من جور
 
وحكى أحمد بن يحيى بن جابر أن جور نزل عليها المسلمون سنين ، فعجزوا عن فتحها حتى نزل عليها عبد الله بن عامر. وكان بعض أجناد المسلمين قام بالليل يصلّي وإلى جانبه جراب فيه خبز ولحم ، فجاء كلب جرّه وعدا به حتى دخل المدينة من مدخل خفيّ لها ، فدخل المسلمون من ذلك المدخل ، فأصبح أهل جور والمدينة ممتلئة من المسلمين ، ملكوها قهرا.
جيرفت
مدينة كبيرة بكرمان ، آهلة كثيرة الخيرات وافرة الثمرات ؛ قال الاصطخري : بها نخل كثير ، ولأهلها سنّة وهي أنّهم لا يرفعون شيئا من

الثمرات التي أسقطتها الريح بل يتركونها للضعفاء ، فربّما كثرت الريح في بعض السنين فيحصل للضعفاء أكثر ممّا يحصل للملّاك.
جيزة
ناحية بمصر ؛ قال أبو حامد الأندلسي : بها طلسم للرمل وهو صنم والرمل خلفه إلى ناحية المغرب مثل البحر ، تأتي به الرياح من أرض المغرب ، فإذا وصل إلى ذلك الصنم لا يتعدّاه ، والقرى والرساتيق والمزارع والبساتين بين يدي ذلك الصنم والرمل العظيم خلفه. وكان مكان ذلك الرمل مدن وقرى علاها الرمل وغطّاها ، وتظهر رؤوس الأعمدة الرخام والجدر العظام في وسط ذلك الرمل ، ولا يمكن الوصول إليها ؛ قال : وكنت أصعد بعض تلال الرمل بالغداة إذا تلبّد الرمل بالطلّ في الليل ، فرأيت الرمل مثل البحر لا يتبيّن آخره البتّة ، ورأيت مدينة فرعون يوسف ، عليه السلام ، مدينة عظيمة بنيانها وقصورها أعظم وأحكم من مدينة فرعون موسى ، عليه السلام ، والرمل قد غطّى أكثرها فظهرت رؤوس الأعمدة التي كانت في القصور. وهناك سجن يوسف ، عليه السلام ، في جوف حائط باب قصر الملك ، والحائط منحوت من الصخر ، فصعدت في درج في نفس الحائط كدرجات المنبر من الصخر إلى غرفة في نفس الجدار مشرفة على النيل ، وسطح تلك الغرفة وسقفها من ألواح الصخر المنحوتة مثل الخشب.
وفي الغرفة باب يفضي إلى بيت عظيم تحت الغرفة ، هو سجن يوسف ، عليه السلام ، وعلى جدار الغرفة مكتوب : ههنا عبّر يوسف الرؤيا حيث قال :قضي الأمر الذي فيه تستفتيان.

حلب
مدينة عظيمة كثيرة الخيرات طيّبة الهواء صحيحة التربة. لها سور حصين وقلعة حصينة. قال الزّجّاجيّ : كان الخليل ، عليه السلام ، يحلب غنمه بها ويتصدّق بلبنها يوم الجمعة فيقول الفقراء : حلب ، فسمّيت بذلك ، ولقد خصّ الله تعالى هذه المدينة ببركة عظيمة من حيث يزرع في أرضها القطن والسمسم والبطّيخ والخيار والدخن والكرم والمشمش والتفاح والتين عذيا يسقى بماء المطر ، فيأتي غضّا رويّا يفوق ما يسقى بالسيح في غيرها من البلاد ؛ قال كشاجم :
أرتك يد الغيث آثارها
 

وأخرجت الأرض أزهارها
 
وما منعت جارها بلدة
 

كما منعت حلب جارها
 
هي الخلد يجمع ما تشتهي
 

فزرها ، فطوبى لمن زارها
 
والمدينة مسوّرة بحجر أسود ، وفي جانب السور قلعة حصينة لأن المدينة في وطاء من الأرض. وفي وسطها جبل مدوّر مهندم والقلعة عليه. ولها خندق عظيم وصل حفرد إلى الماء ، وفي وسطه مصانع للماء المعين وجامع وبساتين وميدان ودور كثيرة ، وفيها مقامان للخليل ، عليه السلام ، يزاران إلى الآن.
وفيها مغارة كان يجمع الخليل فيها غنمه. وفي المدينة مدارس ومشاهد وبيع ، وأهلها سنّية وشيعية.
وبها حجر بظاهر باب اليهود على الطريق ، ينذر له ويصبّ عليه الماورد المسلمون واليهود والنصارى ؛ يقولون : تحته قبر نبيّ من الأنبياء ، وفي مدرسة الحلاوى حجر على طرف بركتها كأنّه سرير ، ووسطه منقور قليلا يعتقد الفرنج فيه اعتقادا عظيما ، وبذلوا فيه أموالا فلم يجابوا إليه.
ومن عجائبها سوق الزجاج ، فإن الإنسان إذا اجتاز بها لا يريد أن يفارقها ،

لكثرة ما يرى فيها من الطرائف العجيبة والآلات اللطيفة تحمل إلى سائر البلاد للتحف والهدايا. وكذلك سوق المزوّقين ففيها آلات عجيبة مزوّقة.
ولهم لعب كلّ سنة أوّل الربيع يسمّونه الشلاق ، وهو انّهم يخرجون إلى ظاهر المدينة وهم فرقتان تتقاتلان أشدّ القتال ، حتى تنهزم إحدى الفرقتين فيقع فيهم القتل والكسر والجرح والوهي ثمّ يعودون مرّة أخرى.
ومن عجائبها بئر في بعض ضياعها إذا شرب منها من عضّه الكلب الكلب برىء ، وهذا مشهور ، قال بعض أهل هذه القرية : شرطه أن العضّ لم يجاوز أربعين يوما ، فإن جاوز أربعين يوما لم يبرأ! وذكر أنّه أتاهم ثلاثة أنفس من المكلوبين وشربوا منه فسلم اثنان لم يجاوزا الأربعين ، ومات الثالث وقد جاوز الأربعين. وهذه بئر منها شرب أهل الضيعة.
وحكى بعضهم أنّه ظهر بأرض حلب سنة أربع وعشرين وستّمائة تنّين عظيم بغلظ منارة وطول مفرط ، ينساب على الأرض يبلع كلّ حيوان يجده ، ويخرج من فمه نار تحرق ما تلقاه من شجر أو نبات ، واجتاز على بيوت أحرقها والناس يهربون منه يمينا ويسارا حتى انساب قدر اثني عشر فرسخا ، فأغاث الله تعالى الخلق منه بسحابة نشأت ونزلت إليه فاحتملته ، وكان قد لفّ ذنبه في كلب فيرفع الكلب رفعة والكلب يعوي في الهواء والسحاب يمشي به ، والناس ينظرون إليه إلى أن غاب عن الأعين ؛ قال الحاكي : رأيت الموضع الذي انساب فيه كأنّه نهر.
حمص
مدينة بأرض الشام حصينة ، أصحّ بلاد الشام هواء وتربة. وهي كثيرة المياه والأشجار ولا يكاد يلدغ بها عقرب أو تنهش حيّة. ولو غسل ثوب بماء حمص لا يقرب عقرب لابسه إلى أن يغسل بماء آخر.
ومن عجائبها الصورة التي على باب المسجد الذي إلى جانب البيعة ، وهي

صورة إنسان نصفها الأعلى ، ونصفها الأسفل صورة عقرب. يؤخذ الطين الحرّ ويطبع به على تلك الصورة وتلقى في الماء حتى يشرب الملدوغ فيبرأ في الحال.
وأهلها موصوفون بالجمال المفرط والبلاهة ؛ قال الجاحظ : مرّت بحمص عنز تبعها جمل ، فقال رجل لآخر : هذا الجمل من هذا العنز! فقال الآخر :كلّا إنّه يتيم في حجره.
ومن العجب أنّهم كانوا أشدّ الناس على عليّ ، رضي الله عنه ، فلمّا انقضت تلك الأيّام صاروا من غلاة الشيعة ، حتى ان في أهلها كثيرا ممّن يرى مذهب النّصيرية وأصلحهم الامامية السبابة.
وأمّا حكومة قاضي حمص فمشهورة : ذكر أنّه تحاكم إليه رجل وامرأة ، فقالت المرأة : هذا رجل أجنبيّ مني وقد قبّلني ، فقال القاضي : قومي إليه وقبّليه كما قبّلك! فقالت : عفوت عنه! فقال لها : مرّي راشدة.
وبها قبر خالد بن الوليد ، رضي الله عنه ، مات بها وهو يقول في مرض موته : تبّا للجبناء! ما على بدني قدر شبر إلّا وعليه طعنة أو ضربة ، وها أنا أموت على الفراش موت العير!
حوران
قرية من نواحي دمشق ، قالوا : انّها قرية أصحاب الاخدود ، وبها بيعة عظيمة عامرة حسنة البناء ، مبنيّة على عمد الرخام منمقة بالفسيفساء ، يقال لها النجران ، ينذر لها المسلمون والنصارى ، ذكروا أن النذر لها مجرّب ، ولنذره قوم يدورون في البلاد ركاب الخيل ، ينادون : من نذر للنجران المبارك؟وللسلطان عليها عطية يؤدّونها كلّ عام.

الحيرة
بلدة قديمة كانت على ساحل البحر بقرب أرض الكوفة ، وكان هناك في قديم الزمان بحر. والآن ليس بها أثر البحر ولا المدينة. بل هي دجلة وآثار طامسة. وكانت الحيرة منزل ملوك بني لخم. وهم كانوا ملوك العرب في قديم الزمان. وإيّاهم أراد الأسود بن يعفر في قوله :
ماذا أؤمّل بعد آل محرّق
 

تركوا منازلهم وبعد إياد
 
أهل الخورنق والسّدير وبارق
 

والقصر ذي الشّرفات من سنداد
 
نزلوا بأنقرة يسيل عليهم
 

ماء الفرات يجيء من أطواد
 
أرض يخيّلها لطيب مقيلها
 

كعب بن مامة وابن أمّ ذواد
 
جرت الرّياح على محلّ ديارهم
 

فكأنهم كانوا على ميعاد
 
ولقد عنوا فيها بأنعم عيشة
 

في ظلّ ملك ثابت الأوتاد
 
فإذا النّعيم وكلّ ما يلهى به
 

يوما يصير إلى بلى ونفاد
 
وبنى النعمان بن امرىء القيس بن عمرو بن عدي قصرا بظاهر الحيرة في ستّين سنة اسمه الخورنق ، بناه رجل من الروم يقال له سنمّار ، وكان يبني السنتين والثلاث ويغيب الخمس ، فيطلب فلا يوجد. وكان يبني على وضع عجيب لم يعرف أحد أن يبني مثله. ثمّ إذا وجد يحتج بحجّة فلم يزل يفعل هذا ستّين سنة. فلمّا فرغ من بنائه كان قصرا عجيبا لم يكن للملوك مثله. فرح به النعمان فقال له سنمار : اني لأعلم موضع آجرّة لو زالت لسقط القصر كلّه.
فقال له النعمان : هل يعرفها أحد غيرك؟ قال : لا! فأمر به فقذف من أعلى القصر إلى أسفله فتقطّعت أوصاله ، فاشتهر ذلك حتى ضرب العرب به المثل فقال الشاعر :
جزاني جزاه الله شرّ جزائه
 

جزاء سنمّار وما كان ذا ذنب
 



سوى رمّة البنيان ستّين حجّة
 

يعلى عليه بالقراميد والسّكب
 
فلمّا رأى البنيان تمّ شهوقه
 

وآض كمثل الطّود الشّامخ الصّعب
 
وظنّ سنمّار به كلّ حبوة
 

وفاز لديه بالمودّة والقرب
 
فقال : اقذفوا بالعلج من فوق رأسه
 

فهذا لعمر الله من أعجب الخطب
 
فصعد النعمان قلّته ونظر إلى البحر تجاهه وإلى البرّ خلفه والبساتين حوله ، ورأى الظبي والحوت والنخل فقال لوزيره : ما رأيت أحسن من هذا البناء قطّ! فقال له وزيره : له عيب عظيم! قال : وما ذلك؟ قال : انّه غير باق! قال النعمان : وما الشيء هو باق؟ قال : ملك الآخرة! قال : فكيف تحصيل ذلك؟ قال : بترك الدنيا! قال : فهل لك أن تساعدني في طلب ذلك؟ فقال :نعم. فترك الملك وتزهّد هو ووزيره ، والله الموفق.
خبيص
مدينة كبيرة بكرمان. ذكر ابن الفقيه أن باطنها لم يمطر أبدا وإنّما تكون الأمطار حواليها. وقال : ربّما أخرج الرجل يده من السور ، فيقع المطر عليها ولا يقع على بقيّة بدنه الداخل في المدينة ، وهذا عجيب!
خربة الملك
مدينة بمصر على شرقي النيل ؛ قال أحمد بن واضح : ان معدن الزمرذ في هذا الموضع في جميع الأرض ، وان هناك جبلين يقال لأحدهما العروس وللآخر الخصوم ، بهما معدن الزمرذ ، ربّما وقعت بهما قطعة تساوي ألف دينار.
الخليل
اسم بلدة بها حصن وعمارة بقرب بيت المقدس. فيه قبر الخليل ، عليه السلام ، في مغارة تحت الأرض ، وهناك مشاهد وقوام ، وفي الموضع ضيافة للزوار ،

وهو موضع طيب نزه آثار البركة ظاهرة عليه ، حكى السلفي أن رجلا أتى زيارة الخليل وأهدى لقيّم الموضع هدية ، وسأله أن يمكّنه من النزول إلى مغارة الخليل ، فقال القيّم : إن أقمت إلى انقطاع الزوار فعلت! فأقام فقطع بلاطة وأخذ معه مصباحا فنزل سبعين درجة إلى مغارة واسعة ، وبها دكة عليها الخليل وعليه ثوب أخضر والهواء يحرّك شيبته ، وإلى جانبه إسحاق ويعقوب ، عليهما السلام ، ثمّ أتى حائط المغارة ، يقال : إن سارة ، عليها السلام ، خلف ذلك الحائط ، فهمّ أن ينظر إلى ما وراء الحائط فإذا هو بصوت يقول : إيّاك والحرم! فعاد من حيث نزل.
دارا
قرية من قرى دمشق ، ينسب إليها أبو سليمان عبد الرحمن بن عطية الداري.
كان فريد وقته في الزهد والورع ، قال : نمت ليلة بعد وردي فإذا أنا بحوراء تقول لي : تنام وأنا أربّى لك في الخدور منذ خمسمائة عام؟ وقال : كنت ليلة باردة في المحراب فأقلقني البرد ، فخبّأت إحدى يديّ من البرد وبقيت الأخرى ممدودة ، فغلبتني عيناي فإذا قائل يقول : يا أبا سليمان قد وضعنا في هذه ما أصابها ، ولو كانت الأخرى مثلها لوضعنا فيها! فآليت على نفسي أن لا أدعو إلّا ويداي خارجتان ، بردا كان أو حرّا.
دارابجرد
كورة بفارس نفيسة. عمّرها داراب بن فارس ؛ قال الاصطخري :بها كهف الموميا ، وقال ابن الفقيه : انّه بأرجان ، وقد مضى ذكرها في أرجان.
وزاد الاصطخري : ان الخالص منه يحمل إلى شيراز ثمّ يغسل الموضع ويعجن بمائه شيء ، ويخرج على أنّه الموميا ، فجميع ما ترى في أيدي الناس من المعجون ، وأمّا الخالص فلا يوجد إلّا في خزانة الملك. وقال أيضا : بناحية دارابجرد

جبال من الملح الأبيض والأصفر والأخضر والأحمر والأسود ، ينحت منها الموائد والصحون والغضائر وغيرها من الظروف ، وتهدى إلى سائر البلاد. وبها معدن الزئبق.
دمشق
قصبة بلاد الشام وجنّة الأرض لما فيها من النضارة وحسن العمارة ، ونزاهة الرقعة وسعة البقعة وكثرة المياه والأشجار ورخص الفواكه والثمار. قال أبو بكر الخوارزمي : جنان الدنيا أربع : غوطة دمشق ، وصغد سمرقند ، وشعب بوّان ، وجرّيرة الأبلّة ، وقد رأيت كلّها فأفضلها غوطة دمشق ، وأهل السير يقولون : إن آدم ، عليه السلام ، كان ينزل في موضع بها يقال له الآن بيت الأبيات ، وحوّاء في بيت لهيا ، وهابيل في مقرى وقابيل في قنينة.
وكان في الموضع الذي يعرف الآن بباب الساعات عند الجامع صخرة عظيمة كانت القرابين توضع عليها ، فما قبل نزلت نار أحرقته ، وما لم يقبل بقي على حاله ، وقتل قابيل هابيل على جبل قاسيون ، وهو جبل على باب دمشق.
وهناك حجر عليه مثل أثر الدم يزعم أهل دمشق انّه الحجر الذي رضّ به قابيل رأس هابيل ، وعند الحجر مغارة يقال لها مغارة الدم لذلك.
والمدينة الآن عظيمة حصينة ذات سور وخندق وقهندز ، والعمارات مشبكة من جميع جوانبها ، والبساتين محيطة بالعمارات فراسخ وقلّما ترى بها دارا أو مسجدا أو رباطا أو مدرسة أو خانا إلّا وفيها ماء جار.
ومن عجائبها الجامع وصفه بعض أهل دمشق قال : هو أحد العجائب كامل المحاسن جامع الغرائب ، بسط فرشه بالرّخام وألّف على أحسن تركيب وانتظام. فصوص أقداره متفقة وصنعته مؤتلفة ، وهو منزه عن صور الحيوان إلى صور النبات ، وفنون الأغصان تجنى ثمرتها بالأبصار ، ولا يعتريها حوائج الأشجار. والثمار باقية على طول الزمان مدركة في كلّ حين وأوان ، لا يمسّها

عطش مع فقدان القطر ، ولا يصيبها ذبول مع تصاريف الدهر.
عمّره الوليد بن عبد الملك ، وكان ذا همّة في أمر العمارات وبناء المساجد.
أنفق على عمارته خراج المملكة سبع سنين ، وحمل عليه الدساتير بما أنفق عليه على ثمانية عشر بعيرا فلم ينظر إليها ، وأمر بإبعادها وقال : هو شيء أخرجناه لله فلا نتّبعه!
قالوا : من عجائب الجامع لو أن أحدا عاش مائة سنة ، وكان يتأمّله كلّ يوم ، لرأى في كلّ يوم ما لم يره من حسن الصنعة ومبالغة التنميق.
وحكي أنّه بلغ ثمن البقل الذي أكله الصنّاع ستّين ألف دينار ، فضجّ الناس استعظاما لما أنفق فيه ، وقالوا : أنفقت أموال المسلمين فيما لا فائدة لهم فيه! فقال : ان في بيت مالكم عطاء ثماني عشرة سنة ، إن لم يدخل فيه حبّة قمح! فسكت الناس ، فلمّا فرغ أمر بتسقيفها من الرصاص ، وإلى الآن سقفها من الرصاص ، ورأيت الصانع يرقمها بالرصاص المذاب. قالوا : ان طيرا يذرق على الرصاص يحرقه فيحتاج إلى الإصلاح لدفع ماء المطر.
قال موسى بن حماد : رأيت في جامع دمشق كتابة بالذهب في الزجاج محفورا سورة «ألهاكم التكاثر» ورأيت جوهرة حمراء نفيسة ملصقة في قاف المقابر ، فسألت عن ذلك فقالوا : ماتت للوليد بنت كانت هذه الجوهرة لها ، فأمرت أمّها أن تدفن هذه الجوهرة معها ، فأمر الوليد بها فصيرت في قاف المقابر ، وحلف لأمّها أنّه أودعها المقابر.
والمسجد مبني على أعمدة رخام طبقتين : التحتانية أعمدة كبار ، والفوقانيّة أعمدة صغار ، في خلال ذلك صور المدن والأشجار بالفسيفساء والذهب والألوان.
ومن العجب العمودان الحجريان اللذان على باب الجامع ، وهما في غاية الإفراط طولا وعرضا ، قيل : وهما من عمل عاد إذ ليس في وسع أبناء زماننا قطعهما ولا نقلهما ولا إقامتهما ، وفي الجانب الغربي بالجامع عمودان على الطبقة العليا من الأعمدة الصغار ، يقولون : انّهما من الحجر الدهنج ، وفي جدار الصحن

القبلي حجر مدوّر شبه درقة منقطة بأبيض وأحمر ، قالوا : بذل الفرنج فيه أموالا فلم يجابوا إليه. وللجامع أوقاف كثيرة وديوان عظيم ، وعليها أرزاق كثير من الناس ، منهم صنّاع يعملون القسيّ والنبال للجامع ويذخرونها ليوم الحاجة ، ذكروا أن دخل الجامع كلّ يوم ألف ومائتا دينار ، يصرف المائتان إلى مصالح الجامع والباقي ينقل إلى خزانة السلطان.
وأهل دمشق أحسن الناس خلقا وخلقا وزيّا ، وأميلهم إلى اللهو واللعب ، ولهم في كلّ يوم سبت الاشتغال باللهو واللعب. وفي هذا اليوم لا يبقى للسيّد على المملوك حجر ، ولا للوالد على الولد ، ولا للزوج على الزوجة ، ولا للأستاذ على التلميذ ، فإذا كان أوّل النهار يطلب كلّ واحد من هؤلاء نفقة يومه ، فيجتمع المملوك بإخوانه من المماليك ، والصبي بأترابه من الصبيان ، والزوجة باخواتها من النساء ، والرجل أيضا بأصدقائه ، فأمّا أهل التمييز فيمشون إلى البساتين ولهم فيها قصور ومواضع طيّبة ، وأمّا سائر الناس فإلى الميدان الأخضر ، وهو محوّط فرشه أخضر صيفا وشتاء من نبت فيه ، وفيه الماء الجاري.
والمتعيّشون يوم السبت ينقلون إليه دكاكينهم. وفيها حلق المشعبذين والمساخرة والمغنّين والمصارعين والفصّالين. والناس مشغولون باللعب واللهو إلى آخر النهار ، ثمّ يفيضون منها إلى الجامع ويصلّون بها المغرب ويعودون إلى أماكنهم.
بها جبل ربوة ، جبل على فرسخ من دمشق ؛ قال المفسرون : إنّها هي المذكورة في قوله تعالى : وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين. وهو جبل عال عليه مسجد حسن في وسط البساتين ، ولمّا أرادوا إجراء ماء بردى وقع هذا الجبل في الوسط ، فنقبوا تحته وأجروا الماء فيه ، ويجري على رأسه نهر يزيد ، وينزل من أعلاه إلى أسفله. وفي المسجد الذي على أعلى الماء الجاري. وله مناظر إلى البساتين ، وفي جميع جوانبه الخضرة والأشجار والرياحين.
ورأيت في المسجد في بيت صغير حجرا كبيرا ذا ألوان عجيبة ، حجمه كحجم صندوق مدوّر ، وقد انشقّ بنصفين وبين شقّيه مقدار ذراع ، لم ينفصل

أحد الشقّين عن الآخر بل متّصل به كرمّان مشقوق ، ولأهل دمشق في ذلك الحجر أقاويل كثيرة.
وينسب إليها إياس بن معاوية الذي يضرب به المثل في الذكاء. طلب من رجل حقّا عند القاضي ، وهو إذ ذاك يتيم ، فقال له القاضي : اسكت إنّك صبي! فقال : إذا سكتّ من يتكلّم عني؟ فقال القاضي : والله لا تقول حقّا! فقال إياس : لا إله إلّا الله! وحكي أن امرأتين تحاكمتا إليه في كبّة غزل ، فأفرد كلّ واحدة منهما وسألها : على أي شيء كبّبت غزلك؟ فقالت إحداهما : على كسرة خبز! وقالت الأخرى : على طرقة. فنقض الكبّة فإذا هي على كسرة خبز. فسمع بذلك ابن سيرين فقال : ويحه ما أفهمه!
وحكي انّه تحاكم إليه رجلان فقال أحدهما : إني دفعت إليه مالا. فجحد الآخر ، فقال للمدّعي : أين سلّمت هذا المال إليه؟ فقال : عند شجرة في الموضع الفلاني! فقال المدّعى عليه : انا ذلك الموضع ما رأيت قطّ. فقال : انطلقوا بالمدّعي إلى ذلك المكان وابصروا هل فيه شجرة أم لا؟ فلمّا ذهبوا إليه قال بعد زمان للمدّعى عليه : ترى وصلوا إلى ذلك المكان؟ قال : لا ، بعد! فقال له : قم يا عدوّ الله ، إنّك خائن! فقال : أقلني أقالك الله! واعترف به.
دمندان
مدينة كبيرة بكرمان ، قال ابن الفقيه : بها معادن الذهب والفضّة والحديد والنحاس والتوتيا والنوشاذر في جبل شاهق يقال له دنباوند. وفي هذا الجبل كهف عظيم يسمع من داخله دويّ شبه خرير الماء ، ويرتفع منه شبه دخان ويلتصق بحواليه ، فإذا كثف وكثر خرج إليه أهل المدينة يقلعونه ، وهو النوشاذر الجيّد الذي يحمل إلى الآفاق ، وقد وكّل السلطان به قوما حتى إذا جمع كلّه أخذ السلطان خمسه.

دمياط
مدينة قديمة بين تنيس ومصر مخصوصة بالهواء الطيب ، وهي من ثغور الإسلام ، عندها يصبّ ماء النيل في البحر ، وعرض النيل هناك نحو مائة ذراع ، وعليه من جانبيه برجان ، بينهما سلسلة حديد عليها جرس ، لا يدخل مركب في البحر ولا يخرج إلّا بإذن ، وعلى سورها مدارس ورباطات كثيرة.
عن رسول الله ، صلّى الله عليه وسلّم ، انّه قال لعمر بن الخطّاب :يا عمر سيفتح على يديك ثغران : الإسكندريّة ودمياط ، أمّا الإسكندريّة فخرابها من البربر ، وأمّا دمياط فهم صفوة من صفوة شهداء من رابطها ليلة كان معي في حظيرة القدس.
وحكى الحسن بن محمّد المهلّبي قال : من طريف أمر دمياط ان الحاكة بها يعملون الثياب الرفيعة ، وهم قبط من سفلة الناس ، أكثر أكلهم السمك المملوح والطري ، فإذا أكلوا عادوا إلى الصنعة من غير غسل الأيدي ، وينشطون بها ويعملون في غزلها ، فإذا قطع الثوب لا يشكّ من يقلّبه انّه بخر بالندّ! وقال أيضا : من طريف أمر دمياط ان في قبليّها على الخليج غرفا تعرف بالمعامل ، يستأجرها الحاكة لعمل ثياب الشرب فيها ، فلا تكاد تنجب إلّا بها ، فإن عمل بها ثوب وبقي منها شبر ونقل إلى غير هذه الغرف علم بذلك السمسار المبتاع للثوب ، وينقص من ثمنه لاختلاف جوهر الثوب ، وتبلغ قيمة الثوب الأبيض بدمياط وليس فيه ذهب ثلاثمائة دينار ، ولا تشارك تنيس في شيء من عملها ، وبينهما مسيرة نصف نهار. ولا يعمل بدمياط مصبوغ ولا بتنيس أبيض وهما حاضرتا البحر.
وبها أنواع الطير والسمك ذكرناها في تنيس لا نعيدها.
وبها الفرش القلموني من كلّ لون. وبها سمكة يقال لها الدلفين ، وهي في خلقة زقّ ، زعموا أنّها تنجي الغريق ، وبها سمكة أخرى من أكلها يرى

منامات هائلة.
وحكي أن الفرنج في زمان الملك الكامل اتّخذوا مركبا بعلو سور دمياط ، وشحنوه من الرجال والسلاح وأجروه في البحر إلى أن يصل بسور دمياط ، فوثبوا من المركب إلى السور وفتحوا دمياط بهذه الحيلة ، فلمّا علم الملك الكامل ذلك شقّ عليه وجاء محاصرا لها ، فصعب عليه استخلاصها فبنى بجنبها مدينة بالأسواق والحمامات ، وما زال يحاصرها حتى فتحها ، وأسر من كان فيها من الفرنج ومنّ على أمرائهم.
دندرة
مدينة على غربي النيل من نواحي الصعيد طيّبة ، ذات مياه وأشجار ونخل وكرم ، فيها من البرابي كثير ، والبربا بيت فيه صور لطلسم أو سحر ، من جملتها بربا فيه مائة وثمانون كوّة ، تدخل الشمس كلّ يوم من كوة واحدة بعد واحدة ، حتى تنتهي إلى آخرها ، ثمّ تكرّ إلى الموضع الذي بدأت منه.
دورق
بليدة بخوزستان ؛ قال مسعر بن مهلهل : في أعمالها معادن كثيرة. وبها آثار قديمة لقباذ بن دارا. وبها صيد كثير ويجتنب بعض مواضعها لا يرعى قالوا انّه لطلسم.
وبها الكبريت الأصفر البحري ، ولا يوجد هذا الكبريت إلّا بها ، وإن حمل منها إلى غيرها لا يسرج ، وإذا أتي بالنار من غير دورق أحرقته ونار دورق لا تحرقه ، وهذا من ظريف الأشياء.
وبها هوام قتالة لا يبلّ سليمها. منها حيّة شبرية تسمّى ذات الرأسين ، وهذه الحيّة توجد بين دورق والباسيان ، تكون في الرمل ، فإذا أحسّت بشيء من الحيوان وثبت أذرعا ونهشت بإحدى رأسيها وتثقل عليه ، فيموت الحيوان في ساعته.

دورقستان
جزيرة بين بحر فارس ونهر عسكر مكرم خمسة فراسخ في خمسة فراسخ ، ترفأ إليها مراكب البحر التي تقدم من ناحية الهند ، لا طريق لها إلّا إليها ، وبها الجزر والمدّ في كلّ يوم مرّتين. وماؤها عذب ، فإذا ورد المدّ عليها يبقى ملحا كثيرا.
وفي وسطها قلعة كان في أيّام الخلفاء يحمل إليها المنفيون من بغداد ، فمن كانت جريمته عظيمة يحبس في القلعة ، ومن كان دون ذلك يرسل في الجزيرة.
وبها عمارات وبيوت يسكنها قوم من النّوتية الذين يعملون في البحر.
وبها مدّ وجزر آخر بحسب زيادة نور القمر ونقصانه ، فيزداد كلّ يوم إلى منتصف الشهر ثمّ ينقص كلّ يوم إلى آخر الشهر.
ورأيت بها شابّا أسمر نحيفا كانوا يقولون انّه يصطاد الظبي ، وحكى بعضهم ان ذئبا قد أكل شاة لهذا الرجل بدورقستان ، فقام يعدو خلفه ، والذئب لا يقدر على الخروج من الجزيرة ، فلم يزل يسعى خلفه حتى أدركه.
دير أبي هور
ذكر الشابستي انّه بسرياقوس من أعمال مصر ، وهي بيعة عامرة كثيرة الرهبان. وفيها أعجوبة ، وهي ان من يكون به خنازير يقصد هذا الموضع للتعالج ، فيضجعه رئيس الموضع ويجيء بخنزير يرسله إلى موضع العلّة ، فيأكل الخنزير الغدة ولا يتعدّى إلى الموضع الصحيح. فإذا تنظّف الموضع ذرّ عليه شيئا من رماد خنزير فعل هذا الفعل من قبل ودهنه بزيت قنديل البيعة فيبرأ.
ثمّ يذبح ذلك الخنزير ويحرق ويعدّ رماده لمثل هذا العلاج.

دير أتريب
بأرض مصر ، يعرف بمارت مريم ، عليها السلام. له عيد وانّه في الخامس عشر من آب ، والحادي والعشرين من بؤونه من أشهر القبط. يذكرون أن حمامة بيضاء تأتيهم ولا يرونها إلّا يوم مثله ، تدخل المذبح ولا يدرون من أين جاءت.
دير أيّوب
قرية من نواحي دمشق. بها كان منزل أيّوب ، عليه السلام ، وبها ابتلاه الله. وبها العين التي ظهرت من ركضه حين أمره الله تعالى به عند انتهاء ابتلائه ، فقال عزّ وعلا : اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب ، والصخرة التي كانت عليها وبها قبره ، عليه السلام.
دير سمعان
دير بناحية دمشق في موضع نزه ، محدقة بالبساتين والدور والقصور ، وكان بها حبيس مشهور ، منقطع عن الخلق جدّا ، وكان يخرج رأسه من كوّة في كلّ سنة يوما معلوما ، فكل من وقع عليه بصره من المرضى والزمنى عوفي. فسمع به إبراهيم بن أدهم ، فذهب إليه حتى يشاهد ذلك ، قال : رأيت عند الدير خلقا كثيرا من الواقفين حذاء تلك الكوّة ، يترقّبون خروج رأس الحبيس ، فلمّا كان ذلك اليوم أخرج رأسه ونظر إليهم يمينا وشمالا ، فكلّ من وقع نظره عليه قام سليما معافى ثمّ رجع إلى مكانه! قال : فتعجبت من ذلك وبقيت متفكّرا فيه ، ثمّ مضيت ودعوته فأجابني وسألته عن حاله فأعطاني سبع حمصات وقال : هذه تطلب منك لا تبعها إلّا بثمن بالغ! قال : فانصرفت عنه فاشتهر بين النصارى أن الحبيس أعطى لهذا الحنيفي شيئا ، فاجتمعوا عليّ وقالوا : ماذا تصنع بهذه

الحمصات؟ بعها منّا! فما زالوا يزيدون في ثمنها حتى بلغ سبعمائة دينار ، فبعتها ثمّ انصرفت وعبوري على دير سمعان ، فأخرج الحبيس رأسه وقال :أيّها الحنيفي قد بعت الحمصات بسبعمائة دينار ، ولو طلبت سبعة آلاف لأعطوك ، وكلّ حمصة لي قوت يوم ، فانظر من يكون قيمة قوته كلّ يوم ألف دينار كم تكون قيمته؟ ثمّ أدخل رأسه.
دير طور سينا
على قلّة طور سينا ، وهو الجبل الذي تجلّى فيه النور لموسى ، عليه السلام ، وخرّ موسى صعقا هناك. والدير مبنيّ بالحجر الأسود ، وفي غربيّه باب لطيف قدّامه حجر ، إذا أرادوا رفعه رفعوه وإذا قصدهم قاصد أرسلوه فانطبق على الموضع ، ولم يعرف مكان الباب ، وفي داخلها عين ماء. وزعم النصارى أن بها نارا من النار التي كانت ببيت المقدس ، وهي نار بيضاء ضعيفة الحرّ لا تحرق ، وتقوى إذا أوقد منها السرج ، وهو عامر بالرهبان والناس يقصدونه ؛ قال فيه ابن عاصم :
يا راهب الدّير ماذا الضّوء والنّور
 

وقد أضاء بما في ديرك الطّور؟
 
هل حلّت الشّمس فيه دون أبرجها
 

أم غيّب البدر عنه فهو مستور؟
 
دير الطّير
بأرض مصر على شاطىء النيل ، بقرب الجبل المعروف بجبل الكهف. وفي هذا الجبل شقّ ، فإذا كان يوم عيد هذا الدير يأتي صنف من الطير يقال له بوقير ، لم يبق منها واحد إلّا جاء ذلك الشقّ ، ويشتدّ عنده صياحها. ولا يزال الواحد بعد الواحد يجعل رأسه في ذلك الشقّ ويصيح إلى أن يتشبّث رأس أحدها بالشقّ فيضطرب حتى يموت ، وعند ذلك تنصرف البقيّة إلى السنة القابلة ، ولا يبقى هناك منها طائر ؛ هكذا ذكر الشابشتي ، وهذا دليل الخصب في تلك السنة ، وربّما تشبّث على طيرين فيكون الخصب بالغا جدّا.

دير نهيا
بالجيزة من أرض مصر. من أحسن الديارات وأنزهها وأطيبها موضعا وأجلها موقعا ، عامر بالرهبان ، وله في النيل منظر عجيب لأنّ الماء محيط به من جميع جهاته. فإذا انصرف الماء وزرعت أظهرت أنواع الأزهار وأصناف الأنوار ، فتشبه الديباج المنقش ، لا يريد الإنسان ان يفارقها ، وله خليج تجتمع فيه الطيور فهو متصيّد أيضا ؛ ولابن البصري فيه :
أيا دير نهيا إن ذكرت فإنّني
 

أسعى إليك على الخيول السّبّق
 
أو ما ترى وجه الرّبيع وقد زهت
 

أنواره بنهاره المتألّق؟
 
وتجاوبت أطياره وتبسّمت
 

أشجاره من ثغر زهر مؤنق
 
والبدر في وسط السّماء كأنّه
 

وجه مضيء في قناع أزرق
 
وإذا سئلت عن الطّيور وصيدها
 

وجنوسها فاصدق وإن لم تصدق
 
فالغرّ فالكروان فالفارور إذ
 

يشجيك في طيرانه المتحلّق
 
أشهدت حرب الطّير في غيطانه
 

لمّا تجوّق منه كلّ مجوّق
 
الرّصافة
مدينة في البرية بقرب الرقّة. رأيتها لها سور محكم من الحجر المنحوت.
أحدثها هشام بن عبد الملك لمّا وقع الطاعون بأرض الشام. ليس بها نهر ولا عين ، وآبارهم بعيدة العمق رشاؤها مائة وعشرون ذراعا وهي ملح. وشربهم من الصهاريج داخل المدينة ، وقد تفرغ الصهاريج في أثناء الصيف ، فيأخذون الماء من الفرات ، وبينهما أربعة فراسخ. ولبني خفاجة عليهم مال يؤدونه صاغرين.
وصنعة أهلها عمل الأكسية والجوالق والمخالي ، منها تحمل إلى سائر البلاد. وكان هشام بن عبد الملك يفزع إليها من البقّ في شاطىء الفرات

ومن عجيب هذه البلدة أن ليس بها زرع ولا ضرع ولا ماء ، ولا أمن ولا تجارة ولا صنعة مرغوبة! وأهلها يسكنونها ، ولولا حبّ الوطن لخربت.
الرّقّادة
بلدة طيبة بافريقية بقرب القيروان ، كثيرة البساتين ، ليس بافريقية أعدل هواء ولا أطيب نسيما منها ولا أصحّ تربة! حتى إن من دخلها لم يزل مستبشرا من غير أن يعلم لذلك سببا.
وحكي أن إبراهيم بن أحمد بن الأغلب مرض وشرد عنه النوم ، فعالجه إسحق المتطبّب الذي نسب إليه الاطريفل الاسحقي ، فأمره بالتردّد. فلمّا وصل إلى هذا الموضع نام فسمّاه رقّادة ، واتّخذ به دورا وقصورا فصارت من أحسن بلاد الله. وكان يمنع بيع النبيذ بالقيروان ولا يمنع بالرقادة ، فقال طرفاء القيروان :
يا سيّد النّاس وابن سيّدهم
 

ومن إليه الرّقاب منقاده
 
ما حرّم الشّرب في مدينتنا
 

وهو حلال بأرض رقّاده؟
 
زكندر
مدينة بالمغرب من بلاد بربر ، بينها وبين مراكش ستّ مراحل ، حدّثني الفقيه علي بن عبد الله المغربي الجنحاني أنّها مدينة كبيرة مسوّرة ، كثيرة الخيرات والثمرات ، أهلها برابر مسلمون ، بها معادن الفضّة عامّة ، كلّ من أراد يعالجها. وهي غيران تحت الأرض ، فيها خلق كثير يعملون أبدا. ومن عادة أهل المدينة أن من جنى جناية أو وجب عليه حقّ فدخل شيئا من تلك الغيران ، سقط عنه الطلب حتى يخرج منها. وفيها أسواق ومساكن ، فلعلّ الخائف يعمل فيها مدّة وينفق ولا يخرج حتى يسهل الله أمره.
وذكر أنّهم إذا نزلوا عشرين ذراعا نزل الماء فالسلطان ينصب عليها

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مشاركة مميزة

بناء شخصية  الأطفال   ...