الخميس، 8 مارس 2018

جزء الثاني من الكتاب بإ سم : طلوع سعد السعود  ( الرحلة الورتلانية البجائية1 ) الجزء الثاني  من الكتابة 

ثم تحارب مع ملك الأندلس لما تملّك بالنامسة ، وكثرت بينه وبينهم الحروب ذات النحس الناحسة ، وقد أعد لقتالهم الكور وكان مجهولا وذلك وقت الظهور ، فكانت الحرب بينهما سجال ، ما دام الحرب والقتال وذلك سنتي ثمان وتسع وثلاثين من القرن المذكور ، وفي التي بعدهما اتحد البابّ (كذا) وملك الانقليز بالمسطور ، وملك النامسة وبعض أمراء الطليان ووزيره دوبوربون على مقاتلته ومكافحته / ومجاولته فاشتدّ الحرب في كل ناحية ، وكل جهة وضاحية ، وقدم للميلانيز فاستولى هذا الملك على ميلان وقدم سنة اثنين وأربعين من المذكور ليافا فحاصروها بما كان ، واشتدّ القتال إلى أن هزمت جيوشه ومات منها ثمانية آلاف مقاتل وحصل الملك افرانصوا في الأسر بعد هجومه الطائل ، وأرسل إلى مدريد قاعدة الأندلس فسجنه ملكها هنالك. ولمّا بلغ الخبر لافرانسا بايعوا والدته نائبة عن ابنها سريع المدارك ، ولم يخرج من سجنه إلّا بشروط شديدة مؤسسة سديدة ، منها أن يردّ كلّ مملكة أخذها لأهلها ، ويعط (كذا) اثنين من أولاده ثقة بكلها ، فوافق لكنه عاهد نفسه بعدم الوفاء ، وأخرج منه سنة ثلاث وأربعين من المذكور آنفا. وفي وقته سنة اثنين وستين من العاشر الهجري (150) استنبط شخص من بسيط ، البندقية الصغيرة المسمّة (كذا) بالكبوس (كذا) وبالبشطولة ، نسبة للبلدة المخترع فيها ذلك في صحيح المقولة.
الملك هنري الثاني
وتاسع خمسينهم ابنه أنري الثاني تولى يوم موت أبيه وهو عام تسع وستين وتسعمائة (151) بالتبياني ، ومات سنة ست وسبعين من العاشر المذكور ، بعد ما ملك اثنا عشر سنة في المسطور ، وخلّف سبعة من الأولاد الذكور ، فثلاثة منهم ملكوا على التوالي في المشهور. ومن خبره أنه أورث العداوة من أبيه لشارلكين (كذا) بالمستبان. واتحد على محاربته مع أمراء الألمان. وجهّز الجيش العتيد وسار معه لوطن اللورين وهو في احتياز الأندلس وقت ذاك بما يريدون فأنشأ مع
__________________
(150) الموافق 1554 ـ 1555 م.
(151) الموافق 1561 ـ 1562 م.

أهله الحرب إلى أن استولى على مدائن ميس وطول وفيردون. ثم قدم شارل الخامس إلى مدينة مين ، بقصد الحرب في الحين ، وذلك سنة سبعين من المذكور فحاصرها ولم يطق على الاستلاء (كذا) عليها بالتبيان ، فارتحل عنها واستولى على مدينة طيروان وقتل كل من بها بالعدوان ، فجاءه أنري الثاني بجنوده العديدة الشانطي (كذا) واشتدّ القتال بينهما بنواحي مدينة رانطي ودام إلى أن هزمه أنري في المروى ، واحتوى على بعض / ذخائره بغاية المحتوى ، وذلك سنة إحدى وسبعين من العاشر ، وجهز جيشا لنظر دوكيز العابر ، فذهب وحاصر مدينة كالي وأخذها في ثمانية أيام ، بعد ما بقيت بيد الانقليز ما ينيف على المائتين من أعوام ، وأنري هذا هو أول من جعل صورته في النقدين ، وكذا الفلوس بغير مين.
الملك افرانسوا الثاني
وستينهم ابنه افرانصوا الثاني ، تولى يوم موت أبيه وهو عام ست وسبعين وتسعمائة (152) بالبياني ومات سنة سبع وسبعين من المذكور ، بعد ما ملك عاما واحدا في المسطور. ومن خبره أنه كان ضعيف البدن ناقص العقل ، لا طاقة له على منع شيء من الفساد والوحل ، وافترقت عليه أرباب دولته أحزابا ، فكان ذلك لاختلاف دينهم أسبابا ، وشرعت الناس في أيامه في فلاحة الدخان ، بعد ما كان مجهولا في تلك الأوطان.
الملك شارل التاسع
وحادي ستينهم أخوه شارل التاسع ، تولى يوم موت أخيه في المسامع ، وهو عام سبع وسبعين من العاشر المذكور ومات عام إحدى وتسعين منه في المشهور (153) بعد ما ملك أربعة عشر عاما ، فأتته منيته التزاما. ومن خبره أنه كان صغيرا فقامت أمه بالتصرف عليه ، لكونه ابن عشرة أعوام وترد الأمور إليه ،
__________________
(152) الموافق 1568 ـ 1569.
(153) الموافق 1569 ـ 1583 م.

وكانت من الدهاء والمكر والغدر في الغاية ، فأظهرت المصالحة مع المتبعين لدين المسيح بالنهاية ، وغرضها الفساد لهم والتقوية لشوكتها وتدريب أمورها بحوكتها ، وكثر القتال بين الروافض ومن هو للطاعة ودين المسيح رافض ، ثم قوت شوكته وقتل ما ظفر به من الروافض ، وابتلي بمرض ليس له فيه علاج ، ولازم الفراش إلى أن قضى نحبه بالمعلاج ، وظهر في أيامه أمران : مبدأ العام العجمي الأول من ينيّر (كذا) قصارى ، بعد ما كان ابتداء العام من عشية العيد الكبير عند النصارى (154) وأتى دارك بالبطاطة من المريكة (كذا) وشرعت الناس في فلاحتها بالشريكة (155).
الملك هنري الثالث
وثاني ستينهم أخوه أنري الثالث تولى يوم موت أخيه وهو عام إحدى وتسعين من العاشر (156) ، ومات قتيلا سنة ستة من الحادي عشر (كذا) ، بعد ما ملك خمسة عشر سنة ، ولم يترك نسلا مبينة / ومن خبره أنه كان مستقرا بأرض البولونيز فبلغه خبر موت أخيه وجاء بالعزم لباريز فألفى المملكة في غاية الفساد ، من الوقائع الدينية وظهور العناد ، فعقد الصلح على إظهار الروافض لدينهم ، لكونه كان قليل الحزم مختل المزاج والناس غير مشتغلة بما يعنيهم ، ونشأ الحرب مع النّفار وأظهر من شجاعته ما فيه المقدار ، وصار يتحيل على الانتقام من الأخوين الدوك والكردينال دوكيز إلى أن قتلهما غدرا بالتجويز ، ثم اصطلح مع ملك النفار وجهز جيوشا لمحاربة الباريز فقتله راهب قبل إتمام المراد ، وقتل القاتل فورا لتسكن الفتنة بين العباد ، وبموته انقرض الفرع الرابع بعد ما ملك أربعا وسبعين عاما. وانتقل الملك للفرع الخامس من الطبقة الثالثة احتكاما.
__________________
(154) يقصد جعل بداية السنة أول شهر يناير وكانت قبل ذلك تبدأ بعيد ميلاد المسيح وهو يوم 25 ديسمبر.
(155) يقصد إحضار نبتة البطاطا من أمريكا.
(156) الموافق 1583 م.

الملك هنري الرابع
وثالث ستينهم أنري الرابع ، بالتعميم الملقب لوقران ، ومعناه عندهم العظيم. تولى سنة ستة وألف ومات قتيلا سنة سبع وعشرين من الحادي عشر (157) بعد ما ملك ثمانا وعشرين فيما اشتهر. ومن خبره أنه لما تولّى جهّز جيوشا لدفع الفساد ، حين وقف المتحدون بباب العناد. وكان يكره قتل قومه ، لحسن عهده واطراد لومه ، ثم أنشأ الحرب أيضا مع المعاندين سنة سبع من الحادي عشر بالتبيين ، وكانت جنوده أقل من جنود الدوك دومايين ولما اشتدّ القتال ظهر عليهم وهزمهم في الساعة والحين ، ثم تجددت بينه وبينهم الفتنة ونصر عليهم ، وأظهر من شجاعته ما كان التحدّث به لديهم ، ثم اتّحد مع مملكة الانقليز ، وجاء من حينه لباريز ، وحاصرهم بما يزيد على شهرين بالجنود الطامّة ، الكثيرة الوافرة العامة ، وأحاط بهم القحط العظيم ، الذي مات به ما يزيد على الثلاثين ألفا بالتتميم ، ولم تسكن الفتنة إلى أن دخل بدين المسيح ، بكنيسة سانداني في الصحيح فتوجّه لباريز واشتهر قدومه ، وتسابقت الناس بملاقاته بما يدومه ، وذلك سنة إحدى عشر من الحادي عشر بالسراعة ، وفي التي تاليها (كذا) حاربهم وهزمهم وعفا عن دومايين لما أذعن للطاعة ، بالاستطاعة / ، فاستراحت الناس وحلت بهم العافية وطاب لهم العيش بالنّعم الوافية ، وأدّى ما عليه من الديون ، وحطّ عن الرعية حصة من المغارم واستراح كل مغبون ، وبنا (كذا) المدون (كذا) وسد الثغور ، وزاد في السفن كثرة بالقدر والمشكور ، ثم أسس باريزا وبنا (كذا) بالوادي الذي يشقه قنطرة المرور.
الملك لويس الثالث عشر
ورابع ستينهم ابنه لويز الثالث عشر السديد الملقب لوجوست ، ومعناه عندهم الرشيد تولى يوم موت أخيه وهو عام سبعة وعشرين وألف وهو ابن تسعة أعوام ، ومات سنة ستين منه (158) بعد ما ملك ثلاثا وثلاثين من الأعوام ، ومن خبره
__________________
(157) الموافق 1597 ـ 1618 م.
(158) الموافق 1618 ـ 1650 م.

أنه الذي كان يتصرف عليه في الملك بالنيابة عنه لصغره بالعياني ، أمه ووزيره كونجيبني الطلياني ، فامتنعت الأمة من الإذعان له وخلعوا الطاعة ، وراموا العناد والفضاعة ولما بلغ الملك في السن ستة عشر سنة وهو وقت الصولة ، خلع أمه والوزير وذلك بأشلاء الدولة ، فسجنها وقتل الوزير خفية ، فصار الناس جهتين أحدهما له والأخرى لوالدته خفية ، واشتغل باللعب واللهو ، وأدّاه ذلك إلى أمور الهزل والسهو ، فخلعت الأمة الطاعة ، وأوقدوا الحرب وخرجوا عن الجماعة ، ولم يذعنوا إلّا بعد الفتن الشديدة ، والمصائب الوافرة العديدة ، ثم حاصر مدينة روشيل وبها الروافض وفعل بها ما يليق بكل باغ ورافض ثم جهز الجيوش وأخذ في الرحلة لروشيل أيضا فحاصرها ، إحدى عشر شهرا معدودة لحظة لحظة ، وقتل منهم نحو الخمسة وعشرين ألفا ، فأذعنوا للطاعة وبها اتصفوا وصفا ، فهدم أسوار المدينة وأمنهم وارتحل عنهم وتركهم في غاية الضنك وبلغ مصروف تلك الواقعة أربعين ألف ألف افرنك ، ثم توجه لنصرة والي عمالته بأرض الطليان بعد ما اتفق على منعه من الجواز له ملك الأندلس ووالي عمالة السّفوا ، وملك الألمان ، فهزم الأعداء واستولى على سوز ، ثم زاد لنصرة كزال بلا مانع ولا محوز ، فسأل والي السّفوا المهادنة فوافقه عليها وهو بسوز ، ثم نقضها فصرف إليه وزيره دوريشليو المبروز فحاصره / واستولى على بينيورول عنوة ، وأذعنت له بالطاعة سائر عمالة السفوة ، ثم استولى لويز على وطن اللورين وارتفع قدر دولته عند كافة الملوك بالتمرين.
الملك لويس الرابع عشر
وخامس ستينهم ابنه لويز الرابع عشر الحميم الملقب لوقران ، ومعناه بلغتهم العظيم تولى يوم موت أبيه وهو عام ستين وألف وهو ابن خمسة أعوام ، وتوفي في أول ستنبر (كذا) سنة اثنين وثلاثين ومائة وألف (159) بعد ما ملك اثنين وسبعين من الأعوام. ومن خبره أنه كانت دولته وأيامه من أفخر الدول والأيام ، ووقعت فيها الوقائع العظام ، وصارت افرانسا زاهية ، وعلى غيرها من دول جنسها
__________________
(159) الموافق 1650 ـ 1720 م.

باهية ، واتفقت الأمة على نيابة زوجته عنه ، ما دام صغيرا وعن التصرف بعيدا عنه وحصل الحرب بينه وبين الأندلسيين ، لحصارهم روكرو في الحين ، وهزمهم شنيعا ، وأوقع بهم موقعا بضيعا ، وذلك سنة توليته وتكرر الحرب بين الفريقين ، مرارا عديدة بلا مين ، إلى أن حصل الصلح في سنة خمس وستين من المذكور بالتبريز ثم وقعت الحروب بينه وبين الروافض بباريز وانتشرت كثيرا بالتحريز ، إلى أن انعقد الصلح سنة ستة وسبعين (كذا) من المذكور ، ثم جهز جيوشا قدرها مائة ألف مقاتل ، لحروب الهولاندة (كذا) وريس عليهم من أعيانه كل باسل ، وذلك سنة تسع وثمانين من المذكور فاستولى على عدة مدنها ، وقراها وحصنها ، ولا زال في المحاربة والمقاتلة والمضاربة مع الأجناس إلى انعقاد الصلح في سنة ست وتسعين من المذكور.
الحملة الفرنسية على الجزائر
في عهد لويس الرابع عشر
ثم جهز عمارة الجيوش لمحاربة الجزائر في المشهور ، وذلك سنة تسع وتسعين من المسطور (160) وفي عجائب الأسفار للحافظ أبي راس أن ذلك سنة سبع وتسعين من المذكور وكان قدومهم للجزائر في خمسة وعشرين مركبا عظيمة ، فرموها بالبونية (كذا) رمية جسيمة إلى أن هدّموا أكثر دورها وبعض مساجدها ، وكذلك رموا على شرشال بموائدها ، واقتنص المسلمون لهم مركبا فيه جملة من الأكابر ، فحصل الفرج بغير المفاخر ، وسعى الناس في الصلح على شرط ردّ / الأسارى النصارى من عند المسلمين ، فلم يرض حسن باشا بالموافقة لما يرومه العدو بالتبيين ، واستمرت الفتنة إلى أن هاج البحر هيجانا عظيما ، فارتحل النصارى لمحلهم ارتحالا عميما ، من غير حصول طائل ، ولا وقع نايل ، وغزوها في السنة التي بعدها في أيام الباشا المذكور ، في زهاء ثمانين مركبا بالهزّ للحصور ، فرموها في اليوم الثالث من قدومهم بالبونبة فأصابت واحدة
__________________
(160) الموافق 1684 م ويقصد بها حملة الضابط ديستري وفي الحقيقة هذه الحملة تمت عام 1682 ، وتجددت في العام الموالي 1683 م.

منها قصر الإمارة ، فضاقت مذاهب الباشا وجلّت به الخسارة ، وتقلق كثيرا ، واهتم اهتماما عسيرا ، وصالحهم بلا مشورة من ساعته ، على أن يسرح لهم النصارى من طاعته ، ويبدل لهم المائة وخمسين ألف فرنك التي صرفوها في تلك الغزوات ، مع إعطاء ميزومورتي حاكم عمارته والرايس علي ثقة بالإثبات ، ويدفع العدد نقدا فاعترف بالعجز عن الدفع فقال لهم ميزومورتي إن الباشا لا معرفة له بالصنع ، وأني أفعل في الساعة الواحدة ما لم يفعله الباشا في نصف الشهر ، فلم يفهم آل رايسهم (كذا) معنى الكلام لتوجّهه في الأمر ، فتركه وذهب للجزائر وبوصوله قتل الباشا وتقلّد الولاية ، ونصب المدافع ونشر الأولية الجلاية ، وجدّد الحرب واشتدّ القتال ، ودام إلى أن فنت خزنة الفرانسيس ، واحتاجوا للبارود في حال القتال ، فلم يجدوه وارتحلوا عنها ، وتصرف هذا الباشا فيها وأصلح ما فسد منها. وحارب لويز سنة سبع من الثاني عشر الجنوس المتحدين لملاحمته ، ومقاتلته ومزاحمته ، فهزمهم وعليهم انتصر ، إلى أن انعقد الصلح سنة أربعة عشر من القرن الثاني عشر ، وابتدعت الكينة لمعالجة المرضى في أيامه ، أوتي بها من المريكة (كذا) (161) بالتزامه.
الملك لويس الخامس عشر
وسادس ستينهم ابن حفيده لويز الخامس عشر ، تولى وهو ابن خمسة أعوام ونصف في سنة اثنين وثلاثين ومائة وألف فيما اشتهر ، وتوفي سنة إحدى وتسعين من القرن الثاني عشر إحكاما (162) ، بعد ما ملك تسعا وخمسين عاما. ومن خبره أنه كان قليل المروءة ، صاغ للوشاة ذا تعدى وجروءة ، محبا للغانجات مشتغلا باللهو والطرب ، والفرجة والنزاهة والعجب / وتصرّف عنه بالنيابة الدوك دورليان فجلب إليه الناس وأحبّه لشجاعته وسياسته الرجال والنسوان واخترع السفاتيج وصيّرها سكة فكانت سببا لضعف الناس وحلول الديون والإفلاس ، واتحد مع الألمان والانقليز والهولاند على محاربة أهل الأندلوس (كذا) فحصل
__________________
(161) يقصد دواء الكينة وهي أقراص لمداواة أوجاع الرأس.
(162) 1720 ـ 1778 م.

الصلح ما باهله من النقوس وذلك سنة سبع وثلاثين من القرن الثاني عشر المذكور. ولما صار ابن أربعة عشر سنة توجّه لمدينة رانس ولبس التاج بها وذلك سنة أربعين من المسطور. وتزوّج سنة خمسين من القرن المار بابنة اسمطانيصلاص ملك بلد الله ونشأ (كذا) الحرب باتحاده مع الأندلس لنصرة صهره مع من رام تأخيره عن الملك وهم الموسكوا والألمان بلا اشتباه ، واشتد بين الفريقين القتال فاستولى لويز على كيل وفيلسبور واستولى أهل الأندلس على يافا وميلان وبارم وصقلية وهم في حبور ، وانعقد الصلح بينه وبين الألمان بمدينة فيان قاعدة النامسة (كذا) سنة خمس وخمسين ومائة وألف في غاية الحامسة ثم تجدّد الحرب بحسب الظنون ، وانعقد الصلح بينهما سنة خمس وستين من المار الصريح ، ثم تحارب مع الانقليز ودام الحرب سبع سنين بالصحيح ، وهزمهم سنتي أربع وخمس وسبعين من القرن السابق وصالحهم سنة ثمانين منه بالحقائق.
الملك لويس السادس عشر
وسابع ستينهم لويز السادس عشر ، تولى سنة إحدى وتسعين ومائة وألف وهو ابن عشرين عاما في المشتهر ، ومات بحكم أهل الديوان عليه بالقتل في الحادي والعشرين من ينيّر (كذا) سنة عشر ومائتين وألف (163) وهو ابن ثمان وثلاثين سنة ، بعد ما ملك تسعة عشر سنة ، ومن خبره أنه كان ذا أخلاق حسنة ، وطبائع مستحسنة ، فحط قدرا من المغارم على الرعية ، وأبطل العذاب في المسائل الشرعية ، وخرج عن طاعة ملكهم المريكة (كذا) وسألوا منه ومن الأندلس النصرة وقامت الحريكة ، فأجابهم لويز لذلك / ، فاغتاض الانقليز وأشهر الحرب معه لأجل ذلك ، فجهز لهم جيشا للقتال ، ودام بينهما أعواما بالاتصال إلى أن حصل الصلح سنة مائتين وألف مستبن. ولا زال ملكه في تشتيت وفتن ، وقتال وضعف ووهن إلى أن قتل وصار الأمر لغيره ، وعوض بالشر عن خيره. وبقيت الأمة الفرانسوية بعد موته في هرج كبير ، وهمّ شديد غزير ،
__________________
(163) الموافق 1778 ـ 1796 م.

مدة عشرة أعوام ، وهم في جمع وافتراق لا يلام. فقام أخوه بعد موته وأخبر الدول النصرانية بموت أخيه. وكان للهالك ابن فطلب عمه النصرة لابن أخيه فوافقوه لما أراد ، واتحد الانقليز والطليان والأندلس والألمان على محاربة الفرانسيس بكل ما يراد ، لأجل أن يجعلوا لويز السابع عشر بن لويز السادس عشر سلطانا ، والحالة أنه في السجن على يد الفرانسيس ظلما وعدوانا ، فقام أهل الديوان للمدافعة والمناضلة والمواقعة ، وأرسلوا جندا لنظر الجنرال دوك ميه لطلون (164) التي استولى عليها الانقليز فانتزعها منهم بالقهر والتنبيز وكان ذلك سنة موت لويز المذكور ، بعد فتن شديدة العبور. وكان السبب لنصرة الجيش الفرنساوي ، نابليون بنبارت كما قال الراوي ، فجعلته الدولة جنرالا مكافأة لما منه وقع وجالا. ومات لويز السابع عشر ابن الملك لويز السادس عشر في سجنه سنة اثنا عشر من القرن الثالث عشر.
الملك لويس الثامن عشر
وثامن ستينهم عمه لويز الثامن عشر ، تولى يوم موت ابن أخيه وهو عام اثنا عشر من الثالث عشر (165) ومن خبره أنه لما مات ابن أخيه بالسجن قام وتصدّر لمملكتي افرانسا والنفار وسمي بلويز الثامن عشر بالاشتهار.
ظهور نابليون بونابرت
وحصلت في وقته فتنة شديدة في الباريز (كذا) فأرسل الديوان جند التخميد لتخميدها لنظر الجنرال بنبارت. فانتصر الجند وسكنت الفتنة بالتباريز ، ثم بعث رؤساء الدولة جيشا لنظر بونابرت قدره ثلاثون ألفا ، إلى أرض الطليان زحفا ، وذلك سنة ثلاثة عشر ومائتين (166) وألف فدخل بجيشه أرض الطليان وجال
__________________
(164) يقصد مدينة طولون.
(165) الموافق 1797 ـ 1798 م.
(166) الموافق 1798 ، ويقصد بها حملة نابليون الأول على إيطاليا. وقد حصلت عام 1796 م وليس 1798 م.

فيها ، وهزم أعداءه وصال عليهم بما فيها / وفتح فيها فتوحات بالطبول ، كلودي وريفولي وأركول إلى أن انعقد الصلح بين الفريقين ، سنة أربعة عشر وألف ومائتين.
حملة بونابرت على مصر وبلاد الشام
ثم زحف بنبارت بجند غزير لمصر سنة خمسة عشر من القرن الثالث عشر. وقال الحافظ أبو راس في كتبه كان ذلك في ثلاثة عشر من المذكور (167) ونصّه ، ثم غزى بعصرنا هذا هؤلاء الفرانسيس مصر في المسطور ، فدخلوا الاسكندرية عنوة ثامن يوم من المحرم فاتح سنة ثلاثة عشر ومائتين وألف ، بعد ما أخذوا مالطة من يد الفرائلة بالحتف (168) وتخطوا إلى مصر فلقيهم باشتها مراد بالريف مع النيل بعساكر الغزّ في نحو تسعين ألفا ، فانهزم الغزّ بعد ساعة وصاروا لهفا ، وقد حلّ بهم القتل الذريع والغرق في النيل الشنيع ، ودخلوا مصر مع طاغيتهم بنبارت أول ربيع النبوي من العام المذكور ، فقتلوا من وجدوا بها من الغز واستباحوا ديارهم في المشهور ، وامّنوا من سواهم على المغرم ونزعوا منهم السلاح وهدموا من المدينة كل ما يتوقع منه السوء للإصلاح ، وقتلوا كل من توجّهت عليه الظنة في شأن الغز ، مثل كريم الاسكندري وغيره بالّلغز ، وفرّ الباشا مراد وأهل دولته إلى أقاصي الصعيد ، وتركوا حريمهم في أيدي النصارى لمّا عجلوا عن التشريد ، وقتلوا كل من أثار فتنة أو توهموا منه استنكافا ، ولقد ثار بينهم وبين المغاربة الذين بمصر فقتلوا كل من وجدوه استنضافا ، ودخلوا جامعها الأعظم وهو الأزهر ، وشتتوا خزائن كتبه بما استظهر ، ونهبوا بعض علمائها لاتهامهم بودائع الغز ومظاهرتهم وأخذوا أموالا كثيرة من نساء الغز فضلا عن النهب لمبارتهم وشن بنبارت الغارات خلف فلّ الغزّ وبعث عسكرا كثيفا صعد مع النيل ، فملك إلى اقنا فضلا عن أسيوط وبنفلوط وجرجا وغيرهم بالترتيل ، وتخطّ إلى القصير من مراسي سويس وبنوا فيه قلعة وحصنوها بالمدافع
__________________
(167) الصحيح رواية أبي راس وهو عام 1798 م.
(168) يقصد فرسان مالطة المسيحيون.

والمتاريس وزحف إليهم جيش من الطلبة والعلماء من أرض الحجاز / للمنازع ، وأميرهم العالم الشيخ الجيلاني السباعي ، وصحبتهم المدافع ، ولما نزلوا بالقصير أعان أهل تلك الأرض النصارى عليهم فقتلوهم عن آخرهم ، إلّا من نجّاه الله بالانخفاء عنهم بمآخرهم ، وبنا (كذا) بنبارت حول مصر قلاعا كثيرة ، لتحصينه شديدة عسيرة ، وبعث جيشا إلى جهة الصالحية ففتحوا تلك القرى على كثرتها ، وتخطّوا إلى العريش وخان يونس بقلّتها وكثرتها ، وفرّ منهم أهل غزة من الشام وفلسطين والرملة إلى القدس وفتح دمياط وعسقلان وما حولهما من القرى بغير الحدس ، فملك من الاسكندرية ورشيد إلى اقنا بلا احتياط ، إلى القصير إلى خلف العريش إلى دمياط ، إلّا أن الانقليز سدوا عليه فرصة المجاز فأرسلوا سفنهم حول أبي قير حيث مصب النيل في البحر الرومي للاحتياز ، فأخذوا بمخنقه وحالوا بينه وبين بلاده ولولاهم لامتلأت افرانسا من سبي مصر بأزواجه وأفراحه وهدموا كثيرا من قلعة مصر التي هي كرسي مملكتها بالمقادس ، وأول من اختّطها يوسف بن أيوب الكردي في القرن السادس.
بونابرت يغزو بلاد الشام
ولما خلا له الجو من المنازع ، وأيقن بأنه ليس له عن إقليم مصر المدافع ، وقد ذهب الصارخ والنادي بحيث صار لا حياة لمن تنادي ، سولت له نفسه بالاحتكام ، غزو عكّا التي هي أحد قواعد الشام العظام ، استخلف بعض وزرائه على مصر وسار إليها بالجنود العظام ، ورعيتهم من فلاحه مصر وأريافها أكثر وأكثر إلى سواحل الشام ، ففر منه أهل يافا وصيدا وغيرهما ، ودخلهما جنده ونهب ما وجد وعاث بضيرهما ، وارتجت الشام منه وخافه أهل دمشق وغيرهم على بعدهم ، وقوتهم وغزارة جندهم ، حتى همّ أهل القدس وعمراش ونابلس وغيرهم بالانجاء عن ديارهم وأوطانهم وترك خبرهم.
ثم أناخ على عكا وحطّ بكلكله ، وخيّم بذويه وأهله ، وكان بها الجزار أحمد باشا فوقع بينهما قتال شديد ، وحروب متكررة بشيب لها الوليد ، وهجم عليه بنبارت ذات يوم حتى دخل جنده المدينة ، وأخرجوه قهرا من تلك المدينة ، ثم أقلع عنها لما أحاط بقوسه الوباء ورجع لمصر ثانيا بالبيان ، وفي خلل ذلك

أخذ الانقليز / من يده مالطة فهي بيده للآن وقد اقتصر بعد ذلك على مصر وعمالتها ؛ وأقصر من الطموح إلى غيرها لجلالتها ، وغشيته عساكر السلطان سليم بن مصطفى العثماني الخاقاني بعد ذلك ، فزحف لها وكان المصافّ بالعريش الذي هو آخر عمالة مصر مما يلي الشام بما هنالك ، فجرت بينهما حروب سجال كان له الظفر في أكثرها فيما يقال.
بونابرت يعود إلى فرنسا
ثم أنه حمل القناطير المقنطرة من المال ، كاد أن يفرغ منه مصر بغير احتمال ، وركب البحر سرا من الانقليز ، وتخلّص إلى بلاده الباريز (كذا) بعد ما خلّف على مصر وزيره الجنرال كلبير المعبر عنه بصارى عسكر ، فبقي الجيش العثماني آخذا لمخنقه وسدّ عليه مع الانقليز كل الطريق ، حتى كاد أن يغص من ذلك بالريف. ثم وقعت المراودة على إسلام البلد وعمالتها وينصرف لبلده ، ففعل على أن يأخذ كل ما هو بيده ، فانحدر في النيل إلى الاسكندرية وقد أفرج عنه الانقليز للتجرية ومنها ركب لبلده أول سنة ستة عشر أو ثمانية عشر من القرن المار وما من امرأة لا زوج لها من المومسات ورضيتهم إلّا ذهبت معهم في الحين ، فكان جملة ما مكثوا بمصر ثلاثا من السنين.
إقامة حكومة القنصلية الثلاثية
ولما حل بنبارت بافرانسا ألفى بها الهول الطائل ، والهرج الكثير الهائل ، فنزع التصرف من أرباب الدولة وصيره لثلاثة رؤساء أولهم هو والثاني سريس والثالث لوبرون فأحسن في فعله وما أساء. وكان الموسك (كذا) والنامسة (كذا) اتفقا على محاربة افرانسا ، فحاربهم واستولى على ما بأيديهم ولديارهم جاسا. وأعظم فتوحاته بها مرانقوا الواقعة سنة سبع أو ثمان عشرة بعد الألف والمائتين. وحصلت المهادنة بعد ذلك بين الفريقين. وفي التي بعدها وقع الاتفاق بين الفرانسيس والباب (كذا) على القيام بأمر الدين الذي منعهم منه بغير الارتياب. وفي التي تليها تولى رئاسة جمهور الطليانيين ، وانعقد الصلح بين الأجناس وحلت العافية في الحين وأذن بالرجوع لمن هاجر من افرانسا فرجع الجمّ

الغفير. وجعل في تاسع ميب (169) علامة الافتخار بأدنى التيسير. وفي ثاني غشت جعله أهل الدين رائسا (كذا) على الفرانسيس مدة حياته ، وأباحوا له أن يجعل من شاء في مرتبته وولايته.
الأمبراطور نابليون بونابرت الأول
وتاسع ستينهم نابليون بنبارت المذكور في المرام. تولى سنة إحدى وعشرين ومائتين وألف في الثامن عشر من ميب (كذا) بالالزام. وتوفي بالسجن سنة ثمان وثلاثين من المذكور (170) بعد ما ملك عشرة من الأعوام. ومن خبره ما مر ومن كونه هو أول الطبقة الرابعة ، والمؤسس لها بالمراجعة ، فقدم إليه البابّ (كذا) من رومية في ثاني دسانبر (كذا) من العام المار بالتبريز ، وألبسه التاج بمدينة البريز (كذا)/. وبويع سلطان على الطليان ولبس التاج بمدينة ميلان ، وذلك في سادس العشرين من ميب (كذا) سنة اثنين وعشرين من المذكور في البيان. وفي ثالث عاشر نونبر (كذا) تلك السنة زحف بمائتين ألف مقاتل للنامسة واستولى على قاعدتهم فيان ، وحاربهم في ثاني دسانبر (كذا) فهزمهم وقتل منهم نحو الأربعين ألفا وأسّر ثلاثين ألفا وفرّ ملكهم أمامه بالبيان ، وفي الخامس والعشرين من ذلك الشهر اصطلح معهم وثبت له افرانسا مع الطليان ، وفي ينيّر (كذا) سنة ثلاث وعشرين من القرن المذكور وقع النزاع بينه وبين الانقليز ، فزحف إليهم واستولى على مملكة نابلس (171) وولّى عليها أخاه يوسف بالتحييز. ثم حارب البروسية وهزمهم بقرب قاعدتهم بيرلان (كذا) ، وفي سادس نونبر (كذا) تلك السنة جدد الحرب معهم فانتصر عليهم وانكسرت شوكتهم بالعيان ، وصيّر أخاه جيرون ، سلطانا عليها ، وانتصر أيضا على المتحدين في سابع فبراير سنة أربع وعشرين من القرن المذكور مع ما انضمّ إليها ، وانعقد الصلح بينهما.
__________________
(169) هذا اسم شهر للشهور التي ابتدعها رجال الثورة الفرنسية.
(170) الموافق 1800 ـ 1823 م.
(171) يقصد نابولي.

ثم زحف للأندلس وخلع ملكه وألبس التاج لأخيه يوسف بنبارت ، فورا ، فدام بذلك القتال سجالا إلى أن سلّم يوسف وهو ززاف بلغتهم في الملك جهرا ، وذلك سنة ثلاثين ومائتين وألف ، وقد اشتدّ القتال بينه وبين النامسة في السابق بغير الخلف ، وانتصر عليهم في جميعه بالبيان ، وانعقد الصلح بينهما بقاعدة فيان. وكان من ثمرته أن بنبارط (كذا) تزوّج بماري لويز ، بنت ملك النامسة بالعيان ، وذهب في سنة تسع وعشرين من الثالث عشر المار (172) بجيش فيه أربعمائة ألف مقاتل ، بقصد الاستلاء (كذا) على الموسك ما بين الراكب منهم والراجل ولما التقى الجمعان هزمهم وأحرق قاعدتهم بالنار ، ورجع لبلده من شدة الثلج والبرد والصرصار. ثم في سادس عشر اكتبر (كذا) من السنة التي بعدها تقاتل مع البروسية والنامسة وانتصر عليهم ثم اتحد الملوك على مقاتلته بكل ما انضم إليهم ، وذلك سنة إحدى وثلاثين من الثالث عشر بالقاطعة ، وكان النصر له عليهم في سائر الواقعة ، وهم مع ذلك بالجنود الزاعقة ، ثم أرسلوا مائة ألف إلى البريز (كذا) وحاصروها بما لها من الطويل والوجيز ، إلى أن دخلوها في ثلاثين مارس تلك السنة ، وجعلوا بنبارط بالخلعة الميقنة. وجعلوا بدله لويز الثامن عشر المجيز ، وقد كان بأهله ملتجئا ببلد الانقليز ، وحين خلع نفسه بنبارط جعل العهد لولده وسلّم له التاج ، فلم ترض الملوك وجعلوه سلطانا على مدينة إياب بالإزعاج ، وذلك في الحاديث عشر من إبريل تلك السنة المقرّرة المعيّنة.
الملك لويس الثامن عشر
وسبعونهم لويز الثامن عشر تولى في ثلاثين مارس سنة إحدى وثلاثين من القرن المقرر (173). ومن خبره أنه كان غائبا وقت المبايعة في المشتهر. فنصب أخوه للنيابة عنه للحضور ، فشرع في التصرّف / بمحل أخيه وأبرم الصلح مع الملوك في المسطور ، ولما قدم أخوه السلطان لملكه مع أهله ببريز في ثاني ميب
__________________
(172) الموافق 1813 م ، والحقيقة أن حملة نابليون على روسيا تمت قبلها عام 1812 م.
(173) الموافق 1816 م.

تلك السنة وافق على ذلك. وجعل قانونا لحفظ حقوق أمته. وكان من جملة الشروط بقاء افرانسا على حدّها الأصلي برمته. وبينما الناس في غفلة إذ بنبارط خرج من جزيرته للوجلة ، ومعه إحدى عشر مائة مقاتل ، مع شجاعته التي ليست لصائل ، وذلك في أول مارس سنة اثنين وثلاثين من المذكور وقد انضم إليه جمع فدخل بريزا وبايعته به الناس تنجيزا ، ففرّ لويز الثامن عشر ، والتجأ بمدينة قان فرام الملوك خلعه عند ذلك في السرّ والإعلان ، وجهّز جيوشا عظيمة وزحف بها للعديان ، وقاتلهم شديدا إلى أن هزمهم في سادس عشر ينيه (كذا) من تلك السنة المعنية ، ثم انتصر عليه أعداؤه في الثامن عشر من ذلك الشهر من تلك السنة المبينة. وسلّم تاجه لولده ببريز ، فلم توافقه الملوك ورجع الملك للويز في يليه (كذا) سنته. وعقد الصلح مع المتحدين وأمته وسلّم بنبارط نفسه للانقليز ، ظنا منه الإواية لا التحويز ، فسجنوه بإيليف (كذا) من بحر الظلمات ، وبقي بها سجينا إلى أن مات. ولم تنقل جثته لمقبرة الملوك إلا في سنة سبع وخمسين من المذكور بالبيان. وفي وقت لويز الثامن عشر مدّت طريق الحديد بأرضه وابتدع عجلة الدخان ، وذلك سنة أربعين من الثالث عشر الظاهر البيان. ومات لويز في سادس عشر شتنبر (كذا) سنة إحدى وأربعين والمائتين وألف وهو ابن ثمان وستين سنة بغير الخلف.
الملك شارل العاشر واحتلال الجزائر
وحادي سبعينهم أخوه شارل العاشر ، المستولي بلا ريب على مدينة الجزائر ، المقصودة للقاطن والزائر. تولى يوم موت أخيه وهو عام إحدى وأربعين من الثالث عشر في المشاهر (174) ومن خبره أنه لمّا تولى جعل ألف ألف ألف فرنك لحزب السلطان الذين اطردوه من افرانسا لمّا اجتمعوا لأخيه. واتحد مع الانقليز والموسك واستولوا على مدينة نافرين من الديار القريقية (كذا) بتصريخه. وفرّق عمارة السلطان العثماني الخاقاني وباشا مصر في العشرين من اكتبر (كذا) سنة خمس وأربعين من الثالث عشر بغاية الوصف. وجهّز جيشا عرمرما
__________________
(174) الموافق سبتمبر 1825 م.

فأرسله لأخذ الجزائر في الخامس والعشرين من ميب سنة خمس وأربعين ومائتين وألف. ولما بلغ الجزائر خيّم بمرسى سيدي أفرج في اليوم الرابع عشر من ينيه وهو جوان بالتحريز. ودخل المدينة في خامس يليز وهو جليت وهو اليوم الرابع عشر وقيل الثالث عشر من المحرم الحرام فاتح سنة ست وأربعين ومائتين وألف بالتحويز. وسبب ذلك أن حسن باشة / الجزائر ، حصل الكلام بينه وبين القونصل الفرنسي ووقعا في التحاير ، على بعض المطالب بينهما فلم يشعر الباشا بنفسه ، إلى أن لطم وجه القونصل في حال لبسه ، فاغتاض السفير من ذلك شديدا ، واشتكى لجنسه بذلك لما رأى فعلا عتيدا فاشتغلوا بتجهيز الجيوش أربعة أعوام ، ثم أرسلوا سفنا مشحونة بثمانين ألف مقاتل حزام ، فانفصلوا عن البريز (كذا) قاصدين قبر الرومية ، تجنبا عن مرسى الجزائر لما بها من الصواعق الردمية فنزلوا بقبر الرومية قرب الجزائر وهي مرسى سيدي أفرج الولي المشتهر ، وخرجوا منها للبر ونزلوا به كأنهم الجراد المنتشر. وصار كبيرهم الجنرال دوبرمنت المعبّر عنه باللغة التركية بصارى عسكر يكتب الرسائل لأهل الجزائر ويضعها بالطرق ويعلقها بالأشجار ، ليجدها المسلمون فيأخذونها ليعلموا ما فيها بالاشتهار. ونصها بالعرف والتحقيق ، من غير إخلال ببعضها ولا نقلها بالمعنى ليلا يكون الخروج عن الطريق والعهدة فيها على الناقل الأول ، لأنه الحارس لأمانته دون المتمول.
نص المنشور الذي وزّعه الفرنسيون على سكان
الجزائر غداة الاحتلال
هذه منادات (كذا) من صارى عسكر الجايل ، أمير الجيوش الفرانسوية إلى سكان الجزائر والقبائل. بسم الله المبدي المعيد وبه نستعين في الإسرار والإجهار ، يأيّها (كذا) ساداتي القضات (كذا) والأشراف والعلماء وأكابر المشايخ والأخيار ، اقبلوا مني أكمل السلام ، وأشمل أشواق قلبي بمزيد العز والإكرام ، أما بعد اعلموا هداكم الله إلى الرشد والصواب فقد حلّ أمره ، إن سعادة سلطان افرانسا مخدومي (كذا) وعزة جنابه الأعلا نصره قد أنعم علي بتوليته إياي منصب

صارى عسكر للمباعدة والمقاربة ، ويا أعزّ أصدقائنا ومحبينا سكان الجزائر ومن ينتما (كذا) إليكم من شعب المغاربة ، إن الباشا حاكمكم من حيث أنه تجرأ على بهدلة بيرق افرانسا المستحق كل الاعتبار ، وأقدم على إهانته وإزالة ما له من الأسرار ، فقد سبّب بجهله هذا كل ما هو عتيد أن يحلّ بكم من الكوارث والمضرات ، لكونه دعا عليكم الحرب من قبلنا للخسوات ، فإن عزّة اقتدار سلطان افرانسا دام ملكه وأيامه المسرورة ، نزع الله من قلبه مرحمته المعهودة ورأفته المعروفة المشهورة ، فلا بد أن الباشا حاكمكم من قلة بصيرته وعماوة قلبه وجليه ، قد جدث على نفسه الانتقام المهول وقدّدنا منه القدر المقدر عليه ، وعن قريب يحلّ به ما استحقه من العذاب المهين ، أما أنتم يا شعب المغاربة اعلموا وتأكدوا يقينا أني لست آتيا لأجل محاربتكم فعليكم أن لا تزالوا آمين وفي أماكنكم مطمئنين ، وتعلموا أشغالكم بجهر وسر ، وكل ما لكم من الصنائع والحرف براحة السر ، ثم إنّي أحقّق لكم أنه ليس فينا من يريد ضركم بأحوالكم ، لا في مالكم / ولا في عيالكم ، ومما أضمن لكم أن بلادكم وأراضيكم وبساتينكم وحوانيتكم وكل ما هو لكم صغيرا كان أو كبيرا عظامي ، فيبقى على ما هو عليه ولا يتعرّض لشيء مني ذاك جميعه أحد من قومنا بل يكون في أيديكم دائما فآمنوا بصدق كلامي ، ثم أننا نضمن لكم أيضا ونعدكم وعدا حقيقا مؤكدا غير متغير ولا متأوّل ، أن جوامعكم ومساجدكم لا تزال معهودة معمورة على ما هي الآن عليه وأكثر من أول وأنه لا يتعرض لكم أحد في أمور دينكم وعبادتكم فإن حضورنا عندكم ليس هو لأجل محاربتكم ، وإنما قصدنا محاربة باشتكم الذي بدأ وأظهر علينا العداوة والبغضاء بفعله المذموم ، ومما لا يخفى عليكم غاية تحكمه وقبح طبعه المشوم ولا ينبغي لنا أن نطلّعكم على أخلاقه الذميمة ، وأعماله الرذيلة السقيمة ، فإنّه واضح لديكم أنه لا يسعى إلا على خراب بلادكم ودثارها ، وتضييع أموالكم وأعماركم بخسارها ، ومن المعلوم أنه إنما يريد أن يجعلكم من الفقراء المنحوسين لديهم ، الخاسرين المبهدلين أكثر من المسخط عليهم فمن أعجب الأمور بلذاته ، كيف يغبى عنكم أن باشتكم لا يقصد الخير إلّا لذاته ، والدليل كون أحسن العمارات والأراضي والخيل والسلاح (175) قد
__________________
(175) كلمة غير مقروءة.

أجوده ، واللبس والحلي وما أشبه ذلك كله من شأنه وحده ، فيأيها (كذا) أحبابنا سكان المغرب أنه عزوجل ما سمح بأن يصدر من باشتكم الظالم بما لديكم ، ما فعل من أعمال الخبث والرداء إلّا إنعاما منه سبحانه وتعالى عليكم ، حتى تحصلوا بهلاكه وبزوال سلطنته على كل الخير ، ويفرج عنكم ما أنتم فيه من الغم والشدة والضير ، وإذا الحال هذه فأسرعوا واغتنموا الفرصة فيه بالأخذ بالنواص ، ولا تعمى أبصاركم عما أشرقه الله عليكم من نور اليسر والخلاص ولا تغفلوا عما فيه مصلحتكم بل استيقظوا لكي تتركوا باشتكم هذا وتتبعوا شورنا الذي يؤول إليه خيركم وصلاحكم بمحضه ، وتحققوا أنه تعلى لا يبغي قط ضرر خليقته بل يريد أن كل واحد من براياه يحوز ما يخصه من وافر نعمه التي أسبغها على سكان أرضه ، يأيّها (كذا) أهل الصلاح إن كلامنا هذا صادر عن الحب الكامل ، وإنه مشتمل على الصلح والمودة بغير قول القائل ، وأنتم إذا شيعتم مراسلكم إلى أوريدنا حينئذ نتكلم وإياهم بما فيه نجاحكم ، والمرجو من الله تعالى أن محادثتنا مع بعضنا بعض يؤل إلى ما فيه منافعكم وصلاحكم ، وحشمناكم بالله أنكم بعد ما تحققتم أن مقاصدنا وغايتنا الفريدة ، ليست هي سوى خيركم ومنفعتكم الجديدة ، تشيعوا لنا صحبة مراسليكم كل ما يحتاج إليه عسكرنا المنصور من الذخائر ما بين طحين ومسن وزيت وعجول وغنم وخيل وشعير وما يشبهه من فعل المشاكر ، وحين / وصلت مرسلاتكم هذه إلينا مجالا ، ندفع الثمن نقدية على ما تريدون وأكثر عجالا هذا وأما إن كان منكم معاذ الله خلاف ذلك تختاروا محاربتنا ومقاومتنا وتزكوا علينا أنفسكم اعلموا أن كلّ ما يصيبكم من المكروه والشر إنما يكون سببه من جهلكم فلا تلوموا إلّا أنفسكم ، فأيقنوا أنه ضدّ إرادتنا فليكن عندكم محققا زيادة على ما لديكم ، إن عساكرنا منصورة تحيط بكم بأيسر مرام ودون تعب وأن الله يسلطها عليكم ، فالله تعالى كما أنه يأمر لهم النصر والظفر بالمرحمة والمسامحة على الضعفاء المظلومين فكذلك يحكم بأشدّ العذاب على المفسدين في الأرض العاثيين على البلاد والعباد المشومين ، فلا بد لكم إن تعرّضتم لنا بالعداوة والشر هلكتم عن آخركم هذا أيها السادات ما بدا لي أن أكلمكم به ولست بمفاخركم ، فهو نصيحة مني إليكم فلا تغفلوا عنه ، واعلموا بأن صلاحكم إنما هو في قبوله وفسادكم في

فراركم منه ، وأن هلاككم لا يردّه أحد منكم إن أعرضتم عما نصحتكم به وأنذرتكم ، وأيقنوا يقينا مؤكدا ألا مفخر به ، إن كلام سلطاننا المنصور المحفوظ من الله تعالى وبه مصون ، غير ممكن تغييره لأنه مقدّر والمقدّر لا بد أن يكون. والسلام على من سمع وأطاع ، وبادر بالإذعان وترك كل نزاع. في ذي الحجة عام خمسة وأربعين ومائتين وألف (176).
ولما نزل المريشال دو برمنت (DE BORMONT) بجيوشه في يوم السبت الثاني والعشرين من ذي الحجة الحرام ، سنة خمس وأربعين ومائتين وألف بغاية المرام ، الموافق لرابع عشر جوان ، سنة ثلاثين وثمانمائة وألف بالبيان ، على مدينة الجزائر حاصرها ، وحصل بينه وبين المسلمين من أهل الجزائر وقبائلها والعربان ، وباي قسنطينة (كذا) وهو الحاج أحمد وباي تيطري وهو أبو مزراق وبرسالي خليفة باي وهران ، كل منهم بجيشه بغاية ما كان. وقد كان الباشا وهو حسين داي سأل منهم الإقدام بجيوشهم كما سأل الإعانة للجهاد من أعيان المرابطين ، ومن له كلمة مقبولة في ذلك الحين ، وكان منهم بعمالة وهران ولي الله القطب العلامة السيد محي الدين ، والد الأمير بالمغرب الأوسط السيد الحاج عبد القادر. وكان عمر هذا الأمير وقت ذاك عشرين سنة بالقول السائر ، القتال الشديد حزما وجزما وعوما ، ودام بين الفريقين عشرين يوما.
ثم حصل الخلل والفلل والفشل في المسلمين ، فتغلّب عليها المريشال بجيشه ودخلها عنوة ضحوة يوم الاثنين بالتعيين في ثالث أو رابع عشر من المحرم الحرام فاتح سنة ست وأربعين ومائتين وألف ، الموافق لخامس جليت سنة ثلاثين وثمانمائة وألف ، وصارت البهجة وهي أم البهاء من حينها تحت حكم الدولة ، وشرعت في التصرف فيها بالأمر والنهي والإقبال والجولة. وإلى ذلك أشار العلامة الماهر ، السيد مسلم الكاتب بن عبد القادر الحميري في رجزه بقوله :
/ ثغر الجزائر به حلّ البلا
 

فانحلّ عقد النظم منه وخلا
 
قد جهّز الأصفر جيشا فاجتمع
 

وحثّ في السّير حثيث المنتجع
 
في نقط ضاد من الفلك نوعا
 

مختلف في الشكل كي ما صنعا
 
__________________
(176) الموافق جوان 1830 م.


فيه السفينة غراب فرقطه
 

فيه السكونة بريك غليطه
 
أرسلها مثل الإبل الكليلة
 

مشحونة بالجند والزّاد العيله
 
بها امتلا الحوض وقال قطني قط
 

هذا عدوّ الدّين فوق حطّ حط
 
في نقط دال أعوام قد حرّجا
 

وعندما تمّ كالنحل خرّجا
 
بأنواع عسكره منوّعه
 

كل على شاكلة قد أبدعه
 
من أسود وأبيض وأصفرا
 

وأزرق وأحمر معكّرا
 
من البريز أمّ قبر الرومية
 

خوف الصواعق الشّداد الردميّة
 
باب الجزائر به الموت التزم
 

أوجس منه حذرا من الحمم
 
حطّ في كب من شهر العيد الكبير
 

أرسى بمرسى الولي القطب الشهير
 
بعسكر عدده من الألوف
 

قالوا ثمانين بترتيب الصّفوف
 
جاءت من كل حدب المسلمون
 

فرّق جمعهم غدو منهزمين
 
هبّت له رياح النصر فابتدر
 

نحو المدينة الجراد المنتشر
 
كعاشق قد غلب الشوق عليه
 

فاقتحم الأهوال والحب لديه
 
في يج من محرم بها ظفر
 

بعد قتال ذارع (كذا) نال الوطر
 
فاركب الأتراك في اسطله (كذا)
 

جميعهم والباشا في اكبله
 
أسلبهم من ملكهم وذلّهم
 

بعد العصيان والطغيان جلّهم
 
أموالهم أخذها والأسلحة
 

قصّ لهم قصّا رؤوس الأجنحة
 
إلى أن قال :
أم البها فابك عليها يا هذا
 

قد كانت في عين العدوّ كالقذا
 
كانت كسد ذي القرنين مثلا
 

قامت بفتها ياجوج عجلا
 
ثارت بها نار الحروب الساكنه
 

من بعد ما كانت في الكنّ كامنه
 
أوقدها الزند من قلب الحجر
 

فأوقدت واشتعلت بالبشر
 
عمّ شرارها للنّاس كلّهم
 

عن دفعها قد عجزوا بكلهم
 
كانوا في الأمن والأمان أهلها
 

كالراس كان للدنيا محلها
 
أصابها العين لما تعجّبت
 

ملوكها لمّا الأموال كثرت
 
/ فزحف الروم عليها بغتة
 

أخذوها كالسيل هجما فجأة
 


وقال قبل هذه الأبيات :
وهاك مني تاريخ اليوم الذي
 

فيه وقائع تلي هذه ذي
 
يوم الاثنين فيه الروم قد نزل
 

وكان فيه فتحه يوم الفشل
 
موقف الباي حسن بوهران من الاحتلال الفرنسي
قال ، وكان حسن بن موسى باي وهران لما جاء النصارى للجزائر خرج بجيوشه ونزل بوادي تليلات وصارت تجتمع عليه أيضا الجيوش من كل جانب ومكان ، ليغزو الجزائر ، فبينما هو بذلك يحاول القدوم لناحية الجزائر ، إذ الخبر العام جاءه بأن الجزائر قد صارت تحت حكم الفرانسيس ، وجالت فيها أيديهم بكل المخاييس ، فلم يصدق ذلك إلى أن جاءه الخبر الخاص على يد خليفته بأنها ملكتها الدولة ودخلتها بالفعل ، وتصرفت فيها بما شاءت من العقد والحل ، فرجع فورا بجيوشه الخاصة لوهران وقال للناس من أراد الذهاب فله ومن أراد المكث فله وليعتصم بالرحمان. ولما دخل وهران أغلق أبوابها وصارت الناس ما بين القيل والقال. وحصلت العداوة بين الناس في بعضها بعض وسدت الطرق بالويل والنكال.
الاستعداد لاحتلال وهران
ثم أن المريشال دوبرمنت لما استقل قدمه بالجزائر واتخذها قاعدة له وصار لا يلتفت لثورة الثائر ، جهز شرذمة من جيشه لنظر القبطان دوبرمنت المشارك له في الاسم وأمره بالذهاب بها لناحية وهران ، وكان ذلك في ثالث صفر وقيل في آخر المحرم والموافق لخامس عشرين جليت (كذا) فعبر البحر ونزل بالمرسى الكبير ، في خامس صفر الموافق لسابع عشر جليت (كذا) بالتحرير. ولما حلّ بها سأل من الباي حسن المداخلة بينهما بالبيع والشراء وغيرهما في كل الأحوال ، فألفى الباي سبيلا لنجاته بأهله وماله من المال ، وصار البيع بينهما في غاية الحال ، وصار القبطان ينتظر لحوق (كذا) الجيوش به ليدخل وهران ، ويصيّرها عمالة ثانية طائعة للدولة بغاية الإذعان. وانجلا أكثر أهل وهران في

خامس صفر الموافق لسابع عشرين جليت بأحسن البيان ، وتعرّضت الأعراب البادية لهم في السّبل لأخذ الأمتعة والإهانة لهم بكل ما كان في كل مكان. وإلى ذلك أشار العلامة الماهر ، السيد مسلم الكاتب بن عبد القادر ، الحميري في رجزه بقوله :
في خامس من صفر حان الرحيل
 

لأهل وهران خوفا من التبديل
 
فرّوا بأنفسهم وخلّفوا
 

بها ملك الوقت عنه انحرفوا
 
فافترقوا شرقا وغربا ومجوا
 

وساحوا في كل الأوطان وعجوا
 
فارتكبوا وانتكبوا وانتهبوا
 

وانتهكوا وانهمكوا وانتشبوا
 
في يوم ذي حرّ والناس سكارى
 

كيومهم في الحشر صاروا حيارى
 
فكم وكم من المتاع تركوا
 

من عدم الظهر عليه انهمكوا
 
وكم وكم من الأطفال تلفوا
 

من شدّة الرجف والخوف اختلفوا
 
/ وكم وكم من الشيوخ عجزوا
 

عن الفرار في الفلل تحيّزوا
 
وكم وكم من غانية ما رأت
 

الشمس قط بالحفا قد مشيت
 
وكم وكم من حاضر بباديه
 

حرمته بعد السّتور باديه
 
وكم وكم من عالم مدرّس
 

في مسكن من شجر معرّس
 
إلى أن قال :
ثم انتقالنا من وهران بدا
 

من غير حرب حذار من الرّدا
 
خلع الملك شارل العاشر
ثم أن هذا السلطان المذكور قام عليه أهل دولته ، لمخالفته لهم بإظهار صولته فاجتمعوا عليه وحاربوه ، وبعد ثلاثة أيام غلبوه بعد ما ضاربوه ، فخلعوه من الملك في سابع صفر الخير ، الموافق للتاسع وعشرين من جليت (كذا) بغير الضير ، من العامين المذكورين وحرّموا المملكة عليه وعلى ذويه وأهل بيته ، وتركوه مرمى في زوايا الإهمال مخفضا من حينه لصوته. ولما خلعوه صار أمرهم بينهم شوريا ، وفي أحوالهم حكموا حكما جمهوريا. ورجع القبطان دوبرمنت من مرسى وهران للجزائر ، لما معه من الجيش في ثالث أوت الموافق الثاني عشر

صفر بالمشاهر وصارت تلك الأخبار تسمى عندهم بأخبار جليت ، وتغيرت قوانينهم وعلا أمرها وانتشرت في الصيت وتشوش المريشال دوبرمنت تشويشا كثيرا من تلك الأخبار وذهب فورا لافرانسا وخلفه الجنرال كلوزيل المأمور بإرسال الجيوش لفتح وهران من غير نظر لتلك الأخبار.
الملك لويس فيليب الأول
وثاني سبعينهم لويز فيليب الأول تولى في تاسع أوت سنة ثلاثين وثمانمائة وألف ، الموافق لثامن عشر صفر عام ست وأربعين ومائتين وألف. وهذا السلطان من الفخذ السادس ، بالتجاريس ، من الطبقة الثالثة من طبقات ملوك الفرانسيس. ثم نزعته دولته من الملك وتركته بعد ذلك في الحالة الدالة على الحلك. ولا يخفى على أكثر الناس كيفية نزعه من ملكه الذي كان فيه بما هنالك ، وما جرى له من الوقائع في أثناء ذلك.
الفرنسيون يحتلون وهران
ولما تولى هذا السلطان جاءت الجيوش الفرانسوية للمرسى الكبير ، في أول وقيل في ثاني ربيع الأول الموافق للعشرين أو الحادي والعشرين من أوت من العام والسنة الواضحي التشهير. وكانت تلك الجيوش على أربعة أنواع ، أحدها من ذوي المدافع المعلم بعدد اثنين ومعه خمسون نفرا من أهل الشغور بلا نزاع ، وثانيها من أصحاب علامة الثلاثة ، وثالثها من أصحاب علامة الأربعة بغير الحلاثة ، ورابعها من أصحاب علامة الإحدى والعشرين وكلها تحت رئاسة الكولونيل قندلفو / بالتبيين ، فعبرت البحر في يومين ونزلت بالمرسى الكبير. فأتاها كبراء المخزن بقصد الإذعان والخدمة المسهلة للعسير ، فأبى ذلك كبراء المحلة وظنّوا فيهم لغشامتهم عدم الأمان ، وخشية على أنفسهم من الوقوع في شركة الهوان ولم يدروا أن هذا المخزن هو عين المراد ، وأنه الذي به تفتح جميع البلاد ، ولما رأى المخزن ذلك رجع كغيره عدوا للدولة ومظهرا لما له وفيه من البسالة والصولة.

ثم أتت سفينة من سفن الدولة الكائنة بالجزائر أيضا للمرسى الكبير ، مشحونة بالجيوش العديدة ذات العدد الكثيرة ، وعليها موضوع صورة وثن ، وبفور وصولها للمرسى الكبير شرعت في هدم البرج المحصن لها من جهة البحر فتشوش كثيرا لذلك الباي حسن ، وكان وصول هذه السفينة للمرسى الكبير ، في سابع عشرين جمادى الثانية الموافق لثالث عشر دسانبر (كذا) بالتحرير وقد خرجت من الجزائر في خامس عشرين جمادى المذكور ، الموافق لحادي عشر دسانبر (كذا) المسطور. ومكثت الجيوش بالمرسى إلى رجب الأصم ، الموافق لدسانبر الأحكم ، وهي تحت رئاسة الجنرال دمرموا وغرضه الدخول لوهران والإبعاد عنها للباي حسان.
الباي حسن يستنجد بسلطان المغرب الأقصى
ولما سمع الباي بذلك بعث لسلطان المغرب وهو السيد مولاي عبد الرحمان بن هشام الشريف العلاوى بالقدوم ، ليتولى على المغرب الأوسط ويضيفه للأقصا (كذا) ويكون هو من جملة نوّابه فهو الأولى به من الروم. فأحبّ سلطان المغرب ذلك لما بلغه الخبر لكنه خشي أن يقع له ما وقع لجدّه مولاي إسماعيل ، وبعث له ابن عمه مولاي علي ولد السلطان مولاي سليمان ومعه خليفة السيد أحمد الحجوطي ليقوم مقامه في الاستيلاء (كذا) على المغرب الأوسط بالتأويل ، وأوصاه أن يبعث الحجوطي للمعسكر ويتخذ هو دار سكناه تلمسان ، وأن ينتقم من جميع أهل المغرب الأوسط ولا يحاشي إلّا الشرفاء الأعيان.
انقسام مخزن وهران على نفسه
ولما وصل مولاي علي لتلمسان انقسم المخزن على شطرين ، فشطر صار تحت رئاسة الحاج محمد المزاري وتولى خدمة مولاي علي بالنصيحة بغير مين ، وشطر صار تحت رئاسة عمه مصطفى بن إسماعيل. وتولى خدمة الباي حسن

كالعادة بالنصيحة بغاية التفاصيل. وأقسم مصطفى بمخزنه للباي حسن بأنهم في خدمته بالنية والصفاء ما دام بوهران كما أقسم الحاج المزاري بمخزنه للشريف مولاي علي بأنهم في خدمته بالنية وخالص المودة والصفاء ما دام بتلمسان فصير مولاي علي الحاج المزاري من أول وزرائه الأعيان ، وجعله آغة المخزن حيث كان ، فبذل عند ذلك جهده معه في الخدمة بالنصيحة وتلك عادة المخزن سيما الأعيان سيما البحايثية المجتنبين للأحوال القبيحة. قال وأما الجنرال دمرموا فإنه لا زال بجيوشه بالمرسى الكبير. منتظرا اتيان الأمر له لدخول / وهران بكل حال في التحبير.
نفي الباي حسن إلى المشرق
ثم جاء جيش مولاي علي لغنم المخزن الذي بوهران ، فأخذها عن آخرها وقصد بها تلمسان. فسمع مخزن وهران ذلك ولحقوا مالهم ، وسألوا الله أن يجبر حالهم ، فبينما هم غائبون عن البلد ، وإذا بالجنرال دمرموا لما سمع بذلك اغتنم الفرصة وجاء بجيشه عازما فدخل من حينه غفلة للبلد ، ولم يتكلم فيه وجه واحد من البارود ، ولمّا حلّ بها لم يتعرض لأحد بالضرر من أهل البلد والوفود. وكان دخوله لها في رابع جانفي سنة إحدى وثلاثين وثمانمائة وألف ، الموافق لتاسع رجب سنة ست وأربعين ومائتين وألف. وقال بعضهم دخل في أول رجب سنة ست وأربعين ومائتين وألف ، الموافق لسابع عشرين دسانبر (كذا) سنة ثلاثين وثمانمائة وألف. وكان الجيش الذي دخله بها معلما بعدد إحدى وعشرين ومعه بعض الطبجية وواحد من أصحاب الشفور ، وكل من كان من المخزن في غناء ، فربّما عنده ليلا لملاتة وغيرها من النواحي في المسطور. ولما دخل النصارى وهران بعد الجزائر ، أخذوا السلاح لأهلهما وتركوا الحكم كعادته بيد من كان بهما من الأكابر ، ثم أركبوا الباشا بمن معه من الأتراك ، والباي حسن بما عنده أيضا من الأتراك وأوصلوا كلا منهم للمحل الذي أراده ، ولم يتعرضوا لهم بسوء ، ولا لكل واحد منهم الشيء الذي أراده ، وما ذلك إلّا من كثرة الشفقة والعدل ، وكل دولة ملة يدوم ملكها بما عندها من العدل.

الأمير علي يقود زعماء المخزن إلى فاس
ثم إن مصطفى ابن إسماعيل لما خرج بمخزنه من وهران ، قصد بأعيانه في ذهابه لناحية مولاي علي بتلمسان ، ولما مثّلوا بين يديه بشّ في وجوههم بغاية البشاشة ، وأدناهم منه دنوا تظهر به مودة البشاشة. وكان الحجوطي قد جمع ما بخزنة المعسكر من المال وأتى به لمولاي علي بتلمسان كما جمع مولاي علي أيضا ما بخزنة تلمسان ، ومن الغد ارتحل مغربا لناحية فاس ، حاملا لمصطفى بن إسماعيل وما (كذا) معه من الأعيان بحايثية وغيرهم دوائر وزمالة مغولين على البغال إلى مدينة فاس ، وهو بأحد لا يبال ، ولا عبرة له إلّا بما جمعه من المال. فتبّا له من العامل الشرير ، الذي فعل بالأعيان ما فعل من غير ذنب صغير فعلوه فضلا عن الذنب الكبير. ولما وصل لفاس ومثل أعيان المخزن بين يدي السلطان مولاي عبد الرحمان. نظر لهم بالنظرة الدالة على الخير والإحسان ، فألفاهم في الحالة الدالة على الذل والهوان سأل عنهم وعن إتيانهم وما دليل ذلك بالعبارة أو الإشارة ، فلم يجد شيئا فانتقم منه وعزله من حينه من تلك الإمارة ، وقال له يا خسيس العقل من سياسة الملوك إن الأعيان الذين يكون بهم الحل والربط والتشهير ، لا تكون المؤاخذة لهم إلّا بتكرر الذنب الكبير ، وهؤلاء لا ذنب لهم أصلا ، فكيف تؤاخذهم بكلام الوشاة وتأتيهم إلى هنا على هذه الحالة فلا قوة إلا بالله ولا حولا.
وأما آغة الحاج المزاري / فإنه لم يأخذه معهم بل تركه على الخدمة وأوصاه بالجهد فيها ولم يفعل به شيئا من الأشياء التي تكون له الملامة عليها ، بل أبقاه في محله على الخدمة التي كان عليها. غير أنه كان في الحيرة والجزع ، من جانب عميه وقرابته وأعيان محله الذين ذهبوا للمغرب على تلك الحالة من غير سبب وزاد في القلق والفزع ، إلى أن قدموا عليه بغاية العز والتوفير والتمكين ، وحصل بذهابهم للمغرب الارتباط الشديد بين المخزن والعلاويين ، فلقد أحيا (كذا) الفريقان ما درس من الارتباط الواقع بينهما من الأسلاف ، حال قدوم مولاي إسماعيل بن علي لوهران والمغرب الأوسط من غير الخلاف والاختلاف ، وأعطاهم هدايا جليلة وخلع عليهم سيما مصطفى خلعا جميلة ، وبعث معهم خليفة آخر يقال له السيد أحمد بن العامري بالبيان ، ومعه مائة

وصيف من عسكر السلطان ، ولما وصل مصطفى بن إسماعيل بذلك الجيش ، أسكنه المعسكر وصار يجلب له الرعية من كل ناحية وهو في غاية الفيش.
الحماية التونسية على وهران
قال وفي غيبة مصطفى للمغرب اشتغل النصارى بتنظيم جيش تونسي وأتوا به لوهران ، تحت رئاسة خير الدين التونسي ومعه رجل من الزمالة ذهب فارا لتونس اسمه علي ابن التازي وسماه النصارى باي وهران ، ودخل من بقي من كبراء المخزن من غير الحاج المزاري ورحل المخزن ما بين الدوائر والزمالة من قرب تلمسان وأتوا إلى قرب وهران ، ودخل من بقي من كبراء المخزن من غير الحاج المزاري عند الجنرال دمرموا وتكلموا معه على الدخول تحت حكم التونسي خير الدين ، ولكنهم يبقون ساكنين بملاتة فقبل منهم الجنرال ذلك وصاروا تحت حكم التونسي في الحين ، ولما رأى المخزن حكم مصطفى بن إسماعيل وابن أخيه الحاج المزاري مع المغربي السيد أحمد بن العامري صاروا يتأخرون عن مخالطة التونسي بوهران ويدخلون تحت حكم مصطفى وابن أخيه الحاج محمد المزاري الذين لهما الحرمة الوافية مع السيد أحمد بن العامري. ولما بلغ الجنرال دمرموا ذلك بعث للدولة بافرانسا وأخبرها بفعل سلطان المغرب مولاي عبد الرحمان ، وما وقع بسببه من الخلاط في مخزن وهران ، فبعثت الدولة لسلطان المغرب ليكف نفسه عن هذا الفعل ولا يعود له أبدا ، وإن عاد سيرى ما لا سمعه ولا رآه أبدا. وكان بالعامري قد استقل بالتصرف دون مشاورة أعيان المخزن وغيرهم ، بل كان اعتماده على شرذمته التي لا أمن لأحد من مكرهم ، وظهر في الوطن عبث المغاربة بالفساد ، والجور والظلم وعدم الرفق بالعباد. ولما رأى أهل الوطن ذلك فزعوا من فعلهم تفزيعا وعمّوا بالوقوع بهم وقتلهم جميعا ، فشعروا بذلك ورأوا أنه لا ريب توقيعا ، ووافق ذلك أمر سلطانهم لهم بالقدوم ، ويتركوا المغرب الأوسط لمن هو من غيرهم موصوف بالعكروم فهرب كبيرهم السيد أحمد بن العامري لتلمسان ومنها زاد لفاس ، وهرب أصحابه لوهران ومنها زادوا / ، في الفلك لطنجة في شدة إياس. ولما حصل لهذا الوطن بالمغاربة الإذلال ، أنشد بعض الأدباء من أهله في ذلك أبياتا فقال :



آها للمغرب الأوسط ضاعا
 

وبان وهنه من به جاعا
 
تراكمت أهواله وزادت
 

به الشّدائد الفساد ذاعا
 
جاء به للحكم أهل فاس
 

فجاسوا خلال دياره سراعا
 
وحلّوا وأبرموا الحكم بظلم
 

ودبّت فيه اجراء ضباعا
 
كأنه على التّحقيق ليست
 

به رجال قد قهروا سباعا
 
لا غرو يا علاويين يحلّ
 

بكم ما ببني سعد قد شاعا
 
فإنهم قبيلكم قد جاء و (كذا)
 

لمغربنا وقد ذهبوا جزاعا
 
رأوا من بأسنا ما ليس يرى
 

وأسيافنا للحمهم بضاعا
 
بنادقنا رصاصها مصيب
 

لهم بكلّ حالة وقّاعا
 
هزمناهم إلى فاس وزدنا
 

في أثرهم قتلا وسبيا إيقاعا
 
حالة بايليك الغرب بعد رحيل الأتراك
والمغاربة :
ولما ذهب الأتراك من وهران ، والمغاربة من المعسكر وتلمسان ، وذلك في عام ستة وأربعين من الهجري ، وعام ثلاثين وإحدى وثلاثين من المسيحي الحبري ، قامت العرب على بعضها بعض في كل ناحية ومكان ، وعمت الفتنة وعظمت البلوى في أقطار المغرب الأوسط مدة من زمان. فقام المخزن وريّسوا عليهم مصطفى بن إسماعيل وابن أخيه الحاج محمد المزاري واعتمدوا في ذلك على أهل ملاتة ، وتليلات ، وسيق ، وهبرة ، ومينا ، وشلف في القول الحاري ، ووقع القتال ما بين الأعراب والقرى والمدون (كذا) وصار كل واحد من رؤساء العرب يروم إرث مملكة الترك إلى أن وقع الخلاط الكبير في البوادي والمدون (كذا) ، وخرج أهل تليلات وسيق من دائرة المخزن ودخلوا في دائرة الأعراب النائية التي لا تطيق على الكر والفرّ في ما كان ويكون وكثر الجزع والهرج ، والفزع والحرج ، وأطرد النصارى التوانسة من وهران وأبعدوهم من الدواوين لما رأوا سيرتهم مخالفة للأحكام الخصوصية ، والعمومية وسائر القوانين وراموا مخالطة العرب بأنفسهم ، إلى أن يصيروا بالسياسة من أبناء جنسهم ، فاستقلوا

برئاسة وهران ، وحصّنوها بالعسس المفترقة في أماكنها المخوفة في كل حين وزمان ، وذلك كشعبة رأس العين وغيرها من الأماكن المخوفة ورفعوا بالمدينة ما لهم من البنود وضربوا النواقيس ، وأمروا الحراس بضرب من صعد السور بغير إذن بالبارود. وقبل طردهم للتوانسة نادوا بالأمان لكل خارج وداخل ، وأباحوا المخالطة لرائمها (كذا) منهم من / غير تعرض بسوء لكل فارّ وقابل ، فجاءتهم العرب لبيع الخيل والبغال والحمير ومباح الحيوان ، وشراء السلع بأنواعها من العطرية والكتان فاتسعت الدولة في دخول الأرزاق عليها من كل جهة ومكان ، وعاشت جيوشها في الأرزاق الجديدة من اللحم وغيره بحسب الإمكان ، وعينت المكلف بشراء الخيل لجيوشها فاشترى إلى أن ركب المحتاج ، وفرح الضعيف وكثر النتاج.
حاكم وهران الفرنسي يثير الفرقة والعداوة
مع المخزن
وحدثني من أثق به ممن كان بوهران ، إنّ التونسي كان أول عمله خرج بجيشه وغزى بالساحل دواوير حميان ، فغنم منهم كثيرا وأسّر وسبا (كذا) وقتل واجترّ خمسين رأسا أتى بها على الأعمدة لوهران. وفي إبريل من سنة إحدى وثلاثين وثمانمائة وألف ، الموافق لست وأربعين ومائتين وألف ، جاء الجنرال فداس حاكما بوهران بغاية التحكيم ، فأول عمله أنشأ العداوة مع الدواوير والزمالة الذين هم المخزن بوهران وعليهم العمدة من الزمان القديم ، فكل دولة معتمدة عليهم في الحركة والسكون ، وبهم تتوصل لكل مطلوب ومظنون ، فصار القتال بينهم وبينه شديدا ، ووقع الحرب بين الفريقين مترادفا مزيدا. وفي تاسع عشر ستانبر (كذا) من العامين المذكورين جاء الجنرال بوافي (177) حاكما بوهران وكان ممن حضر لفتح مصر واستلاء (كذا) الدولة عليه ، وعلم خدمة المسلمين وصارت محفوظة لديه ، فزعم أنه سيلقي على مسلمي وهران بعض المخوفات
__________________
(177) يقصد بوايي :.BOYER

التي ألقيت على مسلمي مصر وما قاربها من المشارقة ، ولم يعلم أن مخزن وهران لا خشية لهم من شيء ، وإنما شيمتهم الشجاعة والمبارزة والتقدم للطعن والضرب والوفاء بالعهود الصادقة ذات الأحوال المبارقة. ونار الفتنة ثاقبة بين المسلمين بواديها والحواضر ، منذ دخل النصارى لمدينتي وهران والجزائر.
ظهور الشيخ محي الدين
فقام لإطفائها العلماء والشرفاء والمرابطون سيما القطب الكبير ، الذي كان يخشاه الباي حسن إلى أن سجنه وهو السيد محي الدين بن السيد المصطفى ابن المختار المختاري الحسني الراشدي الغريسي والد الأمير ، وافترقوا على تخميدها بكل مكان وناحية ، وكل جهة وضاحية ، والشيطان اللعين الطريد ، لا يزيدها إلّا إيقادا بين الأحرار والعبيد. فشمّر السيد محي الدين المذكور عن ساعديه وساقيه لإطفائها بغاية التشمير ، لما له من العناية بالخلف خصوصا المخزن وتفضيله له عن النائبة التحرير وصار يروم الصلح بين الفئتين بحسب القوة والطاقة ، ويزيل ما بينهما من الأمور الضارة والشاقة. ولما رأى أن إطفاءها لا يكون إلا بجمعهم للجهاد ، أتى القطب السيد الحاج عبد القادر ابن زيان الزياني كثير الأنوار والأسرار واحد الأفراد ، وسأل منه أن يعينه على ذلك بالتحقيق فألفى للسيد الصلاح في ذلك فوافقه وشمّر من حينه عن ساعديه وساقيه بالنية والتوفيق ، واندبا ابتداء قبيل الغرابة على ذلك ، بعد أن دعيا الله على التوفيق لذلك ، وقالا في دعائهما اللهم اجعل كيد المسلمين في نحر عدوهم ، وأبعد عنهم الإذاية وتسلّطها على عدوّهم / اللهم وفقنا وإياهم لهذا السبيل اللهم اهدي العباد اللهم اجمع كلمة الأمة المحمدية ووفقها للجهاد ، فلبّاهما القبيل المذكور ، ووافقهما على الجهاد الذي هو بكورة السعد المبرور وجمع جيشه وأتى به إليهما. وكان الشجاع الكرّار خليفة ولد محمود يحرض قبيلة الغرابة بذلك لديهما. قال فصلّى الشيخان ومعهما الأمير السيد الحاج عبد القادر بذلك الجيش العصر وذهبوا من سيق لوهران ، وتمادوا على سيرهم ليلا بفرح وسرور وخلاص نية إلى أن صبحوا وهران.

معركة خنق النطاح الأولى بوهران
ولما وصلوا خرج لهم العدو بجيوشه كأنها الجردان ، وتصافّ الفريقان للقتال بوادي خنق النطاح من أول النهار ، واشتد القتال بينهما ودام إلى العشية بالاشتهار فمات من النصارى خلق كثير ، ومن المسلمين كذلك فضلا عن الجريح بالتكثير فكان ممّن مات من الغرابة ستة من الأعيان ، وهم الفقيه الخوجة السيد الطيب بن المشري ، والشجاع زيان بن سهيلة ، وسليمان بالهرشي ، وقدور بالعابد ، والحاج الأخضر بن عيرة ، وقدور بن المغراوي ، ومن تحلايت الحبيب ابن رحّ بغاية البيان ، وانجرح (كذا) من كبرائهم ثلاثة في المعدود ، وهم الحبيب بو علام بن الحبوشي ، وابن يعقوب بن سهيلة وخليفة ولد محمود. وكان ذلك في سابع إبريل وقيل في السابع عشر منه سنة اثنين وثلاثين وثمانمائة وألف ، المطابقة لعام سبع وأربعين ومائتين وألف (178). وإلى هذه الواقعة أشار الفقيه السيد الحاج عده بن علي الشريف التحلايتي في عروبيته بقوله :
بسم الله أبديت نشدي
 

والصلات على الهادي
 
راكب البراق سيدي
 

من نرجا وشفاعته يوم الميزان
 
بإذن الله إسقام سعدي
 

في بوفاطما أحمد شارح الأديان
 
لا غزو نغد الوهران
 

يا سايل راني انعظّم
 
في ذا الجيش الي تلايم
 

امشا للبهجا ايزادم
 
وعمل خصايل ضارب عداي الرحمان
 

ستر الله عليه دايم
 
ذا النجع الغربي أخباره في البلدان
إلى أن قال :
سيدي محي الدين دبّر
 

في ذا الراي وجا امزيّر
 
في سيق انزل يالحاضر
 

هو والمبروك الأفحال بن زيان
 
من ثم ركبوا العصر
 

الأقطاب اجتمعوا اتفقوا في ديوان
 
خليفا للجهاد لبّا
 

واجمع قومان الغرابا
 
__________________
(178) وهو ما يوافق شهر ذي القعدة.


قال لهم ما كان هربا
 

من يهدر في الغيب واك اليوم ايبان
 
للميمر نعطوا امكبّا
 

والّي مات امنازله جنّت رضوان
 
إلى أن قال :
الهذا الناس القول واتا
 

من زادوا للرّوم بهتا
 
ماتوا ما لابطال ستا
 

سربا مذكورين غير فلان فلان
 
ما همشي هذون موتا
 

عالم الغيب امرخهم في القرآن
 
إلى آخر القصيدة.
وكانت الدولة عينت من جيشها فرقة يقال لها قراندي وأسكنتها للحراسة بخنق النطاح ، ولتمييز بعض الأمور ، ففشا فيها النقص بالقتل وغيره وأدخلتها للمدينة بغير الجناح. وذلك في إبريل من العامين المذكورين ، الموافق لذي الحجة العربي بغير المين (179).
معركة رأس العين بوهران
ثم اندبا (كذا) الشيخان رضي‌الله‌عنهما بعد ذلك جميع المخزن الذي هو الدوائر والزمالة والغرابة والبرجية ، وغيرهم من رزيو وحميان والعبيد الشراقة وبني شقران والحشم وبني عامر وسائر الجهة الغربية ، فوافقوه على الجهاد ، ورغبوا فيه وهم في الفرح والسرور بغاية ما يكون من الازدياد. ولما اجتمع الجيش العرمرم ذهب به الشيخان للحرب والأمير عليه هو السيد محي الدين ، ونزلا به أولا بوادي الحمام ، وثانيا بسيق ، وثالثا بتنازات من أرباض تليلات وكتبا بطاقة للطاغية على أحد الخصال الثلاثة التي هي الإسلام أو الجزية أو القتال في الحين وبعثها الشيخ السيد محي الدين مع رجل يقال له علي بن زرفة من أصحاب وادي الحمّام ، فذهب بها عليّ ولم يظهر له خبر للآن بالاحتكام. ولمّا انقطع خبره وطال أمره جدّا تقدم السيد محي الدين بالجيوش ونزل بها في سيدي معروف وبه جاءه المخزن مجتمعا في غاية الترفّه بما لهم من الملابس
__________________
(179) شهر أبريل 1832 يوافقه ذو القعدة وليس ذو الحجة من عام 1247 ه‍.

والفروش ، وعتاق الخيل تحتهم كأنها النعام أو العزلان ، ولباسهم منوع بسائر الألوان ، وسروجهم مزوقة مرونقة وجلود النمر مسدولة مع الخيول ، وهي في سيرها منهمدة كأنها السيول ، وسلاحهم في غاية الصفاوة له شعاع وبروق ، وعلى تلك الخيول رجال في الشجاعة كأنها الأسود وألوانها لها نور وشروق ، فبات المخزن تلك الليلة معوّلا على القتال وطالبا للمكافحة والنزال ، شائقة أنفسهم للقاء الرحمان ، سائلة منه الشهادة للفوز بجنة رضوان ، ومن الغد تفرق المخزن بالجيش وقسّمه رايات باشتهار ، وانتشر ممتدّا من الحافة للمروج لكدية الخيار ، وضرعوا في قتالهم في ذلك اليوم ، فلا ترى من شدة الوطيس وكثرة القتلى من الجانبين إلّا الطيور لها عليهم الحوم ، وافترق الفريقان عشية ، وأخذ كل موتاه أخذة قوية ، وقد تمادى المسلمون في هجومهم ، في ذلك اليوم بغاية الجهد والقوة إلى أن وصلوا لوسط المحلة الفرانسوية وللحفير الذي ببرج صنطاندري (180) في غاية القوة ، ثم من الغد ارتحلت محال المسلمين ونزلوا بالضاية (181) ، وابتدأ القتال بين الفريقين من الزوال / إلى ظلام الليل (كذا) بالغاية ، والمخزن له تقدّم للنزال ، وحرص على دوام القتال ، ثم انفصل الفريقان ورجع كل لمحلّه بالتحقيق ، وانجرح من الدوائر الحاج المزاري من سبّابته اليمنى لنيل التوفيق ، وعدة ولد عثمان من صدره ، وانكسر الحاج بن كاملة من ركبته وسلم في أمره ثم المختار بالتريكي ، والمولود بالبرغوث ، وأخذ النصارى فرسه الأزرق شديد الرغوث ، ويحيى بونوة ، والمختار بن ساردي ، وهم في غاية تقدّم وتمادي ، وكان ذلك في ثالث ورابع وخامس وسادس ماي سنة اثنين وثلاثين من الأعوام العجمية المسطورة ، الموافق لسنة ثمان وأربعين من الأعوام العربية المشهورة (182) وإلى هذه الواقعة في الأربعة الأيام المتوالية أشار السيد الحاج عده بن علي الشريف المذكور في عروبيته بقوله :
يا سايلني نعيد للشكر هديا
 

للجيش الّي مشرّب للكفر الامرار
 
__________________
(180) يقصد برج القديس أندري : SAINT ANDRE ? بجوار باب الجيارة شرق المدينة.
(181) يقصد ضاية المرسلي ، على طريق سيدي الشحمي شرق المدينة كذلك.
(182) يقصد المعركة المعروفة بمعركة راس العين عام 1832 الموافقة لشهر ذي الحجة عام 1247 وليس 1248 كما ذكر المؤلف.

إلى أن قال :
يا سايلني نعيد لك هذا الغيوان
 

يوم انحركوا انجوعنا لبلاد الرّوم
 
الأقطاب اثنين جمع في ذا الديوان
 

وانصرهم يا لطالب الحي القيّوم
 
حمر اللحيا الشيخ الأفحل بن زيّان
 

يبغي الجهاد قدها عز المظيوم
 
محي الدين الوقيح زيفط للعربان
 

جاته الإسلام كافّه تراس وقوم
 
أمحال قويّا التمت يا فرسان
 

لا من يحصي أعدادها هيلات اطموم
 
إلى أن قال :
كعجبوني اغرابتي عز عليا
 

على الاعلاج يا ملاح احملهم جار
 
اخبرهم راه شاع في كل اثنيا
 

دمّارين الجهول وشبوب الّي بار
 
بطّيو ناس قدها ذوك اجزايا
 

يوم الدّبلا أعلامهم صاعب غرّار
 
تعقر من لا اتجيب كيف البرجيا
 

ناس الشيعات والشنا وأهل التفخار
 
وبني شقران واكدين اعموميا
 

يزهوا خوتي منين حضر في المشوار
 
جات امطافيل مالمعسكر يا خيا
 

خلجوا الاعلاج زينهم كباب ـ لار
 
يا عجب شوف ما اضنات الحشميا
 

طفيل اغريس ليس ما فيهم تعيار
 
الاعرج صبّار جابها للكلبا
 

وات قولي عليه شباب الي بار
 
ناس الحمّام ثاني لاقوا بيا
 

ذكروهم من قبيل للعاد زنجار
 
وبني عامر قدها ما صليا
 

كالخل إذا اعناو يهدم الأسوار
 
وادوايرنا أهل الشنا والعشويا
 

من ناس قبيل ها الخوا يسروا الاشكار
 
أهل امشاطي يوقدوا أهل اجزايا
 

أهل اركبات بيض وامراكيب احرار
 
يوم الحيها اتصيبهم في لوليا
 

يقتحم الاصفوف ما فيهم توخار
 
/ قطّاعين الروس نقم للعديا
 

أولاد اسماعيل قدها رهج الكفّار
 
وازمالتنا امدمرين الكفريا
 

من يتكلف يشطر عظمه تشطار
 
إلى آخر القصيدة.

الشيخ محي الدين يقترح مبايعة
مصطفى بن إسماعيل أميرا
وفي هذه المرة قام الشيخ السيد محي الدين بين الناس خطيبا ، فشوّق للجنّة وحذّر من النّار وذكر فضائل الجهاد والشهداء ، وفضل الإمارة ورغب الناس فيها ترغيبا ، وقال لهم أيها الأمة ينبغي لكم أن تنتخبوا أحدا منكم توفرت فيه شروط الإمارة فتعقدون له البيعة على أنه أمير عليكم يقوم بأموركم في الجهاد وفصل الدعاوى بالتأويل ، وإنّي لا أرى تلك الشروط مجتمعة إلّا في ولدنا الشجاع آغة مصطفى بن إسماعيل ، فهلمّوا معي وامددوا أيديكم لعقد البيعة له من الآن ، وأكون له واحدا من جملة الأعوان ، فأبى ذلك مصطفى غاية ونفر ، وهرب منها هروبا خوف من سقر ، وقال له أيها الشيخ اتّق الله فإنها لا تصلح إلّا لك دون غيرك ، لشرف نسبك وعلوّ همتك عند الله وخلقه وقبول كلمتك وظهور سرّك وقوة علمك وكثرة خيرك ، فأباها أيضا الشيخ المذكور ، وقال إني كبرت ولا أطيق على النهوض في القول المشهور ، وإن كان غرضكم في ابني الحاج عبد القادر وقبلتموه فهو بين أيديكم ، وأنتم أعلم بأموركم وبما من النار يفيدكم. وانفصل المجلس في تلك المرة من غير اختيار ، وترك ذلك لوقت آخر بغاية الاختيار.
معركة خنق النطاح الثانية
ثم جمع الشيخ محي الدين جيش الحشم وبعثه لغزو وهران تحت رئاسة ابنه الأمير السيد الحاج عبد القادر ، ومعه في الرفقة أخوه السيد محمد سعيد وابنه السيد أحمد ذو العز الوافر ، وكان في انتظار ذلك الجيش الشيخ السيد عبد القادر بن زيان ، ومعه قبيل الغرابة واجتمع المخزن عليهم بوهران بحيث جدّ الجميع في السّير ليلا إلى أن أصبحوا بالمقابر بوهران ، فكمنوا إلى أن خرج النصارى بمالهم للرعاية غفلة فلم يشعروا إلا وجيش المسلمين أخذ المال بأجمعه فعند ذلك خرج جيش النصارى وحصل المصاف بجنان بني مزاب المفسر عنه بلغة النصارى بغابة عسة الأصنام ، واشتد القتال وعظم النّزال وقوي الحرب وكثر

الطعن والضرب وصار الناس في الازدحام ، ثم انحدر النصارى لناحية خنق النّطاح ، والمسلمون في أثرهم يريدون نيل النجاح ، فمات من جيش المسلمين في الصدمة الأولى أربعة من الأعيان ، أحدهم السيد أحمد ولد سيدي محمد سعيد المختاري بالاتقان ، فتقدّم له عمّه الأمير ، حمله من بين الصفوف رغما على أنف النصارى وهو في الغيظ الكبير ، ثم تبارز الأمير بعد ذلك مع أحد النصارى فضربه النصراني بحربته ليده اليسرى بوسط راحتها ولم تحصل للأمير منها رعبة ولا حيارى ، فجذبها قرنه وهم بضربه بها ثانيا ، فاختطفها الأمير فورا من يده وجاء بها لجيشه ساريا ، وهو على فرسه الأزرق ، بعد ما قتل قرنه وترك النصارى في الوجل والفلق ، ودام القتال بين الفريقين والمسلمون في غاية التقدم للقتال ، وليس فيهم متأخر عن الضرب والنّزال / وتمادى الأمير في هجومه إلى أن وصل للحصن يريد الدخول ، ورصاص الدولة يصبّ عليه كأنه المطر وهو تحته لا يشعر به رائما من مولاه الفوز والقبول ، وانفصل القتال بينهما عشية ، ورجع كل لمحله وصارت نية المسلمين خالصة قوية ، وإنما تأخر سيدي محي الدين عن الحضور بهذه الواقعة لأمر عاقه عنها كالصاعقة ، وكانت هذه الملحمة في الحادي والثلاثين من شهر أوت من السنة المسيحية المقررة الموافق لجمادى الأولى من السنة الهجرية المحرّرة (183).
ثم غزاها المسلمون تحت رئاسة الأمير قبل التولية ، وليس معه الشيخان في القولة الحولية ، واجتمع لهذه الواقعة المخزن وغيره ، وهم سائلون من الله فتحها فلم يتم لهم خيره ، فحصل المصاف بينهما بالكرمة ، وصار القتال العظيم والمدفع يصب على المسلمين كأنّه المطر من برج الفرمة ، ودخل النصارى الرعب العظيم ، مما رأوا من القتال الجسيم ، وكان ذلك في شهر أكتبر (كذا) من المسيحية المسطورة ، المطابق لجمادى الثانية من الهجرية المذكورة (184).
ثم غزاها الأمير بجميع المخزن والحشم وغيرهم قبل توليته أيضا يرومون
__________________
(183) يقصد عام 1832 الموافق يوم 4 ربيع الثاني عام 1248 ه‍ ، وليس جمادى الأولى.
(184) يقصد أكتوبر عام 1832 م الموافق جمادى الثانية عام 1248 ه‍.

فتحها من الله تعالى والاتمام لخيرهم نفلا وفرضا ، فحصل المصاف بناحية عسة سيدي شعبان ، وكثر القتل وحمى الوطيس وظهر الشجاع من الجبان ووقع بين الفريقين القتال العظيم ، وافترق المسلمون على وهران ما بين خنق النطاح ورأس العين وغيرهما من أرباضها بالتلتزيم ، وجال الأمير في هذه الواقعة وصحبته الحاج المزاري بأرباض وهران إلى أن صعد لهيدور إلى أن حاذى المايدة بغاية الإتقان فقال المزاري في الأمير هذا هو الرجل الشجاع ، ولا ريب أنه يكون منه ما يكون إن دام بهذا المصراع ، ودام القتال الشديد الأكبر ، بين الفريقين إلى أن مات تحت الأمير فرسه الأشقر ، ونادى جهرا للإعانة لما سقط بين الصفوف ، فأنقذه الحشم فورا من يد العدّو وأتوه بفرس آخر فركبه بين الصفوف ، وتعجّب النصارى من فروسيته وشجاعته وبسالته وبراعيته ، وانفصل القتال بين الفريقين ، ورجع كل لمحلّه بغير المين ، وإلى هاتين الواقعتين أشار السيد الحاج عدة بن علي الشريف المذكور في عروبيته بقوله:
أبديت نشدي باسم الجليل بالحاضر
 

والصلاة على النبي بالسامعين
 
شفيعنا بكلتوم الصادق المنوّر
 

والرضى لأصحاب عشر الفايزين
 
بعد صليت على النبي نعود نشكر
 

في الفارسين الّي خلعو الكافرين
 
ابطال وكد خلّوا جيش العد مدمّر
 

ما يملوش الحرب لبدو العين
 
إلى آخر القصيدة.
وكانت هذه الواقعة في حادي عشر نونبر (كذا) من العجمية المسطورة ، الموافق لعشرين رجب من العربية المزبورة (185) وإلى هؤلاء الوقائع (كذا) أشار الأمير / في قصيدته الواوية التي من بحر الطويل بقوله :
ونحن سقينا البيض في كل معرك
 

دماء العدا لمّا وهت منهم القوى
 
ألم تر في خنق النطاح نطاحنا
 

غداة التقينا كم شجاع لهم لوى
 
وكم هامة ذاك النهار قددتّها
 

بحدّ حسامي والقنا طعنه شوى
 
__________________
(185) يقصد شهر نوفمبر عام 1832 م وهذا يوافقه 17 جمادى الثانية وليس رجب من عام 1248 ه‍.


وأشقر تحتي كلّمته رماحهم
 

ثمانا (كذا) ولم يشك الجوى بل ولا النوى
 
بيوم قضى نحب ابن أخي فارتقى إلى
 

جنان له فيها نبيّ الرضى آوى
 
فما ارتدّ من وقع السّهام عنانه
 

إلى أن أتاه الفوز رغما لمن عوى
 
ومن بينهم حملته وهو قد قضى
 

وكم رمية كالنجم من أفقه تهوى
 
ويوم قضى تحتي جوادا برمية
 

وبي جمعوا لولا أولوا البأس والقوى
 
وأسيافنا قد جردت من جفوننا
 

ولا ردّ إلّا بعد ورد به الرّوى
 
ولمّا بدا قرني بيمناه حربة
 

وكفى بها نار من الكبش قد شوى
 
فأيقن أني قابض الروح فانكفّا
 

يولّي فوافاه حسامي بما هوى
 
شددت عليهم شدة هاشمية
 

وقد وردوا ورد المنايا على الغوى
 
نزلت ببرج العين نزلة ضيغم
 

فزادوا بها حسرا وعمهم الجوى
 
وما زلت أرميهم بكل مهنّد
 

وكل جواد همّه الكرّ لا الشوى
 
وذا دأبنا فيه حياة لديننا
 

وروح جهاد بعد ما غصنه ذوى
 
جزى الله عنّا كلّ صقر مولّع
 

من أهل غريس إذا أتان وما انزوى
 
إلى آخر القصيدة ، وانظرها إن شئت في عقد الأجياد وغيره (186) وقال السيد الحاج محمد بن الشريف المعسكري ثم الغربي دارا في قصيدته جوهرة الرضا ، التي هي من الطويل أيضا :
لقد بان فضله في حال جهاده
 

لمّا الأب غزى وهران فأسمع الخبر
 
بوهران دار الشرك جرّب جوبه
 

فحلّ برأس العين ما له من مفر
 
رقى لهيدور حتى حاذا مائده
 

ولم يخش مرجاج وما به من ضرر
 
وكم له بخنق النطاح من كرّة
 

وباعوجه 4 جراحات فابتدر
 
لنجل لصنو شاهد لمعركة
 

حيث لجنان الخلد كان به السّفر
 
فأخذه رغما لأنف عدوه
 

ولم يخش مدفعا ولا رصاصا أضر
 
فيا له من بطل نهيك وباسل
 

كميّ وشهم والمقسّم والذمر
 
__________________
(186) توجد القصيدة بكاملها في ديوان : نزهة الخاطر في قريض الأمير عبد القادر. الذي حققه عبد الوهاب بن منصور (مطبعة ابن خلدون ـ تلمسان 1371 ه‍ ـ 1952 م) وفي بعض أبياتها هنا تصحيف.


وعاد لقومه في غاية عزّه
 

بنصر من ربّه جلّا علا المقتدر
 
وصارت جميع الناس تحك لحزمه
 

وضبطه ما رأوا من الضرب والكرر
 
مبايعة الأمير عبد القادر أميرا للجهاد
/ وبسبب هذه الوقائع الجهادية التي بانت فيها شجاعة الأمير ، وطار صيته وانتشر في الآفاق بغاية التحرير ، حصل الكلام مع الشيخ السيد محي الدين والد الأمير من الأمّة على أن يكون هو الأمير ، فأبى ذلك وقال لهم عليكم بابننا الحاج عبد القادر فهو الموافق لكم في أمركم وهو الجدير.
قال العلّامة شيخ شيخنا السيد الحاج أحمد بن عبد الرحمان البوشيخي ثم الشقراني ، أسكنه الله بفضله دار التهاني ، في كتابه : القول الأوسط ، في بعض أخبار ما حلّ بالمغرب الأوسط ، ولما يجدوا لذلك المنصب الجليل ، والمقام الجزيل ، إلّا ذا النسب الطاهر ، والكمال الباهر ، رايس الملة والدين ، القامع لأعداء الله الجاحدين ، الفقيه البارع ، المفضال الجامع ، علّامة المحققين ، وصدر الأفاضل المبرّزين المدققين ، شيخ الطريقة ، وإمام أهل الحقيقة ، سلالة المختار ، الحسني السيد الحاج محي الدين بن السيد مصطفى بن المختار ، لكونه أهلا لها وأصلح ، وأولى بها وأنجح ، فامتنع منها وفزع ، وأعرض عنها وجزع وما ذلك إلا لعظمتها عند الله وخطرها وشقوقها ، وخوف الإفراط والتقصير في حقوقها ، وأشار بها إلى ولده الأمجد ، وطلعته الأسعد ، بديع زمانه ، وأديب عصره وأوانه ، وأشجع وقته ، وأفرس آنه العاري عن مقته ، ذي المقدار النّامي ، والمقام السّامي ، ناصر الملة والدين ، المخلص في أحواله لرب العالمين الإمام السيد الحاج عبد القادر بن محي الدين ، لكونه ذا حزم وشجاعة ، ورأي وتدبير وطاعة ، فأذعنوا له وأنفذوا أمره ، وأتهموا غرضه وأكملوا فخره ، وعقد له البيعة أهل الحل والعقد من العلماء والشرفاء والأولياء والأعيان ففاز بها بحول الله وقوته على غيره من الأقران.
واختلف المؤرخون في وقت إمارته على أقوال ، فقال بعضهم أنها وقعت

في حكايته للأقوال ، في ثاني عشرين نونبر (كذا) سنة اثنين وثلاثين وثمانمائة وألف ، الموافق لسابع عشرين جمادى الثانية سنة ثمان وأربعين ومائتين وألف ، وقال بعضهم أنها وقعت في سابع أو ثامن العشرين دسانبر (كذا) من تلك السنة العجمية ، الموافق لثالث أو رابع شعبان من تلك السنة العربية وقال آخر أنه تولى في اثنين أو ثلاثة وثلاثين وثمانمائة وألف الموافق لثمان أو تسع وأربعين ومائتين وألف. وقال غيره أنها كانت من عام اثنين وثلاثين إلى أربعة وثلاثين بإدخال الغاية من القرن التاسع عشر المسيحي ، الموافق لعام ثمان وأربعين إلى خمسين بإدخال الغاية من القرن الثالث عشر الهجري الصريحي. والصحيح أنه تولى يوم الأحد ثاني عشر رمضان سنة ثمان وأربعين ومائتين وألف ، الموافق لثالث فبري (كذا) سنة ثلاث وثلاثين وثمانمائة وألف ، ببطيحة من مزارع غريس يقال لها الدردارة في المشتهر ، محلّ وعدة رجال غريس من أحواز المعسكر (187) وحضر لهذه البيعة من هو من أهل / التجارب ، والده العلامة السيد الحاج محي الدين وعمّه السيد علي أبو طالب ، والقطب الرباني الغوث الصمداني ، أبو الفتوحات والمنازل ، والارتقاء إلى مشرب مناهل أهل الله الأفاضل كامل الذكاء والدّهاء والقريحة ، السيد الأعرج بن محمد بن فريحة ، والولي الناسك الأشرف ، السيد محمد بن حواء بن يخلف ، وحافظ العصر ، وعلامة الدهر ، الملقب سقاط بالعادة والمعرفي السيد محمد بن عبد الله سقاط بن الشيخ المشرفي والعلامة النحرير ، السيد أحمد ابن التهامي والد العلامة السيد الحاج مصطفى بن التهامي صهر وخليفة الأمير ، والعلامة الباري من المساوي ، السيد عبد الرحمن بن حسن الدحاوي ، والعلامة الدراكة الشهير ، السيد محمد بن آمنة بن عبد القادر بن دوخة العمراوي خال الأمير ، والعلامة ذو البال الصحيح ، الفرغي ، السيد بالمختار بن عبد الرحمان الورغي ، والعلامة ذو الرأي المتعاطي ، السيد محمد بن الثعالبي الزلماطي وغيرهم من السادات ، وجملة الأعيان ما بين المخزن وغيره الذين قد جل عددهم عن الحصران ، وكان أوّل من مدّ يده فبايعه من هؤلاء السادات السيد
__________________
(187) الصحيح أن الأمير بويع مرتين : البيعة الخاصة بغريس أواخر شهر نوفمبر 1832 م ، والعامة في مسجد الباي بمعسكر أوائل شهر فيفري 1833 م.

الأعرج بن محمد بن فريحة ، من أولاد سيدي محمد بن يحيى مقرّي الجان ذكي القريحة ، فأتبعه الناس على ذلك وهم في فرح وسرور بذلك.
الغمز واللمز في البيعة
ولمّا عقدوا له البيعة بالتغريس ، قال بعض علماء وأولياء الله بغريس ، سبحان الله هذه البيعة لا يستقيم لصاحبها حال ، ولا يهنأ له قرار ومنال ، ولا شفقة له ورحمة في الأعيان وغيرهم من النساء والرجال ، وإنما هو سفاك للدماء ، وليس من السادات الرحماء ، لكون أول من بايعه أسمه الأعرج والمحل المبايع فيه اسمه الدردارة ، فلا ريب أنّ أيامه وأحكامه وأحواله عرجا ولا تستقيم وإنما تبقى مدردارة ، وهلّا كان اسم ومحل غير هاذين ، من الأسماء التي يكون بها التفاؤل ولا تدل على الريب والبين.
قلت وكأنه أخذ في فراسته من قضية المبايعة للإمام سيدنا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ورضي عنه الذي هو ليث الكتائب ، لأنه أوّل من بايعه سيدنا طلحة بن عبد الله ، أحد العشرة رضي‌الله‌عنه وعنهم فإنه من ذوي الفضل والجاه ، وكانت يده قد شلّت في قضية أحد فيما اشتهر ، فقال حبيب بن ذؤيب رضي‌الله‌عنه : إنا الله وإنا إليه راجعون أوّل من بدأ بالبيعة يد شلا لا يتم هذا الأمر. ولمّا سمع الأمير الراشدي تلك المقاتلة (كذا) أسرّها في نفسه وأضمر الفتك بمن سيظفر به من علماء وأولياء غريس ، فكان بعد ذلك بينه وبينهم من العداوة الواضحة التغريس ، وإلى كون وقائعه مع أبيه في وهران ، هي سبب توليته أمير بالمغرب الأوسط بغير بهتان ، أشار الأمير في قصيدته الواوية بقوله :
لذاك عروس الملك كانت خطيبتي
 

كفجأة موسى بالنّبوءة في طوى
 
وقد علمتني خير كفء لوصلها
 

وكم ردّ عنها خاطب بالهوى هوى
 
/ فواصلتها بكرا لدي تبرّجت
 

ولي أذعنت والمعتدي بالنوى نوى
 
وقال صاحب جوهرة الرّضى :
لذا انعقد الإجماع من آل راشد
 

على بيعة الإمام فهو بها أجدر
 
فأوّل فاه صاح بالبيعة التي
 

بدت سليل النجادي أعرجها الأبر
 



وأتبعه السادات في محفل الرّضى
 

فنادوا بأعلا الصوت إنك ذو نصر
 
هنيئا مريئا يا أمير بلادنا
 

لك الطاعة الكبرى لك العز والنصر
 
فأمر بما شئت وانه عمّا تريده
 

فيحصل الامتثال بلا ريب لا وزر
 
فكل الذي يطيع يدرك ما يرضى
 

وكل الذي يعصى يحلّ به المكر
 
فأنت الأمير الراشدي لك العلا
 

وأنت الذي حقا قد ابنا بك الجفر
 
وفي بكّه (كذا) المشرّفة وبغداد
 

قيل لأبيك هذا لا شك ينتصر
 
وأنت في محفل الفضلاء جالس
 

مع الأب حيث قيل ما قيل فافتخر
 
الأمير يطلب من مصطفى بن إسماعيل المبايعة
وقد حجّ الأمير في صغره مع والده مرتين ، وحفظ القرآن فكان يقرأه على ظهر قلب بلا مين ، وكان له تدبير حسن وشجاعة باشتهار ، لكنه في نفسه جنة وحوائطه نار ، وصارت سيرته عند من أطاعه حسنة ، وأحواله عندهم مستحسنة ، وسمّه (كذا) أهل غريس بالسلطان ، وسمّاه المخزن بولد المرابط محي الدين كثير الإحسان.
ولمّا انعقدت له البيعة خاطب مصطفى بن إسماعيل بمخزنه بالإذعان له بالطاعة ، والدخول تحت حكمه ليكون واحدا من الجماعة ، فأبى ابتداء ولبّ ثانيا لمّا رأى الناس بايعته جهارا ، وقال امتناعنا ليس فعلا مختارا ، مع قول أخيه الحاج بالحضري وابن أخيه الحاج المزاري وأخيه لأمّه محمد ولد قادي له ، إنّ امتناعنا يلحقنا منه لوم كثير من الحاضر والبادي ، فتوجّه الحاج بالحضري والمختار ولد عدّة له بخيول القادة والسّلاح والعبيد والهدايا ، وهم في فرح وسرور باجتماع الكلمة في الأواسط والزوايا ، فولى من حينه الحاج بالحضري آغة على المخزن وهو الدوائر والزمالة والغرابة والبرجية ، وولّى المختار قائدا على الدوائر في القولة المرجية ، وأمر الحاج بالحضري بالسكنى بالمعسكر ، كما هي العادة فسكنها ممتثلا للأمر.

شروع الأمير في الجهاد وحروبه حول وهران
قال ، ثم خرج الأمير بعد أيام بجيشه للناحية الشرقية للتدويخ ، فنزل بمينا وخلّف عليه السيد محمد الأحمر ولد سيدي عريبي روما للتصريخ ، ثم رجع مغربا فنزل ببلاد البرجية ، والناس معه في غاية الأحوال المرضية ، ثم ارتحل ونزل ببلاد الغرابة ، وزاد لرزيو فقبض على قاضيها العلامة السيد أحمد بن الطاهر بإغراء الحبيب أبي علام وأتى به مكبّلا على حالة الاستغرابة ، فسجنه بالمعسكر ثم قلع عينيه معا بالشيبر ، فهو أوّل من قتله من الرعية والحكم لله / الواحد القدير.
ثم صارت الناس تأتي له أفواجا أفواجا بقصد الإذعان إلى أن تم أمره وزاد في الظهر والإعلان.
ولمّا تولى الجنرال دسمشال (كذا) (188) بوهران في رابع عشرين إبريل سنة ثلاث وثلاثين وثمانمائة وألف ، الموافقة لسنة ثمان وأربعين ومائتين وألف ، غزى على (كذا) دوار السيد قدور الدبي الغربي وهو نازل بموسى الطويل بإزاء سيدي التركي من مزارع تليلات على مسافة الثمانية والعشرين كيل ميتر (كذا) من وهران وذلك في ثامن ماي من السنة المذكورة الموافق للسابع عشر من ذي الحجة من السنة العربية المسطورة ، فقتله وزوجه عائشة وثمانية عشر نسمة من دواره وغنم غنيمة كبيرة ، وحصل بينه وبين المسلمين قتال شديد فاز فيه بالشهادة رجال من الغرابة لكونها مقتلة كثيرة.
ثم توجّه الأمير لمّا سمع بذلك بجيشه مخزنا وغيره لوهران ، فحلّ بها وقاتل العدوّ في الثلاثة الأيام المتتابعة في الزمان ، وهي الخامس والسادس والسابع والعشرين من ماي من السنة المذكورة ، الموافق لسادس المحرم فاتح تسع وأربعين من العربية المسطورة ، وكان المصاف بعسة الأصنام وهي جنان بني مزاب من خنق النطاح ، فأحاط الأمير بها ونال منها نيلا جليلا لكون القتال الصادر من جيشه كان بالقلب والنية الخالصة فأظهر من الشجاعة ما دل على الفوز ونيل النجاح.
__________________
(188) يقصد : دي ميشال : DES.MICHEL.

ثم جاء الأمير بجيشه غازيا على وهران ، وانقسم الجيش على محلتين أحدهما (كذا) بالكرمة تحت رئاسة الأمير بغاية الاتقان ، والأخرى بمسرقين تحت رئاسة مصطفى بن إسماعيل ، ووقع القتال الشديد وبانت فيه مقاومة العدوّ للأمير بغاية التأويل.
وكان والد الأمير السيد محي الدين حاضرا في غاية المرض مظهرا للتجلد والقوة ، ومتوكلا على من به الحول والقوة ، وقد مات من البرجية بمسرقين الشجاع أبو نواشة ، وغيره فضلا عمّن انجرح من الأعيان الذين لهم طواشة ، فبينما الناس في ذلك الحال وإذا ببني عامر من جملتهم بني مطهر ، غاروا على إبل الدوائر وأخذوها بإغراء الحشم فيما اشتهر ، ولمّا سمع الدوائر (كذا) بذلك ، رفعوا أمرهم للأمير بمحضر والده الناسك ، فقال لهم سيدي محي الدين عليكم بهم لطغيانهم وتعديهم وأنا ضامن لكم عليهم النصر ، والغنيمة والظفر ، وقال لولده الأمير ، إياك أن تنزع المخزن من يدك فإن نزعته فأنت الحقير ، وقال للدوائر إنني ذاهب لتلمسان لأزور ثم ارجع للمعسكر ، وإن زاد الله في عمري على ما رأيت فلأقطعن لبني عامر وغيرهم الأثر ، ثم التفت لولده الأمير وقال له يا عبد القادر إياك أن يغرك الزمان ، فتنزع من يدك جنود النحل وتمسك جنود الذّبّانّ ، فمات رحمه‌الله بتلمسان في شعبان من السنة المذكورة قبل إتمام ما تمنّاه جعل الله الجنة منزله ومأويه (كذا) وأوسع ضريحه ، وأسكنه بحبوع الجنة في غاية فسيحه.
ثم غاز (كذا) المخزن بأجمعه / على بني عامر فألفوهم بالسبخة ، التي وقعت فيها المكافحة بالرضخة ، فأخذوا منهم الإبل ، وذهب بنوا عامر ، بعد أن مات من الفريقين من تمّ أجله القاصر ، وانجرح كذلك من الأعيان وغيرهم وتمادى المخزن مع الأمير ، ماشيا إلى أن وصل للمعسكر بالتحرير ، ورجعوا لمّا أمرهم بالرجوع ، واستقر هو بالمعسكر ومهمى أراد شيئا إلا كان عنده المخزن قبل جملة النجوع.
ثم أمر الأمير الناس بإعطاء الزكوة (كذا) والعشور المأمورين شرعا بإخراجه وجمعه بمحل معيّن لتعمر بيت المال بإدراجه ، فأبى بنوا عامر بين سائر الناس

من ذلك ، فأمر الأمير مصطفى بن إسماعيل على يد آغة الحاج بالحضري بمقاتلتهم بمخزنه ولا يدعهم إلا بدفع ذلك ، فقاتلهم مصطفى بالمخزن شديدا ، وقاهرهم عنيدا ، ولازمهم إلى أن أدوا ما وجب عليهم من الزكوة (كذا) والعشور ، وأذعنوا بالطاعة وأبوا من النفور ، واشتكوا للأمير بأن يأمر المخزن بترك قتالهم ، فكاتب المخزن بما يظهر منه الغضب على قتالهم.
قال : وفي رابع جليت (كذا) سنة ثلاث وثلاثين وثمانمائة وألف ، الموافق لرابع عشر صفر من سنة تسع وخمسين ومائتين وألف ، ظفر الجنرال دسمشال (كذا) (189) بمرسى رزيو عنوة ، ومنها ركب لمستغانيم فظفر بها أيضا عنوة ، وذلك في ثلاثين جليت من العام المذكور ، الموافق لحادي عشر ربيع الأول من العام المزبور (190) ، وألفى بها إبراهيم أبا شناق كبيرا فولاه عليها لإزالة كل شقاق.
وفي خامس أوت من تلك السنة الموافق لسابع عشر ربيع المذكور بعامه هجم المخزن على وهران إلى أن لحقوا بسورها ، وقتلوا كمنادرها (كذا) بليسا (191) وتمادوا على حصورها (كذا) ، وبها الجنرال فتاس جاص (192) وصار النصارى يسئلون (كذا) النجاة والخلاص.
ثم في تلك الأيام غزى الكولونيل لتاف (193) على (كذا) الزمالة بوادي التافراوي ، وهو دوار آغة الحاج المرسلي نازلا بأبي ستار فألفاهم متأهبين لقتاله بضعيفهم والقاوي ، فكان القتال شديدا ، ورجع العدو خائبا لا يريد مزيدا ، وقد مات لمحمد ولد قادي فرسه وانجرح عدة أناس ، فضلا عن الذي مات باحتراس ، ورجع الكلونيل لمستغانيم فغزاه الأمير بجيشه وهو بمزغران ، فكان القتال شديدا مات به جملة من الأعيان ، ثم جاءت شرذمة من افرانسا وذهبت
__________________
(189) يقصد دي ميشال الحاكم الجديد على وهران أما السنة الهجرية فهي 1249 ه‍ وليس 1259 م ويبدو أنه سبق قلم فقط.
(190) 1249 ه‍.
(191) يقصد حاكمها الذي يحمل لقب كماندار. ولا ندري من هو بالضبط.
(192) لا ندري من هو بالضبط.
(193) لا ندري من هو بالضبط.

لمسرقين ، ودخلتها مسايفة بحسب التمكين وذلك في ثامن أكتبر (كذا) من السنة المقررة ، ثم غزى النصارى دوار الشماليل من الزمالة بأسفل الشواكي فلم يحصلوا على طايل وذلك في ثالث دسانبر (كذا) من السنة المحرّرة ، وقد كان القتال كثيرا ، والنزال عسيرا.
قضية الشيخ بالغماري وبني عامر
ولمّا دخل الشيخ بالغماري المسمّى بزلبون رايس (كذا) انقاد تحت الطاعة وحصل منه الإذعان ، الذي هو سبب العداوة بين الأمير والمخزن في الزمان والمكان ، وأحسن الأمير مثواه في السر والإعلان طلب من الأمير في أثناء الكلام أن يأذن له بالنزول في التل بالقولة المديمة خشية من بني / عامر لما بينهما من العداوة القديمة ، وأن يكون محاذيا بنزوله للدوائر والزمالة وأن يكاتب الدوائر ، ويوصي كبراءهم عليه ليكونوا منه ببال في الجايل والغائر ، يحمونه من أعدائه بغير ملتغي ، فأجابه لذلك وكاتب الدوائر لكن حكمه وقتذاك ليس بنافذ كما يبتغي ، ولما دخل انقاد في حماية الدوائر ، رأوا في حال ارتحالهم اجتماع بني عامر فأعلموا بذلك مصطفى بن إسماعيل وغيره من أعيان الدوائر ، وقالوا لهم ما نظن في اجتماعهم خيرا ، وإذ رأينا ما يدل على الحركة نجحوا (كذا) نحوكم للتعضد نفعا لا ضيرا ، فأجابهم مصطفى بمن معه من الأعيان بما يسرهم وأنهم لا خشية عليهم من السر والإعلان.
وصارت الأخبار عند ذلك خارجة وداخلة والآذان لها صاغية ، بأن الأمير يريد غزو البرجية والزمالة والدوائر فيبدأ بالبرجية ثم الزمالة ثم الدوائر لأن جميعهم فرقة باغية ، أو يعكس الأمر على ما أراده باختياره من الأحوال ، وكثر عند ذلك القيل والقال ، وأوقد النار بين المخزن والأمير شياطين الأنس والجن ، وتغيرت الأحوال وسيء الظن.
هذا وأنّ الشيخ بالغماري لا زال بالمعسكر جالسا عند الأمير ، فزحف بنوا عامر بإغراء الحشم أيضا لقتال أنقاد بالكبير والصغير ، وأعان المخزن أنقاد للعهد والرعاية لما به كاتبهم الأمير ، تكون طاعته مطلوبة وهو الذي أمر بالذب عن

العزيز والحقير ، وحصل المصاف بينهما بمحل من بلاد بني عامر يقال له قرقر ، انجلا (كذا) فيه الأمر بقتل الحاج المزاري لأبي شويشة ولد العسري رايسهم (كذا) فيما هو مشتهر ، بعد تجاولهما في السروج ، وروم أبي شويشة اقتلاع الحاج المزاري من سرجه وكل منهما كأنّه الأسد الهيوج ، فاستخرج الحاج المزاري بشطولة (كذا) من حزامه وضرب بها أبا شويشة فتركه يتشحط في دمه ، وانجرح بالحاج المزاري فرسه وجاء به بلا ندمه.
ولمّا سمع الشيخ بالغماري بالواقعة قال للأمير قد ظهر ما قلته لك في بني عامر وسأل منه التسريح ، فجاء صحبة آغة الحاج بالحضري في القول الصحيح ، وألفى ابنه وابن أخيه قد ماتا في تلك الواقعة ، كما مات البعض من الدوائر والخلق الكثير من أنقاد بنزول الصاعقة ، فمنها بنوا عامر رجعوا لمحلهم منهزمين بكلهم لا ببعضهم ، ومنها الدوائر وأنقاد خيّموا على حالهم بأرضهم.
ثم وقع قتال آخر بين الدوائر وأنقاد وبين بني عامر بجميع أحلافهم وأجنادهم ، فانهزم فيه بنوا عامر وأطردوا من بلادهم ، حتى أن كبيرهم الزين بن عودة نهبت محلته ، وحل في الغضب وسلبت حلته ، فذهب بنوا عامر للحشم واستنجدوهم بالمال الكثير ، وسألوا منهم أن يقولوا فورا للأمير ، أن الدوائر ، ومن انخرط معهم في عقد السلك ، إن لم يبادرهم بالغزو وتشتيت الشمل لا محالة يتغوّلون عليه وينتزعون من يده الملك ، وأنهم قد ارتبطوا بأهل سيق وهبرة ومينا وشلف وتيارت ، وراموا تشتيت شمله والتوصل لملكه بالقول الثابت.
/ ولما قال الحشم ذلك للأمير ، رسخ ذلك بباله وظن صحته ونسي وصية والده ولم يدر ما يفعله الشيطان العدوّ من التنفير ، وبعث مكاتبه للنواحي الغربية ذات الغوغاء والصياح ، مثل ولهاصة ، ونزارة ، والغسل ، ومديونة ، وأولاد رياح ، قائلا لهم اعلموا أني في يوم كذا اغزو الدوائر والزمالة وأنقاد ، ثم أعود للبرجية وبطيوه فكونوا أمامهم وأنا خلفهم لأمحو أثرهم من الأرض وأقطع ذكرهم من البلاد وأريح منهم العباد ، فإنهم كأصحاب مينا وشلف لا زالوا على سلف الترك سالكين ، وللمشي في سبيلنا تاركين.

محاولة مصطفى بن إسماعيل الدخول تحت
طاعة الفرنسيس
وكان في تلك الأقوام المكتوب لهم صديق لمصطفى بن إسماعيل ، فأطلعه على ما في مكتوب الأمير وأنذره بالتأويل ، ولما تحقق مصطفى بذلك أخبر مخزنه وذهب فورا للجنرال دسمشال (DES MICHEL) وسأل منه الدخول تحت الدولة ويكفيه أمر الأمير بكل حال ، فأبى ذلك وحصل بين المخزن والدولة المقاتلة الفادحة بمسرقين ، وحيث تحقق مصطفى بأنه سدت عليه الأبواب البحرية التجأ للناحية الغربية ورام الدخول في طاعة سلطان الغرب بالترقين ، وأمر الدوائر والزمالة وأهل أنقاد بالانتقال للنواحي الغربية للصيانة والحماية بالعناية ، فجدوا السير باليل (كذا) والنهار إلى أن نزلوا أسفل تلمسان بالحناية ، وفيها لحقهم الأمير بجيوشه صباحا ، وطعن بعض الدواوير والزغاريت عليه باختلاف ألحانها من نساء تلك الدواوير صياحا ، فرحا به وظنا منهم أنه لم يرد شيئا من الشرور ، وهم معه في غاية الفرح والسرور والأعيان في بعد منه بجيشهم وبأيديهم خيول القادة ، ينتظرون ما يكون به الحال مصاحبين لسلاحهم من البنادق والبشاطيل (كذا) والسيوف اللامعة الصقيلة الهندية الوقّادة ، فابتدأهم الأمير من قلّة عقله بالحرب ، ولم يترقب العواقب فعوّلت لذلك الشجعان على الطعن والضرب ، واشتد الحرب وحمى الوطيس ، وغاب الحاجز وقوي الحسّ والحسيس ، وذهب المسامر والأنيس المنادم وصاحب الجلوس ، ودارت رحا (كذا) الحرب وشعلت نارها فوق الرؤوس ، فلم يك (كذا) غير ساعة إلا وانتصروا عليه وهزموه هزيمة شنيعة ، وهجم عليه مصطفى في خمسين فارسا شجاعا إلى أن أنقله من محلّه الثابت به وغنم المخزن منه الغنيمة العظيمة سريعة ، وضربه الشجاع الحاج محمد ولد عبد الله بن الشريف الكرطي التلاوي ملامسة بمكحلته فأتت رصاصتها في فرسه فسقط ميتا ، وفرّ الأمير راجلا ولو لا مبادرة جيشه إليه وإردافهم إياه خلف فارس لحصل الظفر به حيا كان أو ميتا.
وحدّثني بعض من حضر للواقعة أن ابن عمّه سي المولود بو طالب كان واقعا على رأسه فقال لخزناجيه سي بن عبّ انزل على فرسك واركب عليه

الأمير ، فأجابه بقوله لا أنزل لأنه يوم عسير ، وإن أراد النجاة فليشتري فرسا بخلخال أختك زوجه كما فعلته في القول الجدير ، فغضب / لذلك سي المولود وضربه ببشطوله (كذا) فأتته رصاصته بين الخدّين ، وذهبت للأنف فصار خنّا بغير المين ، ثم فرّ الأمير بقية يومه ونزل بوادي سكّاك وهو أبو جرّار ، وقال له قدّور بالمخفي انظر أيها الأمير لرأي الحشم وبني عامر أصحاب الخداع وجر الهزائم على الملوك في السر والإجهار ، إلى أين أوصلك بجيشك حتى هزمنا بالتحقيق ، كيف بك تغزي الدوائر والزمالة وقد أوصاك أبوك على المخزن بوصية التوفيق ، ألم تعلم يا سيدنا إن خمسة أعراش يكون الغزو بهم لا عليهم ، وهم الدوائر والزمالة والغرابة والبرجية والمكاحلية وما من أولاد سيدي عريبي قد انضاف إليهم لأنهم المخزن الحقيقي وغيرهم أتباع لهم في القولة الشريفة ، فالأربعة الأولى مخزن الباي والخامس مخزن الخليفة ، هذا هو الترتيب في دولة الأتراك.
قبائل المخزن وأوصافهم
والمخزن هم الأعيان بالإجماع ، واستقامة الملك إنما تكون بالمخزن الأعيان لا بالأتباع ، وهل سمعت أحدا من الملوك السالفة ، غزى هؤلاء الأعراش قط ومن لهم في الحالفة ، ولو أعلمتنا أوّلا أنك تريد الغزو على أخوتنا ، لقلنا لك ما هو صادر في قولتنا ، وترانا قد مات منّا معك جل أعياننا منهم الفارس الذي لا ينزل ساحته ضيم ولا كشف يبغي ، وهو الشجاع الكرار الشريف الحسني الزياني محمد ولد القايد البشير بن يخلف البلغي ، فقال من حضر بالمجلس من الحشم وبني عامر للأمير ، وهم من كلام بالمخفي في الغيظ الكبير يا سيدنا لا تسمع لكلام قدور ، ولا تلتفت إليه لا في السر ولا الجهور ، لأنك خبير بأنّ البرجية يحبون الدوائر وينعرون عليهم ، كما أن الدوائر كذلك لا يحبون عليهم ، لكونهم أخوة من العهد القديم ، ووجاق واحد نعرة لبعضهم بعض في الجديد والقديم ، فاجذبهم الأمير مع ما فيه من الغيظ أيها الناس إن كان هؤلاء إخوة لبعضهم بعض فهم لنا أيضا إخوة ، ومنا وإلينا وذاتنا وقرابتنا فهم لنا ونحن لهم أسوة ، وقد أوصاني والدي كما قال قدّور عليهما والغرابة وسائر المخزن عيانا ، فكفوا عن كلامكم ولا تعيده (كذا) لنا لأن رأيكم قد أفسد علينا ديننا ودنيانا ، ثم قال لهم

قدّور يا هؤلاء إن كلام العرب المقول في الأعراش هو الفرق بين أهل الجودة والرداءة والشجاعة والجبانة والنصيحة والأغشاش ، فقالوا ما هذا الكلام ، كأنهم لا علم لهم به في كل محفل ومقام ، فقال : قد قالت العرب في الدوائر ، من كان له في الإعانة الدوائر ، فلا يخشى من صولة الماشي ولا الطّاير ، ولا يطيق عليه الساير ولا الغاير ، وقالت في الزمالة من كانت أعانته الزمالة ، حصل منه لأعدائه النكالة ، ولا يخاف من القاطن ولا الجوالة. وقالت في الغرابة من كان صديقه الغرابة ، زالت عنه النكاية والكرابة ، ووقعت منه لأعدائه الأمور العطابة. وقالت في البرجية من كانت حمايته البرجية ، حلّت به الأشياء المنجية ، ولا يخشى الأضرار القولية والفعلية. وقالت في مجاهر من كان عونه مجاهر ، نال الذي يبتغي من المسافر والحاضر ، وأطرد عن نفسه المذمة في المناقر / فهم أهل النجدة والنعرة وما به اتضاح الأمر ، فكل من جاء منهم فإنه على فرسه يهر. وقالت في المكاحلية من كان في رفقته نجع المكاحلية ، فإنه لا يرى الأضرار المواحلية ، وساكنهم في الأمان بغاية الفلاحية. وقالت في صبيح من كانت نعرته بعرش صبيح ، نال السرور والرفعة وقهر عدوّه ببارود الفيح. وقالت في عكرمة من كان في حلافة عكرمة ، أطرد عن نفسه كل مذلة ومذمّة. وقالت في بني شقران من كان في ذمة بني شقران ، فقد نال كل ما كان لأنهم قبيل العز والأمان ، والمنتصر بهم لا يخشى الهوان.
أوصاف قبائل الحشم والأحرار وبني عامر
وقالت في الحشم : الحشم أهل الظلم والمكر والشتم ، فالحشمي ينكرك ، وعوده يعرفك وهو لا يعرفك ، إن أمّنته خدعك ، وإن آويته صدعك ، لسانه في الشر موافق لقلبه ، وهو يعبد في الطاعة من ربه ، ويؤذي من ظفر به ولو ولد صلبه ، شأنهم البخل والجبانة ، والمكر والظلم والخيانة ، وقال فيهم سيدي أبو زيد التجيني صاحب الفج بمينا الكلخ والحشم ، والحمري والدسم ، والبخل والذم ، والله لا رجع أبو زيد أبدا إلي ، ثمّ ، وقال أيضا حشم الدشيش ، أهل البغض والعشيش ، والخداع لأهل الصلاح والريش ، لا يصدر منهم إلا الدفيش ، ومحبتهم للطمع كمحبة دوابهم للحشيش. وقالت في الأحرار ، الأحرار هم

الأقشار ، لا يلاديهم ملاد في الكفاح والجود والأصعار ، نصرتهم كاملة ، ونعرتهم للخير شاملة. وقالت في عرب أنقاد من كان في نعرته أنقاد ، نال الذي أحبّ وبلغ المراد ، وقالت في بني عامر بنوا عامر هم بنوا دامر ، أهل الخديعة الكثيرة وفعل المناكر ، وجرّ الهزيمة على الملك ولو كان هو الطاير ، ربّلين (كذا) البقرات بادئين العورات ، هاتكين الحرمات ، داخلين الظلمات ، لا يحصل منهم فرق بين ما فيه النفع وما فيه المضرّات ، ويفرحون بفعل ما فيه المعرّات ، أشجعهم الأعور ، ومدبرهم الأجهر ، وجوادهم الأكول الأحقر ، ألم تعلموا يا هؤلاء إن كل دولة سورها الحصين المخصوص هو المخزن لأنه بنيانها المرصوص ، وأنتم دائما شأنكم الخلاط ، وحرفتكم الخديعة والعياط ، وفي القتال من شدة الخوف يكثر فيكم الهروب والضراط فالمخزن هو المخزن ، وبه تعز الدولة أو تهن (كذا) ، ويقوي ساعدها أو يوهن ، فتبسّم الأمير من قوله ضاحكا ، وقبل كلامه وصار لكلام غيره تاركا ، وانفصل المجلس في الساعة والحين ، وصار الحشم وبنوا عامر يدبرون الحيلة لإيقاع قدور بالصحراوي وقدور بالمخفي في شبكة التخزين.
الحرب بين الأمير وقبائل المخزن
قال ثم أن الأمير بدا له أن يهجم ليلا على المخزن ، والمخزن بدا لهم في الهجوم ليلا على الأمير ، وصار كل يترقب وقت الحاجة لاغتنام الفرصة ونيل التيسير ولمّا جنّ اليل (ذا) جدّد الدوائر والزمالة الغارة على محلة الأمير بغتة وداموا على ضرب البارود برصاصه والسيف إلى أن غنموا أخبيته وأثاثه وما فيها من الأثقال ، وألويته وطبوله ودوابّه وفرّ هاربا بنفسه كواحد من جيشه سائلا / للنجاة من القتال ، مستمرا في هروبه إلى أن بات ليلته بمكرّة وألفى الضدّ الكلام مع الأمير ، وقالوا له انظر لكلام البرجية كيف أوصلك إلى هذا الأمر العسير ، فأخذ بقولهم وسجن قدورين مدة ثم سرّحهما لما زال غضبه ، وحلّ به سروره وطربه ، وإلى هذه الواقعة أشار قدور بالصحراوي البرجي ثم النقايبي بقوله في عروبيته :


ما شفنا سلطان جاما لزوايا
 

ما شفنا حضري اتقيد
 
هلّكها زلبون باتت داويا
 

عشت في مكرا اتورّد
 
إلى آخرها وقال أيضا في أخرى :
امحلّت الروين قعدت بأوتاقها
 

وسبابها المخزن وعرب زلبون
 
بين الخدودسي بن عبّ ممكون
ولم تحضرني واحدة منهما.
مصطفى بن إسماعيل يسعى للخضوع للفرنسيس
ويفشل
ثم أنّ الأمير لمّا رجع للمعسكر ، بعث مصطفى بن إسماعيل للجنرال (كذا) دسمشال (ديميشال) بوهران ، يخبره بأن العداوة قد تمت بين المخزن والأمير وأنهم يريدون الدخول في حماية الدولة بغاية الإذعان ، وبنفس وصول رسل مصطفى للجنرال سجنهم وظن أن ذلك مكيدة من المسلمين ، ليستعين به على مقاومة المخزن بغاية التمكين ، ولما اتضح الأمر بعد ذلك حصلت للدولة الندامة ، لما لم تقبل المخزن من أول وهلة إلى أن قامت القيامة ، وكانت هذه الواقعة في عام ثلاثة وثلاثين وثمانمائة وألف ، الموافق لعام تسع وأربعين ومائتين وألف.
ولما رجع الأمير للمعسكر بقي أياما وغزى وهران ، فكمن الجيش بضاية المرسلي وتقدموا للدار البيضا (كذا) فأفسدوها كثيرا وكان القتال بين السرسور والعرب في غاية ما كان ، وقال بعضهم إن تلك المعركة كانت بين الغرابة وحدهم ، وبعد ذلك الأمير أمدّهم ، وذلك في سادس جانفي سنة أربع وثلاثين وثمانمائة وألف الموافق للتاسع والأربعين ومائتين وألف (194).
__________________
(194) يقصد هجرية.

قبائل المخزن تسعى للخضوع
لسلطان المغرب الأقصى
ولمّا انفصل المخزن من المقاتلة مع الأمير بالحناية ، ذهبوا مغربين وأرسلوا رسلهم لمولاي عبد الرحمان سلطان المغرب فأمرهم بالمكث ببلادهم وهو يمدهم بما تكون لهم به العناية ، ففهم مصطفى بأن تلك مكيدة من سلطان المغرب ليكون ناجيا من الكلام ، وأنه يروم الصلح بين الفريقين بما يزيل للخصام ، فبقي في الحدود نازلا ، وللكواعب حائزا وبازلا.
ثم خرج الأمير حاركا بجيشه على وهران ، ووقع بينه وبين الدولة شديد القتال بتمزوغة يشيب له الرضيع في وقت الآمان ، ثم اصطلح مع الدولة على مدة على يد جنرال وهران ، وهو دسمشال (195) على أن لا يتعرض واحد منهما للآخر بشيء من الحرب ، وتمد الدولة الأمير بما يحتاج إليه من آلة الحرب ، وهو يمدها بما يحتاج إليه الجيش / ، ولا يكون بينهما لغوب ولا طيش ، وبعث الأمير من عنده رهينا سفيرا يقال له بن يخ (كذا) يمكث مدة الصلح بوهران ، وبعثت الدولة رهينا سفيرا من الممالك القدم يقال له دسبون (196) وتسميه العرب عبد الله اكمادار (كذا) يمكث بالمعسكر مدة الصلح بلا توان ، وذلك سادس عشرين فبري (كذا) سنة أربع وثلاثين وثمانمائة وألف ، الموافق لخامس عشرين شوال وقيل رابع عشر ذي القعدة سنة تسع وخمسين ومائتين وألف (197) ولمّا تم الصلح قال الجنرال لرسول الأمير سلم على سيدك من عندي وقل له ينظم جيشه من العسكر والخيالة ولا يتكل على المطاوعة فإنهم بمثابة النخالة ، لأنه لا طاقة له على مقاومة المخزن إلّا بهذا المطلوب ، وإلّا فليترك محاربته من المخزن لأن شكوته صعيبة لقيامهم على البارود ، ومعرفتهم بمكائد الحروب ، فلذلك شرع الأمير في تنظيم الجيش من العسكر والخيالة ، وعمل بأمر الجنرال دسمشال بغير
__________________
(195) يقصد المعاهدة المبرمة بين الطرفين أواخر فيفري 1834 م.
(196) ذكر صاحب التحفة بأن اسمه عبد الله ويسون. وأصله من مماليك مصر استخدمته فرنسا في جيش المشاة. ج 1. ص 147.
(197) الموافق سنة 1249 ه‍ ، وليس 1259 ، فهو سبق قلم.

المحالة ، لما رأى شوكة المخزن عظيمة ، ومقاومته لم يكن له عليها طاقة لكونها جسيمة ، فنظم جيشه من الرّكاب والمشات (كذا) ولم يتكل على المطاوعة فإنهم ما بين الطاعة والعصاة ، إن رأوا فيه الفرصة اغتنموها ، وإن رأوها له من فورهم احتكموها ، سيما القوم الضالة وهم الحشم وبنوا عامر ، فإنهم كالمنسج منهم الحائر والناير.
الأمير يصطدم بالدوائر والزمالة
ولمّا جمع عنده ما أحبّ من العسكر ، وتيقن في نفسه أن يكون له به الظفر في الكر والمفر ، سأل من البرجية الغزو معه أيضا على الدواير فأبوا وقالوا له لا يحصل منا ذلك ولو آل أمرنا إلى سكنا المقابر ، ولنا خبرة بأنك تحب مقاتلتنا طاعة منك للحشم وبني عامر ، فافعل ما شئت وما ظهر لك فيه بادر ، فجمع جيشا من الحشم والغرابة وبني شقران وبني عامر وعسكره وغزاهم ، فقاوموه شديدا مدة من أيام بعد أن أتوه بالقادة فرغب عنها وبالقتال جزاهم ، وكان لهم الظفر به لولا جر الهزيمة الواقعة من أهل الجهة الشرقية ، وهم الذين في طاعة ولد سيدي عريبي فحلت الهزيمة بالجميع في غاية الترقية ، ثم كرّ البرجية في آخر النهار لقتاله ، ودام الحرب فجرّ الشراقة الهزيمة أيضا فانجلا أهل البرج منه وأضرمه نارا وتكرر منه ضرب المدفع في حال قتاله ، وغنم البرج وفرّ أهله لناحية القلعة ، فاتبعهم بها وفروا لرؤوس الجبال الشاهقة والغيب المانعة فاستخلصوا منه وهم في الولعة ، ثم زادوا لمينا وبها نزلوا ، إلى أن أذعنوا له باختيارهم وبالطاعة جزلوا.
ولما تمّ أمره ورأى نفسه أنه اشتد بالإقامة ، زحف للدواير والزمالة وهم ما بين تافتة وواد الزيتون بالمقامة ، ونزل بمحلته في سيدي أبي الأنوار ، وحصل المصاف بملتقى الوادين بموضع يقال له المهراز بالاشتهار وغرض الأمير أن يخلف يوم الحناية / وليلة سكّاك ، ولم يدر أنّ الله فعّال لما يريد من غير شرّاك ، فدارت رحا الحرب بين الفريقين وحمى الوطيس ، واشتعلت النار وفقد الأنيس ، ودام القتال من أول النهار إلى العشية ، وقد انجرح فيه الأعيان من البحايثية ، فمنها مصطفى بن إسماعيل من كلتا يديه بلا نزاع ، أحدها في الأصبع والأخرى

في الذراع ، وأصيب في ثيابه بما يزيد على السبع رصاصات ، وأنجاه الله في ذلك اليوم من الممات ، كما انجرح الحاج المزاري محمد ولد قادي ، وكذلك انجرح إسماعيل ولد قادي ، وغيرهم من الأعيان ، ومات نحو الثلاثين نفرا منهم بالعيان ، ومات من جيش الأمير العدد الكثير ، وانجرح ما لا يضبطه العدّ بالتحرير ، وكان يركب من الدوائر ستة عشر مائة ، ويركب من الزمالة ثمانمائة.
ويحكى أن الحاج المزاري لمّا تألم وهو محمول بالجراح ، نزل بقرب المعركة طالبا للاستراح ، فقيل له اركب وبعّد (كذا) من العدوّ فإنك منه لقريب ، فقال إن كان عمي مصطفى حيا فلا أخشى لا من العدو البعيد ولا القريب ، وكلامه يدل على أن عمه بلغ النهاية في الشجاعة والبسالة والبراعة.
الأمير يطلب الصلح مع الدواير والزمالة
ولما رأى الأمير هذه الواقعة بالمهراز ، وأنه مع كثرة جيشه لم يجد لهم سبيلا للانتهاز ، آل إلى الصلح وبعث رسولين أصلهما من الدوائر ، لأعيان المخزن يرغبهم في الصلح المأمور به شرعا والكف عن القتال المحرّم شرعا المفضي بالفناء للرجال من الفريقين بسجال القتال وإدارة الدوائر ، قائلا لهم نحن إخوة في الإسلام بغير المين ، والسلم بيننا أولى من إهراق دماء المسلمين من الجانبين ، لأنه وصف ذميم لا يحبه الله ولا رسوله ، فمني الايجاب ومنكم قبوله ، فامتثل لهذا الكلام مصطفى بن إسماعيل والحاج بالحضري والحاج المزاري ومحمد ولد قادي وغيرهم من الأعيان ، وبعثوا محمدا ولد قادي في رفقة من الأخوان ، وبعث الأمير خليفته سي محمد البوحميدي خليفة تلمسان ، في رفقة التقى الفريقان ملاقة مشروحة وهما في ميدان الحرب والأموات بينهما مطروحة ، فتكلم كل بما يقتضيه الحال من غير المغاير ، فكان من كلام محمد ولد قادي أيها السيد إننا قبلنا ما أراده الأمير فأنت الضامن عليه فيه كما أنا الضامن في ذلك على الدواير غير أنه لا يخفاكم حال مصطفى بن إسماعيل وابن أخيه الحاج المازري وسائر الأعيان ، وحماستهم وما هم فيه من القوة والعناية والمداومة على الفتن لمن أرادها والفرح بمن أراد الإحسان ، وأنه يقول لنا ولكم إذا تراضيتم بالسّلم وعليه وقع الاتفاق ، فليخرج الأمير بجيشه من ميدان الحرب

ويرجع إلى محلته ليزول الشقاق ، ونحن نرجعوا (كذا) لوطننا ويكون الاجتماع بتلمسان ، وبها يكون الكلام على موجبات الخير وإزالة الشر وبالملامة يذهب ما في القلوب من الضغائن ويندمر الشيطان ، غير أن العرب تقول في وقت الصلح لا تكون ملاومة ، لتطمئن النفوس وتكون لها ألفة مع بعضها بعض (كذا) ومقاومة ، فعند / هذا ارتحل الأمير بمحلته في الحين ، ورجع المخزن بقومه لمكانهم في أمن رب العالمين.
ثم استبطى (كذا) الأمير إنجاز الوعد وما وقع به الاتفاق ، في ميدان الحرب وحصل عليه الافتراق ، فبعث صهره وخليفته الحاج مصطفى بن التهامي خليفة المعسكر وابن عمه سي أحمد أبا طالب إلى الناس الذين كان معهم الكلام ، لتنجيز الوعد وعدم إطالة المقام ، فتوجّه من المخزن عند الأمير أربعة من الأعيان ، وهم الحاج بالحضري ، آغته سابقا وابن عمّه محمد ولد قادي ، وعده ولد محمد كبير الزمالة ، والشيخ بالغماري كبير أنقاد بالاعلام ، فنصب فسطاطه وأدخلهم فيه وأجلس بعضهم عن يمينه والبعض عن اليسار ، واستخرج فورا صحيح البخاري ووضعه بين أيديهم في صحيح الأخبار ، فقال له الحاج بالحضري ألم تعلم أن العرب تقول في كلامها أن القوم إذا تحالفوا تخالفوا ، فقال له صدقت ولكن لا بد من التحالف الذي لا يكون بعده التخالف ، فتحالف الجميع على الطاعة والإذعان ، وعدم الإذاية منه للمخزن في السر والإعلان ، ووقع الصلح التام من الجانبين ، وتسامح الفريقان في الدماء التي اهرقت بين الفريقين ، واتفقوا على أن يكونوا إخوة في الدين ، ولا يعود أحدهم للفتنة ولا يتسبب فيها ولا يتفكر مامضى ومن خالف فهو المارق من الدين ، وتكرر القول بينهم وبينه بالمعاهدة ، وهم يقولون نحن طاعة وأنت أمير وهو يقول أنتم الذين اغتنم بكم مرادي وعليكم نعتمد في المصادر والمواردة فبعد هذه المعاهدة التي علا قدرها ولا ترى فيها بخسها ، نهض الدواير والزمالة وأنقاد ونزلوا على تلمسان نفسها ، وحين عاين الأمير ذلك تيقين بانبرام (كذا) الصلح بينه وبينهم وبعث من انتخبه من كبراء النجوع لتلمسان ، منهم خليفته بالمعسكر السيد الحاج مصطفى بن التهامي والحبيب بوعلام آغة المخزن والهواري آغة الحشم والزين بن عودة آغة بني عامر مراهين للمشور على يد القرغلان.

اللقاء بين الأمير ومصطفى بن إسماعيل
ثم بعث لمصطفى بن إسماعيل يأتيه آمنا مطمئنّا ليجتمع به بمجلسه ويكون الكلام بينهما منفردين ، فجاءه واجتمع به وحده بغير مين ، ولما اجتمع به مصطفى وتأمّل في أحواله ألفاه لا زال من جملة الصبيان ، وأنه بعيد عن الملك ومرتبة السلطان ، فكان أوّل ما فاه (كذا) به مصطفى بأن قال له أيها الأمير إذا تصغى لكلامي بأذنيك وترسخه في قلبك وأردت الراحة لنا ولنفسك فانعم على الدواير بأرض غير ملاتة يعمرونها ، وأحسن إليهم بالإحسان التي يشكرونها ، أمّا أن تبقيهم بنواحي تلمسان ، وهم في قبضتك على كل ما كان ، وأمّا أن تنقلهم لنواحي تيارت ، فتجعلهم بين أولاد الشريف وأولاد الأكرد ولك الأجر الثابت ، فإن فعلت ذلك فأنا ضامن لك إن شاء الله تعالى / الطاعة والإذعان ، وإن خالفت فأنا بريء مما يؤدي إلى وقد النيران ، لأنهم مخزن وأعيانهم تولّعوا بلبس الملف والحرير والكتان ، وشرب الدخان وشمّه والأتاي والقهوة ، وإن رددتّهم إلى ملاتة وأنزلتهم بها كالعادة وهي قريبة من وهران فربما تحصل منهم بعض المخالطة مع بعض أعيان النصارى بذهابهم لها وتحصل لنا ولك الفهوة ، ولا يخفاك الحال أن النصارى أهل سياسة وفطانة وكياسة ، لا سيما الفرانسيس ، فإنهم أشد الأجناس في الفطانة والكياسة والرغبة في الخلفة وبذل المال والسياسة والمسامرة والتأنيس ، ومع طول المدة تنعقد بينهم وبينهم المحبّة والموّدة ، والمخالطة التامة في الرخاء والشدة ، وتحسب الظلم لنا جميعا ، وها أنا لك الآن مذعنا مطيعا ، لا نخالف لك أمرا ، ولا أركبك وزرا ، وربما بعض الوشاة يلقي بمسامعك ما يضرك به فيتغير خاطرك ممّا يستقر فيه ، فتغضب عليهم ونرجع معك للحال الذي كنّا فيه ، وأنا أعلم بك أنك مثل الصبي الصغير في عامه الأول ، كل من يبوّص لك ويقول لك أغ تضحك له ظنا منك أنه لك هو النصاح الأعدل ، فالأحسن أن تفعل ما ذكرته لك فإن أرضاك الرأي فنعما هي ، وإن بعثتهم لوطنهم فأنا أبقى هنا بتلمسان ولا أدخل في سوقك ولا سوقهم بشيء ، ولمّا سمع الحشم وبنوا عامر كلامه ، قالوا للأمير لا تثق به فقد سأل المواضع التي تكون بها كلمته مسموعة ويده قوية فيرسل عليه انتقامه ، وكان مراد الأمير يدخل الدواير والزمالة لبلادهم ولا يضف (كذا) أحدا إليهم ويبقى بني عامر دونهم مجاورين له كالعسة

عليهم وتخيل له ولأهل دائرته من الحشم وبني عامر ومن انخرط فيهم من كلام مصطفى بن إسماعيل أنه إذا أبقى المخزن بنواحي تلمسان يكون له الضرر الجزيل ، لكونهم لهم ارتباط مع سلطان المغرب وذويه ، فإذا أساءهم وجار عليهم في الحكم يصبحون في الحدود ويفسدون ملكه وينزعونه من يديه ، كما أنهم إذا نزلوا بالجهة الشرقية أو بتيارت يقوى عضدهم بأهل تلك الواحي للأخوة التي بينهم ويضرونه بالقول الثابت.
رأي مصطفى بن إسماعيل في الأمير
قال : وقال مصطفى بن إسماعيل أني لمّا اجتمعت به تيقنت أنه من الأمراء الغادرين ، والملوك الباغضين الماكرين ، فقيل له وبما عرفت ذلك ، حتى تحقّق الأمر عندك بما هناك ، فقال لأني لما جلست معه وصرت أكلّمه ألفاه لا يجتمع بصره ببصري قط وإنّما ينكس بصره إذا أنظرته وينظر بالأرض ، وإذا نكست رأسي ونظرت بالأرض ينظرني ببصره ويزنني بالطول والعرض ، وتلك عادة الغادر ، والباغض الماكر ، الذي لم يكن من أهل الأمن والأمان ، ومن كان هكذا لا تكون معه معاشرة ولا خدمة بطول الزمان.
ثم اتفق مصطفى مع أخيه الحاج بالحضري على بقاء ابن أخيهما الحاج محمد المزاري ومحمد ولد قادي عند الأمير بالعرش وهما ونحو الخمسين إنسانا وفي رواية عشرين ما بين الدواير والزمالة من أعيان العرش ، يسكنوا (كذا) تلمسان فبقوا بها مدة ثم رجعوا دون مصطفى لبلادهم ، وصاروا من جملة أخوتهم في كل / مرادهم.
الأمير يعين الحاج محمد المازي
آغا على المخزن
وحيث أذعن المخزن للطاعة ، جعل الأمير الحاج المزاري آغة المخزن ورايس الجماعة ، بدلا من عمّه الحاج بالحضري الذي كان عنده سابقا آغة المخزن وقبل الواقعتين سلّم في الوظيف ، وجلس ببيته تاركا من حينه لعدم

التصرّف والتصريف ، لمّا رأى الأمير مصيغا جدا لكلام الوشات (كذا) وأنه لا يريد اجتماع الكلمة بل يريد لها الشتات ، لكون الحاج بالحضري سجن نحو الثلاثين رجلا من الغرابة بالمعسكر لمّا سمع تسوّقوا خفية لوهران ، وكان الحبيب أبو علام خليفة عليه فذهب للأمير وأدخل في أذنيه ما لا يوافق من الكلام وسأل منه تسريح المساجين المتهومين بسوق وهران ، فقال له الأمير اذهب للسجن وانقدهم ، ولأهليهم فانفذهم ، ولما رأى آغة الحاج بالحضري تلك (كذا) المساجين قال لهم من أخرجكم من السجن ، فقالوا له خليفتك الحبيب أبو علام هو الذي أزال ما حلّ بنا من الغبن ، فذهب للأمير وقال له كان اللائق في إخراجهم من السجن أن يكون ذلك في علمي ، لأكون على بصيرة في خدمتك كي لا أكون معك في اللومي ، وأنا لا أردّ للخليفة قولا ولا فعلا ، ولا أبطل له عملا ولو عمله جهلا ، وحيث كان التخالف في الأمور بالتوصيف ، فها أنا سلّمت من حيني في الوظيف ، فاجعل فيه من شئت أيها الأمير ، فأنت أدرى بالأحوال وستعلم الأعمى من البصير ، وجعل الأمير قائدا على الدواير على يد آغة المزاري وهو محمد ولد قادي ، لكنه أبى وجعل بموضعه سي خمليشا ولد قادي ، ثم توفي محمد ولد قادي بعد ثلاثة أشهر وخلّف ابنه سي أحمد ولد قادي باش آغة فرندة ، الذي صار للدولة عليه في تلك الجهة القبلية العمدة.
فانتقل الحاج المزاري بأهله للمعسكر ، وسكنها بجيشه من المخزن بالعرقوب إلى أن حل به منها مع جملة من بها المفر ، ودخل المخزن بأسره في قبضة الأمير وتحت طاعته ، بعد واقعتي الدواير والزمالة ومقاتلته للبرجية وإجلائهم من أرضهم حينا وقتله لقاضي رزيو والحاج محمد بن عريبي والحاج المداح الخويدمي والشيخ بالغماري والنقادي وابن أخته والحاج عمّور الزمالي وغيرهم من الأعيان ولم يخرجوا عن حكم الجماعة لرواج بضاعته ، وإطاعة أهل المغرب الأوسط ما بين الرضى والجبر ، واستوسق له الملك بغاية الأمر ، وحصل بهذا الصلح بين الأمير والدولة المحبة العظيمة ، والمعرفة الجسيمة ، حتى أنّ روميا اسبنيوليا كان مسجونا بالمعسكر ، ففرّ منها لوهران وكتب الأمير برده فردّ من وهران مكبّلا من يديه ورجليه إلى المعسكر.

الأمير يحارب الحاج موسى الأغواطي في المدية
ثم غزى الأمير بجيشه ومعه المخزن بأجمعه مدة الصلح لناحية المدية ، لما سمع بالثائر أبي حمار موسى بن الحاج اللغواطي الدرقاوي قادما عليه بالجيوش القبلية ، وكان آغة الحاج المزاري متهيئا للقتال ، رائما للمكافحة معه والنزال ، ولمّا حلّ الأمير بجيشه ببلاد صبيح تعرّضوا له في الطريق ومنعوه من المرور ببلادهم وسألوا منه الزطاطة ، كما هي عادة العرب الذين لا حكم عليهم ودأبهم الخلاطة ، فتشاور مع آغة المزاري وقدور ابن المخفي وقدور بالصحراوي / لا غير ، هؤلاء الثلاثة فيما قال الراوي ، فقالوا له الزطاطة هي وضع السيف في رقابهم والرصاص في أجسادهم بالزيادة ، والانتقام منهم بكل وجه لينتهوا هم وغيرهم عن هذه العادة ، وبادر الثلاثة لقتالهم مع جيش المخزن وهم الأعراش الأربعة المتوالية ، فلم يكن غير ساعة إلا وصبيح ولّت الأدبار والتزمت الفرار بالهزيمة الشنيعة المتوالية وحلّ بهم الهوان ، وصاروا يقولون الأمان الأمان ، وقد أثخن فيهم المزاري برفيقيه المذكورين إثخانا عظيما ، وأوقعوا بهم إيقاعا جسيما ، وغنموا منهم غنيمة كبيرة ، وقتلوهم مقتلة عسيرة ، وكان من جملة المخزن باش آغة السيد أحمد ولد قادي ، تابعا لآغة فيما يأمره به من الأشياء التي يكون منه (كذا) له بها التنادي ، وتمادى الأمير بجيشه والنصر يلوح أمامه بسبب المخزن إلى أن وصل لجندل ، فحطّ به عند ذلك ونزل ، وتقدم جيش أبي حمار للقتال ، وسأل الطعن والنّزال ، وكان ذلك الجيش كالجراد المنتشر ، بحيث غطّ بكثرته السهل والوعر ، فوقع لجيش الأمير من غير المخزن عند ذلك الفزع ، ودخلهم الرعب والجزع ، لا سيّما الحشم وبني عامر فإنهم قد حلّ بهم شديد القلق ، واعتراهم الدهش والخفق ، وقالوا للأمير إنّ هذا السيد لا يتكلم فيه البارود ولا يضرّه الرصاص المزيد ، ولا يجرحه لا هو ولا جيشه ، الحديد ، فقال لهم الأمير إن كان هذا حقا فالأمر لله الحليم الكريم ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، فضحك المزاري من قولهم بعد ما تبسّم ، وتيقن جبنهم وما هم فيه من الوهن ، فتقدّم قدور بالمخفي للأمير وقال له يا سيدنا ما قاله لك الحشم وبنوا عامر فإنما هو قول الجبان ، الذي من شدة الخوف يبدل العزّة بالهوان ، فقلوبهم خائفة مخوّفة ، وألسنتهم راجفة مرجّفة ، فلا تخش من

حليل وحقير ، ولا من قليل وكثير ، فإن مخزنك الباسل معك ولك مطيع وآغتك الشجاع الكامل رايسهم (كذا) لقولك سامع ولقتالهم سريع ، كيف تصغي لكلام من لا يعرف مكائد الحروب ، وإنما له المعرفة بطريق التخويف والهروب ، فآغتك الشجاع الفاضل بيمينك بجيشه واقفا ، ويريد منك الاذن للقتال ليؤمّن من كان من جيشك خائفا ، كيف يعتريك شيء من الفزع وتسمع لكلام الخائفين المخوّفين فيصيبك شيء من الجزع ، وأنت على أعدائك المنصور ، ما دام المخزن معك سيما البحايثية أولاد إسماعيل وأخوتهم النقايبية فأنت الأمير الآمر وآغتك بمخزنه هو المأمور ، فعليك سيدنا بالمخزن الذي عند تراكم الأهوال واشتداد القتال يقتحمون الصفوف ، ويرون الموت على الفروش من موت حتف الأنوف ، وهؤلاء خلط العرب ، عند التزاحم يحصل منهم الهرب ، والقول لا بد له من فعل والربط لا بد له من حل.
فعند ذلك قال آغة المزاري للأمير نعم القول ما قاله قدور ، والشجاعة والمعرفة والكرم والثبات إنما تكون في متّسعين الصدور وصح فيه بلا ريب قول الشاعر ، الحاذق اللبيب الماهر :
إذا قالت حذامي فصدقوها
 

فإن القول ما قالت حذامي
 
دور رجال المخزن في هزيمة
الثائر الحاج موسى الأغواطي
/ وحصل المصافّ بين الفريقين في وادي وامري بالتحقيق ، ولمّا جاء البعض من محلة أبي حمار لمحلة الأمير وضرب البارود والناس في جزع مما سمعوه بالتوفيق ، اغتاظ آغة المزاري ومعه قدور بالمخفي وقدور بالصحراوي كثير التدبير ، وقالوا للأمير كيف يأتوا (كذا) لمحلتنا ويضربوننا بالبارود حتى صرنا في التحبير ، فقال لهم الأمر لآغة المزاري وأنتم في أتباعه ، وما اقتضاه نظره يكون لنا ولأشياعه ، فقال بعض الحشم وبني عامر للأمير هم يقولون لا إله الا الله محمد رسول الله فما يكون قولنا أيها الأمير الأكبر ، فقال لهم المزاري نقول

لتذكيتهم كالببوش باسم الله والله أكبر ، فقال الأمير صدق المزاري معلنا ، فقولوها والنصر لنا.
وكان آغة المزاري راكبا على فرسه الأشهب الطويل الوافي ، وقدور بالمخفي على فرسه الأشقر الخلافي وقدور بالصحراوي على فرسه الأدهم الحلافي ، بهذا حدّثني بعض من حضر وهو البرادعي ابن عتّ الزمالي ، هو ممّن يوثق به في أفعاله والأقوالي (كذا) ، ثم أمر آغته بالإعلان ، على مخزنه وهم الدواير والزمالة والغرابة والبرجية واندرج فيهم بنوا شقران ، وهجم على محلة أبي حمار وساعده قدور بالمخفي في الهجوم واتبعهما المخزن إلى أن أثخنوا في تلك القوم إثخانا كبيرا ، وزادوا في الحملة بالهيجان زيدا (كذا) كثيرا ، فلم يك (كذا) غير ساعة إلّا وأبو حمار قد انهز بجيشه وولّى الأدبار ، وركب المخزن ظهورهم وهم في حالة الفرار ، وصار يقتل ويأسر (كذا) ويسبى ، ويأخذ ما شاءه فيهم من النهبى (كذا) إلى أن أخذهم أخذة جليلة ، وقتل منهم كثيرا قتلة جميلة ، فلا ترى إلّا رؤوس جيش أبي حمار أكواما عديدة بين يدي الأمير ، وهو فارح بالمخزن الفرح الكثير ، وغفل عن جيشه من العسكر والخيالة والمطاوعة ، ولا ترى إلا بصره شاخصا بنظر المودة البالغة نحو المخزن بنظر المساطعة ، وبعث سناجيقه ونواغره وغوائطه وطبوله زاعقة بالضرب وإطراب النّغم باللحن الوافر للقاء المزاري بمخزنه ، واشتد عضد الأمير من بعد وهنه ، وقال الآن صحت وصية والدي ، وتحققتها بقلبي وجوارحي وموالدي.
قال : وكان آغة المزاري في حالة القتال يقول لقدور بالمخفي لمّا رآه يجول في وسط جيش العدوّ وكأنه الأسد الهايج ، يا أخي وابن أخي ورفيقي هكذا نريد منك أن تكون سلعتنا هي الرايج ، فأنت لها أهلا ، ومرحبا بفعلك وسهلا ، فلقد أطلت لنا الرقاب ، في نطقك حضرة الأمير بالصواب وأعليت لنا الرؤوس بالعمايم ، بفعلك في العدو لقطع الجماجم ، فلا ريب أنّ الدرة من الجوهرة ، والورقة من الشجرة ، والتمر من النخلة ، والعسل من النحلة ، واقتحام الحروب حال التزاحف إنما يكون للشجعان ، والفرار من العدو وعند الملاقة أو الرؤية إنما يكون للجبان.

ومات في ذلك اليوم من المخزن محمد بالصحراوي ، ومات فرس محمد ولد قاسم الونزاري وانجرح فرس قدور بالمخفي من الرقبة فيما قاله الراوي ، وكانت الضربة به سالمة ، وجولته ناعمة ، فاستخرج قدور فوطة / وشدّ بها حلقوم فرسه ، وقال كلا منا لا بدّ من مآله إلى رمسه.
قال فالمخزن يحبّ الحروب والمكافحة ، ويفرح بالمبارزة والمناطحة ، ويريد الجولان بين الصفوف ، ويقتحم الحرب بالبنادق والرّماح والسيوف ويبتغي الكفاح والقتال ، وغيره يحب الراحة وجمع المال ، والمخزن ليوث الحرب ، ورجال الطعن والضرب ، وغيره حضائر الاصطبلات ، وعرائر الخصب والنبات ، فبين المخزن وغيره بون ، كما بين الضب والنّون ، فالمخزن في المثل كبني هاشم وبني مخزوم ، وغيره كبني أمية وأخلاط العرب في الفرار وعدم الهجوم ، وفي المخزن يصدق قول الشاعر بالبيت الواحد الفريدة ذات المفاخرة :
قوم إذا حاربوا شدّوا مآزرهم
 

دون النساء وإن باتت باطهار
 
وكانت هذه الواقعة سنة تسع وأربعين ومائتين وألف ، الموافقة لسنة أربع وثلاثين وثمانمائة وألف (198).
تريزيل وقضية الدواير والزمالة
ولمّا تولّى الجنرال ترزيل (TREZEL) رئاسة وهران بدلا من الجنرال دسمشال في ثامن فبري سنة خمس وثلاثين وثمانمائة وألف ، الموافقة لسنة خمسين ومائتين وألف أبقى الصلح لأجله على حاله ، واستقبحه من دسمشال الذي أوقعه ونسبه لفساد حاله ، لا سيما رده للصبنيولي (كذا) الفار من الأمير لوهران لحضرة الأمير ، وجاءه ذلك من الأمر المضرّ العسير ، وكان الجنرال دسمشال جزم بإبطال فعل الجنرال ترزيل وصار يروم نقض الصلح ويتسبب في
__________________
(198) حصلت هذه الأحداث بين الأمير والحاج موسى الأغواطي في ربيع عام 1834 م. انظر :
Walsin Esterhazy : Notice Historique Sur Le Maghzen D'ORAN) Oran ـ 9481 (. PP. 303 ـ 503

صيرورته من الجزيل ليظفر بمراده الجزيل وحصلت المخالطة بين أعيان الدوائر والزمالة والفسيانات (199) وصاروا يجتمعون معهم في بعض الأحيان في الصيد ، ويظهر بعضهم لبعض المودة بإزالة الكيد ، فكتب بن يخّ للأمير من وهران كتابا يخبره فيه بكل ما كان ، قائلا له فيه أن إسماعيل ولد قادي وعدة ولد عثمان والحاج الوزاع بن عبد الهادي الزمالي هؤلاء الثلاثة الأعيان ، ترى بعض النصارى من وهران يترددون عليهم بالشدة والحرص ، فيرافقونهم للصيد والقنص ، وإن كبراء الدوائر والزمالة مالوا إلى النصارى بغاية الإثبات ، وخالطوهم واصطحبوا شديدا مع بعض الفسيانات ، وقالوا لهم نحن نحبكم ولكن نخاف من الأمير إذا سمع بنا ، فإنه يغزو علينا (كذا) ويهلكنا ، ولما سمع الجنرال تريزيل قال لهم لا خوف على المخزن من أحد وأنتم الأصل في التنزيل ، فصار الناس تارة يدخلون وهران باطنا وتارة ظاهرا وباطنا ، وتلاقوا بالجنرال لتصحيح المقالة ، فقال لهم لا تخشوا أحدا وإن مسكم غيركم بسوء ، فقاتلوه وأنا معين لكم على تلك الحالة ، ولما ثبت عند الأمير الخبر ، أمر كبراء المخزن بأن يأتونه برؤوس من يأتيهم من الفسيانات فأجابوه بأنهم لا يطيقون على فعل ذلك لأنه ينشأ منه له وبهم الضرر ، ولما وصله مكتوب الدوائر والزمالة ، اغتاظ شديدا ونسبهم لقبح الحالة ، وجعل ديوان المشورة بالمعسكر ، فاتفقوا على رفع البحايثية من بلادهم وتنزيلهم / بالمعسكر ، لأنهم رؤساء العرب ، وإذا بقت بلا رؤساء حل بها الوصب ، لا سيما إذا افترقوا بكل ناحية ، ولكل جهة وضاحية.
الأمير يأمر باعتقال كبراء المخزن
ثم بعد الاتفاق كلّف الأمير آغة المخزن الحاج المزاري وقال له اذهب في حفظ الباري ، واقبض إسماعيل ولد قادي ، وعدة ولد عثمان ، والحاج الوزاع ابن عبد الهادي ، وايتيني (كذا) بهم مقيدين ، ولك الأجر من الله المبين ، وأعطاه كتابا يتضمّن ذلك ، كما كتب له بترحيل البحايثية للمعسكر من جملة ذلك ، فجاءهم
__________________
(199) يقصد : الضابط من الكلمة الفرنسية : Les Officiers.

آغة المزاري في رفقه من الحشم الأعيان ، ولما حل بوسط الدواير مكنهم من كتاب الأمير بغير توان ، وقال لهم بفيه (كذا) أن الأمير يسلم عليكم سلام الرضى والأمن والرضوان ، ويقول لكم أمّا أنتم يالدوائر ، فاشتغلوا بخدمتكم من الفلاحة وكسب المال والدواب التي تناسبكم وأعظمها الإبل والخيل والبغال وبالخيل تكون الغواير ، وأمّا أنتم يالبحايثية أهل المفخرة فنحبكم تقدموا عندي بأهلكم وتسكنوا بالمعسكر ، لأنكم المخزن الذي عليه الاعتماد ، فيولي منكم الآغاوات والقياد ، وقد أمرني أن نأتيه بإسماعيل ولد قادي ، وعدة ولد عثمان ، والحاج الوزاع ابن عبد الهادي ، كل واحد منهم مكبولا ، وعلى بغلة محمولا مغلولا ، فإن كنتم طاعة فأجيبوا بالإذعان ، وارضوا بالأمر الذي أحبّه السلطان ، فإنّي كبيركم ورسول أميرنا وأميركم ، وهؤلاء الأعيان من الحشم ، شهداء على من يصدر منه المدح أو الذم ، والمطلوب منكم أن لا تميلوا للنصارى ، واجتنبوهم فإنهم أعداء ، وما الميل لهم إلا خسارا ، وهؤلاء الرجال الذين أمرت بالذهاب بهم على الحالة الموصوفة ، المبينة لكم المعروفة ، ليس من غرضه معاقبتهم بالقتل ، وإنما غرضه توبيخهم لينتهوا عما هم عليه من فعل الوحل ، فإنه سمع بهم أنهم تمازجوا مع بعض أعيان النصارى ، وأنهم لا يفارقونهم في الصيد وغيره ليلا ولا نهارا ، وهذا يا معشر المخزن ليس من شأنكم ، وأنتم يالبحايثية هذا الفعل لا يناسبكم وليس من شأنكم ، فاتقوا الله في السر والإعلان ، فإن فعلكم هذا يؤدي إلى غضب السلطان ، وفي غضب السلطان يكون غضب الرحمان ، ومن غضب عليه الرحمان كان في الهوان ، ألم تنظروا إلى فعل أسلافكم كيف ازدادوا به فخرا ، لما فعلوا المليح واجتنبوا القبيح وأطاعوا الملك سرا وجهرا ، فعند ذلك أجابه الأعيان من الدوائر ، وقالوا له قولك نعم القول وهذا شأن النصيحة في الخدمة مع الملوك أهل السراير ، ولكن أنت ضامن علينا هناك ونحن في قبضتك بعد قبضة الأمير بالقولة اليقينية ، فنبقوا (كذا) في وسط العرب كعادتنا بالسكنى ولا طاقة لنا على سكنى المدينة أيرضيك ويرضي الأمير أن تكون حرفتنا بيع القهوة والسكر والكتان والعطرية ، واشتغالنا بالحرفة التي عند غيرنا من الأمور الجيدة وعندنا من الردية ، ثم استخرج كتاب الأمير ، وقرأه عليهم علانية بالقول الجدير فقالوا / له أرح نفسك اليوم فلقد أتعبتها بالمزيد ، وغدا إن

شاء الله يفعل الله ما يريد ، ثم افترقوا وبات كل منهم بمحل ، وهم من كلام الحاج المزاري في خجل.
قال ومن الاتفاق العجيب ، الذي لا يعلم به إلّا السميع القريب ، إن إسماعيل ولد قادي صاحب الحالة الفريدة ، كان تخلّف عن الدواير وجاء إلى الحاج المزاري من غير علم بالمكيدة ، فبمجرد دخوله عليه تقبّض به وأوثقه في الحديد ، وصيّره في حالة الذل الجديد ، وأركبه على بغلة بالتحرير وانتقل به إلى ملاتة بكرة كأنّه الأسير ، فاتفق إذ ذاك البحايثية على التعصّب وأنف من الدواير والزمالة جميع الأعيان ، وجدّوا في السير في أثر الحاج المزاري لتخليص صاحبهم من يده بغير توان ، فتعرّضوا له بالتعرّض المنيف ، وبعثوا له فارسا شجاعا من عندهم يقال له الحبيب بالشريف ، وهذا الرجل من الكراطة أهل الرياسة ، الذين لهم نوبة مع البحايثية أهل السياسة ، فقال له على لسانهم ما فيه تسبيله ، يا آغة لا بد لك أن تطلق إسماعيل من قيده وتترك سبيله ، فإننا لا نتركه يذهب معك لا على هذه الحالة ولا غيرها لدى الأمير ، إلّا إذا أتى الفناء لنا على الكبير والصغير ، فأجابهم الحاج المزاري بقوله ، يا هؤلاء القوم اتقوا الله في الأمر وارجعوا لقوّته وحوله ، أتحسبون أنكم لا زلتم قائمين على أذرعتكم وكل منكم في استطاعته ، أفلا تعلمون أنكم في حكم السلطان وتحت طاعته ، ثم بعث للعرب أعيان الدوائر يحرضهم بقوله في الإعلان ، أنّ البحايثية والكراطة أرادوا أن يستخلصوا من يدي مربوط الأمير وأظهروا العصيان ، فإن كنتم على الطاعة الواجبة عليكم فاحملوا أسلحتكم وانصروني على البحايثية وقاتلوهم معي وأنا أولكم فإني لا أقدر عليهم وحدي للفراغ ، وإن كنتم عصاة مثلهم فأخبروني فأنا رسول الأمير إليكم وكبيركم وما على الرسول إلّا البلاغ ، وهؤلاء الحشم السادات ، يشهدون عليّ وعليكم في الحياة وبعد الممات ، فقالوا له أكتب للسلطان أو اذهب إليه وأخبره بأننا لا نعطوه إسماعيل ولد قادي ولا غيره حتى تبقى لنا سولة وأسوة ، وإن شاء الله الفداء فنزنه له ذهبا فنحن مع البحايثية يد واحدة وكلنا أخوة ، وقد عرفنا أن الأمير يحوم علينا دائما حومة الأطيار ، ومراده أن يخلف منا بانتقامه الثار ، فلا نتخلص منه نحن ولا أنتم ، وهو يترقب أحوالكم ليطلع على ما أسررتم وما أعلنتم ، وقد سلّطه الله تعالى بغير ريبي ، على الدواير

والزمالة وأنقاد والبرجية وبطيوة والقرغلان وأولاد سيدي عريبي ، وأراح منه غيرهم من القرى والمدون (كذا) والنواجع ، فالأمر لله وحده المرجو حلمه في المفازع ، ولمّا أيّس الحاج المزاري منهم وتحقق لديه عصيانهم ، وخشى على نفسه ومن معه الهلاك قال لهم أنتم أعرف بصلاحكم وصرتم كمن ذهب رضوانهم ، وانصرف مغاضبا راجعا للمعسكر لدى الأمير ، وهو في الغيظ الكبير ، ورفقاؤه يصبرونه ويقولون له ليس هذا من شأن الوزير ، وترك لهم إسماعيل في قيده على ظهر بغلته ، فما مشى إلّا قليل وإذا باسماعيل تبعه على بغلته ، وقال لإخوانه إن كنت / أنا سبب الفتنة وجر البلاء إليكم بهذا الجرسي ، ها أنا نلحق (كذا) بآغة الحاج المزاري ونذهب معه لدى الأمير كي أفديكم بنفسي ، ولا يكون بينكم وبينه فتنة ولا هول ، ولا يحصل بغض ولا نصب ولا صول ، فتعرّضوا له وأنزلوه رغما عليه من فوق بغلته وكسّروا من رجليه الحديد ، غير أنّ أحد الحجالتين تعسّر عليهم كسرها فتركوها في رجله بالتحديد ، وتوّجهوا به في الحين إلى الجنرال ترزيل بوهران ، وأثر الحديد برجله وحكوا له القضية برمتها وقالوا له مخزن الدواير والزمالة قد خرج عن طاعة السلطان ، ففرح بذلك وذهب ما به من الحصر في وهران ، وكان ذلك في اليوم الخامس عشر من جوان ، سنة خمس وثلاثين وثمانمائة وألف الموافق لثامن عشر صفر سنة إحدى وخمسين ومائتين وألف ، وقد كان الجنرال خرج في اليوم الرابع عشر من جوان من السنة المذكورة وهو اليوم الذي كان به الحاج المزاري هناك ، لمسرقين ، لتوقيع تعيين الجيش رغبة في دخول الحاج المزاري عند الدولة وتحصينا لمسرقين.
تريزيل يوقع معاهدة مع الدواير والزمالة
ثم دخل الدواير والزمالة في طاعة الدولة ، بعد خلعهم لطاعة الأمير بما له من الصولة ، في تاسع عشر صفر سنة إحدى وخمسين ومائتين وألف الموافق لسادس عشر جوان سنة خمس وثلاثين وثمانمائة وألف ، وذلك أن الجنرال خرج في جيش قدره ألفان وأربعمائة وأربعون مقاتلا بالتحقيق ، فمن مسرقين ألف وثمانمائة وأربعون مقاتلا صحبتهم خمسة مدافع لها اثنان وثلاثون عمارة للتمزيق ، ومن وهران ستمائة مقاتل من عدد ست وستين ، صحبتهم ثمانية مدافع

نصفها كبير لها مائة عمارة وعمارة كل مكحلة من الأربعين إلى الثمانين ، ونزل عشية بالكرمة على مسافة اثنا عشر كيل ميتر (كذا) من وهران فاجتمع بها بكبراء الدواير والزمالة وأذعنوا له بالطاعة ، واتفقوا معه على اثنا عشر شرطا بالاستطاعة ، وهي : أن يرضوا بعمل الدولة في جميع أحكامها. وأنّها تعيّن عليهم رائسا (كذا) منهم لإبرامها. وأن يدفعوا لها ما كانوا يدفعونه للترك بغير الزيادة. وأن تكون المودة بين الجانبين بغاية الزيادة. وأنّ من أراد التجارة في حاجة لا يحجّر عليه ، إلّا أنها في البحر لا تحمل الا من المحل المعيّن إليه. وأن لا تجارة لهم في السّلاح والبارود وسائر آلة الحرب ، وإنمّا ذلك من أمر الدولة خشية من العطب ، وأن الدولة متى افتقرت لشيء ببرّ الجزائر تأخذه منهم بغير امتناع. وأنّ من ذهب من المخزن مع الدولة راكبا وماشيا سائقا أو قائدا لا يفارقها بشبر واحد بباع ، ولكل فارس فرنكان في اليوم ، وللراجل فرنك واحد بغير اللوم ، وأن لا ينشي أحد منهم الفتنة من الجار. وإذا تعدّى عليهم الجار فالدولة تزيل العار ، وأنّ أمراءهم وقضاتهم هم الذين يفصلون دعاويهم كل منهم فيما يليه. وأنّ الدولة إذا مرّت بعرش وافتقرت للدواب وغيرها فإنها تأخذ ذلك بالثمن بالفعل لا بالتقوية ، على أن يكون الأخذ والعطاء من الجانبيين ، بالصدق والنية الخالصة بغير المين. وأن يكون على كل عرش كبير منتخب منهم للدولة ، ويسكن بأهله بوهران إلزاما لدفع الصولة (200).
رسالة الدوك دورليان إلى آغا الدواير وكبراء الزمالة
ثم بعد دخولهم في الطاعة ، ورضاهم بالشروط المطاعة ، صيّرت / الدولة على الدواير آغة عدة ولد عثمان البحثاوي ، وعلى الزمالة الحاج الوزاع بن عبد الهادي كما حكى الراوي ، ودليل كون آغة هو عدة ولد عثمان ، ما كتبه له في رسالته من الجزائر ولد الرّي وهو ولد السلطان ، ونصّها : الحمد لله وحده وكفى من سعادة الكلّي الشرف والاحترام سيادة مولانا وسيدنا المعظم موسينيور الديك
__________________
(200) انظر نص هذه المعاهدة في كتاب والسن استيرازي المشار إليه سابقا. ص 31 ـ 35.

دورلينا (201) وليد سعادة الجزيل المعظمة والرفعة سلطان الفرانسيس أدام الله نصره وعزه ، آمين إلى حضرة السيد الحاج عدة ولد عثمان آغة الدواير وكافة كبرائهم وكبراء الزمالة أمنهم الله تعالى ، آمين يليه إعلامكم خيرا على شأن أنّه قد وصلني كتابكم ، وسرّني لذيذ خطابكم ، وساغ لي نثني عليكم مديحا على شأن المصادقة والخدمة والنصوحة اللتين (كذا) عندكم لجانبنا الرفيع وها أنني قريبا نقدم لعندكم ونشاهدكم ونفاوضكم فيما وجب وحينئذ نظهر لكم الفرح الذي يكون لي حين مشاهدتي بينكم واعلموا أن أخيكم (كذا) سي قدور بن داوود حصل قدومه أمامي وقبلته نظر رجل مرسل من عندكم هذا ولا زائد والسلام بتاريخ الخامس والعشرين من رجب الأصم الذي هو من عام إحدى وخمسين ومائتين وألف كتب عن إذن وسعادة المذكور أعلاه (202).
فدلت هذه البطاقة ذات التعظيم والتبجيل ، على أن الدولة لها اعتناء بأمر المخزن الوهراني وهو الدوائر والزمالة ولذلك تراهم في البطاقة يعظمونه ويثنون عليه بالثناء الجميل.
نفاق الحشم وبني عامر
قال : ولما ذهب الحاج المزاري للمعسكر لدى الأمير وصحبته الأعيان من الحشم وهو في غضب شديد وكثرة الغم والهم ، من الأمر الصادر من الدوائر والزمالة ، واستخلاصهم من يده المربوط بالقهر الدال على ضعف الحالة والنحالة ، وحكى جميع الواقع للأمير ، قال له أهل مشورته من الحشم وبني عامر وغيرهم كل شيء من تحت رأسه ويظنك كالصبي الصغير ، فقال له من كان مع الحاج المزاري حاضرا من الرفقاء الأعيان ، قد كذب هؤلاء القوم فيما قالوه لك وإن كان كلامهم معك في سائر الأمور هكذا فإنّ ذلك لمن البهتان ، والله ما هم
__________________
(201) يقصد : الدوق دورليان : Le Duc D'orlean ، وعبر عن أبيه بالراي من الكلمة الفرنسية : Le Roi وهو السلطان.
(202) لقد استعمل دورليان التاريخ الهجري في رسالته ويوافق 17 نوفمبر 1835 م. وقد يكون المترجم هو الذي أخطأ في ذلك.

لك بنصحاء ، وإنما هم لزوال ملكك لفرحاء وأنه ليس لك مثل المزاري نصوحا ، ولا عمادا تعتمد عليه شروحا ، وأنّ المزاري لمّا شاهدناه في هذه المرّة لمن السادات الذين يحبون للأمير المكرمة ويفرّون من المعرّة ، ولو حضرت أنت بنفسك لم تعمل عمله ، ولا طاقة لك على ما أراد عمله ، ولو وجد معه الجيش لقتالهم لقاتلهم القتال الشديد ، ولفعل بهم الفعل العتيد ، فقال له تلك الوشاة يا سيدنا لا تصغي لكلامهم ، ولا تعتقد فيهم صحة كلامهم ، فإنهم لا محالة أرشاهم بماله ، ولا جرم أنهم عاشوا في نواله ، فقال لهم تلك الرفعة يا أيها الفساق ، أهل المكر والخديعة والوشي والنفاق ، ألم تخشوا الله في المزاري وأضرابه فكل ما يصدر منكم من القول / للأمير في المزاري فذلك من الاختلاق ، ألم تنهوا عن هذا الشقاق ، وتجنبوا أنفسكم من الشيطنة والنفاق ، ومع هذا لمّا قلنا الحق والصواب ، اتهمتمونا بالارتشاء ، وأنتم فعلكم باطل وكذبكم محض وليس فيكم من يقول الحق والصواب ، وأنت أيّها الأمير إن بعثتنا لقتالهم فنحن وإياه لشرذمة قليلة ، ولا يخفاك بأسهم ولهم قوة جليلة ، وإن بعثتنا شهداء على الواقع ، فما قاله لك المزاري هو عين الصدق والواقع ، ونحن من الآن نكونوا (كذا) من جلسائك ببال ، لما سمعناه ورأيناه منهم قالوه وفعلوه في عظيم النوال ، وأنت يالحبيب بوعلام ومن معك من الغرابة ، ناشدناكم الله أن تقولوا القولة التي ليست بالاستغرابة هل غزاكم الدواير والزمالة والبرجية حتى مرّة ، وأنتم كم غزوتمونهم من مرّة ، وهل غزاكم الحشم تعديا أو غزوتمونهم فقال الحبيب ومن معه أمّا الثلاثة أعراش المخزن ، فقد غزوناهم تعديا ونحن منهم في الأمن (كذا) ، وأمّا الحشم فغزونا تعديا مرّة بعد المرة وكان الزمالة لنا من النعرة ، ونحن لم نغزهم أصلا ، ولا يخطر ببالنا ذلك كلا ، ثم قالوا له ونناشدك الله أيضا ، هل الأمان والثبات في الأعراش الثلاثة أو في الحشم وبني عامر محضا ، وهل أنتم من جملة أعراش المخزن أو من أعراش النائبة ، وهل الحشم وبني عامر من المخزن أو من جملة النائبة ، فقال إن الأمان والثبات وعلو الكلمة في الأعراش الثلاثة ، وأن الحشم وبني عامر لمن الحلاثة ، وأن عرشنا الذي هو الغرابة لمن المخزن فهو رابعهم ، وسبب التفريقة (كذا) وانشاء العداوة بيننا هو الشاذلي بن جبور الحسناوي الشقراني والزين بن عودة العلياوي العامري ومن هو تابعهم ،

وأنّ الحشم وبني عامر لمن النائبة ، وهذا من المعلوم لا ينكره ذو الراية الصائبة والله لا يستحيي من الحق ، ويحب من هو من أهل الصدق ، وإني لتابع لخالي الزين في جميع الأحوال من الجملة والتفصيل ، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل ، فأصغى الأمير لكلام هؤلاء الشهداء الأعيان ، وأسرّ ذلك في نفسه ولم يظهره للإعلان.
ولمّا سمع الحاج المزاري جميع ذلك الكلام نبذه كله من وراء ظهره واشتغل عنه اشتغالا كليا ، وأخرجه من قلبه وصيّره نسيا منسيا ، وبقي جادا في خدمة الأمير بالنصيحة الوافية ، والنية الصادقة الكاملة الشافية ، إلى أن حصل الافتراق ، وقال عند الله يكون التلاق.
حملة تريزيل ومعركة المقطع
في جوان 1834
ثم أنّ الدولة لمّا أذعن لها المخزن بالطاعة ، تيقنت أنها تستولي على الوطن بغاية الاستطاعة ، فشمرت عن ساق الجد لغزو الوطن ، وزال ما بها من الضعف والوهن ، وجهز الجنرال تريزيل جيشا محتويا على نحو الألفي وخمسمائة مقاتل وأربعين كروسة لحمل الآلة فضلا عن قراريط التجارة ذات المحافل ، وكان المخزن نازلا من السبخة ناحية مسرقين إلى البريدية ، فأكثرهم جلس لحراسة وهران وأقلهم جاء مع المحلة لنفعها النفعة الكلية ، فالذي جاء من أعيان الدوائر عدة ولد عثمان ، وإسماعيل ولد قادي صاحب الميدان ، والصحراوي ولد علي ، والحاج الناصر بالطاوي والعربي ولد يوسف ، وقادة ولد شقلال ، وعبد القادر البوعلاوي / والحاج محمد ولد قاره ، وأبو مدين ولد بلوط فاهم كل إشارة ، ومن الزمالة الحاج الوزاع بن عبد الهادي ، والحاج مخلوف ولد امعمر الشجاع المعدود ، والحاج الشيخ ولد عدة ، والعربي ولد أحمد ، وليتنه (203) قدور بالمولود.
__________________
(203) يقصد اليوطنان ، وهو الضابط : Lieutenant.

وكان خروج المحلة من وهران في اليوم الثامن عشر من جوان سنة خمس وثلاثين وثمانمائة وألف ، الموافق للحادي والعشرين من صفر سنة إحدى وخمسين ومائتين وألف ، ولما نزلت بتليلات بعد جولانها خيّمت للمبات (كذا) وشرعت في حفر المتاريز الحائطة بها من كل جهة لتطمئن النفوس في حال المبات (كذا) وفي الحادي والعشرين من جوان رأت المحلة خيالة العدوّ لقصد الحمام ، وفي الرابع والعشرين منه سمعت بأن الأمير خرج من المعسكر بمحلته وهو نازل بوادي الحمّام ، وفي الخامس والعشرين منه انقطع عن المحلة ماء وادي تليلات ، فذهبت شرذمة لعنصره لإرساله فأحاطت بها توارق المقاتلة من كل الجهات ، إلى أن قتل فرس كبير محلة الجنرال ترزيل وهو القيطان لقندي (204) بغاية التعجيل ، وفي صبيحة اليوم المذكور قدم بن يخّ (كذا) الذي هو قونصل (كذا) وكيل الأمير بوهران للمحلة ليتبدل مع عبد الله الكماندار ، فيذهب كل لمحله من غير خديعة ولا إنكار ، وفي اليوم السادس والعشرين ارتحلت المحلّة صباحا ومالت في مشيها نحو أجمة مولاي إسماعيل ، الغابة الكبيرة التي هي مأوى الأسد والأشابيل.
مقدمات معركة المقطع في غاية الزبوج المقيتلة
ولمّا حلّ الأمير بوادي الحمّام سمع بخروجها فجد السير إلى أن بات بسيق ، ولا زال لم يظهر له خبرها على التحقيق ، وصار يتجسس خروجها ، ويستشعر خيالتها ومروجها.
قال العلامة ، القدوة الفهامة ، السيد الحاج أحمد بن عبد الرحمان المداحي البوشيخي الصديقي الذي من بني شقران ، في كتابه وكان حاضرا للواقعة ، ذات الأحوال الناصعة ، فوجّه جيشا من صناديد القبائل وأبطالهم ، وأهل الحزم في أقوالهم وأفعالهم ، أهل الخيول الجياد ، والرّكاب الوقّاد ، وأمّر عليهم وزيره وآغة مخزنه ذا النجدة والشجاعة ، والبسالة والبراعة ، والجزم والحزم
__________________
(204) لا ندري بالضبط من هو لأن ترجمة اسمه غير سليمة حتى يمكن التعرف عليه. وكذلك الأمر بالنسبة لعدد آخر من أسماء الضباط الفرنسيين قبل وبعد هذا.

الشهير ، والفراسة والنصيحة والمعرفة والرأي والتدبير ، الذي ليس له بوقته الشبيه ولا المساوي ، محمد المزاري ولد قدور بن إسماعيل الدايري البحثاوي ، ليفتشوا سواحل البحر وأرباض المدينة ، هل خرج جيش العدوّ أو لم يخرج من تلك المدينة ، وواعدهم بالملاقات في الكرمة ، وبها يحصل الفوز بالنعمة والحرمة ، وكان هذا الموضع قريبا من وهران ، على نحو الاثني عشر ميلا وغالب مجيء النصارى معه في السر والإعلان ، فذهبوا من سيق عشية وأخذوا مع طريق الجيرة ، وبات هو في تلك اليلة (كذا) بالوادي المذكور بالمجيرة ، بعساكره وبقية جيشه الخيالة ، ثم ارتحل من الغد بكرة يريد الجرف الأحمر بوادي تليلات بغير الحيّالة ، ومنه يذهب لملاقة وزيره المذكور ، وكان عنده من العسكر نحو الستمائة وذلك مبلغ ما كتبه ومن المطاوعة ما ليس بالمحصور ، فبينما هو ذاهب والعدوّ قابل ، ولا علم لواحد بالآخر للاستعداد حيث يقاتل ، وإذا بالفريقين / التقيا غفلة بالزبوج بموضع يقال له المقيتلة ، من بلاد الغرابة فبانت به المصائب ذات الحوقلة ، واجتمع البعض بالبعض من أهل البلاد ما بين الراجلة والفرسان ، لا سيما الليوث منهم والشجعان وأداروا بالمحلة إدارة السوار بالساعد ، أو الخاتم بالخنصر للصادر والوارد ، وأرادوا أخذها واشتعلت فورا نار الحروب ، وترادفت على الناس من الجانبين الفتن بالصعوبة والكروب ، وصار من الفريقين السيف بالضرب يلمع ، والبندق بباروده يفرقع ، والتقت الرجال بالرجال ، والأبطال بالأبطال ، والفرسان بالفرسان ، والشجعان بالشجعان ، واشتبك الناس البعض بالبعض ، وأراد كل فريق القضاء لما فاته من النفل والفرض ، واشتد الزحام وكثر الاشتباك ، وغاب الحاجز بينهما والفكّاك ، وحين دخلت المحلّة في المواضيع المشعرة ، أقبلت إليها الفرسان من الفجوج المسهلة والموعرة ، وتشجعت وصالت صولا ، واتكبتها (كذا) بالضرب الدائم فعلا وقولا ، ووقعت من الفرقين العين في العين ، وحان فراق الأرواح بالبين ، خشيت من الفرار اللوم بغير المين ، وجدّ عسكر النصارى في المقاومة بالالتزام والمدافعة عن نفسه ومن معه بغاية الاحترام وهو مع ذلك في التعب الشديد ، والعطب الذي ما له من المزيد ، وكمن العرب في الأماكن المغيظة التي تؤذي منها ولا توذا ، ولا يجد العدو لها فيها بضربه نفوذا ، وأهلك الخلق الكثير من الفريقين وحصل العطب الشديد من الجانبين ،

فكم وكم مات منهم بالتصبّر والثبات ، وكم وكم من حصل منهم بعد الهلاك في النجات (كذا) ودام القتال إلى أن قرب ذهاب النهار ، وإقبال اليل (كذا) بما فيه من الاعتكار ، وثبت كل فريق لصاحبه واستقر بمركزه ، إلى أن فنا (كذا) الجلّ من الجيشين بمحرزه ، وتعاظم القتل وعدمت النجات (كذا) ، واختلط من كثرة القتلى الأموات بالأموات ، وكان للخليفة الأعظم ، والوزير الأنجم ، صاحب الإيالة الشرقية للتناجي ، السيد محمد بن أبي شاقور المجاجي ، حملات على العدو ميمنة وميسرة وقلبا وجناحين ، لا يأتي أحد من غيره بمثلها من غير مين ، ودام على ذلك إلى أن استشهد بالتحقيق ، كما استشهد الفارس الشجاع رايس (كذا) شواش الأمير السيد مصطفى ولد سعيد المعروف بولد حمروش الدنوني ثم النقايبي بالتوفيق.
قال ثم رجع الأمير والجيش الفرانسوي في أثره تابعا له وكل فريق ، يريد منهما النزول بوادي سيق فجاوزه الأمير ونزل ، وقابله العدو بجيشه ونزل ، وصار الوادي بينهما هو الحاجز ، وكل شجاع لقرنه مبارز.
ثم قبل النزول أتى الجيش الذي بعثه الأمير ، لما سمع رعد المدافع وفرقعة البارود خلعهم وهم في غاية التشمير ، فألفى النصارى بقرب وادي سيق ، الذي كاد أن يغص فيه الإنسان بالريق ، وصار القتال بينه وبينهم في فضا سيرات بقية النهار ، إلى أن غشيهم ظلام اليل (كذا) بالاشتهار ، فكم للمزاري في ذلك الوقت من الحملات ، وكم له من الضرب الكثير والجولات ، وهو تارة يغيب في وسط العدو وتارة يظهر ، ومديما على الكرّ ولا يظهر منه المفر ، والعدو بين يديه كأنّه الزرزور ، يقلبه حيث شاء ، ولا يخشى من الرصاص والكور ، وساعده على ذلك رفيقه في الجولان قدور بالمخفي ، فكم له أيضا من ظهور وتخفّي ، ولا زال المزاري على ذلك إلى / أن انجرح به فرسه الأشهب ، فأوتي له بفرس آخر وبقي في ميدان الحرب يكافح إلى أن انجرح به فرسه الثاني الأنجب ، فبعث له الأمير فرسه الأدهم المسمى بباش طبلة ، فجال عليه في الميدان ، جولان عظيما وتمادى على الجولة وهو ملازم للكر ، ومجانب للفر إلى أن انجرح تحته فرس الأمير من الظهر ، كما انجرح هو أيضا عليه من رجله اليمنى ذات الفخر ، فأمر الأمير فورا بقدومه ، وتحيّر منه كثيرا خشية على عدومه ، لاطلاعه يقينا على

صدقه ، وخلاص نيته وقلبه فيه بحدقه ، ثم أرسله فورا لبيته بالمعسكر وبقي الأمير بمكانه في المقر وبعد رجوعه للمعسكر صار يتعاهده (كذا) بالوقوف عليه ، مرتين في اليوم ماشيا على رجليه ، بهذا حدثني الفقيه السيد الحاج محمد بن الشريف ناظم جوهرة الرضا ، وكان حاضرا للواقعة وساكنا بالمعسكر أيضا.
قال ، ويحكى أن الأمير كان يبعث للمزاري وقدور بالمخفي حال القتال لما رأى ما وقع منهما من شدة النّزال ، أن يتركا الحرب ويقدما إليه فيقول الذاهب لهما من الحشم أن الأمير يقول لكما تقدما للعدو وعليكما بالإقبال عليه ، فليست هذه عادتكما في الحروب ، وإنما عادتكما الاقتحام على العدوّ إلى أن يصير في الهروب ، ومراد الحشم بذلك الراحة منهما بالقتل ، والتهنئة من رفعتهما وصولهما بالختل إلى أن سمع الشجاع النصوح خليفة ولد محمود ، مقالة الأمير ومقالة الرّسل من الحشم لهاذين الشجاعين الفارسين حال الوفود ، فتعجّب كثيرا وأخبر الأمير بكل ما رأى وسمع ، وقال لا ريب أنّ ما وقع من الحشم لهاذين البطلين فلنا معهم تحقيقا سيقع ، فعند ذلك جزم الأمير بإخراجهما من المعركة ، وقال قبّح الله من لا يستحيي ويريد أن يلقى أخاه في المشركة ، وما فعله هذان الشجعان (كذا) في ذلك الوقت من اقتحام الصفوف ، لا يحصى ولا يقع إلّا من أجاويد العرب الذين يرون الموت على الفراش إنما هو من حتف الأنوف ، وما ذاك إلا من شدة الخدمة وقوة النصيحة ، والإذعان التام لمن هما في خدمته والتجنّب عن الفضيحة ، وشأن أجاويد العرب وشجعانها الإذعان ، وبذل الجهد والنصيحة في الخدمة لكل دولة كانوا في حكمها وتحت أمرها ونهيها في السر والإعلان.
ضحايا معركة المقيتلة في غابة الزبوج
وقد مات من جيش الدولة خمسة وعشرون نفرا ومائة وثمانون مجروحة ، ومن جيش الأمير ما لا يحصى قولة مشروحة ، ومن جملة أموات الدولة بمولاي إسماعيل ، رايس الرجيمة الثانية من سرسور لفريق أدينوا الكرنيل (205).
__________________
(205) يقصد : الكولونيل أدوينو : Le Colonel Oudinot

يقال أن الذي قتله من جيش الأمير الشجاع الباسل ، الفارس الكامل السيد الحاج محمد بن أعوالي ، وهو من أعيان الغرابة قيادة وأغواتا فليس في قتاله بأحد يبالي ، وأصله من ذرية سيدي الناصر بن عبد الرحمان ، ولذلك حاز الفضل عن الأقران ، وفي عشية ذلك اليوم وقع التبديل ، بين بن يخّ وعبد الله أكماندار (كذا) فحصل التوصيل.
قال ، وبات الأمير شرقي الوادي والنصارى غربه ، وهو بينهما كالحاجز ، واشتغل النصارى من حينهم لتحصين أنفسهم في محل النزول ، لجعل المتارز ، وتفرّق عن الأمير الكثير من جيوش القبائل ، ظنا منهم / بتلك الواقعة أنه لا يستقيم أمره ولا يجمع شمله كالشمايل ، ولم يبق إلا في القليل من الناس وعسكره وهو لابث لمحلّه ومقرّه ، ولو لا أنّ الله أيّده بقبيل الغرابة المزيل لما به من الضيم واللّوم ، لتفرق جمعه وانقطع ملكه من ذلك اليوم.
ثم رجع الناس بعد المكاتبة ، وصار جيشه كأنّه لم يفترق للمضاربة.
معركة المقطع وضحاياها
وفي سابع عشرين جوان حصلت المكاتبة بين الجنرال والأمير ، على شأن مصالح الجرحى من العسكر بالتحرير ، وقد حصلت للنصارى الحيرة الكبيرة ، وضاعت للأمير المنفعة الكثيرة ، حيث تأخر عنهم عن القتال ، ولو اطّلع لنال المراد بأقرب حال ، واستمر الفريقان بالوادي المذكور ليلتين ، والحرب بينهما متصل والناس في تزايد بغير مين.
ثم رحلت محلة النصارى صباحا في اليوم الثامن والعشرين من جوان ، الموافق لليوم الثاني من ربيع الأول بالتبيان ، قاصدا مرسى رزيو لقربها ويكون ذلك سببا لخلاصها من العدو ونجاتها ، أحسن من رجوعها مع الزبوج البعيد المسافة عن وهران المكثّر لأمواتها ، فدارت (كذا) المسلمون بالعدو وركبت أكتافه ، واشتدت فتنتهم له ورامت انكفافه ، ومحو أثر تلك المحلّة ، التي مع كثرتها صارت مع هذا القتال في غاية القلّة ، ولا زال منادي الحرب ينادي بالقتال الأبادي إلى أن ملّت القلوب وعيت النفوس وكلّت الأيادي ، وقد تعاظم القتال


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مشاركة مميزة

بناء شخصية  الأطفال   ...